الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فالجواب: الله أعلم بذلك.
فإن قلت: هل استواء الله تعالى على عرشه من الصفات الفعلية أو الذاتية؟
فالجواب: أنه من الصفات الفعلية؛ لأنه يتعلق بمشيئته، وكل صفة تتعلق بمشيئته؛ فهي من الصفات الفعلية.
إثبات علو الله على مخلوقاته
الشرح:
ذكر المؤلف رحمه الله في إثبات علو الله على خلقه ست آيات.
الآية الأولى: قوله: {يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران: 55]
الخطاب لعيسى بن مريم الذي خلقه الله من أم بلا أب، ولهذا ينسب إلى أمه، فيقال: عيسى بن مريم.
يقول الله: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ} :
ذكر العلماء فيها ثلاثة أقوال:
القول الأول: {مُتَوَفِّيكَ} ؛ بمعنى قابضك، ومنه قولهم: توفى حقه؛ أي: قبضه.
القول الثاني: {مُتَوَفِّيكَ} : منيمك؛ لأن النوم وفاة؛ كما قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمّىً} [الأنعام: 60].
القول الثالث: أنه وفاة موت: {مُتَوَفِّيكَ} : مميتك، ومنه قوله تعالى:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الأنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 43].
والقول بأن {مُتَوَفِّيكَ} متوفيك بمعنى مميتك بعيد؛ لأن عيسى عليه السلام لم يمت، وسينزل في آخر الزمان؛ قال الله تعالى:{وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَاّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ} [النساء: 159]؛ أي: قبل موت عيسى على أحد القولين، وذلك إذا نزل في آخر الزمان. وقيل: قبل موت الواحد؛ يعني: ما من أحد من أهل الكتاب إلا إذا حضرته الوفاة؛ أمن بعيسى، حتى وإن كان يهودياً. وهذا القول ضعيف.
بقى النظر بين وفاة القبض ووفاة النوم، فنقول: إنه يمكن أن يجمع بينهما فيكون قابضاً له حال نومه؛ أي أن الله تعالى ألقى عليه النوم؛ ثم رفعه، ولا منافاة بين الأمرين.
قوله: {وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} : الشاهد هنا؛ فإن {إِلَيَّ} تفيد الغاية، وقوله:{وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} يدل على أن المرفوع إليه كان عالياً، وهذا يدل على علو الله عز وجل.
فلو قال قائل: المراد: رافعك منزلة؛ كما قال الله تعالى: {وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} [آل عمران: 45].
قلن هذا لا يستقيم؛ لأن الرفع هنا عدى بحرف يختص بالرفع الذي هو الفوقية؛ رفع الجسد، وليس رفع المنزلة.
واعلم أن علو الله عز وجل ينقسم إلى قسمين: علو
معنوي، وعلو ذاتي:
1 -
أما العلو المعنوي؛ فهو ثابت لله بإجماع أهل القبلة؛ أي: بالإجماع من أهل البدع وأهل السنة؛ كلهم يؤمنون بأن الله تعالى عال علواً معنوياً.
2 -
وأما العلو الذاتي؛ فيثبته أهل السنة، ولا يثبته أهل البدعة؛ يقولون: إن الله تعالى ليس عالياً علواً ذاتياً.
فنبدأ أولاً بأدلة أهل السنة على علو الله سبحانه وتعالى الذاتي فنقول: إن أهل السنة استدلوا على علو الله تعال علواً ذاتياً بالكتاب والسنة والإجماع والعقل والفطرة:
أولاً: فالكتاب تنوعت دلالته على علو الله؛ فتارة بذكر العلو، وتارة بذكر القوقية، وتارة بذكر نزول الأشياء من عنده، وتارة بذكر صعودها إليه، وتارة بكونه في السماء
…
1) فالعلو مثل قوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]، {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} [الأعلى: 1].
2) والفوقية: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ} [الأنعام: 18]، {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النحل:50].
