المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ الفرق بين التعطيل والتحريف - شرح العقيدة الواسطية - العثيمين - جـ ١

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌ترجمة المؤلف

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الشارح

- ‌القسم الثاني: توحيد الألوهية:

- ‌شرح مقدمة ابن تيمية

- ‌المراد بالرسول

- ‌ مناسبة "كفى بالله شهيداً"، لقوله: "ليظهره على الدين كله

- ‌قوله: "وسلم تسليماً مزيداً

- ‌ معنى أهل السنة والجماعة

- ‌ أركان الإيمان

- ‌الإيمان بالله يتضمن أربعة أمور:

- ‌ دلالة العقل

- ‌ دلالة الحس

- ‌ دلالة الفطرة

- ‌ دلالة الشرع

- ‌الإيمان بالقدر خيره وشره

- ‌ القول

- ‌ الفعل

- ‌ الإقرار

- ‌ الفرق بين التعطيل والتحريف

- ‌ قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}:

- ‌ قوله: "فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه

- ‌قوله: "ولا يحرفون

- ‌ قوله: "ولا يلحدون

- ‌ الإلحاد في آيات الله

- ‌ قوله: "ولا يكيفون ولا يمثلون

- ‌قوله: "لأنه سبحانه

- ‌قوله: "ولا يقاس بخلقه

- ‌قوله: "فإنه أعلم بنفسه

- ‌قوله: "ثم رسله صادقون

- ‌قوله: "بخلاف الذين يقولون

- ‌ قوله: "وهو سبحانه قد جمع فيما وصف

- ‌ الصفات تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

- ‌ قوله: "فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون

- ‌قوله: "صراط الذين أنعم الله عليهم

- ‌قوله: "وقد دخل في هذه الجملة

- ‌معنى {اللَّهُ}:

- ‌ معنى الصمد

- ‌قوله: "وما وصف به نفسه في أعظم آية

- ‌وقوله: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [

- ‌قوله: " {الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [

- ‌الآية الأولى:

- ‌الآية الثانية:

- ‌الآية الثالثة:

- ‌الآية الرابعة:

- ‌قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ

- ‌قوله: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ

- ‌الآية الأولى:

- ‌الآية الثانية:

- ‌الآية الثالثة:

- ‌الآية الرابعة:

- ‌أقسام الإرادة:

- ‌ الفرق بين الإرادتين

- ‌الآية الأولى:

- ‌الآية الثانية:

- ‌الآية الثالثة:

- ‌الآية الرابعة:

- ‌الآية الخامسة:

- ‌الآية السادسة:

- ‌الآية السابعة:

- ‌الآية الثامنة:

- ‌ الآثار المسلكية

- ‌الآية الأولى:

- ‌الآية الثانية:

- ‌الآية الثالثة:

- ‌الآية الرابعة:

- ‌الآية الخامسة:

- ‌الآية السادسة:

- ‌الآية السابعة:

- ‌صفة الرضى:

- ‌آيات صفات الغضب والسخط والكراهية والبغض:

- ‌الآية الأولى:

- ‌مسألة: إذا تاب القاتل، هل يستحق الوعيد

- ‌الآية الثالثة:

- ‌هل يوصف الله بالحزن والندم

- ‌الآية الرابعة:

- ‌الآية الخامسة:

- ‌الآية الأولى:

- ‌الآية الثانية:

- ‌الآية الرابعة:

- ‌مخالفو أهل السنة والجماعة والرد عليهم:

- ‌الآداب المسلكية المستفادة من الإيمان بصفة المجيء والإتيان لله تعالى:

- ‌الآية الأولى:

- ‌الآية الثانية:

- ‌الآية الأولى:

- ‌الآية الثانية:

- ‌الآية الثالثة: قوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي

- ‌السمع المضاف إلى الله عز وجل ينقسم إلى قسمين:

- ‌الآية الثانية: قوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ

- ‌الآية الثالثة: قوله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ

- ‌الآية الخامسة: قوله: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [

- ‌الآية السادسة: قوله: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ

- ‌الآية السابعة: قوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ

- ‌خلاصة ما سبق من صفتي السمع والرؤية:

- ‌ تعريف المكر والكيد والمحال

- ‌ما نستفيده من الناحية المسلكية:

- ‌آيات الصفات المنفية في تنزيه الله ونفي المثل عنه

- ‌الأية الأولى: قوله: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ

- ‌الآية الثانية: قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [

- ‌الآية الثالثة: قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً

- ‌الآية الرابعة: قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً

- ‌الآية الخامسة: قوله: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً

- ‌الآية التاسعة والعاشرة: قوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ

- ‌الآية الحادية عشرة: قوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ

- ‌الآية الثانية عشرة: قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ

- ‌الفائدة المسلكية من هذه الآية

- ‌استواء الله على عرشه

- ‌الرد عليهم

- ‌الموضع الثاني: في سورة يونس

- ‌الموضع الثالث: في سورة الرعد

- ‌الموضع الرابع: في سورة طه

- ‌الموضع الخامس: في سورة الفرقان

- ‌الموضع السادس: في سورة آلم السجدة

- ‌إثبات علو الله على مخلوقاته

- ‌ ذكر العلماء فيها ثلاثة أقوال:

- ‌الآية الثانية: قوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [

- ‌الآية الثالثة: قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ

- ‌الآية الخامسة والسادسة: قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ

