الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع في آداب زيارته- صلى الله عليه وسلم
-
منها إخلاص النّية وخلوص الطّويّة، فإنما الأعمال بالنيات فينوي التقرّب إلى الله تعالى بزيارة رسول الله- صلى الله عليه وسلم ويستحب أن ينوي مع ذلك التقرّب بالمسافرة إلى مسجده- صلى الله عليه وسلم وشدّ الرّحل إليه والصلاة فيه كما قاله أصحابنا وغيرهم.
قال ابن الصلاح: ولا يلزم من هذا خلل في زيارته على ما لا يخفى، ونقل شيخ الحنفيّة الكمال بن الهمام عن مشايخهم: أنه ينوي مع زيارة القبر زيارة المسجد ثم قال: إن الأولى عندي تجريد النّيّة لزيارة قبره- صلى الله عليه وسلم ثم إن حصل زيارة المسجد أو يستفتح فضل الله في مرّة أخرى ينويها فيها، لأن في ذلك زيادة تعظيمه وإجلاله- صلى الله عليه وسلم وليوافق
قوله- صلى الله عليه وسلم: «لا تعمله حاجة إلا لزيارتي» .
قال السيد: وفيه نظر، لأنه- صلى الله عليه وسلم حثّ أيضا على قصد مسجده ففي امتثاله تعظيمه أيضا
وقوله: «لا تعمله حاجة»
أي لم يحثّ الشّرع عليها، وقد لا يسمح الزمان بزيارة المسجد، فليغتنم قصد ذلك مع الزيارة بل ينوي أيضا الاعتكاف فيه ولو ساعة، وإن تعلم فيه خيرا أو يتعلمه وأن يذكر الله تعالى فيه، ويذكر به وإكثار الصّلاة والتّسليم على النبي- صلى الله عليه وسلم وختم القرآن إن تيسر والصّدقة على جيرانه- صلى الله عليه وسلم وغير ذلك ما يستحب للزائر فعله فينوي التقرّب أولا ليثاب على القصد، فنية المؤمن خير من عمله، وينوي اجتناب المعاصي، والمكروهات حياءً من الله تعالى ورسوله- صلى الله عليه وسلم.
[ومنها: أن يكون دائم الأشواق إلى زيارة الحبيب الشفيع كلفا بالوصول إلى ذلك الجناب الرفيع والشّوق إلى لقائه وطلب الوصول إلى مقامه من أظهر علامات الإيمان وأكبر بشائر الفوز يوم الفزع الأكبر بالأمن والإيمان وليزدد بالعزم شوقا وصبابة، وكلما ازداد دنوّا ازداد عزما وحنوّا][ (1) ] .
ومنها: الإكثار في المسير من الصلاة والسلام على البشير النذير بل يستغرق أوقات فراغه في ذلك وغيره من القربات.
ومنها: إذا دنا من حرم المدينة وشاهد أعلامها وربابها وآكامها فليستحضر وظائف الخشوع والخضوع مستبشرا بالعناء وبلوغ المنال، وإن كان على دابّة حركها أو بعيرا وضعه تباشرا بالمدينة.
[ (1) ] ما بين المعكوفين سقط في ب.
ولله در القائل:
قرب الدّيار يزيد شوق الواله
…
لا سيّما إن لاح نور جماله
أو بشّر الحادي بأن لاح النّقا
…
وبدت على بعد رؤوس جباله
فهناك عيل الصّبر عن ذي صبوة
…
وبدا الّذي يخفيه من أحواله
وليجتهد حينئذ في مزيد الصلاة والتسليم وترديد ذلك كلّما دنا من الربا والأعلام، ولا بأس بالتّرجّل والمشي عند رؤية ذلك المحلّ الشريف والقرب منه كما يفعله بعضهم، لأن وفد عبد القيس لما رأوا النبي- صلى الله عليه وسلم نزلوا عن رواحلهم ولم ينكر عليهم والعظمة بعد الوفاة كهو في الحياة.
وقال أبو سليمان داود المالكي: في «الانتصار» إن ذلك يتأكد فعله لمن أمكنه من الرجال، وإنه يستحب تواضعا لله تعالى وإجلالا لنبيه- صلى الله عليه وسلم.
