الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ماذا عملت ليوم النقلة؟ وماذا عملت ليوم اللقاء؟ فإن أكثر الناس اليوم ينظرون ماذا عملوا للدنيا، مع العلم بأن هذه الدنيا التي عملوا لها لا يدرون هل يدركونها أم لا؟ قد يخطط الإنسان لعمل دنيوي يفعله غداً أو بعد غد، ولكنه لا يدرك غداً ولا بعد غد، لكن الشيء المتيقن أن أكثر الناس في غفلة من هذا، قال الله تعالى:{بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا} [المؤمنون: 63] وأعمال الدنيا يقول: {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} [المؤمنون: 63]، فأتى بالجملة الاسمية المفيدة للثبوت والاستمرار: و {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} ، وقال تعالى:{لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} [ق: 22]: يعني: يوم القيامة وقال تعالى: {فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} [ق: 22].
هذا البعث الذي اتفقت عليه الأديان السماوية وكل متدين بدين هو أحد أركان الإيمان الستة وهو من معتقدات أهل السنة والجماعة ولا ينكره أحد ممن ينتسب إلى ملة أبداً.
"و
الإيمان بالقدر خيره وشره
" هذا الركن السادس: الإيمان بالقدر خيره وشره.
القدر هو: "تقدير الله عز وجل للأشياء".
وقد كتب الله مقادير كل شيء قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة (1)، كما قال الله تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ
(1) لما رواه مسلم (2653) عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "كتب الله المقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة" قال: "وعرشه على الماء". كتاب القدر/ باب ذكر حجاج آدم وموسى عليهما السلام.
اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [الحج: 70].
وقوله: "خيره وشره": أما وصف القدر بالخير، فالأمر فيه ظاهر. وأما وصف القدر بالشر، فالمراد به شر المقدور لا شر القدر الذي هو فعل الله، فإن فعل الله عز وجل ليس فيه شر، كل أفعاله خير وحكمة، ولكن الشر في مفعولاته ومقدوراته، فالشر هنا باعتبار المقدور والمفعول، أما باعتبار الفعل، فلا، ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام:"والشر ليس إليك"(1).
فمثلاً، نحن نجد في المخلوقات المقدورات شراً، ففيها الحيات والعقارب والسباع والأمراض والفقر والجدب وما أشبه ذلك، وكل هذه بالنسبة للإنسان شر، لأنها لا تلائمه، وفيها أيضاً المعاصي والفجور والكفر والفسوق والقتل وغير ذلك، وكل هذه شر، لكن باعتبار نسبتها إلى الله هي خير، لأن الله عز وجل لم يقدرها إلا لحكمة بالغة عظيمة، عرفها من عرفها وجهلها من جهلها.
وعلى هذا يجب أن تعرف أن الشر الذي وصف به القدر إنما هو باعتبار المقدورات والمفعولات، لا باعتبار التقدير الذي هو تقدير الله وفعله.
(1) مسلم (771) من حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه كتاب صلاة المسافرين/ باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه.
ثم اعلم أيضاً أن هذا المفعول الذي هو شر قد يكون شراً في نفسه، لكنه خير من جهة أخرى، قال الله تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} [الروم: 41]، النتيجة طيبة، وعلى هذا، فيكون الشر في هذا المقدور شراً إضافياً يعنى: لا شراً حقيقياً، لأن هذا ستكون نتيجته خيراً.
ولنفض حد الزاني مثلاً إذا كان غير محصن أن يجلد مئة جلدة ويسفر عن البلد لمدة عام، هذا لا شك أنه شر بالنسبة إليه، لأنه لا يلائمه، لكنه خير من وجه آخر لأنه يكون كفارة له، فهذا خير، لأن عقوبة الدنيا أهون من عقوبة الآخرة، فهو خير له، ومن خيره أنه ردع لغيره ونكال لغيره، فإن غيره لو هم أن يزني وهو يعلم أنه سيفعل به مثل ما فعل بهذا، ارتدع، بل قد يكون خيراً له هو أيضاً، باعتبار أنه لن يعود إلى مثل هذا العمل الذي سبب له هذا الشيء.
أما بالنسبة للأمور الكونية القدرية، فهناك شيء يكون شراً باعتباره مقدوراً، كالمرض مثلاً، فالإنسان إذا مرض، فلا شك أن المرض شر بالنسبة له، لكن فيه خير له في الواقع، وخيره تكفير الذنوب، قد يكون الإنسان عليه ذنوب ما كفرها الاستغفار والتوبة، لوجود مانع، مثلاً لعدم صدق نيته مع الله عز وجل فتأتي هذه الأمراض والعقوبات، فتكفر هذه الذنوب.
