الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الأول
في حكمه للتالي
وقد اختلف أهل العلم فيه على ثلاثة أقوال:
القول الأول: إن ذلك واجب مطلقًا، أي: في الصلاة وخارجها:
ذهب إليه الحنفية (1)، وأحمد في رواية عنه (2)، اختارها ابن تيمية (3)، وقد استدل هؤلاء بما يلي:
أولا: من الكتاب:
1 -
قوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 20، 21].
ووجه الدلالة: أن الله ذمهم على ترك السجود، وإنما استحق الذم بترك الواجب (4).
ونوقش الاستدلال من أوجه:
الوجه الأول: أنه محمول على الصلاة (5).
الوجه الثاني: أن الآية وردت في ذم الكفار وتركهم السجود
(1) انظر: الهداية (1/ 87) المبسوط (2/ 4) بدائع الصنائع (1/ 180) البناية (2/ 716) تبيين الحقائق (1/ 205).
(2)
الإنصاف (2/ 193) المبدع (2/ 28).
(3)
مجموع الفتاوى (23/ 139) الإنصاف (2/ 193).
(4)
البناية (2/ 719) المبسوط (2/ 4) بدائع الصنائع (1/ 180) مجموع فتاوى ابن تيمية (23/ 127) المبدع (2/ 28) المجموع (4/ 61) الحاوي (2/ 200) المغني (2/ 365).
(5)
مجموع فتاوى ابن تيمية (23/ 137).
استكبارًا، بدليل ما تعقبه من الوعيد الذي لا يستحقه من ترك سجود التلاوة (1).
وأجيب: بأن هذا خلاف قولكم؛ لأنكم تستحبون السجود في الآية.
وردت الإجابة: بأنا نسجد مبالغة في مخالفة الكفار، وترك الاستكبار، وذلك يسحب، ولهذا يستحب في المرة الثانية والثالثة ولا يجب بالإجماع بيننا (2).
الوجه الثالث: أن معنى {لَا يَسْجُدُونَ} أي: لا يعتقدون فضله، ولا مشروعيته، ولذلك قال:{بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} [الانشقاق: 22](3).
2 -
قوله تعالى: {فَاسْجُدُوا لِلهِ وَاعْبُدُوا} [النجم: 62] وفي العلق {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: 19] وهذا أمر، ومطلق الأمر الوجوب (4).
ونوقش من أوجه:
الوجه الأول: أن المراد بالسجود في هذه الآيات، سجود الصلاة (5).
الوجه الثاني: أن إيجاب السجود مطلقًا ليس يقتضي وجوبه مقيدًا وهو عند القراءة، أي: عند قراءة آية السجود، ولو كان الأمر كما زعموا لكانت الصلاة تجب عند قراءة الآية التي فيها الأمر بالصلاة، وإذا لم يجب ذلك فليس يجب السجود عند قراءة الآية التي فيها الأمر
(1) الحاوي (2/ 201) المجموع (4/ 26) المغني (2/ 366).
(2)
الانتصار في المسائل الكبار (2/ 390).
(3)
الحاوي (2/ 201) المغني (2/ 366).
(4)
البناية (2/ 719) مجموع فتاوى ابن تيمية (23/ 139، 140) المجموع (4/ 61).
(5)
المجموع (4/ 62).
بالسجود من الأمر بالسجود (1).
وأجيب: بأن المسلمين قد أجمعوا على أن الأخبار الواردة في السجود عند تلاوة القرآن هي بمعنى الأمر بالسجود مقيدًا بالتلاوة أي: عند التلاوة، وورد الأمر به مطلقا فوجب حمل المطلق على المقيد، وليس الأمر في ذلك بالسجود كالأمر بالصلاة، فإن الصلاة قيد وجوبها بقيود أخر.
وأيضًا: فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد سجد فيها فبين لنا بذلك معنى الأمر بالسجود الوارد فيها، أي: أنه عند التلاوة فوجب أن يحمل مقتضى الأمر في الوجوب عليه (2).
