الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع في حكم أقواله الدنيوية من إخباره عن أحواله وأحوال غيره وما يفعله أو فعله- صلى الله عليه وسلم
-
قال القاضي: وأما أقواله الدنيوية من إخباره عن أحوال غيره وما يفعله أو فعله الخلف فيها ممتنع عليه في كلّ حال، وعلى أيّ وجه، من عمد أو سهو، أو صحة أو مرض، أو رضا أو غضب، وأنه معصوم منه صلى الله عليه وسلم.
هذا فيما طريقه الخبر المحض ممّا يدخله الصّدق والكذب، فأمّا المعاريض الموهم ظاهرها خلاف باطنها فجائز ورودها منه في الأمور الدنيوية لا سيّما لقصد المصلحة، كتوريته عن وجه مغازيه لئلا يأخذ العدوّ حذره.
وكما روي من ممازحته ودعابته لبسط أمّته وتطييب قلوب المؤمنين من صحابته، وتأكيدا في تحبّبهم ومسرّة نفوسهم،
كقوله: لأحملنّك على ابن النّاقة.
وقوله للمرأة التي سألته عن زوجها: أهو الذي بعينه بياض.
وهذا كلّه صدق، لأنّ كلّ جمل ابن ناقة، وكلّ إنسان بعينه بياض
وقد قال صلى الله عليه وسلم: إني لأمزح ولا أقول إلا حقّا.
هذا كلّه فيما بابه الخبر، فأما ما بابه غير الخبر مما صورته صورة الأمر والنّهي في الأمور الدنيوية فلا يصحّ منه أيضا، ولا يجوز عليه أن يأمر أحدا بشيء أو ينهى أحدا عن شيء وهو يبطن خلافه.
وقد قال صلى الله عليه وسلم: ما كان لنبي أن تكون له خائنة الأعين، فكيف أن تكون له خيانة قلب.
فإن قلت: فما معنى إذا قوله تعالى في قصة زيد: وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ، وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ....
فاعلم- أكرمك الله، ولا تسترب في تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الظاهر وأن يأمر زيدا بإمساكها وهو يحبّ تطليقه إياها.
وأصحّ ما في هذا ما حكاه أهل التفسير
عن علي بن حسين- أن الله تعالى كان أعلم نبيّه أن زينب ستكون من أزواجه، فلما شكاها إليه زيد قال له: أمسك عليك زوجك، واتق الله. وأخفى في نفسه ما أعلمه الله به من أنه سيتزوّجها مما الله مبديه ومظهره بتمام التّزويج وتطليق زيد لها.
وروى نحوه عمرو بن فائد، عن الزهري، قال: نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه أنّ الله يزوّجه زينب بنت جحش، فذلك الذي أخفى في نفسه.
ويصحّح هذا قول المفسرين في قوله تعالى بعد هذا: وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا، أي لا بد لك أن تتزوّجها.
ويوضّح هذا إن الله لم يبد من أمره معها غير زواجه لها، فدلّ أنه الذي أخفاه صلى الله عليه وسلم ممّا كان أعلمه به تعالى.
وقوله تعالى في القصة: ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا.
فدلّ أنه لم يكن عليه حرج في الأمر.
قال الطّبريّ: ما كان الله ليؤثم نبيه فيما أحلّ مثال فعله لمن قبله من الرسل، قال الله تعالى: سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ، أي: من النبيّين فيما أحلّ لهم، ولو كان على ما روي في حديث قتادة من وقوعها من قلب النبي صلى الله عليه وسلم عند ما أعجبته، ومحبته طلاق زيد لها لكان فيه أعظم الحرج، وما لا يليق به من مد عينيه لما نهى عنه من زهرة الحياة الدنيا، ولكان هذا نفس الحسد المذموم الذي لا يرضاه ولا يتسم به الأتقياء، فكيف سيّد الأنبياء؟.
قال القشيري: وهذا إقدام عظيم من قائله، وقلة معرفة بحقّ النبي صلى الله عليه وسلم وبفضله.
وكيف يقال: رآها فأعجبته وهي بنت عمته، ولم يزل يراها منذ ولدت، ولا كان النساء يحتجبن منه صلى الله عليه وسلم، وهو زوجها لزيد، وإنما جعل الله طلاق زيد لها، وتزويج النبي صلى الله عليه وسلم إياها، لإزالة حرمة التبني، وإبطال سنّته، كما قال: ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ. وقال:
لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ.
ونحوه لابن فورك.
وقال أبو الليث السمرقندي: فإن قيل: فما الفائدة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بإمساكها؟ فهو أنّ الله أعلم نبيّه أنها زوجته، فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن طلاقها، إذ لم تكن بينهما ألفة، وأخفى في نفسه ما أعلمه الله به، فلما طلّقها زيد خشي قول الناس: يتزوّج امرأة ابنه، فأمره الله بزواجها ليباح مثل ذلك لأمّته، كما قال تعالى: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً.
وقد قيل: كان أمره لزيد بإمساكها قمعا للشّهوة، وردّا للنفس عن هواها. وهذا إذا جوّزنا عليه أنه رآها فجأة واستحسنها. ومثل هذا لا نكرة فيه، لما طبع عليه ابن آدم من استحسانه
للحسن، ونظرة الفجاءة معفوّ عنها، ثم قمع نفسه عنها، وأمر زيدا بإمساكها، وإنما تنكر تلك الزيادات التي في القصّة. والتعويل والأولى ما ذكرناه عن علي بن حسين، وحكاه السمرقندي، وهو قول ابن عطاء، وصححه واستحسنه القاضي القشيري، وعليه عوّل أبو بكر بن فورك، وقال: إنه معنى ذلك عقد المحققين من أهل التفسير، قال: والنبي صلى الله عليه وسلم منزّه عن استعمال النّفاق في ذلك، وإظهار خلاف ما في نفسه، وقد نزّهه الله عن ذلك بقوله تعالى: ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ، قال: ومن ظنّ ذلك بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد أخطأ.
قال: وليس معنى الخشية هنا الخوف، وإنما معناه الاستحياء، أي يستحي منهم أن يقولوا: تزوّج زوجة ابنه.
وأن خشيته صلى الله عليه وسلم من الناس كانت من إرجاف المنافقين واليهود وتشغيبهم على المسلمين بقولهم: تزوّج زوجة ابنه بعد نهيه عن نكاح حلائل الأبناء، كما كان، فعاتبه الله على هذا، ونزّهه عن الالتفات إليهم فيما أحلّه له، كما عتبة على مراعاة رضا أزواجه في سورة التحريم بقوله: لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
وكذلك قوله له ها هنا: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ.
وقد روي عن الحسن وعائشة: لو كتم رسول الله- صلى الله عليه وسلم شيئا كتم هذه الآية، لما فيه من عتبة وإبداء ما أخفاه.