ومن خيره أن الإنسان لا يعرف قدر نعمة الله عليه بالصحة،
إلا إذا مرض، نحن الآن أصحاء ولا ندري ما قدر الصحة لكن إذا حصل المرض، عرفنا قدر الصحة فالصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يعرفها إلا المرضى .. هذا أيضاً خير، وهو أنك تعرف قدر النعمة.
ومن خيره أنه قد يكون في هذا المرض أشياء تقتل جراثيم في البدن لا يقتلها إلا المرض، يقول الأطباء: بعض الأمراض المعينة تقتل هذه الجراثيم التي في الجسد وأنك لا تدري.
فالحاصل أننا نقول:
أولاً: الشر الذي وصف به القدر هو شر بالنسبة لمقدور الله، أما تقدير الله، فكله خير والدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم "والشر ليس إليك"(1).
ثانياً: أن الشر الذي في المقدور ليس شراً محضاً بل هذا الشر قد ينتج عنه أمور هي خير، فتكون الشرية بالنسبة إليه أمراً إضافياً.
هذا، وسيتكلم المؤلف رحمه الله على القدر بكلام موسع يبين درجاته عند أهل السنة.
* قوله: "ومن الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم".
(1) تقدم تخريجه
شرح:
قوله: "ومن الإيمان": (من): هنا للتبعيض، لأننا ذكرنا أن الإيمان بالله يتضمن أربعة أمور: الإيمان بوجوده، وانفراده بالربوبية، وبالألوهية، وبالأسماء والصفات، يعني: بعض الإيمان بالله: الإيمان بما وصف به نفسه.
قوله: "بما وصف به نفسه في كتابه" ينبغي أن يقال: وسمى به نفسه لكن المؤلف رحمه الله ذكر الصفة فقط: إما لأنه ما من اسم إلا ويتضمن صفة، أو لأن الخلاف في الأسماء خلاف ضعيف، لم ينكره إلاّ غلاة الجهمية والمعتزلة، فالمعتزلة يثبتون الأسماء، والأشاعرة والماتريدية يثبتون الأسماء، لكن يخالفون أهل السنة في أكثر الصفات.
فنحن الآن نقول: لماذا اقتصر المؤلف على "ما وصف الله به نفسه"؟
نقول: لأحد أمرين: إما لأن كل اسم يتضمن صفة، وإما لأن الخلاف في الأسماء قليل بالنسبة للمنتسبين للإسلام.
"في كتابه": (كتابه) يعني: القرآن، وسماه الله تعالى كتاباً لأنه مكتوب في اللوح المحفوظ، ومكتوب في الصحف التي بأيدي السفرة الكرام البررة، ومكتوب كذلك بين الناس يكتبونه في المصاحف، فهو كتاب بمعنى مكتوب، وأضافه الله إليه، لأنه كلامه سبحانه وتعالى، فهذا القرآن كلام الله، تكلم به حقيقة، فكل حرف منه، فإن الله قد تكلم به.
وفي هذه الجملة مباحث:
المبحث الأول: أن من الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه:
ووجه ذلك أن الإيمان بالله ـ كما سبق ـ يتضمن الإيمان بأسمائه وصفاته، فإنه ذات الله تسمى بأسماء وتوصف بأوصاف، ووجود ذات مجردة عن الأوصاف أمر مستحيل، فلا يمكن أن توجد ذات مجردة عن الأوصاف أبداً، وقد يفرض الذهن أن هناك ذاتاً مجردة من الصفات لكن الفرض ليس كالأمر الواقع، أي أن المفروض ليس كالمشهود، فلا يوجد في الخارج ـ أي: في الواقع المشاهد ـ ذات ليس لها صفات أبداً.
فالذهن قد يفرض مثلاً شيئاً له ألف عين، في كل ألف عين ألف سواد وألف بياض، وله ألف رجل، في كل رجل ألف أصبع، في كل أصبع ألف ظفر، وله ملايين الشعر، في كل شعرة ملايين الشعر .... وهكذا يفرضه وإن لم يكن له واقع، لكن الشيء الواقع لا يمكن أن يوجد شيء بدون صفة.
لهذا، كان الإيمان بصفات الله من الإيمان بالله، لو لم يكن من صفات الله إلا أنه موجود واجب الوجود، وهذا باتفاق الناس، وعلى هذا، فلا بد أن يكون له صفة.
المبحث الثاني: أن صفات الله عز وجل من الأمور الغيبية، والواجب على الإنسان نحو الأمور الغيبية: أن يؤمن بها على ما جاءت دون أن يرجع إلى شيء سوى النصوص.