الوجه الثالث: على فرض التسليم بأنه أمر بالسجود عند التلاوة، فإنه يتعين حمله على الندب، جمعًا بينه وبين ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم من ترك السجود أحيانا (3).
3 -
قوله تعالى: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [السجدة: 15].
فهذا الكلام يقتضي أنه لا يؤمن بآياته إلا من إذا ذكر بها خر ساجدا وسبح بحمد ربه، وهو لا يستكبر (4).
ونوقش: بأن المراد به التزام السجود واعتقاده، فإن فعله ليس بشرط في الإيمان إجماعًا، ولذا قرنه بالتسبيح، وهو قوله:{خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا} [السجدة: 15] وليس التسبيح بواجب (5).
ولأن ظاهر الآية يقتضي أن جميع الآيات يجب أن يسجد لها إذا
(1) نقله ابن رشد عن الجويني، بداية المجتمع (1/ 162).
(2)
بداية المجتمهد (1/ 162).
(3)
الانتصار (2/ 390).
(4)
مجموع فتاوى ابن تيمية (23/ 141) الانتصار (2/ 390).
(5)
الانتصار (2/ 391)، كشاف القناع (1/ 445).
ذكرها، وهذا لا يقول به أحد، فسقط ظاهرها وعلم أن المراد بها ما ذكرنا (1).
4 -
أن أي السجدة تفيد الوجوب أيضًا، لأنها ثلاثة أقسام: قسم فيه الأمر الصريح به، وقسم تضمن حكاية استنكاف الكفرة حيث أمروا به، وقسم فيه حكاية فعل الأنبياء السجود. وكل من الامتثال، والاقتداء، ومخالفة الكفرة واجب (2).
ويمكن أن يناقش: بأنه لا يصح من الحنفية؛ لأنهم لا يقولون بالسجود في مواضع الأمر، وأما الاقتداء فلا يجب فيما فعلوه على وجه الاستحباب، أما ما ورد في شأن ذم الكفار لتركهم السجود، فلعدم اعتقادهم فضله ولا مشروعيته، ولتركهم له استنكافًا، واستكبارًا (3).
ثانيًا من السنة:
حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد، اعتزل الشيطان يبكي ويقول: يا ويله، وفي رواية: يا ويلتي، أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار» (4).
والاستدلال به من وجهين:
الوجه الأول: أنه قال: «أمر ابن آدم» والأمر للوجوب (5).
الوجه الثاني: أنه قربة، فالسجدة التي أمر بها تلك كانت واجبة؛ فكذا هذه (6).
(1) الانتصار (2/ 391).
(2)
فتح القدير (2/ 13) البناية (2/ 719).
(3)
انظر: (20).
(4)
الحديث أخرجه مسلم في كتاب الإيمان، باب بيان إطلاق اسم الكفر على من ترك الصلاة (1/ 87) حديث (133).
(5)
المبسوط (2/ 4) فتح القدير (2/ 13) البناية (2/ 719) مجموع فتاوى ابن تيمية (23/ 156).
(6)
البناية (2/ 719).
ونوقش من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: بأن هذا حكاية قول إبليس (1)، وهو ليس إلا قوله:
…
{أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} [الأعراف: 12].
وأجيب: بأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بذلك ولم ينكره (2).
الوجه الثاني: أنه إخبار عن السجود الواجب (3).
الوجه الثالث: أنه لو سلم بأنه أمر، فقد ورد ما يصرفه عن الوجوب، وهو ما يأتي في أدلة القول الثالث.
ثالثًا: من أقوال الصحابة:
1 -
ما صح عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: «إنما السجدة على من استمعها» (4).
2 -
ما روي عن ابن عباس؛ أنه قال: «إنما السجدة على من جلس لها» (5).
