الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بالتسمي، فهو لم يلد ولم يتخذ ولداً، بنو آدم قد يتخذ الإنسان منهم ولداً وهو لم يلده بالتبني أو بالولاية أو بغير ذلك، وإن كان التبني غير مشروع، أما الله عز وجل، فلم يلد ولم يولد، ولما كان يرد على الذهن فرض أن يكون الشيء لا والداً ولا مولوداً لكنه متولد، نفى هذا الوهم الذي قد يرد، فقال:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، وإذا انتفى أن يكون له كفواً أحد، لزم أن لا يكون متولداً {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، أي: لا يكافئه أحد في جميع صفاته.
في هذه السورة: صفات ثبوتية وصفات سلبية:
الصفات الثبوتية: {اللَّهُ} التي تتضمن الألوهية، {أَحَدٌ} تتضمن الأحدية {الصَّمَدُ} تتضمن الصمدية.
والصفات السلبية: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} .
ثلاثة إثبات، وثلاث نفي وهذا النفي يتضمن من الإثبات كمال الأحدية والصمدية.
قوله: "وما وصف به نفسه في أعظم آية
في كتاب الله حيث يقول: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ
وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] ".
الشرح:
قوله: "وما وصف به نفسه في أعظم آية في كتاب الله" وهذه الآية تسمى آية الكرسي، لأن فيها ذكر الكرسي:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة: 255]، وهي أعظم آية في كتاب الله.
والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم سأل أبي بن كعب، قال:"أي آية في كتاب الله أعظم؟ " فقال له: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} فضرب على صدره، وقال:"ليهنك العلم أبا المنذر"(1).
يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم أقره بأن هذه أعظم آية في كتاب الله، وأن هذا دليل على علم أبي في كتاب الله عز وجل.
وفي هذا الحديث دليل على أن القرآن يتفاضل، كما دل عليه حديث سورة الإخلاص، وهذا موضع يجب فيه التفصيل، فإننا نقول: أما باعتبار المتكلم به، وهذا موضع يجب فيه التفصيل، فإننا نقول: أما باعتبار المتكلم به، فإنه لا يتفاضلن لأن المتكلم به واحد وهو الله عز وجل، وأما باعتبار مدلولاته وموضوعاته فإنه يتفاضل، فسورة الإخلاص التي فيها الثناء على الله عز وجل بما تضمنته من الأسماء والصفات ليست كسورة المسد التي فيها بيان حال أبي لهب من حيث الموضوع كذلك، يتفاضل من حيث التأثير والقوة في الأسلوب، فإن من الآيات ما تجدها آية قصيرة
(1) رواه مسلم (810) عن أبي بن كعب رضي الله عنه في كتاب صلاة المسافرين/ باب فضل سورة الكهف وآية الكرسي.
لكن فيها ردع قوي للقلب وموعظة، وتجد آية أخرى أطول منها بكثير لكن لا تشتمل على ما تشتمل عليه الأولى، فمثلاً قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً فَاكْتُبُوهُ} [البقرة: 282] .. إلخ، هذه آية موضوعها سهل، والبحث فيها في معاملات تجري بين الناس وليس فيها ذاك التأثير الذي يؤثره مثل قوله تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاّ مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: 185]، فهذه تحمل معاني عظيمة، فيها زجر وموعظة وترغيب وترهيب، ليست كآية الدين مثلاً مع أن آية الدين أطول منها.
قول المؤلف: "حيث يقول: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ": في هذه الآية يخبر الله بأنه منفرد بالألوهية، وذلك من قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ
…
}، لأن هذه جملة تفيد الحصر وطريقة النفي والإثبات هذه من أقوى صيغ الحصر.
وقوله: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} : {الْحَيُّ} أي: ذو الحياة الكاملة المتضمنة لجميع صفات الكمال لم تسبق بعدم، ولا يلحقها زوال، ولا يعتريها نقص بوجه من الوجوه.
و {الْحَيُّ} من أسماء الله، وقد تطلق على غير الله، قال تعالى:{يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ} [الأنعام: 95]، ولكن ليس الحي كالحي، ولا يلزم من الاشتراك في الاسم التماثل في المسمى.
{الْقَيُّومُ} على وزن فيعول، وهذه من صيغ المبالغة، وهي
مأخوذة من القيام.
