الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رسول الله- صلى الله عليه وسلم وحوله أصحابه، عليهم السّكينة والوقار، كأنما على رؤوسهم الطّير، فسلّمت ثم قعدت.
وقال عروة بن مسعود: كنا في الصحيح حين وجّهته قريش عام القضية إلى رسول الله- صلى الله عليه وسلم، ورأى من تعظيم أصحابه له ما رأى أنه لا يتوضأ وضوءا إلا ابتدروا وضوءه، وكادوا يقتتلون عليه، ولا يبصق بصاقا ولا يتنخم نخامة إلا تلقّوها بأكفّهم، ودلّكوا بها وجوههم وأجسادهم، ولا تسقط منه شعرة إلا ابتدروها، وإذا أمرهم بأمر ابتدروا أمره، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون النظر إليه تعظيما له، فلما رجع إلى قريش قال: يا معشر قريش، إني جئت كسرى في ملكه، وقيصر في ملكه، والنجاشي في ملكه، وإني والله ما رأيت ملكا قط في قومه يعظمه أصحابه ما يعظّم محمّدا أصحابه، وقد رأيت قوما لا يسلمونه أبدا.
وروي عن أنس- رضي الله تعالى عنه- قال: لقد رأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم والحلّاق يحلقه، وقد أطاف به أصحابه، فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل.
وفي الصحيح، أنّ قريشا لما أذنت لعثمان في الطواف بالبيت حين وجّهه- صلى الله عليه وسلم إليهم في القضية أبى أن يطوف، وقال: ما كنت لأطوف به حتى يطوف به رسول الله- صلى الله عليه وسلم.
وروى عن البراء- رضي الله تعالى عنه- قال: لقد كنت أريد أن أسأل رسول الله- صلى الله عليه وسلم عن الأمر فأؤخّره سنين من هيبته- صلى الله عليه وسلم.
وروى الترمذي وحسّنه عن طلحة- رضي الله تعالى عنه- أنّ أصحاب النبي- صلى الله عليه وسلم قالوا لأعرابيّ جاهل سأله عمن قضى نحبه من هو وكانوا لا يجترؤن على مسألته يوقّرونه ويهابونه [فسأله، فأعرض عنه، إذ طلع طلحة، فقال رسول الله- صلى الله عليه وسلم: هذا ممّن قضى نحبه] .
وروى عن المغيرة بن شعبة- رضي الله تعالى عنه- قال: كان أصحاب رسول الله- صلى الله عليه وسلم يقرعون بابه بالأظافير.
وقد تقدم في باب هيبته ما فيه كفاية.
فصل
واعلم أن حرمة النبي- صلى الله عليه وسلم وتوقيره وتعظيمه بعد موته لازم كما كان في حياته، وذلك عند ذكره- صلى الله عليه وسلم وذكر حديثه وسنته، وسماع اسمه وسيرته ومعاملة آله وعترته، وتعظيم أهل بيته وصحابته- رضوان الله تعالى عليهم أجمعين-.
قال أبو إبراهيم التّجيبي واجب على كل مسلم متى ذكره، أو ذكر عنده أن يخضع ويخشع، ويتوقّر ويسكّن من حركته، ويأخذ في هيبته وإجلاله بما كان يأخذ به نفسه لو كان بين يديه، ويتأدب بما أدبنا الله تعالى به.
وهذه كانت سيرة السّلف الصالح في الأئمة الماضين.
وروى القاضي- بسند جيد- عن ابن حميد قال: ناظر أبو جعفر أمير المؤمنين مالكا في مسجد رسول الله- صلى الله عليه وسلم، فقال مالك: يا أمير المؤمنين لا ترفع صوتك في هذا المسجد، فإن الله عز وجل أدب قوما فقال: لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات: 2] الآية.
ومدح قوما فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [الحجرات: 3] الآية.
وذمّ قوما فقال: إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ [الحجرات: 4] وإن حرمته ميتا كحرمته حيا، فاستكان لها أبو جعفر وقال: يا أبا عبد الله، أأستقبل القبلة وأدعو؟ أم أستقبل رسول الله- صلى الله عليه وسلم؟ فقال: ولم تصرف وجهك عنه، وهو وسيلتك ووسيلة أبيك آدم- عليه السلام إلى الله تعالى يوم القيامة؟ بل استقبله واستشفع به، فيشفّعك الله، قال الله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً.
وقال الإمام مالك رحمه الله تعالى: كان أيّوب السّختيانيّ إذا ذكر النبي- صلى الله عليه وسلم بكى حتى أرحمه.
وقال مصعب بن عبد الله: كان مالك إذا ذكر رسول الله- صلى الله عليه وسلم يتغيّر لونه، وينحني حتى يصعب ذلك على جلسائه، فقيل له يوما في ذلك فقال: لو رأيتم ما رأيت لما أنكرتم عليّ ما ترون، ولقد كنت أرى محمد بن المنكدر وكان سيّد القرّاء لا نكاد نسأله عن حديث أبدا إلا يبكي حتى نرحمه، ولقد كنت أرى جعفر بن محمد- وكان كثير الدّعابة والتبسم- فإذا ذكر عنده النبي- صلى الله عليه وسلم اصفرّ، وما رأيته يحدث عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم إلا على طهارة.
ولقد كان عبد الرحمن بن القاسم يذكر رسول الله- صلى الله عليه وسلم، فننظر إلى لونه كأنه نزف منه الدّم، وقد جفّ لسانه في فمه، هيبة لرسول الله- صلى الله عليه وسلم.
ولقد كنت آتي عامر بن عبد الله بن الزبير، فإذا ذكر عنده رسول الله- صلى الله عليه وسلم بكى حتى لا يبقى في عينيه دموع.