وحكى القاضي أن أبا الفضل الجوهريّ لما ورد المدينة الشريفة زائرا وقرب من بيوتها ترجّل ومشي باكيا منشدا:
ولمّا رأينا رسم من لم يدع لنا
…
فؤادا لعرفان الرّسوم ولا لبّا
نزلنا على الأكوار نمشي كرامة
…
لمن بان عنه أن نلمّ به ركبا
ولله در القائل:
رفع الحجاب لنا فلاح لناظري
…
قمر تقطّع دونه الأوهام
وإذا المطيّ بنا بلغن محمّدا
…
فظهورهنّ على الرّجال حرام
قرّبننا من خير من وطئ الثّرى
…
ولها علينا حرمة وذمام
وقال غيره:
أتيتك راجلا ووددتّ أنّي
…
ملكت سواد عيني أمتطيه
وما لي لا أسير على الأماقي
…
إلى قبر رسول الله فيه
ومنها إذا بلغ حرم المدينة الشّريفة فليقل بعد الصلاة والتسليم: اللهم، هذا حرم نبيك ورسولك- صلى الله عليه وسلم الذي حرمته على لسانه ودعاك أن تجعل فيه من الخير والبركة مثلي ما هو في حرم مكة البيت الحرام، فحرمني على النار وأمني من عذابك يوم تبعث عبادك وارزقني من بركاته ما رزقت به أوليائك وأهل طاعتك ووفقني فيه بحسن الأدب وفعل الخيرات وترك المنكرات، ثم يشتغل بالصلاة والتسليم، وإن كانت طريقه على ذي الحليفة، فلا يجاوز
المعرس حتى ينيخ به ويصلي بمسجده ومسجد ذي الحليفة.
ومنها: أن يغتسل من بئر الحرّة [ (1) ] لدخول المدينة الشريفة ويلبس أنظف ثيابه ويتطيب وهو مستحبّ كما ذكره النووي وغير.
وقال الكرمانيّ الحنفيّ: فإن لم يغتسل خارج المدينة فليغتسل بعد دخولها في حديث المنذر بن ساوى التميمي أنه وفد من البحرين مع أناس فذهبوا بسلاحهم فسلموا على رسول الله- صلى الله عليه وسلم ووضع المنذر سلاحه ولبس ثيابا كانت معه ومسح لحيته بدهن فأتى نبي الله- صلى الله عليه وسلم الحديث [ (2) ] ولتجتنب بعض ما يفعله المحرم من التحرر عن المخيط تشبها مجال الإحرام.
ومنها إذا شاهد القبّة المنيفة وشارف دخول المدينة الشريفة فليلزم الخشوع والخضوع مستحضرا عظمتها، وأنها البقعة التي اختارها الله تعالى لنبيّه وحبيبه ووصيفه- صلى الله عليه وسلم وتمثل في نفسه مواضع أقدام رسول الله- صلى الله عليه وسلم عند نزوله فيها، وأنه ما من موضع يطؤه إلا موضع قدمه العزيز، فلا يضع قدمه عليه إلا مع الهيبة والسّكينة متصورا خشوعه- صلى الله عليه وسلم في المشي وتعظيم الله تعالى له، حتى قرن ذكره بذكره، وأحبط عمل من انتهك شيئا من حرمته ولو يرفع صوته فوق صوته، ويتأسف على فوت رؤيته في الدّنيا، وأنه من رؤيته في الآخرة على خطر لسوء صنعه وقبح فعله ثم يستغفر لذنبه، ويلتزم سلوك سبيله، ليفوز بالإقبال عند اللقاء، ويحظى بتحية القبول من ذي البقاء.
ومنها: أن لا يخلّ بشيء مما أمكنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والغضب عند انتهاك حرمة من حرمه أو تضييع شيء من حقوقه- صلى الله عليه وسلم فإنّ من علامات المحب غيرة المحبّ لمحبوبه، وأقوى النّاس ديانة أعظمهم غيرة وإذا خلا القلب من الغيرة فهو من المحبّة خلا وإن زعم المحبّة فهو كاذب.