ومعنى {الْقَيُّومُ} ، أي: أنه القائم بنفسه، فقيامه بنفسه يستلزم استغناءه عن كل شيء، لا يحتاج إلى أكل ولا شرب ولا غيرها، وغيره لا يقوم بنفسه بل هو محتاج إلى الله عز وجل في إيجاده وإعداده وإمداده.
ومن معنى {الْقَيُّومُ} كذلك أنه قائم على غيره لقوله تعالى {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33]، والمقابل محذوف تقديره: كمن ليس كذلك، والقائم على كل نفس بما كسبت هو الله عز وجل ولهذا يقول العلماء القيوم هو القائم على نفسه القائم على غيره، وإذا كان قائماً على غيره، لزم أن يكون غيره قائماً به، قال الله تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ} [الروم: 25]، فهو إذاً كامل الصفات وكامل الملك والأفعال.
وهذان الاسمان هما الاسم الأعظم الذي إذا دعي الله به أجاب ولهذا ينبغي للإنسان في دعائه أن يتوسل به، فيقول: يا حي! يا قيوم! وقد ذكرا في الكتاب العزيز في ثلاثة مواضع: هذا أحدها، والثاني في سورة آل عمران:{اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} [آل عمران: 2]، والثالث سورة طه: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ
الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} [طه: 111].
هذان الاسمان فيهما الكمال الذاتي والكمال السلطاني، فالذاتي في قوله:{الْحَيُّ} والسلطاني في قوله: {الْقَيُّومِ} ، لأنه يقوم على كل شيء ويقوم به كل شيء.
قوله: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} : والسنة النعاس وهي مقدمة النوم ولم يقل: لا ينام، لأن النوم يكون باختيار، والأخذ يكون بالقهر.
والنوم من صفات النقص، قال النبي عليه الصلاة والسلام:
"إن الله لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام"(1) لنقصها، لأنها تحتاج إلى النوم من أجل الاستراحة من تعب سبق واستعادة القوة لعمل مستقبل، ولما كان أهل الجنة كاملي الحياة، كانوا لا ينامون، كما صحت بذلك الآثار.
لكن لو قال قائل: النوم في الإنسان كمال، ولهذا، إذا لم ينم الإنسان، عد مريضاً.
(1) رواه مسلم (179) من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه كتاب الإيمان/ باب قوله عليه السلام: "إن الله لا ينام .. ".
فنقول: كالأكل في الإنسان كمال ولو لم يأكل، عد مريضاً لكن هو كمال من وجه ونقص من وجه آخر، كمال لدلالته على صحة البدن واستقامته ونقص لأن البدن محتاج إليه، وهو في الحقيقة نقص.
إذاً ليس كل كمال نسبي بالنسبة للمخلوق يكون كمالاً للخالق، كما أنه ليس كل كمال في الخالق يكون كمالاً في المخلوق، فالتكبر كمال في الخالق نقص في المخلوق والأكل والشرب والنوم كمال في المخلوق نقص في الخالق، ولهذا قال الله تعالى عن نفسه:{وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ} [الأنعام: 14].
وقوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} : {لَهُ} : خبر مقدم. {وَمَا} : مبتدأ مؤخر، ففي الجملة حصر، طريقة تقديم ما حقة التأخير وهو الخبر. {لَهُ}: اللام هذه للملك. ملك تام، بدون معارض. {مَا فِي السَّمَاوَاتِ}: من الملائكة والجنة وغير ذلك مما لا نعلمه {وَمَا فِي الأَرْضِ} : من المخلوقات كلها الحيوان منها وغير الحيوان.
وقوله: {السَّمَاوَاتِ} : تفيد أن السماوات عديدة، وهو كذلك وقد نص القرآن على أنها سبع {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [المؤمنون: 86].
والأرضون أشار القرآن إلى أنها سبع بدون تصريح، وصرحت، بها السنة، قال الله تعالى {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12]، مثلهن في العدد دون الصفة وفي
السنة قال النبي عليه الصلاة والسلام: "من اقتطع شبراً من الأرض ظلماً، طوقه الله به يوم القيامة من سبع أرضين"(1).
وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ} : {مَنْ ذَا} اسم استفهام أو نقول: {مَنْ} اسم استفهام، و {ذَا}: ملغاة، ولا يصح أن تكون {ذَا}: اسماً موصولاً في مثل هذا التركيب، لأنه يكون معنى الجملة: من الذي الذي! وهذا لا يستقيم.
وقوله: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ} الشفاعة في اللغة: جعل الوتر شفعاً، قال تعالى:{وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} [الفجر: 3]. وفي الاصطلاح: هي التوسط للغير بجلب منفعة أو دفع مضرة، فمثلاً: شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل الموقف أن يقضى بينهم: هذه شفاعة بدفع مضرة، وشفاعته لأهل الجنة أن يدخلوها بجلب منفعة.
وقوله: " {عِنْدَهُ} أي: عند الله.
{إِلاّ بِإِذْنِهِ} ؛ أي: إذنه له وهذه تفيد إثبات الشفاعة، لكن بشرط أن يأذن ووجه ذلك أنه لولا ثبوتها، لكان الاستثناء في قوله {إِلاّ بِإِذْنِهِ}: لغواً لا فائدة فيه.
وذكرها بعد قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ
…
} يفيد أن هذا الملك الذي هو خاص بالله عز وجل، أنه ملك تام السلطان، بمعنى أنه لا أحد يستطيع أن يتصرف، ولا بالشفاعة التي هي خير، إلا بإذن الله، وهذا من تمام ربوبيته وسلطانه عز وجل.
(1) رواه البخاري (2452) كتاب المظالم/ باب إثم من ظلم شيئاً من الأرض، ومسلم (1610) عن سعيد بن زيد رضي الله عنه كتاب المساقاة/ باب تحريم الظلم وغصب الأرض.
وتفيد هذه الجملة أن له إذناً والإذن في الأصل الإعلام، قال الله تعالى:{وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3]، أي إعلام من الله ورسوله، فمعنى {بِإِذْنِهِ} ، أي: إعلامه بأنه راض بذلك.
وهناك شروط أخرى للشفاعة: منها: أن يكون راضياً عن الشافع وعن المشفوع له، قال الله تعالى:{وَلا يَشْفَعُونَ إِلاّ لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]، وقال:{يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلاّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً} [طه: 109].
وهناك آية تنتظم الشروط الثلاثة {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم: 26]، أي: يرضى عن الشافع والمشفوع له، لأن حذف المعمول يدل على العموم.
إذا قال قائل: ما فائدة الشفاعة إذا كان الله تعالى قد علم أن هذا المشفوع له ينجو؟
فالجواب: أن الله سبحانه وتعالى يأذن بالشفاعة لمن يشفع من أجل أن يكرمه وينال المقام المحمود.
وقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} العلم هو إدراك الشيء على ما هو عليه إدراكاً جازماً، والله عز وجل {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} المستقبل، {وَمَا خَلْفَهُمْ} الماضي، وكلمة {مَا} من صيغ العموم تشمل كل ماض وكل مستقبل، وتشمل أيضاً ما كان من فعله وما كان من أفعال الخلق.
وقوله: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاّ بِمَا شَاءَ} : الضمير في
{يُحِيطُونَ} يعود على الخلق الذي دل عليهم قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} ، يعني لا يحيط من في السماوات والأرض بشيء من علم الله إلا بما شاء.
وقوله: {مِنْ عِلْمِهِ} : يحتمل من علم ذاته وصفاته، يعني: أننا لا نعلم شيئاً عن الله وذاته وصفاته إلا بما شاء مما علمنا إياه ويحتمل أن (علم) هنا بمعنى معلوم، يعني: لا يحيطون بشيء من معلومه، أي: مما يعلمه، إلا بما شاءه، وكلا المعنيين صحيح وقد نقول: إن الثاني أعم، لأن معلومه يدخل فيه علمه بذاته وبصفاته وبما سوى ذلك.
وقوله: {إِلاّ بِمَا شَاءَ} : يعني: إلا بما شاء مما علمهم إياه، وقد علمنا الله تعالى أشياء كثيرة عن أسمائه وصفاته وعن أحكامه الشرعية، ولكن هذا الكثير هو بالنسبة لمعلومه قليل، كما قال الله تعالى:{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاّ قَلِيلاً} [الإسراء: 85].
وقوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} : بمعنى شمل، يعني: أن كرسيه محيط بالسماوات والأرض، وأكبر منها، لأنه لولا أنه أكبر ما وسعها.