قال الإمام أحمد: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله، لا يتجاوز القرآن والحديث"(1).
يعني أننا لا نصف الله إلا بما وصف به نفسه في كتابه، أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم.
ويدل لذلك القرآن والعقل:
ففي القرآن: يقول الله عز وجل: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف، 33]، فإذا وصفت الله بصفة لم يصف الله بها نفسه، فقد قلت عليه مالا تعلم وهذا محرم بنص القرآن.
ويقول الله عز وجل: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36]، ولو وصفنا الله بما لم يصف به نفسه، لكنا قفونا ما ليس لنا به علم، فوقعنا فيما نهى الله عنه.
وأما الدليل العقلي، فلأن صفات الله عز وجل من الأمور الغيبية ولا يمكن في الأمور الغيبية أن يدركها العقل، وحينئذ لا نصف الله بما لم يصف به نفسه، ولا نكيف صفاته، لأن ذلك غير ممكن.
نحن الآن لا تدرك ما وصف الله به نعيم الجنة من حيث
(1) انظر "مجموع الفتاوى شيخ الإسلام "(5/ 26).
الحقيقة مع أنه مخلوق، في الجنة فاكهة ونخل ورمان وسرر وأكواب وحور ونحن لا ندرك حقيقة هذه الأشياء، ولو قيل: صفها لنا، لا نستطيع وصفها، لقوله تعالى:{فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17]، ولقوله تعالى في الحديث القدسي:"أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر"(1).
فإذا كان هذا في المخلوق الذي وصف بصفات معلومة المعنى ولا تعلم حقيقتها، فكيف بالخالق؟!
مثال آخر: الإنسان فيه روح، لا يحيا إلا بها، لولا أن الروح في بدنه ما حيي ولا يستطيع أن يصف الروح لو قيل له: ما هذه الروح التي بك؟ ما هي التي لو نزعت منك، صرت جثة، وإذا بقيت فأنت إنسان تعقل وتفهم وتدرك؟ لجلس ينظر ويفكر فلا يستطيع أن يصفها أبداً مع أنها قريبة، منه، في نفسه وبين جنبيه، ويعجز عن إدراكها مع أنها حقيقة، يعني: شيء يرى، كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام بـ" أن الروح إذا قبض، تبعه البصر"(2)، فالإنسان يرى نفسه وهي مقبوضة، ولهذا تبقى العين مفتوحة عند الموت تشاهد الروح وهي قد خرجت، وتؤخذ هذه الروح وتجعل في كفن ويصعد بها إلى الله ومع ذلك ما يستطيع أن يصفها وهي بين جنبيه، فكيف يحاول أن يصف الرب بأمر لم
(1) رواه البخاري (3244) كتاب بدء الخلق/ باب ما جاء في صفة الجنة، ومسلم (2824) عن أبي هريرة رضي الله عنه كتاب الجنة.
(2)
رواه مسلم (920) عن أم سلمة رضي الله عنها في كتاب الجنائز/ باب في إغماض الميت.
يصف به نفسه!
ولا بد إذاً تحقق ثبوت الصفات لله.
المبحث الثالث: أننا لا نصف الله تعالى بما لم يصف به نفسه.
ودليل ذلك أيضاً من السمع والعقل:
ذكرنا من السمع آيتين.
وأما من العقل، فقلنا: إن هذا أمر غيبي، لا يمكن إدراكه بالعقل، وضربنا لذلك مثلين.
المبحث الرابع: وجوب إجراء النصوص الواردة في الكتاب والسنة على ظاهرها، لا نتعداها.
مثال ذلك: لما وصف الله نفسه بأن له عيناً، هل نقول: المراد بالعين الرؤية لا حقيقة العين؟ لو قلنا ذلك، ما وصفنا الله بما وصف به نفسه.
ولما وصف الله نفسه بأن له يدين: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، لو قلنا: إن الله تعالى ليس له يد حقيقة، بل المراد باليد ما يسبغه من النعم على عباده، فهل وصفنا الله بما وصف به نفسه؟ لا!
المبحث الخامس: عموم كلام المؤلف يشمل كل ما وصف الله به نفسه من الصفات الذاتية المعنوية والخبرية والصفات الفعلية.
فالصفات الذاتية هي التي لم يزل ولا يزال متصفاً بها وهي نوعان: معنوية وخبرية:
فالمعنوية، مثل: الحياة، والعلم، القدرة، والحكمة
…
وما أشبه ذلك، وهذا على سبيل التمثيل لا الحصر.
