الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وهنا قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} ، أضاف الربوبية إلى محمد صلى الله عليه وسلم، وهذه الربوبية أخص ما يكون من أنواع الربوبية، لأن الربوبية عامة وخاصة، والخاصة خاصة أخص، وخاص فوق ذلك، كربوبية الله تعالى لرسله، فالربوبية الأخص أفضل بلا شك.
وقوله: {ذُو} : صفة لوجه، والدليل الرفع، ولو كانت صفة للرب، لقال ذي الجلال كما قال في نفس السورة:{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} [الرحمن: 78]، فلما قال:{ذُو الْجَلالِ} ، علمنا أنه وصف للوجه.
{وَالأِكْرَامِ} : هي مصدر من أكرم، صالحة للمكرم والمكرم، فالله سبحانه وتعالى مكرم، وإكرامه تعالى القيام بطاعته، ومكرم لمن يستحق الإكرام من خلقه بما أعد لهم من الثواب.
فهو لجلاله وكمال سلطانه وعظمته أهل لأن يكرم ويثنى عليه سبحانه وتعالى وإكرام كل أحد بحسبه، فإكرام الله عز وجل أن تقدره حق قدره، وأن تعظمه حق تعظيمه، لا لاحتياجه إلى إكرامك، ولكن ليمن عليك بالجزاء.
الآية الثانية:
قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ} [القصص: 88].
قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ} ، أي: فان، كقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا
فَانٍ} [الرحمن: 26].
وقوله: {إِلاّ وَجْهَهُ} : توازي قوله: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} .
فالمعنى: كل شيء فان وزائل، إلا وجه الله عز وجل، فإنه باق، ولهذا قل:{لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [القصص: 88] فهو الحكم الباقي الذي يرجع إليه الناس ليحكم بينهم.
وقيل في معنى الآية: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ} ، أي: إلا ما أريد به وجهه. قالوا: لأن سياق الآية يدل على ذلك: {وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا إِلَهَ إِلاّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاّ وَجْهَهُ} [القصص: 88]، كأنه يقول: لا تدع مع الله إلهاً آخر فتشرك به، لأن عملك وإشراكك هالك، أي: ضائع سدى، إلا ما أخلصته لوجه الله، فإنه يبقى، لأن العمل الصالح له ثواب باقى لا يفنى في جنات النعيم.
ولكن المعنى الأول أسد وأقوى.
وعلى طريقة من يقول بجواز استعمال المشترك في معنييه، نقول: يمكن أن نحمل الآية على المعنيين، إذ لا منافاة بينهما، فتحمل على هذا وهذا، فيقال: كل شيء يفنى إلا وجه الله عز وجل، وكل شيء من الأعمال يذهب هباء، إلا ما أريد به وجه الله.
وعلى أي التقديرين، ففي الآية دليل على ثبوت الوجه لله عز وجل.
وهو من الصفات الذاتية الخبرية التي مسماها بالنسبة إلينا أبعاض وأجزاء، ولا نقول: من الصفات الذاتية المعنوية، ولو قلنا بذلك، لكنا نوافق من تأوله تحريفاً، ولا نقول: إنها بعض من الله، أو: جزء من الله، لأن ذلك يوهم نقصاً لله سبحانه وتعالى.
هذا وقد فسر أهل التحريف وجه الله بثوابه، فقالوا: المراد بالوجه في الآية الثواب، كل شيء يفنى، إلا ثواب الله!
ففسروا الوجه الذي هو صفة كمال، فسروه بشيء مخلوق بائن عن الله قابل للعدم والوجود، فالثواب حادث بعد أن لم يكن، وجائز أن يرتفع، لولا وعدالله ببقائه، لكان من حيث العقل جائزاً أن يرتفع، أعني: الثواب!.
فهل تقولون الآن: إن وجه الله الذي وصف الله به نفسه من باب الممكن أو من باب الواجب؟
إذا فسروه بالثواب، صار من باب الممكن الذي يجوز وجوده وعدمه.
وقولهم مردود بما يلي:
أولاً: أنه مخالف لظاهر اللفظ، فإن ظاهر اللفظ أن هذا وجه خاص، وليس هو الثواب.
ثانياً: أنه مخالف لإجماع السلف، فما من السلف أحد قال: إن المراد بالوجه الثواب! وهذه كتبهم بين أيدينا مزبورة محفوظة، أخرجوا لنا نصاً عن الصحابة أو عن أئمة التابعين ومن تبعهم
بإحسان أنهم فسروا هذا التفسير، لن تجدوا إلى ذلك سبيلاً أبداً.
