المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

وتكريم، كإضافة الناقة والبيت إلى الله والمساجد إلى الله. والقول - شرح العقيدة الواسطية - العثيمين - جـ ١

[ابن عثيمين]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌ترجمة المؤلف

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الشارح

- ‌القسم الثاني: توحيد الألوهية:

- ‌شرح مقدمة ابن تيمية

- ‌المراد بالرسول

- ‌ مناسبة "كفى بالله شهيداً"، لقوله: "ليظهره على الدين كله

- ‌قوله: "وسلم تسليماً مزيداً

- ‌ معنى أهل السنة والجماعة

- ‌ أركان الإيمان

- ‌الإيمان بالله يتضمن أربعة أمور:

- ‌ دلالة العقل

- ‌ دلالة الحس

- ‌ دلالة الفطرة

- ‌ دلالة الشرع

- ‌الإيمان بالقدر خيره وشره

- ‌ القول

- ‌ الفعل

- ‌ الإقرار

- ‌ الفرق بين التعطيل والتحريف

- ‌ قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}:

- ‌ قوله: "فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه

- ‌قوله: "ولا يحرفون

- ‌ قوله: "ولا يلحدون

- ‌ الإلحاد في آيات الله

- ‌ قوله: "ولا يكيفون ولا يمثلون

- ‌قوله: "لأنه سبحانه

- ‌قوله: "ولا يقاس بخلقه

- ‌قوله: "فإنه أعلم بنفسه

- ‌قوله: "ثم رسله صادقون

- ‌قوله: "بخلاف الذين يقولون

- ‌ قوله: "وهو سبحانه قد جمع فيما وصف

- ‌ الصفات تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

- ‌ قوله: "فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون

- ‌قوله: "صراط الذين أنعم الله عليهم

- ‌قوله: "وقد دخل في هذه الجملة

- ‌معنى {اللَّهُ}:

- ‌ معنى الصمد

- ‌قوله: "وما وصف به نفسه في أعظم آية

- ‌وقوله: {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} [

- ‌قوله: " {الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} [

- ‌الآية الأولى:

- ‌الآية الثانية:

- ‌الآية الثالثة:

- ‌الآية الرابعة:

- ‌قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ

- ‌قوله: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ

- ‌الآية الأولى:

- ‌الآية الثانية:

- ‌الآية الثالثة:

- ‌الآية الرابعة:

- ‌أقسام الإرادة:

- ‌ الفرق بين الإرادتين

- ‌الآية الأولى:

- ‌الآية الثانية:

- ‌الآية الثالثة:

- ‌الآية الرابعة:

- ‌الآية الخامسة:

- ‌الآية السادسة:

- ‌الآية السابعة:

- ‌الآية الثامنة:

- ‌ الآثار المسلكية

- ‌الآية الأولى:

- ‌الآية الثانية:

- ‌الآية الثالثة:

- ‌الآية الرابعة:

- ‌الآية الخامسة:

- ‌الآية السادسة:

- ‌الآية السابعة:

- ‌صفة الرضى:

- ‌آيات صفات الغضب والسخط والكراهية والبغض:

- ‌الآية الأولى:

- ‌مسألة: إذا تاب القاتل، هل يستحق الوعيد

- ‌الآية الثالثة:

- ‌هل يوصف الله بالحزن والندم

- ‌الآية الرابعة:

- ‌الآية الخامسة:

- ‌الآية الأولى:

- ‌الآية الثانية:

- ‌الآية الرابعة:

- ‌مخالفو أهل السنة والجماعة والرد عليهم:

- ‌الآداب المسلكية المستفادة من الإيمان بصفة المجيء والإتيان لله تعالى:

- ‌الآية الأولى:

- ‌الآية الثانية:

- ‌الآية الأولى:

- ‌الآية الثانية:

- ‌الآية الثالثة: قوله: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي

- ‌السمع المضاف إلى الله عز وجل ينقسم إلى قسمين:

- ‌الآية الثانية: قوله: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ

- ‌الآية الثالثة: قوله: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ

- ‌الآية الخامسة: قوله: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} [

- ‌الآية السادسة: قوله: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ

- ‌الآية السابعة: قوله: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ

- ‌خلاصة ما سبق من صفتي السمع والرؤية:

- ‌ تعريف المكر والكيد والمحال

- ‌ما نستفيده من الناحية المسلكية:

- ‌آيات الصفات المنفية في تنزيه الله ونفي المثل عنه

- ‌الأية الأولى: قوله: {فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ

- ‌الآية الثانية: قوله: {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [

- ‌الآية الثالثة: قوله: {فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَاداً

- ‌الآية الرابعة: قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَاداً

- ‌الآية الخامسة: قوله: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً

- ‌الآية التاسعة والعاشرة: قوله: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ

- ‌الآية الحادية عشرة: قوله: {فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ

- ‌الآية الثانية عشرة: قوله: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ

- ‌الفائدة المسلكية من هذه الآية

- ‌استواء الله على عرشه

- ‌الرد عليهم

- ‌الموضع الثاني: في سورة يونس

- ‌الموضع الثالث: في سورة الرعد

- ‌الموضع الرابع: في سورة طه

- ‌الموضع الخامس: في سورة الفرقان

- ‌الموضع السادس: في سورة آلم السجدة

- ‌إثبات علو الله على مخلوقاته

- ‌ ذكر العلماء فيها ثلاثة أقوال:

- ‌الآية الثانية: قوله: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [

- ‌الآية الثالثة: قوله: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ

- ‌الآية الخامسة والسادسة: قوله: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ

- ‌المبحث الأول: في أقسامها:

- ‌الوجه الأول:

- ‌الوجه الثاني:

- ‌الوجه الثالث:

- ‌ آيات المعية:

- ‌الآية الثانية: قوله: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ

- ‌الآية الرابعة: قوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [

- ‌الآية الخامسة: قوله: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا

- ‌الآية السادسة: قوله: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [

- ‌الآية السابعة: قوله: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ

- ‌ الثمرات التي نستفيدها بأن الله معنا

- ‌إثبات الكلام لله تعالى:

- ‌الآية الخامسة: قوله: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى

- ‌الآية التاسعة: قوله: {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى

- ‌الآية العاشرة: قوله: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا

- ‌الآية الحادية عشرة: قوله: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ

- ‌إثبات أن القرآن كلام الله

- ‌الآية الأولى: قوله: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ

- ‌ الدليل العقلي

- ‌قولهم: "وإليه يعود": في معناه وجهان:

- ‌الآية الثانية: قوله: {وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ

- ‌الآية الرابعة: قوله: {وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ

- ‌إثبات أن القرآن منزل

- ‌الآية الأولى: قوله: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [

- ‌الآية الثانية: قوله: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ

- ‌الآية الثالثة والرابعة والخامسة: قوله: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ

- ‌إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة

- ‌الآية الثانية: قوله: {عَلَى الأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ} [

- ‌الآية الثالثة: قوله: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [

- ‌الآية الرابعة: قوله {لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [

الفصل: وتكريم، كإضافة الناقة والبيت إلى الله والمساجد إلى الله. والقول

وتكريم، كإضافة الناقة والبيت إلى الله والمساجد إلى الله. والقول الثاني: أنه على صورته حقيقة ولا يلزم من ذلك التماثل.

‌الآية الثانية:

قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} [المائدة: 64].

{الْيَهُودُ} : هم أتباع موسى عليه الصلاة والسلام.

سموا يهوداً، قيل: لأنهم قالوا: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ} [الأعراف: 156]، وبناء على هذا يكون الاسم عربياً، لأن هاد يهود ـ إذا رجع ـ عربي.

وقيل: أن أصله يهوذا، اسم أحد أولاء يعقوب، واليهود من نسبوا إليه، لكن عند التعريب صارت الذال دالاً، فقيل: يهود.

وأياً كان، لا يهمنا أن أصله هذا أو هذا.

ولكننا نعلم أن اليهود هم طائفة من بني إسرائيل، اتبعوا موسى عليه الصلاة والسلام.

وهؤلاء اليهود من أشد الناس عتواً ونفوراً، لأن عتو فرعون وتسلطه عليهم جعل ذلك ينطبع في نفوسهم، وصار فيهم العتو على الناس، بل وعلى الخالق عز وجل، فهم يصفون الله تعالى بأوصاف العيوب ـ قبحهم الله، وهم أهلها.

يقولون: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} ، أي: محبوسة عن الإنفاق، كما قال الله تعالى:{وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ} [الإسراء: 29]، أي: محبوسة عن الإنفاق.

ص: 294

وقالوا: {إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ} [آل عمران: 181]!

أما قولهم: إن يد الله مغلولة، فقالوا: لولا أنها مغلولة، لكان الناس كلهم أغنياء، فكونه يجود على زيد ولا يجود على عمرو: هذا هو الغل وعدم الإنفاق!!

وقالوا: إن الله فقير، لأن الله قال:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} [البقرة: 245]، فقالوا للرسول عليه الصلاة والسلام: يا محمد! إن ربك افتقر، صار يستقرض منا. قاتلهم الله!!

وقالت اليهود أيضاً: إن الله عاجز، لأن حين خلق السماوات والأرض، استراح يوم السبت، وجعل العطلة محل عيد، فصار عيدهم يوم السبت. قاتلهم الله!!

هنا يقول الله عز وجل: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} : {يَدُ} : أفردوها، لأن اليد الواحد أقل عطاء من اليدين الثنتين، ولهذا جاء الجواب بالتثنية والبسط، فقال:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} .

ولما وصفوا الله بهذا العيب، عاقبهم الله بما قالوا، فقال:{غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} ، أي: منعت عن الإنفاق، ولهذا كان اليهود أشد الناس جمعاً للمال ومنعاً للعطاء، فهم أبخل عباد الله، وأشدهم شحاً في طلب المال، ولا يمكن أن ينفقوا فلساً، إلا وهم يظنون أنهم سيكسبون بدله درهماً، ونرى نحن الآن لهم جمعيات كبيرة وعظيمة، لكن هم يريدون من وراء هذه الجمعيات والتبرعات أكثر وأكثر، يريدون أن يسيطروا على العالم.

ص: 295

فإذا، لا تقل أيها الإنسان: كيف نجمع بين قوله تعالى: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} ، وبين الواقع اليوم بالنسبة لليهود؟! لأن هؤلاء القوم يبذلون ليربحوا أكثر.

{وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا} ، أي: طردوا وأبعدوا عن رحمة الله عز وجل، لأن البلاء موكل بالمنطق، فهم لما وصفوا الله بالإمساك، طردوا وأبعدوا عن رحمته، قيل لهم: إذا كان الله عز وجل كما قلتم لا ينفق، فليمنعكم رحمته حتى لا يعطيكم من جوده، فعوقبوا بأمرين:

1 -

بتحويل الوصف الذي عابوا به الله سبحانه إليهم بقوله: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ} .