- ‌المبحث الأول: في أقسامها:

- ‌الوجه الأول:

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌ آيات المعية:

- ‌الآية الثانية: قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ

- ‌الآية الرابعة: قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [

- ‌الآية الخامسة: قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا

- ‌الآية السادسة: قوله: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [

- ‌الآية السابعة: قوله: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ

- ‌ الثمرات التي نستفيدها بأن الله معنا

- ‌إثبات الكلام لله تعالى:

- ‌الآية الخامسة: قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى

- ‌الآية التاسعة: قوله: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى

- ‌الآية العاشرة: قوله: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا

- ‌الآية الحادية عشرة: قوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ

- ‌إثبات أن القرآن كلام الله

- ‌الآية الأولى: قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ

- ‌ الدليل العقلي

- ‌قولهم: "وإليه يعود": في معناه وجهان:

- ‌الآية الثانية: قوله: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ

- ‌الآية الرابعة: قوله: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ

- ‌إثبات أن القرآن منزل

- ‌الآية الأولى: قوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [

- ‌الآية الثانية: قوله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ

- ‌الآية الثالثة والرابعة والخامسة: قوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ

- ‌إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة

- ‌الآية الثانية: قوله: {عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [

- ‌الآية الثالثة: قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [

- ‌الآية الرابعة: قوله {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [

الفصل: ‌ الفرق بين التعطيل والتحريف

أي صفة من صفات الله ولا يجحدونها، بل يقرون بها إقراراً كاملاً.

فإن قلت: ما‌

‌ الفرق بين التعطيل والتحريف

؟

قلنا: التحريف في الدليل والتعطيل في المدلول، فمثلاً:

إذا قال قائل: معنى قوله تعالى {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، أي بل قوتاه هذا محرف للدليل، ومعطل للمراد الصحيح، لأن المراد اليد الحقيقية، فقد عطل المعنى المراد، وأثبت معنى غير المراد. وإذا قال: بل يداه مبسوطتان، لا أدري! أفوض الأمر إلى الله، لا أثبت اليد الحقيقية، ولا اليد المحرف إليها اللفظ. نقول: هذا معطل، وليس بمحرف، لأنه لم يغير معنى اللفظ، ولم يفسره بغير مراده، لكن عطل معناه الذي يراد به، وهو إثبات اليد لله عز وجل.

أهل السنة والجماعة يتبرؤون من الطريقتين: الطريقة الأولى: التي هي تحريف اللفظ بتعطيل معناه الحقيقي المراد إلى معنى غير مراد. والطريقة الثانية: وهي طريقة أهل التفويض، فهم لا يفوضون المعنى كما يقول المفوضة بل يقولون: نحن نقول: {بَلْ يَدَاهُ} ، أي: يداه الحقيقيتان {مَبْسُوطَتَانِ} ، وهما غير القوة والنعمة.

فعقيدة أهل السنة والجماعة بريئة من التحريف ومن التعطيل.

وبهذا تعرف ضلال أو كذب من قالوا: إن طريقة السلف هي التفويض، هؤلاء ضلوا إن قالوا ذلك عن جهل بطريقة السلف،

ص: 92

وكذبوا إن قالوا ذلك عن عمد، أو نقول: كذبوا على الوجهين على لغة الحجاز، لأن الكذب عند الحجازيين بمعنى الخطأ.

وعلى كل حال، لا شك أن الذين يقولون: إن مذهب أهل السنة هو التفويض، أنهم أخطأوا، لأن مذهب أهل السنة هو إثبات المعنى وتفويض الكيفية.

وليعلم أن القول بالتفويض ـ كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية (1) ـ من شر أقوال أهل البدع والإلحاد!

عندما يسمع الإنسان التفويض، يقول: هذا جيد، أسلم من هؤلاء وهؤلاء، لا أقول بمذهب السلف، ولا أقول بمذهب أهل التأويل، أسلك سبيلاً وسطاً وأسلم من هذا كله، وأقول: الله أعلم ولا ندري ما معناها. لكن يقول شيخ الإسلام: هذا من شر أقوال أهل البدع والإلحاد

وصدق رحمه الله. وإذا تأملته وجدته تكذيباً للقرآن وتجهيلاً للرسول صلى الله عليه وسلم واستطالة للفلاسفة.

تكذيب للقرآن، لأن الله يقول:{وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وأي بيان في كلمات لا يدرى ما معناها؟ وهي من أكثر ما يرد في القرآن، وأكثر ما ورد في القرآن أسماء الله وصفاته، إذا كنا لا ندري ما معناها، هل يكون القرآن تبياناً لكل شيء؟ أين البيان؟

(1) في "درء التعارض العقل والنقل" لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/ 121).

ص: 93

إن هؤلاء يقولون: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يدري عن معاني القرآن فيما يتعلق بالأسماء والصفات وإذا كان الرسول عليه الصلاة والسلام لا يدري، فغيره من باب أولى.

وأعجب من ذلك يقولون: الرسول صلى الله عليه وسلم يتكلم في صفات الله، ولا يدري ما معناه يقول:"ربنا الله الذي في السماء"(1)، وإذا سئل عن هذا؟ قال: لا أدري وكذلك في قوله: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا"(2) وإذا سئل ما معنى "ينزل ربنا"؟ قال: لا أدري .... وعلى هذا، فقس. وهل هناك قدح أعظم من هذا القدح بالرسول صلى الله عليه وسلم بل هذا من أكبر القدح رسول من عند الله ليبين للناس وهو لا يدري ما معنى آيات الصفات وأحاديثها وهو يتكلم بالكلام ولا يدري معنى ذلك كله.

