الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عيناً قائمة بنفسها حتى يكون بائناً من الله، ولو كان عيناً قائمة بنفسها بائنة من الله؛ لقلنا: إنه مخلوق، لكن الكلام صفة للمتكلم به، فإذا كان صفة للمتكلم به، وكان من الله؛ كان غير مخلوق؛ لأن صفات الله عز وجل كلها غير مخلوقة.
وأيضاً؛ لو كان مخلوقاً؛ لبطل مدلول الأمر والنهي والخبر والاستخبار؛ لأن هذه الصيغ لو كانت مخلوقة. لكانت مجرد أشكال خلقت على هذه الصورة لا دلالة لها على معناها؛ كما يكون شكل النجوم والشمس والقمر ونحوها.
وقولهم: "منه بدأ"؛ أي: هو الذي ابتدأ به، وتكلم به أولاً. والقرآن أضيف إلى الله وإلى جبريل وإلى محمد، صلى الله عليه وسلم.
مثال الأول: قول الله عز وجل: {فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة:6]، فيكون منه بدأ؛ أي: من الله جل جلاله، ومنه: حرف جر وضمير قدم على عامله لفائدة الحصر والاختصاص.
ومثال الثاني -إضافته إلى جبريل-: قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ} [التكوير: 19 - 20].
ومثال الثالث- إضافته إلى محمد عليه الصلاة والسلام: قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ} [الحافة: 40 - 41] ، لكن أضيف إليها لأنهما يبلغانه، لا لأنهما ابتدأاه.
و
قولهم: "وإليه يعود": في معناه وجهان:
الأول: أنه كما جاء في بعض الآثار: يسرى عليه في ليلة، فيصبح الناس ليس بين أيديهم قرآن؛ لا في صدورهم، ولا في مصاحفهم، يرفعه الله عز وجل (1).
وهذا-والله أعلم-حينما يعرض عنه الناس إعراضاً كلياً؛ لا يتلونه لفظاً ولا عقيدة ولا عملاً؛ فإنه يرفع؛ لأن القرآن أشرف من أن يبقى بين يدي أناس هجروه وأعرضوا عنه فلا يقدرونه قدره، وهذا-والله أعلم-نظير هدم الكعبة في آخر الزمان (2)؛ حيث يأتي رجل من الحبشة قصير أفحج أسود، يأتي بجنوده من البحر إلى المسجد الحرام، وينقض على الكعبة حجراً حجراً، كلما نقض حجراً؛ مده للذي يليه .... وهكذا يتمادون الأحجار إلى أن يرموها في البحر، والله عز وجل يمكنهم من ذلك، مع أن أبرهة جاء بخيله
(1) لما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "لينزعن القآن من بين أظهركم، يسري عليه ليلاً فيذهب من أجواف الرجال، فلا يبقى في الأرض منه شيء"، ورواه الطبراني، ورجاله رجال الصحيح غير شداد بن معقل وهو ثقة. كما في"مجمع الزوائد"(7/ 330)، وقال ابن حجر: سنده صحيح لكنه موقوف "فتح الباري"(13/ 16) ، وقد صح مرفوعاً نحوه من حديث حذيفة، رواه ابن ماجة وقوى إسناده الحافظ في "الفتح"(13/ 16) ، وانظر "الصحيحة" للألباني (87).
(2)
لمار رواه الإمام أحمد (2/ 220) عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "يخرب الكعبة ذو السويقين من الحبشة، ويسلبها حليتها ويجردها من كسوتها، ولكأني أنظر إليه أصيلع أفيدع يضرب عليها بمداته مهولة" ، وعند البخاري (1591)، ومسلم (2909)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يخرب الكعبة ذو السويقين من الحبشة"، وانظر كتاب "أشراط الساعة" للشيخ يوسف الوابل (ص 231).
ورجله وفيله فصمه الله قبل أن يصل إلى المسجد هيبته وعظمته، ولكن آخر الزمان لن يبعث نبي بعد محمد عليه الصلاة والسلام، وإذا أعرض الناس عن تعظيم هذا البيت نهائياً؛ فإنه يسلط عليه هذا الرجل من الحبشة؛ فهذا نظير رفع القرآن. والله أعلم.
الوجه الثاني: في معنى قولهم: "وإليه يعود": أنه يعود إلى الله وصفاً؛ أي أنه لا يوصف به أحد سوى الله فيكون المتكلم بالقرآن هو الله عز وجل، وهو الموصوف به.