2 -

وبإلزامهم بمقتضى قولهم، بإبعادهم عن رحمة الله، حتى لا يجدوا جود الله وكرمه وفضله.

{بِمَا قَالُوا} : الباء هنا للسببية، وعلامة الباء التي للسببية: أن يصح أن يليها كلمة (سبب).

و (ما) هنا يصح أن تكون مصدرية، ويصح أن تكون موصولة، فإن كانت موصولة، فالعائد محذوف، وتقديره: بالذي قالوه. وإن كانت مصدرية، فالفعل يحول إلى مصدر، أي: بقولهم.

ثم أبطل الله سبحانه وتعالى دعواهم، فقال:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} .

ص: 296

{بَلْ} : هنا للإضراب الإبطالي.

وانظر كيف اختلف التعبير: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ، لأن المقام مقام تمدح بالكرم، والعطاء باليدين أكل من العطاء باليد الواحدة.

{مَبْسُوطَتَانِ} : ضد قولهم: {مَغْلُولَةٌ} ، فيد الله تعالى مبسوطتان واسعتا العطاء:

كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يد الله ملأى سحاء (كثيرة العطاء) الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق مذ خلق السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما فيه يمينه"(1).

من يحصى ما أنفق الله منذ خلق السماوات والأرض؟! لا يحصيه أحد! ومع ذلك لم يغض ما في يمينه.

وهذا كقوله تعالى في الحديث القدسي: "يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد، فسألوني فأعطيت كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا غمس في البحر"(2).

ولننظر إلى المخيط غمس في البحر، فإذا نزعته، لا ينقص

(1) رواه البخاري (7411) كتاب التوحيد/ باب "لما خلقت بيدي"، ومسلم (993) عن أبي هريرة رضي الله عنه في كتاب الزكاة/ باب الحث على النفقة.

(2)

رواه مسلم (2577) كتاب البر/ باب تحريم الظلم من حديث أبي ذر، قال عنه الإمام أحمد:"هو أشرف حديث لأهل الشام""جامع العلوم الحكم"(2/ 34) ، وقد توسع الإمام ابن رجب في شرحه في كتاب "جامع العلوم والحكم".

ص: 297

البحر شيئاً أبداً، ومثل هذه الصيغة يؤتى بها للمبالغة في عدم النقص، لأن عدم نقص البحر في مثل هذه الصورة أم معلوم، مستحيل أن البحر ينقص بهذا، فمستحيل أيضاً أن الله عز وجل ينقص ملكه إذا قام كل إنسان من الإنس والجن، فقاوموا فسألوا الله تعالى، فأعطى كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك من ملكه شيئاً.

لا تقل: "نعم، لا ينقص من ملكه شيئاً، لأنه انتقل من ملكه إلى ملكه"، لأنه لا يمكن أن يكون هذا هو المراد، لأنه لو كان هذا المراد، لكان الكلام عبثاً ولغواً.

لكن المعنى: لو فرض أن هذه العطايا العظيمة أعطيت على أنها خارجة عن ملك الله، لم ينقص ذلك من ملكه شيئاً.

ولو كان المعنى هو الأول، لم يكن فيه فائدة، فمعروف أنه لو كان عندك عشرة ريالات، أخرجتها من الدرج الأيمن إلى الدرج الأيسر، وقال إنسان: إن مالك لم ينقص، لقيل: هذا لغو من القول!

المهم أن المعنى: لو أن هذا الذي أعطاه السائلين خارج عن ملكه، فإنه لا ينقصه سبحانه وتعالى.

وليس إنفاق الله تعالى لما نحصل من الدراهم والمتاع، بل كل ما بنا من نعمة فهو من الله تعالى، سواء كانت من نعم الدين أم الدنيا، فذرات المطر من إنفاق الله علينا، وحبات النبات من إنفاق الله.

ص: 298

أفبعد هذا يقال كما قالت اليهود عليهم لعائن الله: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} ؟!

لا والله! بل يقال: إن يدي الله عز وجل مبسوطتان بالعطاء والنعم التي لا تعد ولا تحصى.

لكن إذا قالوا: لماذا أعطى زيداً ولم يعط عمراً؟

قلنا: لأن الله تعالى له السلطان المطلق والحكمة البالغة، ولهذا قال رداً على شبهتهم:{يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ} ، فمن الناس من يعطيه كثيراً، ومنهم من يعطيه قليلاً، ومنهم من يعطيه وسطاً، تبعاً لما تقتضيه الحكمة، على أن هذا الذي أعطي قليلاً ليس محروماً من فضل الله وعطائه من جهة أخرى، فالله أعطاه صحة وسمعاً وبصراً وعقلاً وغير ذلك من النعم التي لا تحصى، ولكن لطغيان اليهود وعدوانهم وأنهم لم ينزهوا الله عن صفات العيب، قالوا:{يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} .

فالآيتان السابقتان فيهما إثبات صفة اليدين لله عز وجل.

