الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي الآية من الأسماء والصفات ما سبق في التي قبلها.
الآية الثامنة:
قوله: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} [البروج: 14].
{الْغَفُورُ} : الساتر لذنوب عباده المتجاوز عنها.
{الْوَدُودُ} مأخوذ من الود، وهو خالص المحبة، وهي بمعنى: واد، وبمعنى: مودود، لأنه عز وجل محب ومحبوب، كما قال تعالى:{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة: 54]، فالله عز وجل واد ومودو، واد لأوليائه، وأولياؤه يودونه يحبونه، يحبون الوصول إليه وإلى جنته ورضوانه.
وفي الآية اسمان من أسماء الله: الغفور، والودود. وصفتان: المغفرة، والود.
وأتمنى لو أن المؤلف أضاف آية تاسعة في المحبة، وهي الخلة، لقوله تعالى:{وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} [النساء: 125]، والخليل هو من كان في أعلى المحبة، فالخلة أعلى أنواع المحبة، لأن الخليل هو الذي وصل حبه إلى سويداء القلب وتخلل مجاري عروقه، وليس فوق الخلة شيء من أنواع المحبة أبداً.
يقول الشاعر لمعشوقته:
قد تخللت مسلك الروح مني
…
وبذا سمي الخليل خليلاً
فالنبي عليه الصلاة والسلام يحب أصحابه كلهم، لكن ما
اتخذ واحداً منهم خليلاً أبداً، قال النبي عليه الصلاة وهو يخطب الناس:"لو كنت متخذاً خليلاً من أمتي لاتخذت أبا بكر"(1)، إذاً، أبو بكر هو أحب الناس إليه، لكن لم يصل إلى درجة الخلة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يتخذ أحداً خليلاً، لكن إخوة الإسلام ومودته، وأما الخلة، فهي بينه وبين ربه، قال النبي صلى الله عليه وسلم:" إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً"(2).
والخلة لا نعلم أنها ثبتت لأحد من البشر، إلا لاثنين، هما إبراهيم محمد عليهما الصلاة والسلام، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:"إن الله اتخذني خليلاً".
وهذه الخلة صفة من صفات الله عز وجل، لأنها أعلى أنواع المحبة، وهي توقيفية، فلا يجوز أن نثبت لأحد من البشر أنه خليل إلا بدليل، حتى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، إلا هذين الرسولين الكريمين، فهما خليلان لله عز وجل.
وهذه الآية: {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً} هي التي استشهد بها من قتل الجعد بن درهم رأس المعطلة الجهمية، أول ما أنكر قال: إن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً ولم يكلم موسى تكليماً فقتله خالد بن عبد الله القسري رحمه الله (3)، حيث خرج به موثقاً في يوم عيد
(1) رواه البخاري (2356) ، رواه مسلم (2383) كتاب فضائل الصحابة/ باب فضائل أبي بكر الصديق.
(2)
رواه مسلم (532) عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه.
(3)
خالد بن عبد الله القسري، قال الذهبي: "الأمير أبو الهيثم الذهلي صاحب ما وراء النهر، له آثار حميدة ببخارى أكرم بها المحدثون وأعطاهم، طلب منه البخاري أن يحدث بقصره الصحيح يسمعه أولاده فأبى، فتألم، وأخرجه من البخارى
…
كان يمشي في طلب الحديث ولا يركب، وأنفق في ذلك ألف ألف درهم، مات سنة سبعين ومأتين" "سير الأعلام النبلاء" (13/ 137)
الأضحى، وخطب الناس، وقال: أيها الناس ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإن مضح بالجعد بن درهم، لأنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى تكليماً، ثم نزل فذبحه (1).
ويقول ابن القيم في ذلك (2):
ولأجل ذا ضحى بجعد خالد
…
القسري يوم ذبائح القربان
إذ قال إبراهيم ليس خليله
…
كلا ولا موسى الكليم الداني
شكر الضحية كل صاحب سنة
…
لله درك من أخي قربان
فلدينا الآن محبة وود وخلة، فالمحبة والود مطلقة، والخلة خاصة بإبراهيم ومحمد.