3 -
وعن ابن عمر؛ أنه قال: «إنما السجدة على من سمعها» (6).
قالوا: و «على» كلمة إيجاب؛ فدل على وجوب السجود (7).
ونوقش: الاستدلال من أوجه:
(1) البناية (2/ 719).
(2)
البناية (2/ 719).
(3)
المسائل الفقهية من تفسير القرطبي (1/ 214).
(4)
أخرجها البخاري معلقا بصيغة الجزم، في أبواب سجود القرآن، وسننها باب من رأى أن الله تعالى لم يوجب السجود (2/ 33).
وقد وصله ابن أبي شيبة، كما في المصنف، كتاب الصلوات، باب من قال: السجدة على من جلس لها، ومن سمعها (2/ 5) وعبد الرزاق في المصنف، في كتاب فضائل القرآن، باب السجدة على من استمعها، وسعيد بن منصور كما في التعليق، (2/ 412) من طريق قتادة عن سعيد بن المسيب، وقد صححها الحافظ كما في الفتح (2/ 558).
(5)
أخرجه ابن أبي شيبة، وعبد الرزاق في الموضع السابق.
(6)
أخرجه ابن أبي شيبة في الكتاب، والباب السابق.
(7)
المبسوط (2/ 4) البناية (2/ 717).
الوجه الأول: أنها ليست بصريحة في الإيجاب، إذ يمكن حملها على أن السجود المستحب إنما هو في حق المستمع.
الوجه الثاني: أنها لو صحت وكانت صريحة في الوجوب لكانت معارضة بما هو أقوى منها، وهو ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من ترك السجود أحيانًا (1)، ومثله ما ثبت من إقرار الصحابة لقول عمر في الخطبة (إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء)(2).
رابعًا: من المعقول:
1 -
ولأنها لو لم تكن واجبة لما جاز أداؤها في الصلاة؛ لأن أداءها زيادة سجدة، وهي تطوع توجب الفساد (3).
ونوقش: بأنها لو كانت واجبة لوجب إذا تلاها في الصلاة فلم يسجد حتى خرج من الصلاة أنه يقضيها (4).
وأجيب عنه: بأنها وجبت بسبب التلاوة في الصلاة؛ فأصبحت لها مزية الصلاة، فكان وجوبها كاملاً وأداؤها خارج الصلاة ناقص فلا يتأدى الكامل بالناقص (5).
ويمكن أن ترد الإجابة: بأن الحكم بنقصانها خارج الصلاة، يحتاج إلى دليل ولا دليل.
2 -
ولأنه سجود يفعل في الصلاة، فكان واجبًا كسجود الصلاة (6).
ونوقش: بأنه ينتقض بسجود السهو فإنه عندهم غير واجب (7).
(1) انظر: (27).
(2)
انظر: (30، 31).
(3)
البناية (1/ 719) بدائع الصنائع (1/ 180).
(4)
الانتصار (2/ 391).
(5)
الهداية وفتح القدير (2/ 18، 21).
(6)
الحاوي (2/ 201) المغني (2/ 367) المبدع (2/ 28/).
(7)
المغني (2/ 367).
وأجيب: بأن هذا غير صحيح، إذ الصحيح من المذهب وجوبه (1).
3 -
ولأنه ركن مفرد عن أركان الصلاة الأصلية شرعت قربة خارج الصلاة فوجب أن تكون واجبة، قياسًا على القيام في صلاة الجنازة (2).
القول الثاني: إنه واجب في الصلاة، مسنون خارجها:
ذهب إليه أحمد في رواية عنه (3).
ولم أجد مستند أحمد فيما ذهب إليه من هذا التفصيل، ولعله ما ثبت من مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم من السجود في الصلاة، مع ما نقل عنه من عدم سجوده أحيانًا خارج الصلاة، كما في حديث زيد بن ثابت (4).