ولكن قد يقول قائل: إن لله أكثر من يدين، لقوله تعالى:{أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَاماً} [يس: 71]، فأيدينا هنا جمع، فلنأخذ بهذا الجمع، لأننا إذا أخذنا بالجمع، أخذنا بالمثنى وزيادة، فما هو الجواب؟

فالجواب أن يقال: جاءت اليد مفردة ومثناة وجمعاً:

أما اليد التي جاءت بالإفراد، فإن المفرد المضاف يفيد

ص: 299

العموم، فيشمل كل ما ثبت لله من يد، ودليل عموم المفرد المضاف قوله تعالى:{وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34]، فـ {نِعْمَتَ}: مفرد مضاف، فهي تشمل كثيراً، لقوله:{لا تُحْصُوهَا} ، إذاً: فما هي واحدة ولا ألف ولا مليون ولا ملايين.

{يَدُ اللَّهِ} : نقول هذا المفرد لا يمنع التعدد إذا ثبت، لأن المفرد المضاف يفيد العموم.

أما المثنى والجمع، فنقول: إن الله ليس له إلا يدان اثنتان، كما ثبت ذلك في الكتاب والسنة.

ففي الكتاب:

في صورة ص قال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:57]، والمقام مقام تشريف، ولو كان الله خلقه بأكثر من يدين، لذكره، لأنه كلما ازدادت الصفة التي بها خلق الله هذا الشيء، ازداد تعظيم هذا الشيء.

وأيضاً: في سورة المائدة قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، في الرد على من قالوا:{يَدُ اللَّهِ} ، بالإفراد، والمقام مقام يقتضي كثرة النعم، وكلما كثرت وسيلة العطاء، كثر العطاء، فلو كان لله تعالى أكثر من اثنتين لذكرهما.

أما السنة فإن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: "يطوي

ص: 300

الله تعالى السماوات بيمينه والأرض بيده الأخرى" (1).

قال صلى الله عليه وسلم: "كلتا يديه يمين"(2).

ولم يذكر أكثر من اثنتين.

وأجمع السلف على أن لله يدين اثنتين فقط بدون زيادة.

فعندنا النص من القرآن والسنة والإجماع على أن لله تعالى يدين اثنتين، فيكف نجمع بين هذا وبين الجمع:{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} [يس: 71]؟!

فنقول الجمع على أحد الوجهين:

فإما أن نقول بما ذهب إليه بعض العلماء، من أن أقل الجمع اثنان، وعليه، فـ {أَيْدِينَا} لا تدل على أكثر من اثنتين، يعني: لا يلزم أن تدل على أكثر من اثنين، وحينئذ تطابق التثنية:{بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} ، ولا إشكال فيه.

فإذا قلت: ما حجة هؤلاء على أن الجمع أقله اثنان؟

فالجواب: احتجوا بقوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: 4]، وهما اثنتان، والقلوب جمع، والمراد به قلبان فقط، لقوله تعالى:{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}

(1) رواه البخاري (4812 و 7412) ، ومسلم (2787 و 2788)؛ من حديث ابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهما.

(2)

رواه مسلم (1827) عن ابن عمر رضي الله عنهما في كتاب الإمارة/ باب "فضيلة الإمام العدل

".

ص: 301

[الأحزاب: 4]، ولا لامرأة كذلك.

واحتجوا أيضاً بقول الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11]، فـ {إِخْوَةٌ} جمع، والمراد به اثنان.

واحتجوا أيضاً بأن جماعة الصلاة تحصل باثنين.

ولكن جمهور أهل اللغة يقولون: إن أقل الجمع ثلاثة، وإن خروج الجمع إلى الاثنين في هذه النصوص لسبب، وإلا فإن أقل الجمع في الأصل ثلاثة.

وإما أن نقول: إن المراد بهذا الجمع التعظيم، تعظيم هذه اليد وليس المراد أن لله تعالى أكثر من اثنتين.

ثم إن المراد باليد هنا نفس الذات التي لها يد، وقد قال الله تعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: 41]، أي: بما كسبوا، سواء كان من كسب اليد أو الرجل أو اللسان أو غيرها من أجزاء البدن، لكن يعبر بمثل هذا التعبير عن الفاعل نفسه.

ولهذا نقول: إن الأنعام التي هي الإبل لم يخلقها الله تعالى بيده، وفرق بين قوله:{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} ، وبين قوله:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، فـ:{مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا} ، كأنه قال: مما عملنا، لأن المراد باليد ذات الله التي لها يد، والمراد بـ {بِيَدَيَّ}: اليدان دون الذات.

وبهذا يزول الإشكال في صفة اليد التي وردت بالإفراد

ص: 302

والتثنية والجمع.

فعلم الآن أن الجمع بين المفرد والتثنية سهل، وذلك أن هذا مفرد مضاف فيعم كل منا ثبت لله من يد.

وأما بين التثنية والجمع، فمن وجهين:

أحدهما: أنه لا يراد بالجمع حقيقة معناه ـ وهو الثلاثة فأكثر ـ بل المراد به التعظيم كما قال الله تعالى: {إنَّا} و {نَحْنُ} و {وقُلْنَا} .... وما أشبه ذلك، وهو واحد، لكن يقول هذا للتعظيم.

أو يقال: إن أقل الجمع اثنان، فلا يحصل هنا تعارض.

وأما قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ} [الذاريات: 47]، فالأيد هنا بمعنى القوة، فهي مصدر آد يئيد، بمعنى: قيد، وليس المراد بالأيد صفة الله، ولهذا ما أضافها الله إلى نفسه، ما قال: بأيدينا! بل قال: {بِأَيْدٍ} ، أي: بقوة.