والكرسي، قال ابن عباس رضي الله عنهما: "إنه موضع
قدمي الله عز وجل" (1)، وليس هو العرش، بل العرش أكبر من الكرسي وقد ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام: "أن السماوات والسبع والأرضين السبع بالنسبة للكرسي كحلقة ألقيت في فلاة من الأرض، وأن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على هذه الحلقة" (2).
هذا يدل على عظم هذه المخلوقات وعظم المخلوق يدل على عظم الخالق.
قوله: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} : يعني: لا يثقله ويكرثه حفظ السماوات والأرض.
وهذه من الصفات المنفية، والصفة الثبوتية التي يدل عليها هذا النفي هي كمال القدرة والعلم والقوة والرحمة.
وقوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} : {الْعَلِيُّ} على وزن فعيل،
(1) رواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب "السنة"(586)، وابن أبي شيبة في كتاب "العرش"(61)، وابن خزيمة في "التوحيد"(248)، والحاكم في "المستدرك" (2/ 282) وقال: صحيح عن شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي، ورواه الدارقطني في كتاب "الصفات"(36) عن ابن عباس موقوفاً عليه، وعزاه الهيثمي في "مجمع الزوائد"(6/ 323) للطبراني، وقال: رجاله رجال الصحيح، وقال الألباني في "مختصر العلو" (45): إسناده صحيح، رجاله كلهم ثقات.
(2)
أخرجه ابن أبي شيبة في كتاب "العرش" رقم (58)، والبيهقي في "الأسماء والصفات"(862) من حديث أبي ذر رضي الله عنه، وابن مردويه كما عند ابن كثير (1/ 309) والحديث صححه الألباني في السلسة الصحيحة برقم (109) وقال: إنه لا يصح حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وسلم في صفة العرش إلا هذا الحديث.
وهي صفة مشبهة، لأن علوه عز وجل لازم لذاته، والفرق بين الصفة المشبهة واسم الفاعل أن اسم الفاعل طارئ حادث يمكن زواله، والصفة المشبهة لازمة لا ينفك عنها الموصوف.
وعلو الله عز وجل قسمان: علو ذات، وعلو صفات:
فأما علو الذات، فإن معناه أنه فوق كل شيء بذاته، ليس فوقه شيء ولا حذاءه شيء.
وأما علو الصفات، فهي ما دل عليه قوله تعالى:{وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل: 60]، يعني: أن صفاته كلها علياً، ليس فيها نقص بوجه من الوجوه.
أما {الْعَظِيمُ} ، أيضاً صفة مشبهة، ومعناها: ذو العظمة، وهي القوة والكبرياء وما أشبه ذلك مما هو معروف من مدلول هذه الكلمة.
وهذه الآية تتضمن من أسماء الله خمسة وهي: الله، الحي، القيوم، العلي، العظيم.
وتتضمن من صفات الله ستاً وعشرين صفة منها خمس صفات تضمنتها هذه الأسماء.
السادسة: انفراده بالألوهية.
السابعة: انتفاء السنة والنوم في حقه، لكمال حياته وقيوميته.
الثامنة: عموم ملكه، لقوله:{لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} .
التاسعة: انفارد الله عز وجل بالملك، ونأخذه من تقديم الخبر.
العاشرة: قوة السلطان وكماله، لقوله:{مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاّ بِإِذْنِهِ} .
الحادية عشرة: إثبات العندية، وهذا يدل على أنه ليس في كل مكان، ففيه الرد على الحلولية.
الثانية عشرة: إثبات الإذن من قوله: {إِلاّ بِإِذْنِهِ} .
الثالثة عشرة: عموم علم الله تعالى لقوله: {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} .
الرابعة عشرة والخامسة عشرة: أنه سبحانه وتعالى لا ينسى ما مضى، لقوله:{وَمَا خَلْفَهُمْ} ولا يجهل ما يستقبل، لقوله {مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} .
السادسة عشرة: كمال عظمة الله، لعجز الخلق عن الإحاطة به.
السابعة عشرة: إثبات الكرسي، وهو موضع القدمين.
التاسعة عشرة والعشرون والحادية والعشرون: إثبات العظمة والقوة والقدرة، لقوله:{وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} ، لأن عظمة المخلوق تدل على عظمة الخالق.
