الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث في بيان ما هو في حقه- صلى الله عليه وسلم سب من الكافر
قال القاضي: [فأمّا الذّمّي إذا صرّح بسبّه أو عرّض، أو استخفّ بقدره، أو وصفه بغير الوجه الذي كفر به- فلا خلاف عندنا في قتله إن لم يسلم، لأنّا لم نعطه الذمّة أو العهد على هذا، وهو قول عامة الفقهاء، إلا أبا حنيفة والثوريّ وأتباعهما من أهل الكوفة، فإنهم قالوا: لا يقتل، ما هو عليه من الشّرك أعظم، ولكن يؤدب ويعزّر.
واستدلّ بعض شيوخنا على قتله بقوله تعالى: وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ، إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ.
ويستدلّ عليه أيضا بقتل النبي صلى الله عليه وسلم لابن الأشرف وأشباهه، ولأنّا لم نعاهدهم، ولم نعطهم الذّمّة على هذا، ولا يجوز لنا أن نفعل ذلك معهم، فإذا أتوا ما لم يعطوا عليه العهد ولا الذمّة فقد نقضوا ذمّتهم، وصاروا كفارا يقتلون لكفرهم.
وأيضا فإنّ ذمّتهم لا تسقط حدود الإسلام عنهم، من القطع في سرقة أموالهم، والقتل لمن قتلوه منهم، وإن كان ذلك حلالا عندهم فكذلك سبّهم للنبي صلى الله عليه وسلم يقتلون به.
ووردت لأصحابنا ظواهر تقتضي الخلاف إذا ذكره الذميّ بالوجه الذي كفر به، ستقف عليها من كلام ابن القاسم وابن سحنون بعد.
وحكى أبو المصعب الخلاف فيها عن أصحابه المدنيين.
واختلفوا إذا سبّه ثم أسلم، فقيل: يسقط إسلامه قتله، لأن الإسلام يجبّ ما قبله، بخلاف المسلم إذا سبّه ثم تاب، لأنّا نعلم باطنة الكافر في بغضه له، وتنقّصه بقلبه، لكنّا منعناه من إظهاره، فلم يزدنا ما أظهره إلا مخالفة للأمر، ونقضا للعهد، فإذا رجع عن دينه الأول إلى الإسلام سقط ما قبله، قال الله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ.
والمسلم بخلافه، إذ كان ظنّنا بباطنه حكم ظاهره، وخلاف ما بدا منه الآن، فلم نقبل بعد رجوعه، ولا استنمنا إلى باطنه، إذ قد بدت سرائره، وما ثبت عليه من الأحكام باقية عليه لا يسقطها شيء.
وقيل: لا يسقط إسلام الذميّ السابّ قتله، لأنه حقّ للنبي صلى الله عليه وسلم وجب عليه، لانتهاكه حرمته، وقصده إلحاق النّقيصة والمعرّة به، فلم يكن رجوعه إلى الإسلام بالذي يسقطه، كما وجب عليه من حقوق المسلمين من قبل إسلامه من قتل وقذف، وإذا كنّا لا نقبل توبة المسلم فإنّا لا نقبل توبة الكافر أولى.
وقال مالك في كتاب ابن حبيب، والمبسوط، وابن القاسم، وابن الماجشون، وابن عبد الحكم، وأصبغ- فيمن شتم نبيّنا من أهل الذّمّة أو أحدا من الأنبياء عليهم السلام قتل إلا أن يسلم، وقاله ابن القاسم في العتبية، وعند محمد، وابن سحنون.
وقال سحنون وأصبغ: لا يقال له: أسلم، ولا لا تسلم، ولكن إن أسلم فذلك له توبة.
وفي كتاب محمد: أخبرنا أصحاب مالك أنه قال: من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو غيره من الأنبياء من مسلم أو كافر قتل ولم يستتب.
وروي لنا عن مالك: إلّا أن يسلم الكافر.
وقد روى ابن وهب، عن ابن عمر- أنّ راهبا تناول النبي صلى الله عليه وسلم! فقال ابن عمر: فهلّا قتلتموه! وروى عيسى عن ابن القاسم في ذمّيّ قال: إن محمدا لم يرسل إلينا، إنما أرسل إليكم، وإنما نبيّنا موسى أو عيسى، ونحو هذا: لا شيء عليهم، لأن الله تعالى أقرّهم على مثله.
وأمّا إن سبّه فقال: ليس بنبيّ، أو لم يرسل، أو لم ينزّل عليه قرآن، وإنما هو شيء تقوّله أو نحو هذا فيقتل.
وقال ابن القاسم: وإذا قال النصرانيّ: ديننا خير من دينكم، وإنما دينكم دين الحمير، ونحو هذا من القبيح، أو سمع المؤذّن يقول: أشهد أن محمدا رسول الله، فقال: كذلك يعطيكم الله، ففي هذا الأدب الموجع والسجن الطّويل.
قال: وأمّا إن شتم النبي صلى الله عليه وسلم شتما يعرف فإنه يقتل إلا أن يسلم، قاله مالك غير مرّة، ولم يقل: يستتاب.
قال ابن القاسم: ومحمل قوله عندي إن أسلم طائعا.
وقال ابن سحنون في سؤالات سليمان بن سالم في اليهوديّ يقول للمؤذّن، إذا تشهّد:
كذبت- يعاقب العقوبة الموجعة مع السّجن الطويل.
وفي النوادر من رواية سحنون عنه: من شتم الأنبياء من اليهود والنصارى بغير الوجه الذي به كفروا ضربت عنقه إلّا أن يسلم.
قال محمد بن سحنون: فإن قيل: لم قتلته في سبّ النبي صلى الله عليه وسلم ومن دينه سبّه وتكذيبه؟
قيل: لأنا لم نعطهم العهد على ذلك، ولا على قتلنا، وأخذ أموالنا، فإذا قتل واحدا منا قتلناه، وإن كان من دينه استحلاله، فكذلك إظهاره لسبّ نبينا صلى الله عليه وسلم.
قال سحنون: كما لو بذل هنا أهل الحرب الجزية على إقرارهم على سبّه لم يجز لنا ذلك في قول قائل.