ونظير ذلك قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: 42]، فإن لعلماء السلف في قوله:{عَنْ سَاقٍ} : قولين:

القول الأول: أن المراد به الشدة.

والقول الثاني: أن المراد به ساق الله عز وجل.

فمن نظر إلى سياق الآية مع حديث أبي سعيد (1)، قال: إن المراد بالساق هنا ساق الله. ومن نظر إلى الآية بمفردها، قال:

(1) رواه البخاري (7439) من حديث أبي سعيد رضي الله عنه في كتاب التوحيد/ باب قوله تعالى: "وجوه يومئذ ناظرة"، ومسلم (183) كتاب الإيمان/ باب معرفة طريق الرؤية.

ص: 303

المراد بالساق الشدة.

فإذا قال قائل: أنتم تثبتون أن لله تعالى يداً حقيقية، ونحن لا نعلم من الأيدي إلا أيادي المخلوقين، فيلزم من كلامكم تشبيه الخالق بالمخلوق.

فالجواب أن نقول: لا يلزم من إثبات اليد لله أن نمثل الخالق بالمخلوقين، لأن إثبات اليد جاء في القرآن والسنة وإجماع السلف، ونفى مماثلة الخالق للمخلوقين يدل عليه الشرع والعقل والحس:

- أما الشرع، فقوله تعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].

- وأما العقل، فلا يمكن أن يماثل الخالق المخلوق في صفاته، لأن هذا يعد عيباً في الخالق.

- وأما الحس، فكل إنسان يشاهد أيدي المخلوقات متفاوتة ومتباينة من كبير وصغير، وضخم ودقيق .. إلخ، فيلزم من تباين أيدي المخلوقين وتفاوتهم مباينة يد الله تعالى لأيدي المخلوقين وعدم مماثلته لهم سبحانه وتعالى من باب أولى.

هذا، وقد خالف أهل السنة والجماعة في إثبات اليد لله تعالى أهل التعطيل من المعتزلة والجهمية والأشعرية ونحوهم، وقالوا: لا يمكن أن نثبت لله يداً حقيقية، بل المراد باليد أمر معنوي، وهو القوة!! أو المراد باليد النعمة لأن اليد تطلق في اللغة العربية على

ص: 304

القوة وعلى النعمة.

ففي الحديث الصحيح حديث النواس بن سمعان الطويل: "أن الله يوحي إلى عيسى أني أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم"(1)، والمعنى: لا قوة لأحد بقتالهم، وهم يأجوج ومأجوج.

وأما اليد بمعنى النعمة، كثير، ومنه قول رسول قريش لأبي بكر:"لولا يد لك عندي لم أجزك بها، لأجبتك"(2)، يعني: نعمة.

وقول المتنبي:

وكم لظلام الليل عندك من يد

تحدث أن المانوية تكذب

والمانوية: فرقة من المجوس الذين يقولون: إن الظلمة تخلق الشر، والنور يخلق الخير. فالمتنبي يقول: إنك تعطي في الليل العطايا الكثيرة التي تدل على أن المانوية تكذب، لأن ليلك يأتي بخير.

فالمراد بيد الله: النعمة، وليس المراد باليد اليد الحقيقية، لأنك لو أثبت لله يداً حقيقية، لزم من ذلك التجسيم أن يكون الله تعالى جسماً، والأجسام متماثلة، وحينئذ تقع فيما نهى الله عنه في قوله:{فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل: 74].

(1) رواه مسلم (2937) عن نواس بن سمعان رضي الله عنه في كتاب الفتن/ باب ذكر الدجال.

(2)

رواه البخاري (2731 ، 2732) ورسول قريش هو عروة بن مسعود، كتاب الشروط/ باب الشروط في الجهاد.

ص: 305

ونحن أسعد بالدليل منك أيها المثبت للحقيقة!! نقول: سبحان من تنزه من الأعراض والأبعاض والأغراض!! لا تجد مثل هذه السجعة لا في الكتاب ولا في السنة.

وجوابنا على هذا من عدة وجوه:

أولاً: أن تفسير اليد بالقوة أو النعمة مخالف لظاهر اللفظ، وما كان مخالفاً لظاهر اللفظ، فهو مردود، إلا بدليل.

ثانياً: أنه مخالف لإجماع السلف، حيث إنهم كلهم مجمعون على أن المراد باليد اليد الحقيقية.

فإن قال لك قائل: أين إجماع السلف؟ هات لي كلمة واحدة عن أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي، يقولون: إن المراد بيد الله الحقيقية!.

أقوله له: ائت لي بكلمة واحدة عن أبي بكر أو عمر أو عثمان أو علي أو غيرهم من الصحابة والأئمة من بعدهم يقولون: إن المراد باليد القوة أو النعمة.

فلا يستطيع أن بذلك.

إذاً، فلو كان عندهم معنى يخالف ظاهر اللفظ، لكانوا يقولون به، ولنقل عنهم، فلما لم يقولون به، علم أنهم أخذوا بظاهر اللفظ وأجمعوا عليه.

وهذه فائدة عظيمة، وهي أنه إذا لم ينقل عن الصحابة ما يخالف ظاهر الكتاب والسنة، فإنهم لا يقولون بسواه، لأنهم الذين

ص: 306

نزل القرآن بلغتهم، وخاطبهم النبي صلى الله عليه وسلم بلغتهم، فلا بد أن يفهموا الكتاب والسنة على ظاهرهما، فإذا لم ينقل عنهم ما يخالفه، كان ذلك قولهم.