القول الثالث: إنه سنة مطلقًا:
ذهب إليه المالكية (5)، والشافعية (6)، وأحمد في رواية عنه، وهي المذهب (7)، والظاهرية (8)، والليث بن سعد، والأوزاعي (9)، وإسحاق، وأبو ثور (10).
(1) أي: مذهب الحنفية انظر: الهداية (1/ 74).
(2)
البناية (2/ 719).
(3)
الإنصاف (2/ 193) مجموع فتاوى ابن تيمية (23/ 139، 155) المبدع (2/ 28) الانتصار (2/ 380).
(4)
يأتي قريبًا (27).
(5)
القوانين الفقهية (62) المعونة (1/ 286) المدونة (1/ 110) بداية المجتهد (1/ 161) المنتقى (1/ 349) شرح الخرشي (1/ 350).
(6)
الحاوي (2/ 200) المجموع (4/ 61) المهذب (1/ 92) مغني المحتاج (1/ 214) روضة الطالبين (1/ 318).
(7)
الإنصاف (2/ 193) المبدع (2/ 28) المغني (2/ 346) الفروع (1/ 500) الكافي (1/ 158) الانتصار (2/ 380) المستوعب (2/ 251).
(8)
المحلى (5/ 106) المجموع (4/ 61).
(9)
المغني (3/ 364).
(10)
المجموع (4/ 61).
الأدلة:
أولاً من السنة:
1 -
حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه؛ قال: قرأت على النبي صلى الله عليه وسلم
…
{وَالنَّجْمِ} [النجم: 1] فلم يسجد فيها (1).
فلو كان السجود واجبا لسجد رسول الله وأمر به زيدًا (2).
ونوقش من أوجه:
الوجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسجدها على الفور، ولا يلزم منه أنه ليس فيه سجدة ولا نفي الوجوب (3).
وأجيب: بأنه لو كان كما ذكروا لم يطلق الراوي نفي السجود (4).
الوجه الثاني: أنه يحتمل أن زيدًا قرأها بعد الصبح، أو بعد العصر ولا يحل السجود في ذلك الوقت بالاتفاق (5).
وأجيب عنه بجوابين:
الأول: عدم التسليم بوجود الاتفاق على عدم مشروعية السجود، فالخلاف موجود؛ إذ من أهل العلم من يقول بجواز فعل ذوات الأسباب في وقت النهي، ومنهم من يقول: بأن السجود للتلاوة ليس بصلاة فلا نهي فيه (6).
الجواب الثاني: أنه لو كان السبب ما ذكروه لم يطلق زيد النفي،
(1) أخرجه البخاري في أبواب سجود القرآن وسننها، باب من قرأ السجدة، ولم يسجد (2/ 32).
(2)
المجموع (2/ 61) الحاوي (2/ 200) المغني (2/ 365)، الانتصار (2/ 381).
(3)
البناية (2/ 715) العناية (2/ 14).
(4)
المجموع (2/ 61) الانتصار (2/ 382).
(5)
المجموع (2/ 61) الانتصار (2/ 382).
(6)
مجموع فتاوى ابن تيمية (23/ 165) المحلى (5/ 165).
ويجعله الحجة في ترك السجود (1).
الوجه الثالث: احتمال أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن على طهارة (2).
ونوقش: بأن الصحيح عدم اشتراط الطهارة لسجود التلاوة (3).
ولو سلم باشتراطها، وكان سبب الترك عدم الطهارة، لبين ذلك، وقال: لم أسجد لأني على غير وضوء (4).
الوجه الرابع: أنه لم يسجد؛ لأن زيدًا لم يسجد (5)، كما قال ابن مسعود لتميم ابن حذلم: أنت إمامنا، فإن سجدت سجدنا (6).
ويمكن أن يجاب عنه: بأنكم لا تشترطون ذلك لسجود المستمع.