ولا مانع أن نقول: إن المعنيين كلاهما صحيح.
هذا كلام أهل السنة والجماعة في القرآن الكريم.
ويرى المعتزلة أن القرآن مخلوق، وليس كلام الله!
ويستدلون لذلك بقول الله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} [الزمر:62] ، والقرآن شيء، فيدخل في عموم قوله:{كُلِّ شَيْءٍ} ، ولأنه ما ثم إلا خالق ومخلوق، والله خالق، وما سواه مخلوق.
والجواب من وجهين:
الأول: أن القرآن كلام الله تعالى، وهو صفة من صفات الله، وصفات الخالق غير مخلوقة.
الثاني: أن مثل هذا التعبير {كُلِّ شَيْءٍ} عام قد يراد به الخاص؛ مثل قوله تعالى عن ملكة سبأ: {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ}
[النمل:23]، وقد خرج شيء كثير لم يدخل في ملكها منه شيء؛ مثل ملك سليمان.
فإن قال قائل: هل هناك فرق كبير بين قولنا: إنه منزل، وقولنا: إنه مخلوق؟
فالجواب: نعم؛ بينهما فرق كبير، جرت بسببه المحنة الكبرى في عصر الإمام أحمد.
فإذا قلنا: إنه منزل. فهذا ما جاء به القرآن؛ قال الله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان:1].
وإذا قلنا: إنه مخلوق. لزم من ذلك:
أولاً: تكذيب للقرآن؛ لأن الله يقول: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا} [الشورى:52]، فجعله الله تعالى موحى إلى الرسول عليه الصلاة والسلام، ولو كان مخلوقاً؛ ما صح أن يكون موحى؛ فإذا كان وحياً لزم ألا يكون مخلوقاً؛ لأن الله هو الذي تكلم به.
ثانياً: إذا قلنا: إنه مخلوق؛ فإنه يلزم على ذلك إبطال مدلول الأمر والنهي والخبر والاستخبار؛ لأن هذه الصيغ لو كانت مخلوقة؛ لكانت مجرد شكل خلق على هذه الصورة؛ كما خلقت الشمس على صورتها، والقمر على صورته، والنجم على صورته .. وهكذا، ولم تكن أمراً ولا نهياً ولا خبراً ولا استخباراً؛ فمثلاً: كلمة (قل)(لا تقل)(قال فلان)(هل قال فلان) كلها نقوش على هذه الصورة، فتبطل دلالتها على الأمر والنهي
والخبر والاستخبار، وتبقى كأنها صور ونقوش لا تفيد شيئاً.
ولهذا قال ابن القيم في "النونية": "إن هذا القول يبطل به الأمر والنهي؛ لأن الأمر كأنه شيء خلق على هذه الصورة دون أن يعتبر مدلوله، والنهي خلق على هذه الصورة دون أن يعتبر مدلوله، والنهي خلق على هذه الصورة دون أن يقصد مدلوله، وكذلك الخبر والاستخبار".
ثالثاً: إذا قلنا: إن القرآن مخلوق، وقد أضافه إلى نفسه إضافة خلق؛ صح أن نطلق على كل كلام من البشر وغيرهم أنه كلام الله؛ لأن كل كلام الخلق مخلوق، وبهذا التزم أهل الحلول والاتحاد؛ حيث يقول قائلهم:
وكل كلام في الوجوه كلامه
…
سواء علينا نثره ونظامه (1)
وهذا اللازم باطل، وإذا بطل اللازم بطل الملزوم.
فهذه ثلاثة أوجه تبطل القول بأنه مخلوق.
والوجه الرابع: أن نقول: إذا جوزتم أن يكون الكلام-وهو معنى لا يقوم إلا بمتكلم – مخلوقاً؛ لزمكم أن تجوزوا أن تكون جميع صفات الله مخلوقة؛ إذ لا فرق؛؛ فقولوا إذا: سمعه مخلوق، وبصره مخلوق .... وهكذا.
فإن أبيتم إلا أن تقولوا: إن السمع معنى قائم بالسامع لا
(1) البيت لابن عربيو وقد ذكره في كتابه "الفتوحات المكية"(4/ 141)، انظر:"منهاج السنة" لشيخ الإسلام (2/ 373).