ثالثاً: أنه يمتنع غاية الامتناع أن يراد باليد النعم أو القوة في مثل قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، لأنه يستلزم أن تكون النعمة نعمتين فقط، ونعم الله لا تحصى!! ويستلزم أن القوة قوتان، والقوة بمعنى واحد لا يتعدد فهذا التركيب يمنع غاية المنع أن يكون المراد باليد القوة أو النعمة.

هب أنه قد يمكن في قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]: أن يراد بهما النعمة على تأويل، لكن لا يمكن أن يراد بقوله:{لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} النعمة أبداً.

أما القوة، فيمتنع أن يكون المراد باليدين القوة في الآيتين جميعاً، في قوله:{بَلْ يَدَاهُ} وفي قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} ، لأن القوة لا تتعدد.

رابعاً: أنه لو كان المراد باليد القوة، ما كان لآدم فضل على إبليس، بل ولا على الحمير والكلاب، لأنهم كلهم خلقوا بقوة الله، ولو كان المراد باليد القوة، ما صح الاحتجاج على إبليس، إذ إن إبليس سيقول: وأنا يا رب خلقتني بقوتك، فما فضله علي؟!

خامساً: أن يقال: إن هذه اليد التي أثبتها الله جاءت على وجوه متنوعة يمتنع أن يراد بها النعمة أو القوة، فجاء فيها الأصابع والقبض والبسط والكف واليمين، وكل هذا يمتنع أن يراد

ص: 307

بها القوة، لأن القوة لا توصف بهذه الأوصاف.

فتبين بهذا أن قول هؤلاء المحرفين الذين قالوا: المراد باليد القوة باطل من عدة أوجه.

وقد سبق أن صفات الله عز وجل من الأمور الخبرية الغيبية التي ليس للعقل فيها مجال، وما كان هذا سبيله، فإن الواجب علينا إبقاؤه على ظاهره، من غير أن نتعرض له.

إثبات العينين لله تعالى

ذكر المؤلف رحمه الله تعالى لإثبات العينين لله تعالى ثلاث آيات.

الآية الأولى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: 48].

الخطاب هنا للنبي عليه الصلاة والسلام.

والصبر: بمعنى الحبس، ومنه قوله: قتل صبراً، أي: قتل وقد حبس للقتل.

فالصبر في اللغة: بمعنى الحبس.

وفي الشرع: قالوا: هو الصبر لأحكام الله، يعني: حبس النفس لأحكام الله.

ص: 308

وأحكام الله عز وجل شرعية وكونية: والشرعية: أوامر ونواه، فالصبر على طاعة الله صبر على الأوامر، والصبر عن معصيته صبر عن النواهي. والكونية: أقدار الله تعالى: فيبصر على أقداره وقضائه.

وهذا معنى قول بعضهم الصبر ثلاثة أقسام: صبر على طاعة الله، وصبر عن معصية الله، وصبر على أقدار الله المؤلمة.

فقوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} : يتناول الأقسام الثلاثة:

1 -

الصبر على طاعة الله.

2 -

وعن معصية الله.

3 -

وعلى أقدار الله.

أي: اصبر لحكم ربك الكوني والشعري.

وبهذا نعرف أن التقسيم الذي ذكره العلماء، وقالوا: إن الصبر ثلاثة أقسام: صبر على طاعة الله، وصبر عن مصية الله، وصبر على أقدار الله: داخل في هذه الكلمة: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} .

ووجه الدخول: أن الحكم إما كوني وإما شرعي، والشرعي أوامر ونواه. والنبي عليه الصلاة والسلام أمره الله عز وجل بأوامر، ونهاه عن نواهي، وقدر عليه مقدورات:

فالأوامر مثل: {أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]، {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ} [النحل: 125]، وهذه أوامر عظيمة، يعني: لو قيل لإنسان: اعبد ربك، فإنه يتمكن من

ص: 309

العبادة، لكن الدعوة والتبليغ أمر صعب، لأنه يتعب في معاناة الآخرين وجهادهم، فيكون صعباً.

وأما النواهي، فقد نهاه عن الشرك، قال:{وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام: 14]، {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر: 65]

وما أشبه ذلك.

وأما الأحكام القدرية: فقد حصل عليه أذى من قومه، أذى قولي وأذى فعلي، لا يصبر عليه إلا أمثال الرسول عليه الصلاة والسلام.

آذوه بالقوة: بالسخرية، والاستهزاء، والتهجين، وتنفير الناس عنه.

وأذوه بالفعل: كان ساجداً تحت الكعبة في آمن بقعة من الأرض، ساجداً لربه، فذهبوا، وأتوا بسلى الناقة، ووضعوه على ظهره وهو ساجد (1)!!

ليس هناك أبلغ من هذه الأذية مع العلم بأنه لو يدخل كافر مشرك إلى الحرم، لكان عندهم آمناً، لا يؤذونه فيه، بل يكرمونه ويطعمونه النبيذ ويسقونه ماء زمزم!! ومحمد عليه الصلاة والسلام ساجداً لله يؤذونه هذا الأذى!!

(1) رواه البخاري (3854) كتاب مناقب الأنصار/ باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من المشركين، ومسلم (1794) عن عبد الله بن مسعود قال:"بينما النبي صلى الله عليه وسلم ساجد وحوله ناس من قريش، جاء عقبة بن أبي معيط بسلي جزور فقذفه على ظهر النبي لى الله عليه وسلم ". كتاب الجهاد/ باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم من أذى المشركين.

