الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الباب الثالث في الرد على من زعم أنّ شدّ الرحل لزيارته- صلى الله عليه وسلم معصية
قد تقدم أنه انعقد الإجماع على تأكّد زيارته، وحديث لا تشدّ الرّحال إلّا إلى ثلاثة مساجد حجّة في ذلك.
قال الحافظ أبو عمر بن عبد البرّ بعد أن ذكر حديث الصحيحين: أنه- صلى الله عليه وسلم كان يأتي قباء راكبا وماشيا ليس في إتيانه- صلى الله عليه وسلم مسجد قباء ما يعارض الحديث الأوّل، لأن ذلك معناه عند العلماء فيمن نذر على نفسه صلاة في أحد المساجد الثلاثة أنّه يلزمه إتيانها دون غيرها.
وأما إتيان مسجد قباء وغيره من مواضع الرباط فلا بأس بإتيانها بدليل حديث قباء هذا.
قال الإمام العلامة محمود بن جملة: وهو الذي ذكره هو الحق الذي لا محيد عنه، ولهذا تجد الأئمة من الفقهاء والمحدّثين يذكرون الحديث في باب النذور والسّفر للجهاد، ولتعلّم العلم الواجب، وبر الوالدين، وزيارة الإخوان، والتفكير في أثار صنع الله تعالى، وكلّه مطلوب للشّارع إما وجوبا، أو استحبابا، والسّفر للتجارة والأغراض الدّنيوية جائز وكله خارج عن هذا الحديث، فلم يبق إلا شدّ الرّحل للمعصية، وحينئذ هو النوع، ولا يختص بشد الرحل، يا سبحان الله أن يكون السّفر لزيارة النبي- صلى الله عليه وسلم من هذا القسم لقد اجترأ على رسول الله- صلى الله عليه وسلم من قال هذا، وهو كلام يدور مع الاستهانة وسوء الأدب، وفي إطلاقه ما يقتضي كفر قائله نعوذ بالله من الخذلان، وكذا في
قوله- صلى الله عليه وسلم: «لا تتّخذوا قبري عيدا ولا تجعلوا بيوتكم قبورا»
يعارض ما سبق لأن سباقه يقتضي دفع توهّم من توهّم أن الصلاة عليه لا تكون مؤثرة إلا عند قبره فيفوت بسبب ذلك ثواب المصلي عليه من مصلّ، ولهذا
قال- صلى الله عليه وسلم: «فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم»
ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في جواز السّفر وشدّ الرّحل لغرض دنيوي كالتّجارة فإذا جاز ذلك فهذا أولى، لأنه أعظم الأغراض الأخروية فإنّه في أصله من أمر الآخرة لا سيما في هذا الوضع ولا نعلم خلافا بين أهل العلم في جواز السّفر وشدّ الرّحل لغرض أخرويّ كالاعتبار بمخلوقات الله- عز وجل وآثار صنعه وعجائب ملكوته ومبتدعاته، وقد دل على هذا آيات كثيرة في الكتاب العزيز كقوله تعالى: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [العنكبوت: 20] والاعتبار لمن بصره الله تعالى بمثل هذا السّفر، فإن المسلم العاقل يحصل له أعظم العبر فيتقرر عنده أن الدّنيا ليست بدار مقام، وأن آخر أمرها شرب كأس
الحمام، ويتذكر شدة الموت وسكراته، وما حصل للنبي- صلى الله عليه وسلم من ذلك وهو أكرم الخلق على الله تعالى.
قال العلامة زين الدّين المراغيّ: وينبغي لكل مسلم اعتقاد كون زيارته- صلى الله عليه وسلم قربة للأحاديث الواردة في ذلك ولقوله تعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ [النساء: 64] الآية، لأن تعظيمه- صلى الله عليه وسلم لا ينقطع بموته ولا يقال إن استغفار الرّسول لهم إنما هو في حال حياته، وليست الزيارة كذلك لما قد أجاب به بعض أئمة المحققين من أن الآية دلّت على تعليق وجدان الله توّابا رحيما بثلاثة أمور: المجيء، واستغفار الرسول لهم، وقد حصل استغفار الرّسول لجميع المؤمنين، لأنه- صلى الله عليه وسلم قد استغفر للجميع قال الله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ [محمد: 19] فإذا وجد مجيئهم أو استغفارهم تكاملت الأمور الثلاثة الموجبة لتوبة الله تعالى ورحمته.
ومشروعية السّفر لزيارة قبر النبي- صلى الله عليه وسلم قد ألف فيها الشيخ تقي الدين السّبكيّ، والشيخ جمال الدين بن الزملكاني والشّيخ داود أبو سليمان المالكيّ وابن جملة وغيرهم من الأئمة وردوا على عصريّهم الشيخ تقي الدين بن تيميّة- رحمه الله تعالى فإنّه قد أتى في ذلك بشيء منكر لا تغسله البحار [ (1) ] والله تعالى وليّ التوفيق ربّ السّموات والأرض وما بينهما العزيز الغفّار.
[ (1) ] ولسنا نعتقد هذا في شيخ الإسلام فلقد جانب الصواب على شيخ الإسلام تقي الدين السبكي عليهما رحمة الله وبركاته.