الثانية والثالثة والرابعة والعشرون: كمال علمه ورحمته وحفظه، من قوله:{وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا} .
الخامسة والعشرون: إثبات علو الله لقوله: {وَهُوَ الْعَلِيُّ} ومذهب أهل السنة والجماعة أن الله سبحانه وتعالى عال بذاته، وأن علوه من الصفات الذاتية الأزلية الأبدية.
وخالف أهل السنة في ذلك طائفتان: طائفة قالوا: إن الله بذاته في كل مكان وطائفة قالوا: إن الله ليس فوق العالم ولا تحت العالم ولا في العالم ولا يمين ولا شمال ولا منفصل عن العالم ولا متصل.
والذين قالوا بأنه في كل مكان استدلوا بقول الله تعالى: {وَمَا فِي الأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا} [المجادلة: 7]، واستدلوا بقوله تعالى:{هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد: 4]، وعلى هذا، فليس عالياً بذاته، بل العلو عندهم علو صفة.
أما الذين قالوا: إنه لا يوصف بجهة، فقالوا: لأننا لو وصفناه بذلك، لكان جسماً، والأجسام متماثلة، وهذا يستلزم التمثيل وعلى هذا، فننكر أن يكون في أي جهة.
ولكننا نرد على هؤلاء وهؤلاء من وجهين:
الوجه الأول: إبطال احتجاجهم.
والثاني: إثبات نقيض قولهم بالأدلة القاطعة.
1 -
أما الأول، فنقول لمن زعموا أن الله بذاته في كل مكان: دعواكم هذه دعوى باطلة يردها السمع والعقل:
- أما السمع، فإن الله تعالى أثبت لنفسه أنه العلي والآية التي استدللتم بها لا تدل على ذلك، لأن المعية لا تستلزم الحلول في المكان، ألا ترى إلى قول العرب: القمر معنا، ومحله في السماء؟ ويقول الرجل: زوجتي معي، وهو في المشرق وهي في المغرب؟ ويقول الضابط للجنود: اذهبوا إلى المعركة وأنا معكم، وهو في غرفة القيادة وهم في ساحة القتال؟ فلا يلزم من المعية أن يكون الصاحب في مكان المصاحب أبداً، والمعية يتحدد معناها بحسب ما تضاف إليه، فنقول أحياناً: هذا لبن معه ماء وهذه المعية اقتضت الاختلاط. ويقول الرجل متاعي معي، وهو في بيته غير متصل به، ويقول: إذا حمل متاعه معه: متاعي معي وهو متصل به. فهذه كلمة واحدة لكن يختلف معناها بحسب الإضافة، فبهذا نقول: معية الله عز وجل لخلقة تليق بجلاله سبحانه وتعالى، كسائر صفاته، فهي معية تامة حقيقية، لكن هو في السماء.
- وأما الدليل العقلي على بطلان قولهم، فنقول: إذا قلت: إن الله معك في كل مكان، فهذا يلزم عليه لوازم باطلة، فيلزم عليه:
أولاً: إما التعدد أو التجزؤ، وهذا لازم باطل بلا شك،
وبطلان اللازم يدل على بطلان اللزوم.
ثانياً: نقول: إذا قلت: إنه معك في الأمكنه، لزم أن يزداد بزيادة الناس، وينقص بنقص الناس.
ثالثاً: يلزم على ذلك ألا تنزهه عن المواضع القذرة، فإذا قلت: إن الله معك وأنت في الخلاء فيكون هذا أعظم قدح في الله عز وجل.
فتبين بهذا أن قولهم مناف للسمع ومناف للعقل، وأن القرآن لا يدل عليه بأي وجه من الدلالات، لا دلالة مطابقة ولا تضمن ولا التزام أبداً.
2 -
أما الآخرون، فنقول لهم:
أولاً: إن نفيكم للجهة يستلزم نفي الرب عز وجل، إذ لا نعلم شيئاً لا يكون فوق العالم ولا تحته ولا يمين ولا شمال، ولا متصل ولا منفصل، إلا العدم، ولهذا قال بعض العلماء: لو قيل لنا صفوا الله بالعدم ما وجدنا أصدق وصفاً للعدم من هذا الوصف.