الوجه الخامس: أن السجود في {وَالنَّجْمِ} وحدها منسوخ؛ بخلاف غيرها مما في المفصل كـ «اقرأ» و «الانشقاق» .
لما كان الشيطان قد ألقاه حين ظن أنه وافقهم، ترك السجود فيها بالكلية سدًا لهذه الذريعة (7).
2 -
ما روي أن رجلاً قرأ عند رسول الله صلى الله عليه وسلم آية سجدة فسجد، وقرأها آخر فلم يسجد، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«كنت إمامنا، فلو سجدت سجدنا» (8).
(1) المجموع (2/ 62) الانتصار (2/ 382).
(2)
مجموع فتاوى ابن تيمية (23/ 158) الانتصار (2/ 381).
(3)
مجموع فتاوى ابن تيمية (23/ 165) المحلى (5/ 165).
(4)
الانتصار (2/ 381).
(5)
مجموع الفتاوى لابن تيمية (23/ 158).
(6)
أخرجه البخاري معلقًا بصيغة الجزم في أبواب سجود القرآن وسننها، باب من سجد لسجود القارئ (2/ 33).
وقد وصله ابن أبي شيبة كما في المصنف (2/ 19) وعبد الرزاق (3/ 344) والبيهقي (2/ 81) وسعيد بن منصور كما في التعليق (2/ 409) وفي الفتح (2/ 556).
(7)
مجموع فتاوى ابن تيمية (23/ 159).
(8)
أخرجه الشافعي في المسند (1/ 122 - 359) والبيهقي (2/ 324) من طريقين وضعفها قال: والمحفوظ من طريق عطاء بن يسار مرسل، وأخرجه ابن أبي شيبة من طريق آخر عن زيد بن أسلم (2/ 19) وقال الحافظ في الفتح: ورجاله ثقات إلا أنه مرسل (2/ 556) وانظر: تعليق التعليق (2/ 411) وكذا إرواء الغليل (2/ 226).
وفيه دليلان:
الأول: أنه لم يأمره بالسجود وأقره على تركه.
الثاني: قوله: «لو سجدت سجدنا» على سبيل المتابعة والتخيير (1).
ونوقش: بأنه مرسل، والمرسل من قسم الضعيف، فلا يصلح للاحتجاج.
3 -
قوله صلى الله عليه وسلم للأعرابي حين سأله، ماذا فرض عليه من الصلاة؟ «خمس صلوات في اليوم والليلة» قال: هل علي غيرها؟ قال: «لا؛ إلا أن تتطوع» (2).
ووجه الاستدلال: أنه صلاة فيدخل في عموم قوله: «لا؛ إلا أن تتطوع» ولو كانت واجبة لما ترك البيان بعد السؤال (3).
ونوقش من أوجه:
الوجه الأول: أنه في الفرائض، وهو عندنا واجب غير فرض (4).
ويمكن أن يجاب عنه: بأن هذا اصطلاح لهم حادث، وما كان الصحابة يفرقون بينهما (5).
الوجه الثاني: أنه فيما وجب ابتداء، لا فيما يوجبه العبد على نفسه.
ودليله: أنه لم يذكر المنذور مع وجوبه (6).
(1) الحاوي (2/ 201) الانتصار (2/ 384).
(2)
أخرجه البخاري في كتاب الإيمان، باب الزكاة من الإسلام (1/ 17) ومسلم في كتاب الإيمان باب بيان الصلوات التي هي أحد أركان الإسلام (1/ 40).
(3)
المغني (2/ 366) المبسوط (2/ 40).
(4)
البناية (2/ 718).
(5)
فتح الباري (2/ 559).
(6)
المبسوط (2/ 4).
4 -
ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه لم يسجد في المفصل (1)، وبما روي عنه أنه سجد فيها (2).
فوجه الجمع بين ذلك يقتضي أن لا يكون السجود واجبًا، وذلك بأن يكون كل واحد حدث بما رأى، من قال: إنه سجد، ومن قال: إنه لم يسجد (3).