ومنها: أن يقول عند دخوله من باب البلد: بسم الله ما شاء الله لا حول ولا قوة إلا بالله، رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا، حسبي الله، آمنت بالله، توكلت على الله، لا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم، إني أسالك بحق السائلين عليك، وبحقّ ممشاي هذا إليك، فإني لم أخرج بطرا ولا أشرا ولا رياء ولا سمعة وخرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، فأسألك أن تعيذني من النار، وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وليحرص على ذلك كلما قصد المسجد ففي حديث أبي سعيد
[ (1) ] قيل الظاهر أنه أراد بئر السقيا التي بالحرة.
[ (2) ] لا يصح ولم يثبت أنه وفد.
الخدري- رضي الله تعالى عنه- مرفوعاً: من قال ذلك في مسيره إلى المسجد، وكّل الله به سبعين ألف ملك يستغفرون له، ويقبل الله عليه بوجهه، ثم ليقوي في قلبه شرف المدينة، وأنها حوت أفضل بقاع الأرض بالإجماع وإن بعض العلماء قال: إنّ المدينة أفضل أمكنة الدّنيا، وفيها أرض مشى جبريل في عرصاتها، الله شرفها به وحماها.
ومنها: أن يقدم صدقة بين يدي نجواه ويبدأ بالمسجد الشريف قبل التعريج على أمر من الأمور أي شيء هو إلى مباشرته في ذلك الوقت غير مضطرّ ولا مضرور، فإذا شاهد المسجد النّبويّ والمسجد المحمديّ فليستحضر أنه أتى مهبط أبي الفتوح جبريل، ومنزل أبي الغنائم ميكائيل، والموضع الذي خصه الله تعالى بالوحي والتنزيل فليزدد خشوعا وخضوعا بهذا المقام ويقتضيه هذا المسجد الذي ترتعد دونه الأقدام ويجتهد في أن يوفق للوفاء بحقّه من التعظيم والقيام.
ومنها ما قاله القاضي فضل الله بن نصر التوزي: من أن الدّخول من باب جبريل أفضل وجرت عادة القادمين من ناحية باب السّلام بالدخول منه، فإذا أراد الدّخول فليفرّغ قلبه وليستصف ضميره، ويقدم رجله اليمنى، ويقول: أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وبنوره القديم من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله ولا حول ولا قوة إلا بالله، ما شاء الله، لا قوة إلا بالله، اللهم صل على محمد عبدك ورسولك، وعلى آله وصحبه وسلّم تسليما كثيرا، اللهم اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، ربّ وفقني وسدّدني وأصلحني، وأعنّي على ما يرضيك عنّي ويقف عند النبيّ بحسن الأدب ثم يقول في هذه الحضرة الشريفة: السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، ولا يترك ذلك كلّما دخل المسجد أو خرج منه إلا أنه يقول عند خروجه، افتح لي أبواب فضلك بدل قوله: وافتح لي أبواب رحمتك.
ومنها: إذا صار في المسجد فلينو الاعتكاف مدة لبثه وإن قلّ على مذهب الإمام الشافعي- رحمه الله تعالى- فيجوز لما فيه من الفضل ثم ليتوجه إلى الروضة المقدّسة، وإن دخل من باب جبريل فيقصدها من خلف الحجرة الشريفة مع ملازمة الهيبة والوقار وملابسة الخشية والانكسار والخضوع والافتقار، ثم ليقف في مصلّى رسول الله- صلى الله عليه وسلم إن كان خاليا وإلا فيما يلي المنبر من الرّوضة، وإلا في غيرها فيصلّي تحية المسجد ركعتين خفيفتين.
ونقل العلّامة زين الدين المراغي عن بعض مشايخه: أن محلّ تقدم التحية على الزيارة إذا لم يكن مروره قبالة الوجه الشريف فإن كان استحبت الزيارة أولا مع أن بعض المالكية ترخّص في تقديم الزيارة على الصلاة.
وقال: كل ذلك واسع.