والخبرية، مثل: اليدين، والوجه، والعينين
…
وما أشبه ذلك مما سماه، نظيره أبعاض وأجزاء لنا.
فالله تعالى لم يزل له يدان ووجه وعينان لم يحدث له شيء من ذلك بعد أن لم يكن، ولن ينفك عن شيء منه، كما أن الله لم يزل حياً ولا يزال حياً، لم يزل عالماً ولا يزال عالماً، ولم يزل قادراً ولا يزال قادراً
…
وهكذا، يعنى ليس حياته تتجدد، ولا قدرته تتجدد، ولا سمعه يتجدد بل هو موصوف بهذا أزلاً وأبداً، وتجدد المسموع لا يستلزم تجدد السمع، فأنا مثلاً عندما أسمع الأذان الآن فهذا ليس معناه أنه حدث لي سمع جديد عند سماع الأذان بل هو منذ خلقه الله في لكن المسموع يتجدد وهذا لا أثر له في الصفة.
واصطلح العلماء رحمهم الله على أن يسموها الصفات الذاتية، قالوا: لأنها ملازمة للذات، لا تنفك عنها.
والصفات الفعلية هي الصفات المتعلقة بمشيئته، وهي نوعان:
صفات لها سبب معلوم، مثل: الرضى، فالله عز وجل إذا
وجد سبب الرضى، رضي، كما قال تعالى:{إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} [الزمر: 7].
وصفات ليس لها سبب معلوم، مثل: النزول إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر.
ومن الصفات ما هو صفة ذاتية وفعلية باعتباري، فالكلام صفة فعلية باعتبار آحاده لكن باعتبار أصله صفة ذاتية، لأن الله لم يزل ولا يزال متكلماً لكنه يتكلم بما شاء متى شاء، كما سيأتي في بحث الكلام إن شاء الله تعال.
اصطلح العلماء رحمهم الله أن يسموا هذه الصفات الصفات الفعلية، لأنها من فعله سبحانه وتعالى.
ولها أدلة كثيرة من القرآن، مثل:{وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً} [الفجر: 22]، {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: 158]، {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} [المائدة: 119]، {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ} [التوبة: 46]، {أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ} [المائدة: 80].
وليس في إثباتها لله تعالى نقص بوجه من الوجوه بل هذا من كماله أن يكون فاعلاً لما يريد.
وأولئك القوم المحرفون يقولون: إثباتها من النقص! ولهذا ينكرون جميع الصفات الفعلية، يقولون: لا يجيء ولا يرضى، ولا يسخط ولا يكره ولا يحب .. ينكرون كل هذه، بدعوى
أن هذه حادثة والحادث لا يقوم إلا بحادث وهذا باطل، لأنه في مقابلة النص، وهو باطل بنفسه، فإنه لا يلزم من حدوث الفعل حدوث الفاعل.
المبحث السادس: أن العقل لا مدخل له في باب الأسماء والصفات:
لأن مدار إثبات الأسماء والصفات أو نفيها على السمع، فعقولنا لا تحكم على الله أبداً، فالمدار إذاً على السمع، خلافاً للأشعرية والمعتزلة والجهمية وغيرهم من أهل التعطيل، الذين جعلوا المدار في إثبات الصفات أو نفيها على العقل، فقالوا: ما اقتضى العقل إثباته، أثبتناه، سواء أثبته الله لنفسه أم لا! وما اقتضى نفيه، نفيناه، وإن أثبته الله! وما لا يقتضي العقل إثباته ولا نفيه، فأكثرهم نفاه، وقال: إن دلالة العقل إيجابية، فإن أوجب الصفة، أثبتناها، وإن لم يوجبها، نفيناها! ومنها من توقف فيه، فلا يثبتها لأن العقل لا يثبتها لكن لا ينكرها، لأن العقل لا ينفيها، ويقول: نتوقف! لأن دلالة العقل عند هذا سلبية، إذا لم يوجب، يتوقف ولم ينف!
فصار هؤلاء يحكمون العقل فيما يجب أو يمتنع على الله عز وجل.
فيتفرغ على هذا: ما اقتضى العقل وَصف الله به، وُصِف الله به، وإن لم يكن في الكتاب والسنة، وما اقتضى العقل نفيه عن الله، نفوه، وإن كان في الكتاب والسنة.
ولهذا يقولون: ليس لله عين، ولا وجه، ولا له يد، ولا استوى على العرش، ولا ينزل إلى السماء الدنيا لكنهم يحرفون ويسمون تحريفهم تأويلاً ولو أنكروا إنكار جحد، لكفروا، لأنهم كذبوا لكنهم ينكرون إنكار ما يسمونه تأويلاً وهو عندنا تحريف.
