الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المسلكية في ذلك هو أن يعبد العبد ربه، ويصطبر للعبادة، لا يمل، ولا يتعب، ولا يضجر، بل يصبر عليها صبر القرين لقرينه في المبارزة في الجهاد.
ثالثاً: قوله: {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65]، {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 4] ، {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} [البقرة: 22]، ففيها تنزيه لله عز وجل، وأن الإنسان يشعر في قلبه بأن الله تعالي منزه عن كل نقص، وأنه لا مثيل له، ولا ندله، وبهذا يعظمه حق تعظيمه بقدر استطاعته.
رابعاً: قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً} [البقرة: 165]، فمن فوائدها من الناحية المسلكية: أنه لا يجوز للإنسان أن يتخذ أحداً من الناس محبوباً كمحبة الله، وهذه تسمي المحبة مع الله.
الآية الخامسة: قوله: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً
وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} [الأسراء: 111].
{وَقُلِ} : الخطاب في مثل هذا: إما خاص بالرسول عليه الصلاة والسلام، أو عام لكل من يصح توجيه الخطاب إليه.
فإن كان خاصاً بالرسول صلي الله عليه وسلم، فهو خاص به بالقصد الأول، وأمته تبع له.
وإن كان عاماً، فهو يشمل الرسول صلي الله عليه وسلم وغيره بالقصد الأول.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ} : سبق تفسيه هذه الجملة، وأن الحمد هو
وصف المحمود بالكمال مع المحبة والتعظيم.
وقوله: {لِلَّهِ} : اللام هنا للاستحقاق والاختصاص:
للاستحقاق، لأن الله تعالي يحمد وهو أهل للحمد.
والاختصاص، لأن الحمد الذي يحمد الله به ليس كالحمد الذي يحمد به غيره، بل هو أكمل وأعظم وأعم وأشمل.
وقوله: {الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} : هذا من الصفات السلبية: {لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} لكمال صفاته وكمال غناه عن غيره، ولأنه لا مثيل له، فلو اتخذ ولداً، لكان الولد مثله، لو كان له ولد، لكان محتاجاً إلي الولد يساعده ويعينه، لو كان له ولد، لكان ناقصاً، لأنه إذا شابهه أحد من خلقه، فهو نقص.
اليهود قالوا: لله ولد، وهو عزير!
والنصارى قالوا: لله ولد، وهو المسيح!
والمشركون قالوا: لله ولد، وهم الملائكة!
وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} : هذا معطوف على قوله: {لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً} ، يعني: والذي لم يكن له شريك في الملك، لا في الخلق، ولا في الملك، ولا في التدبير.
كل ما سوى الله، فهو مخلوق لله، مملوك له، يدبره كما
يشاء، ولم يشاركه أحد في ذلك، كما قال تعالى:{قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} [سبأ: 22] على سبيل التعين، {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} [سبأ: 22] على سبيل الشيوع، {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} [سبأ: 22]، لم يعاونه أحد في هذه السموات والأرض، {وَلا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 22 - 23]، وبهذا تقطعت جميع الأسباب التي يتعلق بها المشركون في آلهتهم.
فالآلهة هذه لا تملك من السماوات والأرض شيئاً معيناً، وليست شريكة لله، ولا معينة، ولا شفاعة، إلا بإذنه، يقول:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} [الإسراء: 111].
وقوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ} : لم يكن له ولي، لكن قيد بقوله:{مِنَ الذُّلِّ} .
و {مِّنَ} هنا للتعليل، لأن الله تعالى له أولياء:{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} [يونس: 62 - 63]، وقال تعالى في الحديث القدسي:"من عادى لي ولياً، فقد آذنته بالحرب .. "(1)، ولكن الولي المنفي هو الولي من الذل، لأن الله تعالى له العزة جميعاً، فلا يلحقه الذل بوجه من الوجوه، لكمال عزته.
وقوله: {وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً} ، يعني: كبر الله عز وجل تكبيراً،
(1) رواه البخاري (6502) كتاب الرفاق/ باب التواضع، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
بلسانك وجنانك: اعتقد في قلبك أن الله أكبر من كل شيء، وأن له الكبرياء في السماوات والأرض، وكذلك بلسانك تكبره، تقولك: الله أكبر!
وكان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنهم يكبرون كلما علوا نشزاً (1)، أي: مرتفعاً، وهذا في السفر، لأن الإنسان إذا علا في مكانه، قد يشعر في قلبه أنه مستعل على غيره، فيقول: الله أكبر. من أجل أن يخفف تلك العلياء التي شعر بها حين علا وارتفع.
وكانوا إذا هبطوا، قالوا: سبحان الله. لأن النزول سفول، فيقول: سبحان الله، أي: أنزهه عن السفول الذي أنا الآن فيه.
وقوله: {تَكْبِيراً} : هذا مصدر مؤكد، يراد به التعظيم، أي: كبره تكبيراً عظيماً.
والذي نستفيده من الناحية المسلكية في هذه الآية:
أن الإنسان يشعر بكمال غنى الله عز جل عن كل أحد، وانفراده بالملك، وتمام عزته وسلطانه، وحينئذ يعظم الله سبحانه وتعالى بما يستحق أن يعظم به بقدر استطاعته.
ونستفيد حمد الله تعالى على تنزهه عن العيوب، كما يحمد على صفات الكمال.
الآية السادسة: قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي
(1) رواه البخاري (2993) كتاب الجهاد/ باب التسبيح إذا هبط وادياً عن جابر رضي الله عنهما قال: "كنا إذا صعدنا كبرنا وإذا نزلنا سبحنا" وسيأتي في (2/ 54).
الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن: 1].
{يُسَبِّحُ} ، بمعنى: ينزه عن كل صفة نقص وعيب، و (سبح) تتعدى بنفسها وتتعدى باللام.
- أما تعهديها بنفسها، فمثل قوله تعالى:{لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} [الفتح: 9].
- وأما تعديها باللام، فهي كثيرة، فكل السور المبدوءة بهذا متعدية باللام.
قال العلماء: وإذا أريد مجرد الفعل، تعدت بنفسها:{وَتُسَبِّحُوهُ} ، أي: تقولوا: سبحان الله!
وإذا أريد بيان القصد والإخلاص، تعدت باللام، {يُسَبِّحُ لِلَّهِ} ، أي: سبحوا إخلاصاً لله واستحقاقاً.
فاللام هنا تبين كمال الإرادة من الفاعل، وكمال الاستحقاق من المسبح، وهو الله.
وقوله: {مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} : عام يشمل كل شيء.
لكن التسبيح نوعان: تسبيح بلسان المقال، وتسبيح بلسان الحال.
- أما التسبيح بلسان الحال، فهو عام:{وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44].
- وأما التسبيح بلسان المقال، فهو عام كذلك، لكن يخرج منه الكافر، فإن الكافر لم يسبح الله بلسانه، ولهذا يقول تعالى:{سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الحشر: 23]، {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [الصافات: 159] فهم لم يسبحوا الله تعالى، لأنهم أشركوا به ووصفوه بما لا يليق به.
فالتسبيح بلسان الحال يعني: أن حال كل شيء في السماوات والأرض تدل على تنزيه الله سبحانه وتعالى عن العبث وعن النقص، حتى الكافر إذا تأملت حاله، وجتها تدل على تنزه الله تعالى عن النقص والعيب.
وأما التسبيح بلسان المقال، فيعني: أن يقول: سبحان الله.
وقوله: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} :
هذه الصفات الأخيرة صفات ثبوتية، وسبق ذكر معناها، لكن {يُسَبِّحُ لِلَّهِ} صفة سلبية، لأن معناها، تنزيهه عما لا يليق به.
الآية السابعة والثامنة: وقوله: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} [الفرقان: 1 - 2].
{تَبَارَكَ} ، بمعنى: تعالى وتعاظم.
و {الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} : هو الله عز وجل.
وقوله: {الْفُرْقَانَ} ، يعني به: القرآن، لأنه يفرق بين الحق والباطل، وبين المسلم والكافر، وبين البر والفاجر، وبين الضار
والنافع، وغير ذلك مما فيه الفرقان، فكله فرقان.
{عَلَى عَبْدِهِ} : محمد عليه الصلاة والسلام، فوصفه بالعبودية في مقام التحدث عن تنزل القرآن عليه، وهذا المقام من أشرف مقامات النبي صلى الله عليه وسلم.
وله وصفه الله تعالى بالعبودية في مقام تنزل القرآن عليه، كما هنا، وكما في قوله:{الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف: 1]، ووصفه بالعبودية في مقام الدفاع عنه والتحدي:{وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} [البقرة: 23]، ووصفه بالعبودية في مقام تكريمة بالمعراج، فقال:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الأسراء: 1]، وقال في سورة النجم:{فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى} [النجم: 10]، مما يدل على أن وصف الإنسان بالعبودية لله يعد كمالاً، لأن العبودية لله هي حقيقة الحرية، فمن لم يتعبد له، كان عابداً لغيره.
قال ابن القيم رحمه الله (1).
هربوا من الرق الذي خلقوا له
وبلوا برق النفس والشيطان
و" الرق الذي خلقوا له ": عبادة الله عز وجل.
و" بلوا برق النفس والشيطان ": حيث صاروا أرقاء لنفوسهم، وأرقاء للشيطان، فما من إنسان يفر من عبودية الله، إلا وقع في عبودية هواه وشيطانه، قال الله تعالي: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ
(1)"الكافية الشافية" لابن القيم بشرح ابن عيسى (2/ 466).
وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية: 23].
قوله: {لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً} : اللام هنا للتعليل، والضمير في {لِيَكُونَ} عائد على النبي عليه الصلاة والسلام، لأنه أقرب مذكور، ولأن الله تعالي قال:{لِتُنْذِرَ بِهِ} [الأعراف: 2]، وقال تعالي:{لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} [الأنعام: 19]، فالمنذر: الرسول عليه الصلاة والسلام.
وقوله: {لِلْعَالَمِينَ} : يشمل الجن والإنس.
وقوله: {لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ} : سبق معناهما، وهما صفة سلبية.
{وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً} : الخلق: الإيجاد على وجه معين.
والتقدير: بمعني التسوية أو بمعني القضاء في الأزل، والأول أصح، ويدل لذلك قوله تعالي:{الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} [الأعلي:2]، وبه تكون الآية على الترتيب الذكري والمعنوي، وعلى الثاني تكون الآية على الترتيب الذكري.
ونستفيد من هذه الآيات من الناحية المسلكية:
أنه يجب علينا أن نعرف عظمة الله عز وجل، وننزهه عن كل نقص، وإذا علمنا ذلك، ازددنا محبة له وتعظيماً.
ومن آيتي الفرقان نستفيد بيان هذا القرآن العظيم، وأن مرجع العباد، وأن الإنسان إذا أراد أن تتبين له الأمور، فليرجع إلى