ثانيًا: ما أثر عن الصحابة:
ما ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ سورة النحل على المنبر يوم الجمعة، حتى إذا جاء السجدة نزل، فسجد وسجد الناس، حتى إذا كانت الجمعة القابلة قرأ بها، حتى إذا جاءت السجدة؛ قال: يا أيها الناس: إنَّما نمر بالسجود فمن سجد فقد أصاب، ومن لم يسجد فلا إثم عليه (4).
وفي رواية: إن الله لم يكتبها علينا إلا أن نشاء (5).
وهذا الفعل من عمر في هذا الموطن والمجمع العظيم دليل ظاهر في إجماعهم على أنه ليس بواجب (6).
ونوقش من أوجه:
الوجه الأول: أنه منقطع (7)، فلا يصلح للاحتجاج.
ونوقش: بأن هذا وهم، فالصحيح أن الخبر متصل (8).
(1) انظر: تخريجه (62).
(2)
انظر: تخريجه (37، 63).
(3)
بداية المجتهد (1/ 161).
(4)
أخرجه البخاري، في أبواب سجود القرآن وسنتها، باب من رأى أن الله صلى الله عليه وسلم لم يوجب السجود (2/ 34).
(5)
أخرجه البخاري في الكتاب والباب السابق (2/ 34).
(6)
المنتقى (1/ 351) الحاوي (2/ 201) المجموع (4/ 63) المغني (2/ 366) المبدع (2/ 28) مجموع فتاوى ابن تيمية (23).
(7)
فتح الباري (2/ 559) المنتقى (1/ 351).
(8)
فتح الباري (2/ 559).
الوجه الثاني: التسليم بموجبه أنه لم تكتب علينا، بل أوجبت وفرق بين الفرض والواجب (1).
وأجيب: بأن هذا اصطلاح لهم حادث، ولم يكن الصحابة يفرقون بينهما (2).
ثم يرده قول عمر: (ومن لم يسجد فلا إثم عليه).
الوجه الثالث: أنه مؤول بأنه لم يجب علينا التعجيل بسجدة التلاوة، فأراد أن يبين للقوم التأخير عن حالة الوجوب (3).
وأجيب عنه: بأن هذا يرده قوله (ومن لم يسجد فلا إثم عليه).
الوجه الرابع: أن قوله (إلا أن نشاء) لا يخلو أن يريد به نشاء وجوبها فلا يجوز ذلك؛ لأن الواجب يتعلق بإيجاب الشرع، لا بمشيئتنا فثبت أنه أراد إلا أن نشاء قراءتها (4).
وأجيب عنه: بأن فيه بعدًا ويرده تصريح عمر بقوله: (ومن لم يسجد فلا إثم عليه) فإن انتفاء الإثم عمن ترك الفعل مختاراً يدل على عدم وجوبه (5).
الوجه الخامس: أنه قد يكون المراد منه أن الله لم يكتب علينا السجود في هذه الحال، وهو إذا قرأها الإمام على المنبر، يبين ذلك أن السجود في هذه الحال ليس كالسجود المطلق؛ لأنه يقطع فيه الإمام الخطبة، ويعمل عملاً كثيرًا، والسنة في الخطبة الموالاة، فلما تعارض هذا، وهذا صار السجود غير واجب، لأن القارئ يشتغل بعبادة أفضل منه، وهو خطبة الناس، وإن سجد جاز .. فإذا كان كذلك لم يبق فيه
(1) بدائع الصنائع (1/ 180).
(2)
فتح الباري (2/ 559).
(3)
المبسوط (2/ 4).
(4)
ذكره لهم أبو الخطاب في الانتصار (2/ 386) وكذا ابن حجر في الفتح (2/ 559).
(5)
فتح الباري (2/ 559) الانتصار (2/ 386).
حجة، ولو كان مرفوعًا (1).