ص: 310

كانوا يأتون بالعذرة والأنتان والأقذار يضعونه عند عتبة بابه!!

وخرج إلى أهل الطائف، وماذا صار؟! صار الإيذاء العظيم، صف سفهاؤهم وغلمانهم على جانبي الطريق، وجعلوا يرمونه بالحجارة حتى أدموا عقبه، فلم يفق إلا في فرن الثعالب (1).

فصبر على حكم الله، ولكنه صبر مؤمن يؤمن بأن العاقبة له، لأن الله قال له:{وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}

هذا الاعتناء والحفاوة .... أكرم شيء يكون به الإنسان أن تقول له: أنت بعيني، أنت بقلبي

وما أشبه ذلك.

أنت بعيني، معناه: أنا ألاحظك بعيني. وهذا تعبير معروف عند الناس، يكون تمام الحراسة والعناية والحفظ بمثل هذا التعبير: أنت بعيني،.

إذاً، قوله:{فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} ، يعني: فإنك محروس غاية

(1) رواه البخاري (3231) كتاب بدء الخلق/ باب إذا قال أحدكم "أمين"، ومسلم (1795) عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم – أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد، قال:"لقد لقيت من قومك ما لقيت، وكان أشد مالقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعاليب، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل، فنادى فقال: إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث الله إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بل أرجوا أن يخرج الله من أصلابه من يعبد الله وحده ولايشرك به شيئاً". كتاب الجهاد/ باب ما لقي النبي صلى الله عليه وسلم في أذى المشركين.

ص: 311

الحراسة، محفوظ غاية الحفظ.

{بِأَعْيُنِنَا} : أعيننا معك، نحفظك، ونرعاك، ونعتني بك.

في الآية الكريمة إثبات العين لله عز وجل، لكنها جاءت بصيغة الجمع، لما سنذكر إن شاء الله تعالى.

العين من الصفات الذاتية الخبرية: الذاتية: لأنه لم يزل ولا يزال متصفاً بها، الخبرية: لأن مسماها بالنسبة إلينا أجزاء وأبعاض.

فالعين منا بعض من الوجه، والوجه بعض من الجسم، لكنها بالنسبة لله لا يجوز أن نقول: إنها بعض من الله، لأنه سبق أن هذا اللفظ لم يرد، وأنه يقتضي التجزئة في الخالق، وأن البعض أو الجزء هو الذي يجوز بقاء الكل بفقده، ويجوز أن يفقد، وصفات الله لا يجوز أن تفقد أبداً، بل هي باقية.

وقد دل الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لله عينين اثنتين فقط، حين وصف الدجال وقال:"إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور"(1)، وفي لفظ:"أعور العين اليمنى"(2).

وقد قال بعض الناس معنى (أعور)، أي: معيب، وليس من عور العين!!

وهذا لا شك أنه تحريف وتجاهل للفظ الصحيح الذي في

(1) رواه البخاري (3057) كتاب الجهاد/ باب كيف يعرض الإسلام على الصبي، ومسلم (169) كتاب الإيمان، باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

(2)

رواه البخاري (7407) كتاب التوحيد/ باب قوله تعالى "ولتصنع على عيني"، ومسلم (169) كتاب الإيمان/ باب ذكر المسيح ابن مريم والمسيح الدجال، من حديث ابن عمر رضي الله عنهما.

ص: 312

البخاري وغيره: "أعور العين اليمنى، كأن عينه عنبة طافية"(1) وهذا واضح.

ولا يقال أيضاً: (أعور) باللغة العربية، إلا لعور العين، أما إذا قيل:(عور) أو (عوار)، فربما يراد به مطلق العيب.

وهذا الحديث يدل على أن لله تعالى عينين اثنتين فقط.

ووجه الدلالة أنه لو كان لله أكثر من اثنتين، لكان البيان به أوضح من البيان بالعور، لأنه لو كان لله أكثر من عينين، لقال: إن ربكم له أعين، لأنه إذا كان له أعين أكثر من ثنتين، صار وضوح أن الدجال ليس برب أبين.

وأيضاً: لو كان الله عز وجل أكثر من عينين، لكان ذلك من كماله، وكان ترك ذكره تفويتاً للثناء على الله، لأن الكثرة تدل على القوة والكمال والتمام، فلو كان لله أكثر من عينين، لبينها الرسول عليه الصلاة والسلام، لئلا يفوتنا اعتقاد هذا الكمال، وهو الزائد على العينين الثنتين.

وذكر ابن القيم رحمه الله في كتابه "الصواعق المرسلة" حديثاً، لكنه ضعيف لانقطاعه، وهو: "إن العبد إذا قام في الصلاة قام بين عيني الرحمن

" (2): "عيني": هذه تثنية، لكن الحديث

(1) تقديم تخريجه في الحديث السابق.

(2)

ذكره ابن القيم في كتاب "الصواعق"(256)، وقال الألباني في "الضعيفة" (1024): ضعيف جداً، رواه العقيلي في "الضعفاء"(ص 24).، والبزار في "مسنده"(553 - كشف الأستار)

ص: 313

ضعيف، واعتمادنا في عقيدتنا هذه على الحديث الصحيح، حديث الدجال، لأنه واضح لمن تأمله.