والحاصل أن العقل لا مجال له في باب أسماء الله وصفاته فإن قلت: قولك هذا يناقض القرآن، لأن الله يقول:{وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً} [المائدة: 50] والتفضيل بين شيء وآخر مرجعه إلى العقل وقال عز وجل {لِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى} [النحل: 60] وقال: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [النحل: 17] وأشباه ذلك مما يحيل الله به على العقل فيما يثبته لنفسه وما ينفيه عن الآلهة المدعاة؟
فالجواب أن نقول: إن العقل يدرك ما يجب لله سبحانه وتعالى ويمتنع عليه على سبيل الإجمال لا على سبيل التفصيل، فمثلاً: العقل يدرك بأن الرب لا بد أن يكون كامل الصفات، لكن هذا لا يعني أن العقل يثبت كل صفة بعينها أو ينفيها لكن يثبت أو ينفي على سبيل العموم أن الرب لا بد أن يكون كامل الصفات سالماً من النقص.
فمثلاً: يدرك بأنه لابد أن يكون الرب سميعاً بصيراً، قال إبراهيم:{يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ} [مريم: 42].
ولابد أن يكون خالقاً، لأن الله قال: {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لاّ
يَخْلُقُ} [النحل: 17]{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً} [النحل: 20].
يدرك هذا ويدرك بأن الله سبحانه وتعالى يمتنع أن يكون حادثاً بعد العدم، لأنه نقص، ولقوله تعالى محتجاً على هؤلاء الذين يعبدون الأصنام:{وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ} [النحل: 20]، إذاً يمتنع أن يكون الخالق حادثاً بالعقل.
العقل أيضاً يدرك بأن كل صفة نقص فهي ممتنعة على الله، لأن الرب لابد أن يكون كاملاً فيدرك بأن الله عز وجل مسلوب عنه الحجز، لأنه صفة نقص، إذا كان الرب عاجزاً وعُصِي وأراد أن يعاقب الذي عصاه وهو عاجز، فلا يمكن!
إذاً، العقل يدرك بأن العجز لا يمكن أن يوصف الله به، والعمى كذلك والصم كذلك والجهل كذلك .... وهكذا على سبيل العموم ندرك ذلك، لكن على سبيل التفصيل لا يمكن أن ندركه فنتوقف فيه على السمع.
سؤال: هل كل ما هو كمال فينا يكون كمالاً في حق الله، وهل كل ما هو نقص فينا يكون نقصاً في حق الله؟
الجواب: لا، لأن المقياس في الكمال والنقص ليس باعتبار ما يضاف للإنسان، لظهور الفرق بين الخالق والمخلوق، لكن باعتبار الصفة من حيث هي صفة، فكل صفة كمال، فهي ثابته لله سبحانه وتعالى.
فالأكل والشرب بالنسبة للخالق نقص، لأن سببهما الحاجة،
والله تعالى غني عما سواه، لكن هما بالنسبة للمخلوق كمال ولهذا، إذا كان الإنسان لا يأكل، فلا بد أن يكون عليلاً بمرض أو نحوه هذا نقص.
والنوم بالنسبة للخالق نقص، وللمخلوق كمال، فظهر الفرق.
التكبر كمال للخالق ونقص للمخلوق، لأنه لا يتم الجلال والعظمة إلا بالتكبر حتى تكون السيطرة كاملة ولا أحد ينازعه .. ولهذا توعد الله تعالى من ينازعه الكبرياء والعظمة، قال:"من نازعني واحداً منهما عذبته"(1).
فالمهم أنه ليس كل كمال في المخلوق يكون كمالاً في الخالق ولا كل نقص في المخلوق يكون نقصاً في الخالق إذا كان الكمال أو النقص اعتبارياً.
هذه ستة مباحث تحت قوله: "ما وصف به نفسه" وكلها مباحث هامة، وقدمناها بين يدي العقيدة، لأنه سينبني عليها ما يأتي إن شاء الله تعالى.
قوله: "وبما وصفه به رسوله": ووصف رسول الله صلى الله عليه وسلم لربه ينقسم إلى ثلاثة أقسام: إما بالقول، أو بالفعل، أو بالإقرار.
(1) رواه مسلم (2620) عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة رضي الله عنهما، قلا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "العز إزاره والكبرياء رداؤه، فمن ينازعني عذبته"، كتاب البر/ باب تحريم الكبر، ورواه أحمد (2/ 414) بنحو عن أبي هريرة رضي الله عنه.