فهذان وجهان: تكذيب بالقرآن وتجهيل الرسول.

وفيه فتح الباب للزنادقة الذين تطاولوا على أهل التفويض، وقال: أنتم لا تعرفون شيئاً، بل نحن الذين نعرف، وأخذوا يفسرون القرآن بغير ما أراد الله، وقالوا: كوننا نثبت معاني للنصوص خير من كوننا أميين لا نعرف شيئاً وذهبوا يتكلمون بما

(1) سيأتي الحديث بطوله في بداية الجزء الثاني إن شاء الله.

(2)

سيأتي الحديث بطوله في أول الجزء الثاني إن شاء الله وهو في البخاري (7494)، كتا التوحي/ باب قوله تعالى:{يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ} ومسلم (758)؛من حديث أبي هريرة كتاب صلاة المسافرين/ باب الترغيب في الدعاء والذكر في آخر الليل.

ص: 94

يريدون من معنى كلام الله وصفاته!! ولا يستطيع أهل التفويض أن يردوا عليهم، لأنهم يقولون: نحن لا نعلم ماذا أراد الله، فجائز أن يكون الذي يريد الله هو ما قلتم! ففتحوا باب شرور عظيمة، ولهذا جاءت العبارة الكاذبة:"طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم"!.

يقول شيخ الإسلام رحمه الله: "هذه قالها بعض الأغبياء" وهو صحيح، أن القائل غبي.

هذه الكلمة من أكذب ما يكون نطقاً ومدلولاً، "طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم"، كيف تكون أعلم وأحكم وتلك أسلم؟! لا يوجد سلامة بدون علم وحكمة أبداً! فالذي لا يدري عن الطريق، لا يسلم، لأنه ليس معه علم، لو كان معه علم وحكمة، لسلم، فلا سلامة إلا بعلم وحكمة.

إذا قلت: إن طريقة السلف أسلم، لزم أن تقول: هي أعلم وأحكم وإلا لكنت متناقصاً.

إذاً، فالعبارة الصحيحة:"طريقة السلف أسلم وأعلم وأحكم"، وهذا معلوم.

وطريقة الخلف ما قاله القائل (1):

لعمري لقد طفت المعاهد كلها

وسيرت طرفي بين تلك المعالم

(1) هذان البيتين ذكرهما عبد الكريم الشهرستاني في كتابه "نهاية الإقدام في علم علم الكلام". ولم يبين قائلهما. انظر: "الصواعق" لانب القيم (1/ 166)

ص: 95

فلم أرد إلا واضعا كف حائر

على ذقن أو قارعاً سن نادم

هذه الطريقة التي يقول عنها: إنه ما وجد إلا واضعاً كف حائر ذقن. وهذا ليس عنده علم، أو آخر: قارعاً سن نادم لأنه لم يسلك طريق السلامة أبداً.

والرازي -وهو من كبرائهم- يقول (1):

نهاية إقدام العقول عقال

وأكثر سعي العالمين ضلال

وأرواحنا في وحشة من جسومنا

وغاية دنيانا أذى ووبال

ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا

سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا

ثم يقول: "لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية، فما رأيتها تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ووجدت أقرب الطرق طريقة القرآن، أقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [الشورى: 11]، {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً} [طه: 110]، ومن جرب مثل تجربتي، عرف مثل معرفتي".

أهؤلاء نقول: إن طريقتهم أعلم وأحكم؟!

الذي يقول (2): "إني أتمنى أن أموت على عقيدة عجائز

(1) هذه الأبيات للفخر الرازي؛ ذكرها في كتابه "أقسام اللذات"، انظر:"الصواعق" لابن القيم (1/ 167)

(2)

القائل هو أبو المعالي الجويني، انظر:"الصواعق" لابن القيم (1/ 167).

ص: 96

نيسابور" والعجائز من عوام الناس، يتمنى أن يعود إلى الأميات! هل يقال: إنه أعلم وأحكم؟!

أين العلم الذي عندهم؟!

فتبين أن طريقة التفويض طريق خاطئ، لأنه يتضمن ثلاث مفاسد: تكذيب القرآن، وتجهيل الرسول، واستطالة الفلاسفة! وأن الذين قالوا: إن طريقة السلف هي التفويض كذبوا على السلف! أو الذين قالوا: إن طريقة السلف هي التفويض كذبوا على السلف، بل هم يثبتون اللفظ والمعني ويقررونه، ويشرحونه بأوفى شرح.

أهل السنة والجماعة لا يحرفون ولا يعطلون، ويقولون بمعنى النصوص كما أراد الله:{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، بمعنى: علا عليه وليس معناه: استولى. {بِيَدِهِ} : يد حقيقية وليست القوة ولا نعمة، فلا تحريف عندهم ولا تعطيل.

"ومن غير تكييف": (التكييف): لم ترد في الكتاب والسنة، لكن ورد ما يدل على النهي عنها.

التكييف: هو أن تذكر كيفية الصفة، ولهذا تقول: كيف يكيف تكييفاً، أي ذكر كيفية الصفة.