الوجه السادس: أنه لو كان صريحًا، لكان قوله، وإقرار من حضر وليسوا كل المسلمين (2).
الوجه السابع: أنه معارض بمثله من أقوال الصحابة في وجوبه، كما ثبت عن عثمان، وابن عباس، وابن عمر (3).
ثالثًا: من المعقول:
1 -
أن الأصل عدم الوجوب حتى يثبت دليل صحيح صريح في الأمر به، ولا معارض له، ولا قدرة لهم على هذا (4).
2 -
ولأن ما شرع لأجل التلاوة لم يكن واجبًا، أصله التأمين، والتعوذ وسؤال الرحمة (5).
3 -
وقياسًا على سجود الشكر (6).
4 -
ولأنه يجوز فعله على الراحلة بالاتفاق في السفر، فلو كان واجبًا لم يجز كسجود صلاة الفرض (7).
ونوقش: بأن أداءها كما وجبت، فإن تلاوتها على الدابة مشروعة فكان كالشروع على الدابة في التطوع (8).
وأجيب عن المناقشة: بأنها لو كانت واجبة لم يجز فعلها ولو وجد سببها على الراحلة، ألا ترى أنه لو دخل عليه وقت الصلاة، وهو على الراحلة لم يجز له فعلها، وإن كان الوقت سبب الوجوب (9).
(1) مجموع الفتاوى (23/ 159).
(2)
المصدر السابق (23/ 159).
(3)
المصدر السابق، والأثر عن هؤلاء سبق تخريجه (24).
(4)
المجموع (4/ 62) الانصار (2/ 388) حاشية ابن قاسم (2/ 234).
(5)
الانتصار (2/ 386).
(6)
المجموع (4/ 62).
(7)
المنتقى (1/ 351) المجموع (4/ 62) الانتصار (2/ 386).
(8)
البناية (2/ 7189 العناية (2/ 14) فتح القدير (2/ 13) الانتصار (2/ 388).
(9)
الانتصار (2/ 388).
5 -
ولأنها صلاة غير واجبة، فوجب أن لا يكون السجود لها واجبًا، أصله إذا أعاد تلك الآية (1).
6 -
ولأنه لما لم يجب عند العودة إلى التلاوة لم يجب عند ابتداء التلاوة كالطهارة (2).
7 -
أنها لو كانت واجبة لما أديت في سجود الصلاة وركوعها (3).
ونوقش: بأن أداءها في ضمن شيء لا ينافي وجوبها في نفسها كالسعي إلى الجمعة يتأدى بالسعي إلى التجارة (4).
8 -
أنها لو كانت واجبة لما تداخلت (5).
ونوقش: بأنه إنما جاز التداخل، لأن المقصود منها إظهار الخضوع والخشوع، وذلك يحصل بمرة واحدة (6).
9 -
أنها لو كانت واجبة بطلت الصلاة بتركها كالصلاتية (7).
ونوقش: بالفرق؛ لأن الصلاتية جزء الصلاة، بخلاف السجدة فليس بجزء الصلاة (8).
10 -
ولأن كل سجود لا تبطل الصلاة بتركه فهو مسنون كسجود السهو (9).
الترجيح:
والذي يظهر لي رجحانه هو القول الثالث، من عدم وجوب السجود؛ لقوة ما بني عليه من استدلال، وسلامة أدلته من المناقشة المضعفة للاستدلال، في مقابل ضعف ما أورده الموجبون للسجود من أوجه للاستدلال.
(1) الحاوي (2/ 201).
(2)
الحاوي (2/ 201).
(3)
ذكره لهم صاحب البناية (2/ 718) والعناية (2/ 14).
(4)
المصدران السابقان.
(5)
البناية (2/ 718) العناية (2/ 14).
(6)
المصادر السابقة.
(7)
البناية (2/ 718).
(8)
المصدر السابق.
(9)
الحاوي (2/ 201).