3) ونزول الأشياء منه؛ مثل قوله: {يُدَبِّرُ الأمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الأَرْضِ} [السجدة: 5]، {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ} [الحجر: 9]
…
وما أشبه ذلك.
4) وصعود الأشياء إليه؛ مثل قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر: 10]، ومثل قوله:{تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4].
5) كونه في السماء؛ مثل قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك: 16].
ثانياً: وأما السنة فقد تواترت عن النبي صلى الله عليه وسلم من قوله وفعله وإقراره:
1) فأما قول الرسول عليه الصلاة والسلام:
فجاء بذكر العلو والفوقية، ومنه قوله صلى الله عليه وسلم "سبحان ربي الأعلى"(1)، وقوله لما ذكر السماوات؛ قال:"والله فوق العرش"(2).
وجاء بذكر أن الله في السماء؛ مثل قوله صلى الله عليه وسلم: "ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء"(3).
(1) رواه مسلم (772) من حديث حذيفة رضي الله عنه.
(2)
رواه ابن خزيمة في كتاب "التوحيد"(1/ 244) ، واللالكائي في "شرح السنة"(659) ، والطبراني في"كبير"(9/ 228)،وقال الهيثمي في "المجمع" (1/ 86): رواه الطبراني ورجاله رجال الصحيح، ورواه البيهقي "الأسماء والصفات"(851) ، وأبو الشيخ في كتاب "العظم"(279) ، والدارميفي "الرد على الجهمي"(81)، وقال الذهبي في "العلو": إسناده صحيح. "مختصر العلو"(48) من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
(3)
رواه البخاري (4351) ، ومسلم (1064)؛ عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
2) وأما الفعل؛ فمثل رفع أصبعه إلى السماء، وهو يخطب الناس في أكبر جمع، وذلك في يوم عرفة، عام حجة الوداع؛ فإن الصحابة لم يجتمعوا اجتماعاً أكبر من ذلك الجمع؛ إذ إن الذي حج معه بلغ نحو مئة ألف، والذي مات عنهم نحو مئة وأربعة وعشرين ألفاً: يعني: عامة المسلمين حضروا ذلك الجمع، فقال عليه الصلاة والسلام:"ألا هل بلغت؟ ". قالوا: نعم. "ألا هل بلغت؟ ". قالوا: نعم. "ألا هل بلغت؟ وكان يقول: "اللهم أشهد"؛ يشير إلى السماء بأصبعه، وينكتها إلى الناس (1).
ومن ذلك رفع يديه إلى السماء في الدعاء.
وهذا إثبات للعلو بالفعل.
3) وأما التقرير؛ فإنه في حديث معاوية بن الحكم رضي الله عنه؛ أنه أتى بجارية يريد أن يعتقها، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:"أين الله؟ ". قالت: في السماء. فقال: "من أنا؟ ". قالت: رسول الله. قال: "أعتقها؛ فإنها مؤمنة"(2).
فهذه جارية لم تتعلم، والغالب على الجواري الجهل، لا سيما أمة غير حرة، لا تملك نفسها، تعلم أن ربها في السماء، وضلال بني آدم ينكرون أن الله في السماء، ويقولون: إما
(1) رواه مسلم (1218)؛ من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما؛ الطويل في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم.
(2)
تقدم تخريجه (ص 85) وهو عند مسلم.
أنه لا فوق العالم ولا تحته ولا يمين ولا شمال! أو أنه في كل مكان!!
ثالثاً: وأما دلالة الإجماع؛ فقد أجمع السلف على أن الله تعالى بذاته في السماء، من عهد الرسول عليه الصلاة والسلام، إلى يومنا هذا.
إن قلت كيف أجمعوا؟
نقول: إمرارهم هذه الآيات والأحاديث مع تكرار العلو فيها والفوقية ونزول الأشياء منه وصعودها إليه دون أن يأتوا بما يخالفها إجماع منهم على مدلولها.