التكييف يسأل عنه بـ (كيف)، فإذا قلت مثلاً: كيف جاء زيدا؟ تقول: راكباً. إذاً: كيفت مجيئه. كيف لون السيارة؟ أبيض. فذكرت اللون.

أهل السنة والجماعة لا يكيفون صفات الله، مستندين في ذلك إلى الدليل السمعي والدليل العقلي:

ص: 97

أما الدليل السمعي، فمثل قوله تعالى:{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 33]، والشاهد في قوله {وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} .

فإذا جاء رجل وقال: إن الله استوى على العرش، على هذه الكيفية ووصف كيفية معينة: نقول: هذا قد قال على الله مالا يعلم! هل أخبرك الله بأنه استوى على هذه الكيفية؟! لا، أخبرنا الله بأنه استوى ولم يخبرنا كيف استوى. فنقول: هذا تكييف وقول على الله بغير علم.

ولهذا قال بعض السلف إذا قال لك الجهمي: إن الله ينزل إلى السماء، فكيف ينزل؟ فقل: إن الله أخبرنا أنه ينزل، ولم يخبرنا كيف ينزل. وهذه قاعدة مفيدة.

دليل آخر من السمع: قال تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36]: لا تتبع ما ليس لك به علم، {إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً} [الإسراء: 36].

وأما الدليل العقلي، فكيفية الشيء لا تدرك إلا بواحد من أمور ثلاثة: مشاهدته، أو مشاهدة نظيره، أو خبر الصادق عنه أي: إما أن تكون شاهدته أنت وعرفت كيفيته. أو شاهدت نظيره، كما لو قال واحد: إن فلاناً اشترى سيارة داتسون موديل ثمان وثمانين رقم ألفين. فتعرف كيفيتها، لأن عندك مثلها أو خبر صادق عنه،

ص: 98

أتاك رجل صادق وقال: إن سيارة فلا صفتها كذا وكذا .. ووصفها تماماً، فتدرك الكيفية الآن.

ولهذا أيضاً قال بعض العلماء جواباً لطيفاً: إن معنى قولنا: "بدون تكييف": ليس معناه ألا نعتقد لها كيفية، بل نعتقد لها كيفية لكن المنفى علمنا بالكيفية لأن استواء الله على العرش لا شك أن له كيفية، لكن لا تعلم، نزوله إلى السماء الدنيا له كيفية، لكن لا تعلم، لأن ما من موجود إلا وله كيفية، لكنها قد تكون معلومة، وقد تكون مجهولة.

سئل الإمام مالك رحمه الله عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5]: كيف استوى؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه العرق، ثم رفع رأسه وقال:"الاستواء غير مجهول"، أي: من حيث المعنى معلوم، لأن اللغة العربية بين أيدينا، كل المواضع التي وردت فيها {اسْتَوَى} معداة بـ (على) معناها العلو فقال:"الاستواء غير مجهول والكيف غير معقول" لأن العقل لا يدرك الكيف، فإذا انتفى الدليل السمعي والعقلي عن الكيفية، وجب الكف عنها، "والإيمان به واجب"، لأن الله أخبر به عنه نفسه، فوجب تصديقه، "والسؤال عن بدعة" (1): السؤال عن الكيفية

(1) رواه اللالكائي في "شرح السنة"(664)، والبيهقي في "الأسماء والصفات (867)، وأبو نعيم في الحلية (6/ 325)، ورواه الدارمي في "الرد على الجهمية" (104)، وابن عبد البرفي "التمهيد" (7/ 151). قال ابن حجر "إسناده جيد" (الفتح: 13/ 407). وقال شيخ الإسلام ابن تيمية بعد قول مالك: "وهذا الجواب ثابت عن ربيعة شيخ مالك، وقد روي هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً ومرفوعاً، ولكن ليس في إسناده مما يعتمد عليه، وهكذا سائر قولهم يوافق مالك" "مجموع الفتاوى" (5/ 365).

ص: 99

بدعة، لأن من أهم أحرص منا على العلم ما سألوا عنها وهم الصحابة لما قال الله:{اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54]، عرفوا عظمة الله عز وجل، ومعنى الاستواء على العرش، وأنه لا يمكن أن تسأل: كيف استوى؟ لأنك لن تدرك ذلك فنحن إذا سئلنا، فنقول: هذا السؤال بدعة.

وكلام مالك رحمه الله ميزان لجميع الصفات، فإن قيل لك مثلاً: إن الله ينزل إلى السماء الدنيا، كيف ينزل؟ فالنزول غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب والسؤال عن بدعة والذين يسألون: كيف يمكن النزول وثلث الليل يتنقل؟! فنقول: السؤال هذا بدعة كيف تسأل عن شيء ما سأل عنه الصحابة وهم أحرص منك على الخير وعلى العلم بما يجب لله عز وجل، ولسنا بأعلم من الرسول عليه الصلاة والسلام، فهو لم يعلمهم. فسؤالك هذا بدعة، ولولا أننا نحسن الظن بك، لقلنا ما يليق بك بأنك رجل مبتدع.

والإمام مالك رحمه الله قال: "ما أراك إلا مبتدعاً" ثم أمر به فأخرج، لأن السلف يكرهون أهل البدع وكلامهم واعتراضاتهم وتقديراتهم ومجادلاتهم.