ثالثاً: هل يمكن أن يوصف الثواب بهذه الصفات العظيمة: {ذُو الْجَلالِ وَالأِكْرَامِ} [الرحمن: 27]؟! لا يمكن. لو قلنا مثلاً جزاء المتقين ذو جلال وإكرام! فهذا لا يجوز أبداً، والله تعالى وصف هذا الوجه بأنه ذو الجلال والإكرام.
رابعاً: نقول: ما تقولون في قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "حجابه النور، لو كشفه، لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بضره من خلقه"(1). فهل الثواب له هذا النور الذي يحرق ما انتهى إليه بصر الله من الخلق؟! أبداً، ولا يمكن.
وبهذا عرفنا بطلان قولهم، وأن الواجب علينا أن نفسر هذا الوجه بما أراده الله به، وهو وجه قائم به تبارك وتعالى موصوف بالجلال والإكرام.
فإن قلت: هل كل ما جاء من كلمة (الوجه) مضافاً إلى الله يراد به وجه الله الذي هو صفاته؟
فالجواب: هذا هو الأصلى، كما في قوله تعالى:{وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام: 52]، {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلاّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى} [الليل: 19 - 21]
…
وما أشبهها من الآيات.
فالأصل أن المراد بالوجه المضاف إلى الله وجه الله عز
(1) تقدم تخريجه (ص 284)
وجل الذي هو صفة من صفاته، لكن هناك كلمة اختلف المفسرون فيها، وهي قوله: تعالى: {وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ} [البقرة: 115]: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا} ، يعني: إلى أي مكان تولوا وجوهكم عندا لصلاة. {فَثَمَّ} أي: فهناك وجه الله.
فمنهم من قال: إن الوجه بمعنى الجهة، لقوله تعالى:{وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا} [البقرة: 148]، فالمراد بالوجه الجهة، أي: فثم جهة الله، أي: فثم الجهة التي يقبل الله صلاتكم إليها.
قالوا: لأنها نزلت في حال السفر، إذا صلى الإنسان النافلة، فإنه يصلي حيث كان وجهه، أو إذا اشتبهت القبلة، فإنه يتحرى ويصلي حيث كان وجهه.
ولكن الصحيح أن المراد بالوجه هنا وجه الله الحقيقي، أي: إلى أي جهة تتوجهون، فثم وجه الله سبحانه وتعالى، لأن الله محيط بكل شيء، ولأنه ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المصلي إذا قام يصلي، فإن الله قبل وجهه 1، ولهذا نهى أن يبصق أما وجهه، لأن الله قبل وجهه.
فإذا صليت في مكان لا تدري أن القبلة، واجتهدت وتحريت، وصليت، وصارت القبلة في الواقع خلفك، فالله يكون قبل وجهك، حتى في هذه الحال.
وهذا معنى صحيح موافق لظاهر الآية.
والمعنى الأول لا يخالفه في الواقع.
إذا قلنا: فثم جهة الله، وكان هناك دليل، سواء كان هذا الدليل تفسير الآية الثانية في الوجه الثاني، أو كان الدليل ما جاءت به السنة، فإنك إذا توجهت إلى الله في صلاتك، فهي جهة الله التي يقبل الله صلاتك إليها، فثم أيضاً وجه الله حقاً. وحينئذ يكون المعنيان لا يتنافيان.
واعلم أن هذا الوجه العظيم الموصوف بالجلال والإكرام وجه لا يمكن الإحاطة به وصفاً، ولا يمكن الإحاطة به تصوراً، بل كل شيء تقدره، فإن الله تعالى فوق ذلك وأعظم، كما قال تعالى:{وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه: 110].
فإن قيل: ما المراد بالوجه في قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص: 88]؟ إن قلت: المراد بالوجه الذات، فيخشى أن تكون حرفت وإن أردت بالوجه نفس الصفة أيضاً، وقعت في محظور ـ وهو ما ذهب إليه بعض من لا يقدرون الله حق قدره، حيث قالوا: إن الله يفنى إلا وجهه ـ فماذا تصنع؟!
فالجواب: إن أردت بقولك: إلا ذاته، يعني: أن الله تعالى يبقى هو نفسه مع إثبات الوجه لله، فهذا صحيح، ويكون هنا عبر بالوجه عن الذات لمن له وجه.
وإن أردت بقولك: الذات: أن الوجه عبارة عن الذات بدون