الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الرابع في بيان قتل الساب إذا كان ممن يدّعي الإسلام ولم يتب
قال القاضي: [الحجة في إيجاب قتل من سبه أو عابه صلى الله عليه وسلم فمن القرآن لعنه تعالى لمؤذيه في الدنيا والآخرة، وقرانه تعالى أذاه بأذاه، ولا خلاف في قتل من سبّ الله، وأنّ اللّعن إنما يستوجبه من هو كافر، وحكم الكافر القتل، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً.
وقال- في قاتل المؤمن مثل ذلك، فمن لعنته في الدّنيا القتل، قال الله تعالى: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا. مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا.
وقال- في المحاربين، وذكر عقوبتهم: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ، أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ. ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا.
وقد يقع القتل بمعنى اللّعن، قال الله تعالى: قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ.
وقاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ، أي لعنهم الله، ولأنه فرق بين أذاهما وأذى المؤمنين، وفي أذى المؤمنين ما دون القتل، من الضّرب والنّكال، فكان حكم مؤذي الله ونبيّه أشدّ من ذلك، وهو القتل. وقال تعالى: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً.
فسلب اسم الإيمان عمّن وجد في صدره حرجا من قضائه، ولم يسلّم له، ومن تنقّصه فقد ناقض هذا.
وقال الله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ.
ولا يحبط العمل إلا الكفر، والكافر يقتل.
وقال تعالى: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ
…
ثم قال: حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
وقال تعالى: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ: هُوَ أُذُنٌ. ثم قال: وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
وقال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ، قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ. لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ، إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ.
قال أهل التفسير: كفرتم بقولكم في رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأمّا الإجماع فقد ذكرناه.
وأمّا الآثار
فحدّثنا الشيخ أبو عبد الله أحمد بن غلبون، عن الشيخ أبي ذرّ الهروي إجازة، قال: حدثنا أبو الحسن الدارقطني، وأبو عمر بن حيوة، حدثنا محمد بن نوح، حدثنا عبد العزيز بن محمد بن الحسن بن زبالة، حدثنا عبد الله بن موسى بن جعفر، عن علي بن موسى، عن أبيه، عن جدّه، عن محمد بن علي بن الحسين، عن أبيه، عن الحسين بن علي، عن أبيه- أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من سب نبيّا فاقتلوه، ومن سبّ أصحابي فاضربوه.
وفي الحديث الصحيح: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتل كعب بن الأشرف. وقوله: من لكعب بن الأشرف فإنه يؤذي الله ورسوله. توجّه إليه من قتله غيلة دون دعوة، بخلاف غيره من المشركين، وعلّل قتله بأذاه له، فدلّ أنّ قتله إياه لغير الإشراك، بل للأذى.
وكذلك قتل أبا رافع، قال البراء: وكان يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعين عليه.
وكذلك أمره يوم الفتح بقتل ابن خطل وجاريتيه اللّتين كانتا تغنّيان بسبّه صلى الله عليه وسلم.
وفي حديث آخر أن رجلا كان يسبّه- صلى الله عليه وسلم، فقال: من يكفيني عدوّي؟ فقال خالد: أنا.
فبعثه صلى الله عليه وسلم فقتله.
وكذلك لم يقل جماعة ممّن كان يؤذيه من الكفّار ويسبّه، كالنّضر بن الحارث، وعقبة ابن أبي معيط.
وعهد بقتل جماعة منهم قبل الفتح وبعده، فقتلوا إلا من بادر بإسلامه قبل القدرة عليه.
وقد روى البزار، عن ابن عباس- أن عقبة بن أبي معيط نادى: يا معشر قريش، ما لي أقتل من بينكم صبرا! فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: بكفرك وافترائك على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وذكر عبد الرزّاق أن النبي صلى الله عليه وسلم سبّه رجل، فقال: من يكفيني عدوّي؟ فقال الزبير: أنا، فبارزه فقتله الزبير.
وروى أيضاً أن امرأة كانت تسبّه صلى الله عليه وسلم، فقال: من يكفيني عدوّتي؟ فخرج إليها خالد ابن الوليد فقتلها.
وروي أن رجلا كذب على النبي صلى الله عليه وسلم، فبعث عليّا والزّبير إليه ليقتلاه.
وروى ابن قانع أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، سمعت أبي يقول فيك قولا قبيحا فقتلته! فلم يشقّ ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم.