فأنت يا أخي عليك هذا الباب بالتسليم، فمن تمام

ص: 100

الإسلام لله عز وجل ألا تبحث في هذه الأمور، ولهذا أحذركم دائماً من البحث فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته على سبيل التعنت والتنطع والشيء الذي ما سأل الصحابة عنه، لأننا إذا فتحنا على أنفسنا هذه الأبواب، انفتحت علينا الأبواب، وتهدمت الأسوار، وعجزنا عن ضبط أنفسنا، فلذلك قل: سمعنا وأطعنا وآمنا وصدقنا، آمنا وصدقنا بالخبر وأطعنا الطلب وسمعنا القول، حتى تسلم!

وأي إنسان يسأل فيما يتعلق بصفات الله عن شيء ما سأل عنه الصحابة، فقل كما قال الإمام مالك، فإن لك سلفاً: السؤال عن هذا بدعة. وإذا قلت ذلك، لن يلح عليك، وإذا ألح، فقل: يا مبتدع! السؤال عنه بدعة، اسأل عن الأحكام التي أنت مكلف بها، أما أن تسأل عن شيء يتعلق بالرب عز وجل وبأسمائه وصفاته، ولم يسأل عنه الصحابة، فهذا لا نقبله منك أبداً!

وهناك كلام للسلف يدل على أنهم يفهمون معاني ما أنزل الله على رسوله من الصفات، كما نقل عن الأوزاعي وغيره، نقل عنهم أنهم قالوا في آيات الصفات وأحاديثها:"أمروها كما جاءت بلا كيف"(1)، وهذا يدل على أنهم يثبتون لها معنى من وجهين:

أولاً: أنهم قالوا: "أمروها كما جاءت" ومعلوم أنها ألفاظ جاءت لمعاني ولم تأت عبثاً، فإذا أمررناها كما جاءت، لزم من

(1) أخرجه اللالكائي في"شرح السنة"(875).

ص: 101

ذلك أن نثبت لها معنى.

ثانياً: قوله: "بلا كيف" لأن نفي الكيفية يدل على وجود أصل المعنى، لأن نفي الكيفية عن شيء لا يوجد لغو وعبث.

إذاً، فهذا الكلام المشهور عند السلف يدل على أنهم يثبتون لهذه النصوص معنى.

"ولا تمثيل"؛ يعنى: ومن غير تمثيل، فأهل السنة يتبرؤون من تمثيل الله عز وجل بخلقه، لا في ذاته ولا في صفاته. والتمثيل: ذكر مماثل للشيء، وبينه وبين التكييف عموم وخصوص مطلق، لأن كل ممثل مكيف، وليس كل مكيف ممثلا، لأن التكييف ذكر كيفية غير مقرونة بمماثل، مثل أن تقول: لي قلم كيفيته كذا وكذا. فإن قرنت بمماثل، صار تمثيلاً، مثل أن أقول: هذا القلم مثل هذا القلم، لأني ذكرت شيئاً مماثلا لشيء وعرفت هذا القلم بذكر مماثلة.

وأهل السنة والجماعة يثبتون لله عز وجل الصفات بدون مماثلة، يقولون: إن الله عز وجل له حياة وليست مثل حياتنا، له علم وليس مثل علمنا، له بصر، ليس مثل بصرنا، له وجه وليس مثل وجوهنا له يد وليست مثل أيدينا .... وهكذا جميع الصفات، يقولون: إن الله عز وجل لا يماثل خلقه فيما وصف به نفسه أبداً، ولهم على ذلك أدلة سمعية وأدلة عقلية:

ص: 102

أ- الأدلة السمعية:

تنقسم إلى قسمين: خبر، وطلب.

- فمن الخبر قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فالآية فيها نفي صريح للتمثيل وقوله:{هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً} [مريم: 65]، فإن هذا وإن كان إنشاء، لكنه بمعنى الخبر، لأنه استفهام بمعنى النفي وقوله:{وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]، فهذه كلها تدل على نفي المماثلة، وهي كلها خبرية.

- وأما الطلب، فقال الله تعالى:{فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} [البقرة: 22] أي: نظراء مماثلين. وقال: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل: 74].

فمن مثل الله بخلقه، فقد كذب الخبر وعصى الأمر ولهذا أطلق بعض السلف القول بالتكفير لمن مثل الله بخلقه، فقال نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري رحمه الله:"من شبه الله بخلقه، فقد كفر"(1)، لأنه جمع بين التكذيب بالخبر وعصيان الطلب.

وأما الأدلة العقلية على انتفاء التماثل بين الخالق والمخلوق: فمن وجوه:

(1) رواه اللالكائي في "شرح السنة"(936). والذهبي في "العلو" ص 116 وصححه الألباني، انظر:"سير الأعلام النبلاء"(10/ 610).

ص: 103

أولاً: أن نقولك لا يمكن التماثل بين الخالق والمخلوق بأي حال من الأحوال لو لم يكن بينهما من التباين إلا أصل الوجود، لكان كافياً، وذلك أن وجود الخالق واجب، فهو أزلي أبدي، ووجود المخلوق ممكن مسبوق بعدم ويلحقه فناء، فما كانا كذلك لا يمكن أن يقال: إنهما متماثلان.

ثانياً: أنا نجد التباين العظيم بين الخالق والمخلوق في صفاته وفي أفعاله، في صفاته يسمع عز وجل كل صوت مهما خفي ومهما بعد، لو كان في قعار البحار، لسمعه عز وجل.