ثانياً: قولكم: إثبات الجهة يستلزم التجسيم! نحن نناقشكم في كلمة الجسم:
ما هذا الجسم الذي تنفرون الناس عن إثبات صفات الله من أجله؟!
أتريدون بالجسم الشيء المكون من أشياء مفتقر بعضها إلى
بعض لا يمكن أن يقوم إلى باجتماع هذه الأجزاء؟! فإن أردتم هذا، فنحن لا نقره، ونقول: إن الله ليس بجسم بهذا المعنى، ومن قال: إن إثبات علوه يستلزم هذا الجسم، فقوله مجرد دعوى ويكفينا أن نقول: لا قبول.
أما إن أردتم بالجسم الذات القائمة بنفسها المتصفة بما يليق بها، فنحن نثبت ذلك، ونقول: إن لله تعالى ذاتاً، وهو قائم بنفسه، متصف بصفات الكمال، وهذا هو الذي يعلم به كل إنسان.
وبهذا يتبين بطلان قول هؤلاء الذين أثبتوا أن الله بذاته في كل مكان، أو أن الله تعالى ليس فوق العالم ولا تحته ولا متصل ولا منفصل ونقولك هو على عرشه استوى عز وجل.
أما أدلة العلو التي يثبت بها نقيض قول هؤلاء وهؤلاء، والتي تثبت ما قاله أهل السنة والجماعة، فهي أدلة كثيرة لا تحصر أفرادها، وأما أنواعها، فهي خمسة: الكتاب، والسنة، والإجماع، والعقل، والفطرة.
- أما الكتاب، فتنوعت أدلته على علو الله عز وجل منها التصريح بالعلو والفوقية وصعود الأشياء إليه ونزولها منه وما أشبه ذلك.
- أما السنة، فكذلك، فتنوعت دلالتها، واتفقت السنة بأصنافها الثلاثة على علو الله بذاته، فقد ثبت علو الله بذاته في السنة من قول الرسول صلى الله عليه وسلم وفعله وإقراراه.
- أما الإجماع، فقد أجمع المسلمون قبل ظهور هذه الطوائف المبتدعة على أن الله تعالى مستو على عرشه فوق خلقه.
قال شيخ الإسلام: "ليس في كلام الله ولا رسوله، ولا كلام الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ما يدل لا نصاً ولا ظاهراً على أن الله تعالى ليس فوق العرش وليس في السماء، بل كل كلامهم متفق على أن الله فوق كل شيء".
وأما العقل، فإننا نقول: كل يعلم أن العلو صفة كمال، وإذا كان صفة كمال، فإنه يجب أن يكون ثابتاً لله، لأن الله متصف بصفات الكمال، ولذلك نقولك إما أن يكون الله في أعلى أو في أسف أو في المحاذي، فالأسفل والمحاذي ممتنع، لأن الأسفل نقص في معناه، والمحاذي نقص لمشابهة المخلوق ومماثلته، فلم يبق إلا العلو، وهذا وجه آخر في الدليل العقلي.
- وأما الفطرة، فإننا نقول: ما من إنسان يقول: يارب! إلا وجد في قلبه ضرورة بطلب العلو.
فتطابقت الأدلة الخمسة.
وأما علو الصفات، فهو محل إجماع من كل من يدين أو يتسمى بالإسلام.
السادسة والعشرون: إثبات العظمة لله عز وجل، لقوله:{الْعَظِيمُ} .
قول المؤلف: "ولهذا كان من قرأ هذه الآية في ليلة، لم يزل عليه من الله حافظ ولا يقربه شيطان حتى يصبح".
الشرح:
هذا طرف من حديث رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه في قصة استحفاظ النبي صلى الله عليه وسلم إياه على الصدقة، وأخذ الشيطان منها وقوله لأبي هريرة:"إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح فأخبر أبو هريرة النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، فقال: "إنه صدقك، وهو كذوب" (1).
قول المؤلف: "وقوله سبحانه وتعالى: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد: 3] ".
الشرح:
"وقوله سبحانه": هذا معطوف على (سورة) في قول المؤلف: "ما وصف به نفسه في سورة الإخلاص".
{هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ} : هذه أربعة أسماء كلها متقابلة في الزمان والمكان، تفيد إحاطة الله سبحانه وتعالى بكل شيء أولاً وآخراً وكذلك في المكان ففيه الإحاطة الزمانية
(1) تقدم تخريجه (ص 137).