وبلغ المهاجر بن أبي أمية أمير اليمن لأبي بكر رضي الله عنه أن امرأة هناك في الردّة غنّت بسبّ النبي صلى الله عليه وسلم، فقطع يدها، ونزع ثنيّتها، فبلغ أبا بكر رضي الله عنه ذلك، فقال له:
لولا ما فعلت لأمرتك بقتلها، لأنّ حدّ الأنبياء ليس بشبه الحدود.
وعن ابن عباس: هجت امرأة من خطمة النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: من لي بها؟ فقال رجل من قومها: أنا يا رسول الله. فنهض فقتلها، فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: لا ينتطح فيها عنزان.
وعن ابن عباس أن أعمى كانت له أمّ ولد تسبّ النبي صلى الله عليه وسلم فيزجرها فلا تنزجر، فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه، فقتلها، وأعلم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فأهدر دمها.
وفي حديث أبي برزة الأسلمي: كنت يوما جالسا عند أبي بكر الصديق، فغضب على رجل من المسلمين- وحكى القاضي إسماعيل وغير واحد من الأئمة في هذا الحديث أنه سب أبا بكر.
ورواه النّسائي: أتيت أبا بكر، وقد أغلظ لرجل فردّ عليه، قال: فقلت: يا خليفة رسول الله، دعني أضرب عنقه. فقال: اجلس، فليس ذلك لأحد إلا لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال القاضي أبو محمد بن نصر: ولم يخالف عليه أحد، فاستدلّ الأئمة بهذا الحديث على قتل من أغضب النبي صلى الله عليه وسلم بكلّ ما أغضبه أو آذاه أو سبّه.
ومن ذلك كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عامله بالكوفة، وقد استشاره في قتل رجل سبّ عمر رضي الله عنه، فكتب إليه عمر: إنه لا يحلّ قتل امرئ مسلم بسبّ أحد من الناس إلا رجلا سب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن سبه فقد حلّ دمه.
وسأل الرشيد مالكا في رجل شتم النبي صلى الله عليه وسلم، وذكر له أنّ فقهاء العراق أفتوه بجلده، فغضب مالك، وقال: يا أمير المؤمنين، ما بقاء الأمة بعد شتم نبيّها! من شتم الأنبياء قتل، ومن شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلد.
قال القاضي أبو الفضل رحمه الله تعالى: كذا وقع في هذه الحكاية، ورواها غير واحد من أصحاب مناقب مالك ومؤلّفي أخباره وغيرهم، ولا أدري من هؤلاء الفقهاء بالعراق الذين أفتوا الرشيد بما ذكر! وقد ذكرنا مذهب العراقيين بقتله، ولعلّهم ممن لم يشهر بعلم، أو من لا يوثق بفتواه، أو يميل به هواه بقتله أو يكون ما قاله يحمل على غير السبّ، فيكون الخلاف: هل
هو سبّ أو غير سب؟ أو يكون رجع وتاب من سبّه، فلم يقله لمالك على أصله، وإلا فالإجماع على قتل من سبّه كما قدّمناه.
ويدلّ على قتله من جهة النّظر والاعتبار أنّ من سبه أو تنقّصه صلى الله عليه وسلم فقد ظهرت علامة مرض قلبه، وبرهان سرّ طويّته وكفره، ولهذا ما حكم له كثير من العلماء بالردّة، وهي رواية الشاميين عن مالك والأوزاعي، وقول الثوري، وأبو حنيفة، والكوفيين.
والقول الآخر أنه دليل على الكفر، فيقتل حدّا، وإن لم يحكم له بالكفر إلا أن يكون متماديا على قوله، غير منكر له، ولا مقلع عنه، فهذا كافر، وقوله: إمّا صريح كفر كالتكذيب ونحوه، أو من كلمات الاستهزاء والذمّ، فاعترافه بها وترك توبته عنها دليل استحلاله لذلك، وهو كفر أيضا، فهذا كافر بلا خلاف، قال الله تعالى في مثله: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ.
قال أهل التفسير: هي قولهم: إن كان ما يقول محمد حقا لنحن شر من الحمير.
وقيل: قول بعضهم: ما مثلنا ومثل محمد إلا قول القائل: سمّن كلبك يأكلك، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ.
وقد قيل: إنّ قائل مثل هذا إن كان مستترا به إنّ حكمه حكم الزّنديق يقتل، ولأنه قد غيّر دينه،
وقد قال صلى الله عليه وسلم: «من غيّر دينه فاضربوا عنقه» ،
ولأنّ لحكم النبي صلى الله عليه وسلم في الحرمة مزيّة على أمته، وساب الحرّ من أمّته يحدّ، فكانت العقوبة لمن سبّه صلى الله عليه وسلم القتل، لعظيم قدره، وشفوف منزلته على غيره
…
] .