وأنزل الله قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1]، تقول عائشة:"الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، إني لفي الحجرة، وإنه ليخفى على بعض حديثها"(1)، والله تعالى سمعها من على عرشه وبينه وبينها ما لا يعلم مداه إلا الله عز وجل، ولا يمكن أن يقول قائل: إن سمع الله مثل سمعنا. ثالثاً: نقول: نحن نعلم أن الله تعالى مباين للخلق بذاته: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [البقرة: 255]، {وَالأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ} [الزمر: 67]، ولا يمكن لأحد من الخلق أن يكون هكذا، فإذا كان مبايناً للخلق في ذاته، فالصفات تابعة للذات، فيكون أيضاً مبايناً للخلق في صفاته عز وجل، ولا يمكن

(1) رواه البخاري معلقاً"الفتح"(131/ 372) في كتاب التوحيد/ باب {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} . وقد وصله الإمام أحمد في "المسند"(6/ 46)، وابن كثير 4/ 286 ، وابن ماجة بهذا اللفظ، ورواه ايضاً لفظ "تبارك"(2063).

ص: 104

التماثل بين الخالق والمخلوق.

رابعاً: نقول: إننا نشاهد في المخلوقات أشياء تتفق في الأسماء وتختلف في المسميات، يختلف الناس في صفاتهم: هذا قوي البصر وهذا ضعيف، وهذا قوي السمع وهذا ضعيف، هذا قوي البدن وهذا ضعيف وهذا ذكر وهذا أنثى .... وهكذا التباين في المخلوقات التي من جنس واحد، فما بالك بالمخلوقات المختلفة الأجناس؟ فالتباين بينها أظهر ولهذا، لا يمكن لأحد أن يقول: إن لي يداً كيد الجمل، أولي يداً كيد الذرة، أول يداً كيد الهر، فعندنا الآن إنسان وجمل وذرة وهر، كل واحد له يد مختلفة عن الثاني، مع أنها متفقة في الاسم فنقول: إذا جاز التفاوت بين المسميات في المخلوقات مع اتفاق الاسم، فجوازه بين الخالق والمخلوق ليس جائزاً فقط، بل هو واجب، فعندنا أربعة وجوه عقلية كلها تدل على أن الخالق لا يمكن أن يماثل المخلوق بأي حال من الأحوال.

ربما نقول أيضاً: هناك دليل فطري، وذلك لأن الإنسان بفطرته بدون أن يلقن يعرف الفرق بين الخالق والمخلوق ولولا هذه الفطرة، ما ذهب يدعو الخالق.

فتبين الآن أن التمثيل منتف سمعاً وعقلاً وفطرة.

فإن قال قائل: إن النبي صلى الله عليه وسلم حدثنا بأحاديث تشتبه علينا، هل هي تمثيل أو غير تمثيل؟ ونحن نضعها بين أيديكم:

ص: 105

- قال النبي صلى الله عليه وسلم "إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليل لبدر، لا تضامون في رؤيته"(1)، فقال:"كما" والكاف للتشبيه، وهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن من قاعدتنا أن نؤمن بما قال الرسول كما نؤمن بما قال الله، فأجيبوا عن هذا الحديث؟

نقول: نجيب عن هذا الحديث وعن غيره بجوابين: الجواب الأول مجمل والثاني مفصل.

فالأول المجمل: أنه لا يمكن أن يقع تعارض بين كلام الله وكلام رسوله الذي صح عنه أبداً، لأن الكل حق، والحق لا يتعارض، والكل من عند الله، وما عند الله تعالى لا يتناقض {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء: 82]، فإن وقع ما يوهم التعارض في فهمك، فأعلم أن هذا ليس بحسب النص، ولكن باعتبار ما عندك، فأنت إذا وقع التعارض عندك في نصوص الكتاب والسنة، فإما لقلة العلم، وإما لقصور الفهم، وإما للتقصير في البحث والتدبر، ولو بحثت وتدبرت، لوجدت أن التعارض الذي توهمته لا أصل له، وإما لسوء القصد والنية، بحيث تستعرض ما ظاهره التعارض لطلب التعارض، فتحرم التوفيق، كأهل الزيغ الذين يتبعون المتشابه.

ويتفرع على هذا الجواب المجمل أنه يجب عليك عند الاشتباه أن ترد المشتبه إلى المحكم، لأن هذه الطريق

(1) رواه البخاري (554) في كتاب مواقيت الصلاة/ باب فضل صلاة العصر، ومسلم (633) عن جرير بن عبد الله، في كتاب المساجد/ باب فضل صلاتي الصبح والعصر. وسوف يأتي الحديث بطوله في بداية الجزء الثانيبإذن الله.

ص: 106

الراسخين في العلم، قال الله تعالى:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَاّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، ويحملون المتشابه على المحكم حتى يبقى النص كله محكماً.

وأما الجواب المفصل، فأن نجيب عن كل نص بعينه فنقول:

إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته" ليس تشبيهاً للمرئي بالمرئي، ولكنه تشبيه للرؤية بالرؤية، "سترون

كما ترون"، فالكاف في: "كما ترون": داخله على مصدر مؤول، لأن (ما) مصدرية، وتقدير الكلام: كرؤيتكم القمر ليلة البدر وحينئذ يكون التشبيه للرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي، والمراد أنكم ترونه رؤية واضحة كما ترون القمر ليلة البدر ولهذا أعقبه بقوله: "لا تضامون في رؤيته" أو: "لا تضارون في رؤيته" فزال الإشكال الآن.