والإحاطة المكانية.
{هُوَ الأَوَّلُ} : {الأَوَّلُ} : فسره النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: "الذي ليس قبله شيء"(1).
وهنا فسر الإثبات بالنفي فجعل هذه الصفة الثبوتية صفة سلبية، وقد ذكرنا فيما سبق أن الصفات الثبوتية أكمل وأكثر، فلماذا؟
فنقول: فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، لتوكيد الأولية، يعني أنها مطلقة، أولية ليست أولية إضافية، فيقال: هذا أول باعتبار ما بعده وفيه شيء آخر قبله، فصار تفسيرها بأمر سلبي أدل على العموم باعتبار التقدم الزمني.
{وَالآخِرُ} : فسره النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: "الذي ليس بعده شيء"، ولا يتوهم أن هذا يدل على غاية لآخريته، لأن هناك أشياء أبدية وهي من المخلوقات، كالجنة والنار، وعليه فيكون معنى {وَالآخِرُ} أنه محيط بكل شيء، فلا نهاية لآخريته.
{وَالظَّاهِرُ} : من الظهور وهو العلو، كما قال تعالى:{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ} [التوبة: 33]، أي: ليعليه، ومنه ظهر الدابة لأنه عال عليها،
(1) رواه مسلم (2713) كتاب الذكر والدعاء/ باب ما يقوم عند النوم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
ومنه قوله تعالى: {فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ} [الكهف: 97]، أي يعلوا عليه، وقال النبي عليه الصلاة والسلام في تفسيرها:"الذي ليس فوقه شيء"، فهو عال على كل شيء.
{وَالْبَاطِنُ} : فسره النبي عليه الصلاة والسلام قال: "الذي ليس دونه شيء" وهذا كناية عن إحاطته بكل شيء، ولكن المعنى أنه مع علوه عز وجل، فهو باطن، فعلوه لا ينافي قربه عز وجل، فالباطن قريب من معنى القريب.
تأمل هذه الأسماء الأربعة، تجد أنها متقابله، وكلها خبر عن مبتدأ واحد لكن بواسطة حرف العطف والأخبار بواسطة حرف العطف أقوى من الأخبار بدون واسطة حرف العطف، فمثلاً:{وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [البروج: 14 - 16]: هي أخبار متعددة بدون حرف العطف لكن أحياناً تأتي أسماء الله وصفاته مقترنة بواو العطف وفائدتها:
أولاً: توكيد السابق، لأنك إذا عطفت عليه، جعلته أصلاً، والأصل ثابت.
ثانياً: إفادة الجمع ولا يستلزم ذلك تعدد الموصوف، أرأيت قوله تعالى:{سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 1 - 3] فالأعلى الذي خلق فسوى هو الذي قدر فهدى.
فإذا قلت: المعروف أن العطف يقتضي المغايرة.
فالجواب: نعم، لكن المغايرة تارة تكون بالأعيان، وتارة تكون بالأوصاف، وهذا تغاير أوصاف، على ان التغاير قد يكون لفظياً غير معنوي مثل قول الشاعر:
فألقى قولها كذباً ومينا
فالمين هو الكذب ومع ذلك عطفه عليه، لتغاير اللفظ والمعنى واحد، فالتغاير إما عيني أو معنوي أو لفظي وفلو قلت: جاء زيد وعمرو وبكر وخالد، لاتغاير عيني، لو قلت: جاء زيد الكريم والشجاع والعالم، فالتغاير معنوي، ولو قلت: هذا الحديث كذب مين، فالتغاير لفظي.
واستفدنا من هذه الآية الكريمة إثبات أربعة أسماء لله، وهي الأول والآخر والظاهر والباطن.
واستفدنا منها خمس صفات: الأولية، والآخرية، والظاهرية، والباطنية وعموم العلم.
واستفدنا من مجموع الأسماء: إحاطة الله تعالى بكل شيء زمناً ومكاناً، لأنه قد يحصل من اجتماع الأوصاف زيادة صفة.
فإذا قال قائل: هل هذه الأسماء متلازمة، بمعنى أنك إذا قلت: الأول، فلابد أن تقول: الآخر، أو: يجوز فصل بعضها عن بعض؟!