ويجب أن يكون اعتمادنا في الأمور الغيبية على الأدلة السمعية، لكن لا مانع من أن نستدل بأدلة عقلية، لإلزام من أنكر أن تكون المحبة ثابتة بالأدلة العقلية، مثل الأشاعرة، يقولون: لا يمكن أن تثبت المحبة بين الله وبين العبد أبداً، لأن العقل لا يدل عليها، وكل ما لا يدل عليه العقل، فإنه يجب أن ننزه الله عنه.
(1) ذكرها البخاري في"خلق أفعال العباد" برقم (12) ، والدارمي في الرد على الجهمية (17) ، وقوى إسناده الألباني في مختصر العلو (135) ، وانظر مختصر الصواعق لابن القيم (13/ 1071).
(2)
"الكافية الشافية" لابن القيم بشرح ابن عيسى (1/ 50).
فنحن نقول: نثبت المحبة بالأدلة العقلية، كما هي ثابتة عندنا بالأدلة السمعية، احتجاجاً على من أنكر ثبوتها بالعقل، فنقول وبالله التوفيق:
إثابة الطائعين بالجنات والنصر والتأييد وغيره، هذا يدل بلا شك على المحية، ونحن نشاهد بأعيننا ونسمع بآذاننا عمن سبق وعمن لحق أن الله عز وجل أيد من أيد من عباده المؤمنين ونصرهم وأثابهم، وهل هذا إلا دليل على المحبة لمن أيدهم ونصرهم وأثابهم عز وجل؟!
وهنا سؤالان:
الأول: بماذا ينال الإنسان محبة الله عز وجل؟ وهذه هي التي يطلبها كل إنسان، والمحبة عبارة عن أمر فطري يكون في الإنسان ولا يملكه، ولهذا يروى أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال في العدل بين زوجاته:"هذا قسمي فيما أملك، فلا تلمني فيما لا أملك"(1)؟
فالجواب: أن المحبة لها أسباب كثيرة:
منها: أن ينظر الإنسان: من الذي خلقه؟ ومن الذي أمده
(1) رواه أحمد (6/ 144) ، وأبو داود (2134) ، وابن ماجة (1971) ، والنسائي (7/ 64) ، والترمذي (1140) ، وابن حبان (10/ 5) ، والحاكم (2/ 187)؛ وصححه ووافقه الذهبي. واختلف في وصله وإرساله. وانظر "ارواء الغليل"(2018).
بالنعم منذ كان في بطن أمه؟ ومن الذي أجرى إليك الدم في عروقك قبل أن تنزل إلى الأرض إلا الله عز وجل؟ من الذي دفع عنك النقم التي انعقدت أسبابها، وكثيراً ما تشاهد بعينك آفات ونقماً تهلكك، فيرفعها الله عنك؟
وهذا لا شك أنه يجلب المحبة، ولهذا ورد في الأثر:"أحبوا الله لما يغذوكم به من النعم"(1).
واعتقد لو أن أحداً أهدى إليك قلماً، لأحببته، فإذا كان كذلك، فأنت انظر نعمة الله عليك النعم العظيمة الكثيرة التي لا تحصيها، تحب الله.
ولهذا إذا جاءت النعمة وأنت في حاجة شديدة إليها، تجد قلبك ينشرح، وتحب الذي أسداها إليك، بخلاف النعم الدائمة، فأنت تذكر هذه النعم التي أعطاك الله، وتذكر أيضاً أن الله فضلك على كثير من عباده المؤمنين، إن كان الله من عليك بالعلم، فقد فضلك بالعلم، أو بالعبادة، فقد فضلك بالعبادة، أو بالمال: فقد فضلك بالمال، أو بالأهل، فقد فضلك بالأهل، أو بالقوت فقد فضلك بالقوت، وما من نعمة إلا وتحتها ما هو دونها، فأنت إذا رأيت هذه النعمة العظيمة، شكرت الله وأحببته.
(1) رواه الترمذي/ كتاب المناقب (3789)، والحاكم (2/ 150) البيهقي في الشعب (1378) ، والطبراني (3/ 31) ، وأبو نعيم في الحلية (3/ 211) ، والحديث ضعفه الألباني في تعليقه على "فقه السيرة"(23).