- قال النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله خلق آدم على صورته"(1)، والصورة مماثلة للأخرى، ولا يعقل صورة إلا مماثلة للأخرى، ولهذا أكتب لك رسالة، ثم تدخلها الآلة الفوتوغرافية، وتخرج الرسالة، فيقال: هذه صورة هذه، ولا فرق بين الحروف

(1) رواه البخاري (6227) في كتاب الاستئذان/ باب بدء السلام، ومسلم (2612) في كتاب البر/ باب النهي عن ضرب الوجه عن أبي هريرةرضي الله عنه.

ص: 107

والكلمات، فالصورة مطابقة للصورة، والقائل:"إن الله خلق آدم على صورته": الرسول عليه الصلاة والسلام أعلم وأصدق وأنصح وأفصح الخلق.

والجواب المجمل أن نقول: لا يمكن أن يناقض هذا الحديث قوله تعالى {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فإن يسر الله لك الجمع، فاجمع، وإن لم يتيسر، فقل:{آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: 7]، وعقيدتنا أن الله لا مثيل له، بهذا تسلم أما الله عز وجل.

هذا كلام الله، وهذا كلام رسوله، والكل حق، ولا يمكن أن يكذب بعضه بعضاً، لأنه كله خبر وليس حكماً كي ينسخ، فأقول: هذا نفي للماثلة، وهذا إثبات للصورة، فقل: إن الله ليس كمثله شيء، وإن الله خلق آدم على صورته، فهذا كلام الله، وهذا كلام رسوله والكل حق نؤمن به، ونقول: كل من عند ربنا، ونسكت وهذا هو غاية ما نستطيع.

وأما الجواب المفصل، فنقول: إن الذي قال: "إن الله خلق آدم على صورته" رسول الذي قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] والرسول لا يمكن أن ينطلق بما يكذب المرسل والذي قال: "خلق آدم على صورته": هو الذي قال: "إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر"(1)، فهل أنت تعتقد أن هؤلاء الذين

(1) رواه البخاري (3254) في كتاب بدء الخلق/ باب ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة، ومسلم (2834) في كتاب الجنة/ باب في صفات الجنة وأهلها عن أبي هريرة رضي الله عنه.

ص: 108

يدخلون الجنة على صورة القمر من كل وجه أو تعتقد أنهم على صورة البشر لكن في الوضاءة والحسن والجمل واستدارة الوجه وما أشبه ذلك على صورة القمر، لا من كل وجه؟! فإن قلت بالأول، فمقتضاه أنهم دخلوا وليس لهم أعين وليس لهم آناف وليس لهم أفواه! وإن شئنا قلنا: دخلوا وهم أحجار! وإن قلت بالثاني؛ زال الإشكال، وتبين أنه لايلزم من كون الشيء على صورة الشيء أن يكون مماثلاً له من كل وجه.

فإن أبى فهمك، وتقاصر عن هذا، وقال: أنا لا أفهم إلا أنه مماثل.

قلنا: هناك جواب آخر، وهو أن الإضافة هنا من باب إضافة المخلوق إلى خالقه، فقوله:"على صورته"، مثل قوله عزوجل في آدم:{وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [ص: 72]، ولا يمكن أن الله عز وجل أعطى آدم جزءاً من روحه، بل المراد الروح التي خلقها الله عز وجل، لكن إضافتها إلى الله بخصوصها من باب التشريف، كما نقول: عباد الله، يشمل الكافر والمسلم والمؤمن والشهيد والصديق والنبي لكننا لو قلنا: محمد عبد الله، هذه إضافة خاصة ليست كالعبودية السابقة.

فقوله: "خلق آدم على صورته"، يعني: صورة من الصور التي خلقها الله وصورها، كما قال تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ} [الأعراف: 11]، والمصور أدم إذاً، فآدم على صورة الله، يعني: أن الله هو الذي صوره

ص: 109

على هذه الصورة التي تعد أحسن صورة في المخلوقات، {لَقَدْ خَلَقْنَا الأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]، فإضافة الله الصورة إليه من باب التشريف، كأنه عز وجل اعتنى بهذه الصورة ومن أجل ذلك، لا تضرب الوجه، فتعيبه حساً، ولا تقبحه فتقول: قبح الله وجهك ووجه من أشبه وجهك، فتعيبه معنى، فمن أجل أنه الصورة التي صورها الله وأضافها إلى نفسه تشريفاً وتكريماً، لا تقبحها بعيب حسي ولا بعيب معنوي.

ثم هل يعتبر هذا الجواب تحريفاً أم له نظير؟

نقول: له نظير، كما في: بيت الله، وناقة الله، وعبد الله، لأن هذه الصورة (أي: صورة آدم) منفصلة بائنة من الله وكل شيء أضافه الله إلى نفسه وهو منفصل بائن عنه، فهو من المخلوقات، فحينئذ يزول الإشكال.