فالظاهر أن المتقابل منها متلازم، فإذا قلت: الأول، فقل: الآخر، وإذا قلت: الظاهر، فقل: الباطن، لئلا تفوت صفة المقابلة
الدالة على الإحاطة.
قوله: {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} : هذا إكمال لما سبق من الصفات الأربع، يعني: ومع ذلك، فهو بكل شيء عليم.
وهذه من صيغ العموم التي لم يدخلها تخصيص أبداً، وهذا العموم يشمل أفعاله وأفعال العباد الكليات والجزئيات، يعلم ما يقع وما سيقع ويشمل الواجب والممكن والمستحيل، فعلم الله تعالى واسع شامل محيط لا يستثنى منه شيء، فأما علمه باواجب، فكعلمه بنفسه وبما له من الصفات الكاملة، وأما علمه بالمستحيل، فمثل قوله تعالى:{لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22]، وقوله:{إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ} [الحج: 73]، وأما علمه بالممكن، فكل ما أخبر الله به عن المخلوقات، فهو من الممكن:{يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ} [النحل: 19].
إذاً، فعلم الله تعالى محيط بكل شيء.
والثمرة التي ينتجها الإيمان بأن الله بكل شيء عليم: كمال مراقبة الله عز وجل وخشيته، بحيث لا يفقده حيث أمره، ولا يراه حيث نهاه.
قول المؤلف: "وقوله سبحانه: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} [الفرقان: 58] ".
{وَتَوَكَّلْ} : مأخوذ من وكل الشيء إلى غيره، أي: فوضه إليه، فالتوكل على الغير، بمعنى: التفويض إليه.
وعرف بعض العلماء التوكل على الله بأنه: صدق الاعتماد على الله في جلب المنافع ودفع المضار، مع الثقة به سبحانه وتعالى، وفعل الأسباب الصحيحة.
وصدق الاعتماد: أن تعتمد على الله اعتماداً صادقاً، بحيث لا تسأل إلا الله، ولا تستعين إلا بالله، ولا ترجو إلا الله، ولا تخاف إلا الله، تعتمد على الله عز وجل بجلب المنافع ودفع المضار، ولا يكفي هذا الاعتماد دون الثقة به مع فعل السبب الذي أذن به، بحيث إنك واثق بدون تردد مع فعل السبب الذي أذن فيه.
فمن لم يعتمد على الله واعتمد على قوته، فإنه يخذل، ودليل ذلك ما وقع للصحابة مع نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين، حين قال الله عز وجل:{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ} ، حيث قالوا: لن نغلب اليوم من قلة، {فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْهَا} [التوبة: 25 - 26].
ومن توكل على الله، ولكن لم يفعل السبب الذي أذن الله فيه، فهو غير صادق، بل إن عدم فعل الأسباب سفه في العقل ونقص في الدين، لأنه طعن واضح في حكمة الله.
والتوكل على الله هو شطر الدين، كما قال تعالى:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5]، والاستعانة بالله تعالى هي ثمرة التوكل، {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123].
ولهذا، فإن من توكل على غير الله لا يخلو من ثلاثة أقسام:
أولاً: أن يتوكل توكل اعتماد وتعبد، فهذا شرك أكبر، كأن يعتقد بأن هذا المتوكل عليه هو الذي يجلب له كل خير ويدفع عنه كل شر، فيفوض أمره إليه تفويضاً كاملاً في جلب المنافع ودفع المضار، مع اقتران ذلك بالخشية والرجاء، ولا فرق بين أن يكون المتوكل عليه حياً أو ميتاً، لأن هذا التفويض لا يصح إلا الله.
ثانياً: أن يتوكل على غير الله بشيء من الاعتماد لكن فيه إيمان بأنه سبب وأن الأمر إلى الله، كتوكل كثير من الناس على الملوك والأمراء في تحصيل معاشهم، فهذا نوع من الشرك الأصغر.
ثالثاً: أن يتوكل على شخص على أنه نائب عنه، وأن هذا المتوكل فوقه، كتوكل الإنسان على الوكيل في بيع وشراء ونحوهما مما تدخله النيابة، فهذا جائز، ولا ينافي التوكل على الله، وقد وكل النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه في البيع والشراء ونحوهما.