ومنها: أن يتوجّه بعد ذلك إلى القبر الكريم مستعينا بالله تعالى في رعاية الأدب في هذا الموقف العظيم فيقف بخضوع وخشوع تجاه المسمار الفضّة الذي بجدار المقصورة التي حول الحجرة الشريفة الواقف للزيارة خارجها عن مشاهدة ذلك المسمار إلا بتأكد يشغل القلب ويذهب الخشوع فليقصد الصّدعة البائنة من باب المقصورة القبلي التي على يمين مستقبل القبر الشريف فإذا استقبلها كان محازيا لها، والزيارة من داخل المقصورة أولى، لأنه موقف السّلف، والمنقول أنّ الزائر يقف على من رأس القبر الشريف نحو أربعة أذرع وقال ابن عبد السلام: على نحو ثلاثة أذرع، وعلى كل حال فذلك من داخل المقصورة بلا شك.
وقال في الإحياء: فينبغي أن يقف بين يديه كما وصفنا فتزوره ميتا كما كنت تزوره حيّا، ولا تقرب من قبره إلا ما كنت تقرب شخصه الكريم لو كان حيّا انتهى.
ولينظر الزائر في حال وقوفه إلى أسفل ما يستقبل من جدران الحجرة الشريفة ملتزما للحياء والأدب التّام في ظاهره وباطنه.
وقال الكرماني الحنفي: يضع يمينه على شماله كما في الصلاة.
وقال في الإحياء: واعلم أنه- صلى الله عليه وسلم عالم بحضورك وقيامك وزيارتك وأنه يبلغه صلاتك وسلامك عليه فمثل صورته الكريمة في خيالك موضوعا في اللّحد بإزائك وأحضر عظيم رتيته في قلبك
فقد روي عنه- صلى الله عليه وسلم: «إنّ الله وكّل بقبره ملكا يبلّغه سلام من يسلّم عليه من أمّته» .
هذا في حق من لم يحضر قبره فكيف بمن فارق الوطن وقطع البوادي شوقا إليه واكتفى بمشاهدة مشهده الكريم إذ فاته مشاهدة نبوته الكريمة انتهى.
ثم يسلم الزائر ولا يرفع صوته ولا يخفيه بل يقصد، وأقلّه السلام عليك يا رسول الله- صلى الله عليه وسلم.
وجاء عن ابن عمر وغيره من السّلف- رضي الله تعالى عنهم- أن الاقتصار جدّا وجرى عليه الإمام مالك، واختار بعضهم التطويل في السّلام، وعليه الأكثرون ثم إن كان وصّاه أحد بالسّلام على رسول الله- صلى الله عليه وسلم فليقل: السلام عليك يا رسول الله من فلان بن فلان أو فلان بن فلان يسلّم عليك يا رسول الله، أو نحوه من العبارات، ثم يتأخر إلى صوب يمينه قدر ذراع، فيصير تجاه أبي بكر الصديق فيقول: السلام عليك يا أبا بكر صفي رسول الله- صلى الله عليه وسلم وثانيه في الغار، ورفيقه في الأسفار جزاك الله عن أمة رسول الله- صلى الله عليه وسلم خيرا.
ثم يتأخر صوب يمينه قدر ذراع، فيصير تجاه عمر بن الخطاب- رضي الله تعالى عنه- فيقول: السلام عليك يا عمر الفاروق الذي أعز الله بك الإسلام جزاك الله عن أمة محمد- صلى الله عليه وسلم خير الجزاء ثم يرجع الزائر إلى موقفه الأوّل قبالة وجه رسول الله- صلى الله عليه وسلم فيتوسّل به في حقّ نفسه ويستشفع به إلى ربه سبحانه وتعالى، ومن أحسن ما يقول ما حكاه المصنفون في المناسك من جميع المذاهب واستحسنوه ورأوه من أدب الزّائر عن أبي عبد الرحمن محمد بن عبد الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عقبة بن أبي سفيان- صخر بن حرب- العتبي أحد أصحاب سفيان بن عيينة قال: دخلت المدينة فأتيت قبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم فزرته وجلست بحزائه فجاء أعرابي فزاره ثم قال: يا خير الرّسل، إنّ الله أنزل عليك كتابا صادقا قال فيه: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً [النساء: 64] وإني جئتك مستغفرا من ذنبي مستشفعا بك إلى ربي ثم بكى وأنشأ يقول:
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه
…
فطاب من طيبهنّ القاع والأكم
نفسي لقبر أنت ساكنه
…
فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم استغفر وانصرف فرقدتّ فرأيت رسول الله- صلى الله عليه وسلم في نومي وهو يقول: الحق الأعرابيّ، وبشّره بأن الله تعالى غفر له بشفاعتي فاستيقظت فخرجت أطلبه فلم أجده، رواها ابن عساكر في تاريخه وابن الجوزي في كتابه:«مثير العزم الساكن» عن محمد بن حرب الهلاليّ أنه اتفق له مثل ما اتّفق للعتبي ووردت هذه القصة من غير طريق العتبي فرواها.