ولهذا لما قال شيخ الإسلام: "إن السلف مجمعون على ذلك"؛ قال: "ولم يقل أحد منهم: إن الله ليس في السماء، أو: إن الله في الأرض، أو: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل ولا منفصل، أو: إنه لا تجوز الإشارة الحسية إليه".
رابعاً: وأما دلالة العقل؛ فنقول: لا شك أن الله عز وجل إما أن يكون في العلو أو في السفل، وكونه في السفل مستحيل؛ لأنه نقص يستلزم أن يكون فوقه شيء من مخلوقاته فلا يكون له العلو التام والسيطرة التامة والسلطان التام فإذا كان السفل مستحيلاً؛ كان العلو واجباً.
وهناك تقرير عقلي آخر، وهو أن نقول: إن العلو صفة كمال باتفاق العقلاء، وإذا كان صفة كمال؛ وجب أن يكون ثابتاً لله؛ لأن كل صفة كمال مطلقة؛ فهي ثابتة لله.
وقولنا: "مطلقة": احترازاً من الكمال النسبي، الذي يكون كمالاً في حال دون حال؛ فالنوم مثلاً نقص، ولكن لمن يحتاج إليه ويستعيد قوته به كمال.
خامساً: وأما دلالة الفطرة: فأمر لا يمكن المنازعة فيها ولا المكابرة؛ فكل إنسان مفطور على أن الله في السماء، ولهذا عندما يفجؤك الشيء الذي لا تستطيع دفعه، وإنما تتوجه إلى الله تعالى بدفعه؛ فإن قلبك ينصرف إلى السماء حتى الذين ينكرون علو الذات لا يقدرون أن ينزلوا أيديهم إلى الأرض.
وهذه الفطرة لا يمكن إنكارها.
حتى إنهم يقولون: إن بعض المخلوقات العجماء تعرف أن الله في السماء كما في الحديث الذي يروى أن سليمان بن داود عليه الصلاة والسلام وعلى أبيه خرج يستسقي ذات يوم بالناس، فلما خرج؛ رأى نملة مستلقية على ظهرها، رافعة قوائمها نحو السماء، تقول:
"اللهم! إنا خلق من خلقك، ليس بنا غنى عن سقياك". فقال: "ارجعوا؛ فقد سقيتم بدعوة غيركم"(1). وهذا إلهام فطري.
(1) تقدم (ص 58).
فالحاصل أن: كون الله في السماء أمر معلوم بالفطرة.
والله؛ لولا فساد فطرة هؤلاء المنكرين لذلك؛ لعلموا أن الله في السماء بدون أن يطالعوا أي كتاب؛ لأن الأمر الذي تدل عليه الفطرة لا يحتاج إلى مراجعة الكتب.
والذين أنكروا علو الله عز وجل بذاته يقولون: لو كان في العلو بذاته؛ كان في جهة، وإذا كان في جهة؛ كان محدوداً وجسماً، وهذا ممتنع!
والجواب عن قولهم: "إنه يلزم أن يكون محدوداً وجسماً، وهذا ممتنع! والجواب عن قولهم: "إنه يلزم أن يكون محدوداً وجسماً"؛ نقول:
أولاً: لا يجوز إبطال دلالة النصوص بمثل هذه التعليلات، ولو جاز هذا؛ لأمكن كل شخص لا يريد ما يقتضيه النص أن يعلله بمثل هذه العلل العليلة.
فإذا كان الله أثبت لنفسه العلو، ورسوله، صلى الله عليه وسلم أثبت له العلو، والسلف الصالح أثبتوا له العلو؛ فلا يقبل أن يأتي شخص ويقول: لا يمكن أن يكون علو ذات؛ لأنه لو كان علو ذات؛ لكان كذا وكذا.
ثانياً: نقول: إن كان ما ذكرتم لازماً لإثبات العلو لزوماً صحيحاً؛ فلنقل به؛ لأن لازم كلام الله ورسوله حق؛ إذ أن الله تعالى يعلم ما يلزم من كلامه. فلو كانت نصوص العلو تستلزم معني فاسداً، لبينه، ولكنها لا تستلزم معني فاسداً.