الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} ، يعني: أنظر إليه، وأصل إليه مباشرة، لأن موسي قال له: أن الله في السماء. فموه فرعون على قومه بطلب بناء هذا الصرح العالي ليرقي عليه ثم يقول: لم أجد أحداً، ويحتمل أنه قاله على سبيل التهكم، يقول: إن موسي قال: إلهه في السماء، اجعلونا نرقي لنراه!! تهكماً.
وأيا كان، فقد قال:{وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً} ، للتمويه على قومه، وإلا، فهو يعلم أنه صادق، وقد قال له موسي:{لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلاّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَائِرَ} [الإسراء: 102]، فلم يقل: ما علمت! بل أقره على هذا الخبر المؤكد باللام و (قد) والقسم. والله عز وجل يقول في آية أخري: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: 14].
الشاهد من هذا: أن أمر فرعون ببناء صرح يطلع به على إله موسي يدل على أن موسي صلي الله عليه وسلم قال لفرعون وآله: إن الله في السماء. فيكون علو الله تعالى ذاتياً قد جاءت به الشرائع السابقة.
الآية الخامسة والسادسة: قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ
أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ} [الملك: 16 - 17].
والذي في السماء هو الله عز وجل، لكنه كنى عن نفسه بهذا، لأن المقام مقام إظهار عظمته، وأنه فوقكم، قادر عليكم، مسيطر عليكم، مهيمن عليكم، لأن العالي له سلطة على من تحته.
{فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} ، أي: تضطرب.
والجواب: لا تأمن والله! بل نخاف على أنفسنا إذا كثرت معاصينا أن تخسف بنا الأرض.
والانهيارات التي يسمونها الآن: أنهياراً أرضياً، وانهياراً جبلياً .. وما أشبه ذلك هي نفس التي هدد الله بها هنا، لكن يأتون بمثل هذه العبارات ليهونوا الأمر على البسطاء من الناس.
{أَمْ أَمِنْتُمْ} ، يعني بل أأمنتم، و (أم) هنا بمعني (بل) والهمزة.
{أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً} : الحاصب عذاب من فوق يحصبون به، كما فعل بالذين من قبلهم، كقوم لوط وأصحاب الفيل، والخسف من تحت.
فالله عز وجل هددنا من فوق ومن تحت، قال الله تعالي:{فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا} [العنكبوت:40]، أربعة أنواع من العذاب.
وهنا ذكر الله نوعين منها: الحاصب والخسف.
والشاهد من هذه الآية هو قوله: {مَنْ فِي السَّمَاءِ} .
والذي في السماء هو الله عز وجل وهو دليل على علو الله بذاته.
ولكن ها هنا إشكال، وهو أن (في) للظرفية، فإذا كان الله في السماء، و (في) للظرفيه، فإن الظرف محيط بالمظروف! أرأيت لو
قلت: الماء في الكأس، فالكأس محيط بالماء وأوسع من الماء! فإذا كان الله يقول:{أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} ، فهذا ظاهره أن السماء محيطة بالله، وهذا الظاهر باطل، وإذا كان الظاهر باطلاً، فإننا نعلم علم اليقين أنه غير مراد لله، لأنه لا يمكن أن يكون ظاهر الكتاب والسنة باطلاً.
فما الجواب على هذا الإشكال؟
قال العلماء: الجواب أن نسلك أحد طريقين:
1 -
فإما أن نجعل السماء بمعني العلو، والسماء معني العلو وارد في اللغة، بل في القرآن، قال تعالي:{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا} [الرعد: 17]، والمراد بالسماء العلو، لأن الماء ينزل من السحاب لا من السماء التي هي السقف المحفوظ، والسحاب في العلو بين السماء والأرض، كما قال الله تعالي:{الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} [البقرة: 164].
فيكون معني {مَنْ فِي السَّمَاءِ} ، أي: من في العلو.
ولا يوجد إشكال بعد هذا، فهو في العلو. ليس يحاذيه شئ، ولا يكون فوقه شئ.
2 -
أو نجعل (في) بمعني (علي) ، ونجعل السماء هي السقف المحفوظ المرفوع، يعني: الآجرام السماوية، وتأتي (في) بمعني (علي) في اللغة العربية، بل في القرآن الكريم، قال فرعون لقومه السحرة الذين آمنوا:{وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:
71] ، أي: على جذوع النخل.
فيكون معني {مَنْ فِي السَّمَاءِ} ، أي: من على السماء.
ولا إشكال بعد هذا.
فإن قلت: كيف تجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالي: {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} [الزخرف: 84]، وقوله:{وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} [الأنعام: 3]؟!
فالجواب: أن نقول:
أما الآية الأولي، فإن الله يقول:{وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} ، فالظرف هنا لألوهيته، يعني: أن ألوهيته ثابتة في السماء وفي الأرض، كما تقول: فلان أمير في المدينة ومكة، فهو نفسه في واحدة منهما، وفيهما جميعاً بإمارته وسلطته، فالله تعالي ألوهيته في السماء وفي الأرض، وأما هو عز وجل ففي السماء.
أما الآية الثاني: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} فنقول فيها كما قلنا في التي قبلها: {وَهُوَ اللَّهُ} ، أي: وهو الإله الذي ألوهيته في السماوات وفي الأرض، أما هو نفسه، ففي السماء. فيكون المعني: هو المألوه في السماوات المألوه في الأرض، فألوهيته في السماوات وفي الأرض.
فتخرج هذه الآية كتخريج التي قبلها.
وقيل المعني: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ} ، ثم تقف، ثم تقرأ:
{وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ} ، أي أنه نفسه في السماوات، ويعلم سركم وجهركم في الأرض، فليس كونه في السماء مع علوه بمانع من علمه بسركم وجهركم في الأرض.
وهذا المعني فيه شيئ من الضعف، لأنه يقتضي تفكيك الآية وعدم ارتباط بعضها ببعض، والصواب الأول: أن نقول: {وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ} ، يعني أن ألوهيته ثابتة في السماوات وفي الأرض، فتطابق الآية الأخري.
من الفوائد المسلكية في هذه الآيات:
أن الإنسان إذا علم بأن الله تعالي فوق كل شيء، فإنه يعرف مقدار سلطانه وسيطرته على خلقه، وحينئذ يخافه ويعظمه، وإذا خاف الإنسان ربه وعظمه، فإنه يتقيه ويقوم بالواجب ويدع المحرم.
إثبات معية الله لخلقه
الشرح:
شرع المؤلف بسوق أدلة المعية؛ أي: أدلة معية الله تعالى لخلقه، وناسب أن يذكرها بعد العلو؛ لأنه قد يبدون للإنسان أن هناك تناقضاً بين كونه فوق كل شيء وكونه مع العباد، فكان من المناسب جداً أن يذكر الآيات التي تثبت معية الله للخلق بعد ذكر آيات العلو.