وروى ابن السّمعاني عن علي بن أبي طالب- رضي الله تعالى عنه- قال: قدم علينا أعرابيّ بعد ما دفنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم بثلاثة أيام فرمى نفسه على قبر النبي- صلى الله عليه وسلم وحثا من ترابه على رأسه وقال: يا رسول الله، قلت فسمعنا قولك ووعيت عن الله تعالى ووعينا عنك، وكان فيما أنزل عليك وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا [النساء: 64] الآية فنودي من القبر قد غفر لك.
وليجدد التّوبة في ذلك الموقف ويسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلها توبة نصوحا وليستشفع به- صلى الله عليه وسلم إلى ربّه في قبولها وليكثر الاستغفار والتّضرّع بعد تلاوة الآية التي في قصّة العتبيّ ويقول: نحن وفدك يا رسول الله وزوّارك جئناك لقضاء حقّك والتبرك بزيارتك والاستشفاع بك إلى ربك تعالى، فإن الخطايا قد أثقلت ظهورنا، وأنت الشافع المشفع، والموعود بالشفاعة العظمى، والمقام المحمود، وقد جئناك ظالمين لأنفسنا، مستغفرين لذنوبنا، سائلين منك أن تستغفر لنا إلى ربك، فأنت نبيّنا وشفيعنا، فاشفع لنا إلى ربك واسأله أن يميتنا على سنّتك ومحبتك، ويحشرنا في زمرتك، وأن يوردنا حوضك، غير خزايا ولا ندامى.
وروى يحيى بن الحسن العلويّ، عن ابن أبي فديك- رضي الله تعالى عنه- قال:
سمعت بعض من أدركت يقول: بلغنا أنه من وقف عند قبر النبي- صلى الله عليه وسلم فقال: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:
56] صلى الله على سيدنا محمّد وسلم.
وفي رواية: صلى الله عليك يا رسول الله، يقولها سبعين مرّة، ناداه ملك: صلى الله عليك يا فلان، لم يسقط لك اليوم حاجة، وينبغي تقديم ذلك على التوسل والدعاء.
قال المجد اللغوي: وروينا عن الأصمعي قال: وقف أعرابي مقابل قبر رسول الله- صلى الله عليه وسلم فقال: اللهم إن هذا حبيبك، وأنا عبدك، والشّيطان عدوّك، فإن غفرت لي سرّ حبيبك، وفاز عبدك، وغضب عدوّك، وإن لم تغفر لي غضب حبيبك، ورضي عدوّك، وهلك عبدك وأنت أكرم من أن تغضب حبيبك، وترضي عدوّك وتهلك عبدك، اللهمّ إنّ العرب الكرام إذا مات منهم سيّد أعتقوا على قبره، وإنّ هذا سيّد العالمين فأعتقني على قبره.
قال الأصمعي: فقلت: يا أخا العرب، أن الله تعالى قد غفر لك، وأعتقك بحسن هذا السّؤال.
قال المجد: ويجلس الزّائر إن طال القيام فيه، فيكثر من الصلاة والتسليم على سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم، ويأتي بأتم أنواع الصلوات وأكمل كيفياتها، والاختلاف في ذلك مشهور.