ولكن إذا قال لقائل: أيما أسلم المعنى الأول أو الثاني؟ قلنا: المعنى الأول أسلم، ما دمنا نجد أن لظاهر اللفظ مساغاً في اللغة العربية وإمكاناً في العقل، فالواجب حمل الكلام عليه ونحن وجدنا أن الصورة لا يلزم منها مماثلة الصورة الأخرى، وحينئذ يكون الأسلم أن نحمله على ظاهره.

فإذا قلت: ما هي الصورة التي تكون لله ويكون أدم عليها؟

قلنا: إن الله عز وجل له وجه وله عين وله يد وله رجل عز وجل، لكن لا يلزم من أن تكون هذه الأشياء مماثلة للإنسان، فهناك شيء من الشبه لكنه ليس على سبيل المماثلة، كما أن

ص: 110

الزمرة الأولى من أهل الجنة فيها شبه من القمر لكن بدون مماثلة، وبهذا يصدق ما ذهب إليه أهل السنة والجماعة، من أن جميع صفات الله سبحانه وتعالى ليست مماثلة لصفات المخلوقين، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل.

نسمع كثيراً من الكتب الني نقرأها يقولون: تشبيه، يعبرون بالتشبيه وهم يقصدون التمثيل، فأيما أولى: أنعبر بالتشبيه، أو نعبر بالتمثيل؟

نقول: بالتمثيل أولى.

أولاً: لأن القرآن عبر به: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً} [البقرة: 22] .. وما أشبه ذلك، وكل ما عبر به القرآن، فهو أولى من غيره، لأننا لا نجد أفصل من القرآن ولا أدل على المعنى المراد من القرآن، والله أعلم بما يريده من كلامه، فتكون موافقة القرآن هي الصواب، فنعبر بنفي التمثيل. وهكذا في كل مكان، فإ، موافقة النص في اللفظ أولى من ذكر لفظ مرادف أو مقارب.

ثانياً: أن التشبيه عند بعض الناس يعني إثبات الصفات ولهذا يسمون أهل السنة: مشبهة، فإن قلنا: من غير تشبيه. وهذا الرجل لا يفهم من التشبيه إلا إثبات الصفات، صار كأننا نقول له: من غير إثبات صفات! فصار معنى التشبيه. وهذا الرجل لا يفهم من التشبيه إلا إثبات الصفات، صار كأننا نقول له: من غير إثبات صفات! فصار معنى التشبيه يوهم معنى فاسداً فلهذا كان العدول عنه أولى.

ص: 111

ثالثاً: أن نفي التشبيه على الإطلاق غير صحيح، لأن ما من شيئين من الأعيان أو من الصفات إلا وبينهما اشتراك من بعض الوجوه، والاشتراك نوع تشابه، فلو نفيت التشبيه مطلقاً، لكنت نفيت كل ما يشترك فيه الخالق والمخلوق في شيء ما.

مثلاً: الوجود، يشترك في أصله الخالق والمخلوق، هذا نوع اشتراك ونوع تشابه، لكن فرق بين الوجودين، وجود الخالق واجب ووجود المخلوق ممكن.

وكذلك السمع، فيه اشتراك، الإنسان له سمع، والخالق له سمع، لكن بينهما فرق، لكن اصل وجود السمع المشترك.

فإذا قلنا: من غير تشبيه. ونفينا مطلق التشبيه، صار في هذا إشكال.

وبهذا عرفنا أن التعبير بالتمثيل أولى من ثلاثة أوجه.

فإن قلت: ما الفرق بين التكييف والتمثيل؟

فالجواب: الفرق بينهما من وجهين:

الأول: أن التمثيل ذكر الصفة مقيدة بمماثل، فتقول يد فلان مثل يد فلان، والتكييف ذلك الصفة غير مقيدة بمماثل، مثل أن تقول: كيفية يد فلا كذا وكذا.

وعلى هذا نقول: كل ممثل مكيف، ولا عكس.

الثاني: أن الكيفية لا تكون إلا في الصفة والهيئة، والتمثيل يكون في ذلك وفي العدد، كما في قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ

ص: 112

سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} [الطلاق: 12]، أي: في العدد.

* قوله: "بل يؤمن بأن الله سبحانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ".

الشرح:

قوله: "بل يؤمنون

"؛ أي: يقر أهل السنة والجماعة بذلك إقراراً وتصديقاً بأن الله ليس كمثله شيء، كما قال عن نفسه:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11]، فهنا نفى المماثلة، ثم أثبت السمع والبصر فنفى العيب، ثم أثبت الكمال، لأن نفي العيب قبل إثبات الكمال أحسن، ولهذا يقال: التخلية قبل التحلية. فنفي العيوب يبدأ به أولاً، ثم يذكر إثبات الكمال.

وكلمة {شَيْءٌ} نكرة في سياق النفي، فتعم كل شيء، ليس شيء مثله أبداً عز وجل أي مخلوق وإن عظم، فليس مماثلاً لله عز وجل، لأن مماثلة الناقص نقص، بل إن طلب المفاضلة بين الناقص والكامل تجعله ناقصاً، كما قيل:

ألم تر أن السيف ينقص قدره

إذا قيل إن السيف أمضى من العصا

فهنا لو قلنا: إن لله مثيلاً، لزم من ذلك تنقص الله عز وجل، فلهذا نقول: نفى الله عن نفسه مماثلة المخلوقين، لأن مماثلة المخلوقين نقص وعيب، لأن المخلوق ناقص، وتمثيل

ص: 113