قال: والذي أختاره لنفسي، اللهم صل على سيدنا محمد وآله وأصحابه وأزواجه، الصلاة الماثورة التي أجاب بها السائل عن كيفية الصلاة عليه، عدد ما خلقت، وعدد ما أنت خالق، وزنة ما خلقت، وزنة ما أنت خالق، وملأ ما خلقت، وملأ ما أنت خالق وملأ سماواتك، وملأ أرضك، ومثل ذلك، وأضعاف ذلك وعدد خلقك، وزنة عرشك، ومنتهى رحمتك، ومداد كلماتك ومبلغ رضاك حتّى ترضى، وعدد ما ذكرك به خلقك فيما مضى، وعدد ما هم ذاكروك فيما بقي، في كل سنة وشهر وجمعة ويوم وليلة وساعة من الساعات، ولحظة من اللحظات، ونفس ولمحة، وطرفة من الأبد إلى الأبد، أبد الدنيا وأبد الآخرة، وأكثر من ذلك، لا ينقطع أولاه، ولا ينفذ أخراه، ثم يقول ذلك مرة، أو ثلاث مرات.
ثم يقول: اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيّدنا محمّد، كذلك قال النووي: ثم يتقدّم- يعني بعد فراغ الدعاء والتوسل قبالة الوجه الشريف- إلى رأس القبر، فيقف بين القبر والأسطوانة التي هناك، ويستقبل القبلة، ويحمد الله تعالى ويمجده، ويدعوا لنفسه بما أهمّه وما أحبّه، ولوالديه ولمن شاء من أقاربه وأشياخه وإخوانه ولسائر المسلمين.
وفي كتب الحنفية قال نحو هذا، قال العزّ بن جماعة: وما ذكروه من العود قباله الوجه الشريف، ومن التقدم إلى رأس القبر المقدس للدعاء لم يكن إلا عقب الزيارة، ولم ينقل عن فعل الصحابة والتابعين- رضي الله تعالى عنهم- أجمعين.
قال السيد: أما الدعاء والتوسل هناك فله أصل عنهم، والذي لم ينقل إنما هو هذا الترتيب المخصوص، والظاهر أن المراد بذلك تأخير الدعاء عن السلام على الشيخين، والجمع بين موقف السلف الأول الذي كان قبل إدخال الحجرة، والثاني الذي كان بعده حسن.
قال النووي: رحمه الله تعالى: ثم يأتي الرّوضة، فيكثر فيها من الدعاء والصلاة، ويقف عند المنبر ويدعو.
قال السيد: ويقف أيضا ويدعو عند أسطوان المهاجرين، ويتبرّك بالصلاة عندها، وكذا أسطوان أبي لبابة، وأسطوان الحرس وأسطوان الوفود، وأسطوان التهجد بعد أن يسلم علي السيدة فاطمة الزهراء- رضي الله تعالى عنها- عند المحراب الذي في بيتها داخل المقصورة، على القول بدفنها هناك.
ومنها تعظيمه وتوقيره، لأنهما واجبان حيا وميتا قال الله تبارك وتعالى: يا أيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ [الفتح: 9] وقال تبارك اسمه فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [الأعراف: 157] فأخبر أن الفلاح إنما يكون لمن جمع إلى الإيمان تعزيره، ولا خلاف أن التعزير ها هنا هو التعظيم، فانظر ما في هذه الآية من تعظيم الله تعالى لنبينا- صلى الله عليه وسلم، حين قدم في الذكر تعزيره ونصرته على اتباع النور الذي أنزل معه، وفي ذلك من الإشعار بعلو المنزلة وارتفاع الرتبة والإجلال والتوقير والتعظيم ما لا يخفى على من يفهم مواقع كلام الله سبحانه وتعالى.
وقال عز وجل: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ [الحجرات:
1] .
وقال تبارك اسمه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ [الحجرات: 2] الثلاث آيات.
وقال جلّ وعلا: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً [النور: 63] فأوجب والله تعالى تعزيره وتوقيره، وألزم إكرامه وتعظيمه.
قال ابن عباس، يعزّروه أي: يجلوه.