ولقد ذكر ذلك عثمان بن سعيد الدرامي رحمه الله في "رده على بشر المريسي"، وكذلك أيضاً ذكره ابن خزيمة في "كتاب التوحيد"، وذكر أيضاً إجماع السلف على ذلك أبو الحسن الأشعري رحمه الله وأبو بكر الباقلاني، والأمر في هذا واضح.

فعقيدتنا التي ندين لله بها: أن لله تعالى عينين اثنتين، لا زيادة.

فإن قيل: إن من السلف من فسر قوله تعالى: {بِأَعْيُنِنَا} ، بقوله: بمرأى منا. فسره بذلك أئمة سلفيون معروفون، وأنتم تقولون: إن التحريف محرم وممتنع، فما الجواب؟

فالجواب: أنهم فسروها باللازم، مع إثبات الأصل، وهي العين، وأهل التحريف يقولون: بمرأى منا، بدون إثبات العين، وأهل السنة والجماعة يقولون:{بِأَعْيُنِنَا} : بمرأى منا، ومع إثبات العين.

لكن ذكر العين هنا أشد توكيداً وعناية من ذكر مجرد الرؤية، ولهذا قال:{فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} .

قالت المعطلة: أجلبتم علينا بالخيل والرجل في إنكاركم علينا التأويل، وأنتم أولتم فأخرجتم الآية عن ظاهرها، فالله يقول:

ص: 314

{فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} ، فخذوا بالظاهر، وإذا أخذتم بالظاهر، كفرتم، وإذا لم تأخذوا بالظاهر، تناقضتم، فمرة تقولون: يجوز التأويل، ومرة تقولون: لا يجوز التأويل، وتسمونه تحريفاً، وهل هذا إلا تحكم بدين الله؟!

قلنا: نأخذ بالظاهر، وعلى العين والرأس، وهو طريقتنا، ولا نخالفه.

قالوا: الظاهر من الآية أن محمد صلى الله عليه وسلم بعين الله، وسط العين، كما تقول: زيد بالبيت. زيد بالمسجد، فالباء للظرفية، فيكون زيد داخل البيت وداخل المسجد، فيكون قوله:{بِأَعْيُنِنَا} ، أي: داخل أعيننا! وإذا قلتم بهذا كفرتم، لأنكم جعلتم الله محلاً للخلائق، فأنتم حلولية، وإن لم تقولوا به، تناقضتم؟!

قلنا لهم: معاذ الله ثم معاذ الله ثم معاذ الله أن يكون ما ذكرتموه ظاهر القرآن، وأنتم إن اعتقدتم أن هذا ظاهر القرآن، كفرتم، لأن من اعتقد أن ظاهر القرآن كفر وضلال، فهو كافر ضال.

فأنتم توبوا إلى الله من قولكم: إن هذا هو ظاهر اللفظ! واسألوا جميع أهل اللغة من الشعراء والخطباء: هل يقصدون بمثل هذه العبارة أن الإنسان المنظور إليه بالعين حال في جفن العين؟! اسألوا من شئتم من أهل اللغة أحياء وأمواتاً!

فأنت إذا رأيت أساليب اللغة العربية، عرفت أن هذا المعنى

ص: 315

الذي ذكروه وألزمونا به لا يرد في اللغة العربية، فضلاً عن أن يكون مضافاً إلى الرب عز وجل، فإضافته إلى الرب كفر منكر، وهو منكر لغة وشرعاً وعقلاً.

فإن قيل: بماذا تفسرون الباء في قوله: {بِأَعْيُنِنَا} ؟

قلنا: نفسرها بالمصاحبة، إذا قلت: أنت بعين، يعني: أن عيني تصحبك وتنظر إليك، لا تنفك عنك، فالمعنى: أن الله عز وجل بقول لنبيه: أصبر لحكم الله، فإنك محوط بعنايتنا وبرؤيتنا لك بالعين حتى لا ينالك أحد بسوء.

ولا يمكن أن تكون الباء هنا للظرفية، لأنه يقتضي أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم في عين الله، وهذا محال.

وأيضاً، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم خوطب بذلك وهو في الأرض، فإذا قلتم: إنه كان في عين الله كانت دلالة القرآن كذباً.

وهذا وجه آخر في بطلان دعوى أن ظاهر القرآن أن الرسول صلى الله عليه وسلم في عين الله تعالى.

الآية الثانية: قوله تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر: 13 - 14].

{وَحَمَلْنَاهُ} : الضمير يعود على نوح عليه الصلاة والسلام.

وقوله: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} : أي: على سفينة ذات ألواح ودسر، وهذه السفينة كان عليه الصلاة والسلام يصنعها، وكان يمر به قومه، فيسخرون منه، فيقول: {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ

ص: 316

مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 38].

صنعها بأمر الله ورعاية الله وعنايته، وقالب الله له:{وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا} [هود: 37] فالله تعالى ينظر إليه وهو يصنع الفلك، ويلهمه كيف يصنعها.

ووصفها الله هنا في قوله: {ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} : {ذَاتِ} : بمعنى: صاحبة. والألواح: الخشب. والدسر: مايربط به الخشب كالمسامير والحبال وما أشبه ذلك، وأكثر المفسرين على أن المراد بها المسامير التي تربط بها الأخشاب (1) {تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا}: هذا الشاهد: {بِأَعْيُنِنَا} : أي ذات الألواح والدسر بأعين الله عز وجل. والمراد بالأعين هنا عينان فقط، كما مر ومعنى تجري بها، أي: مصحوبة بنظرنا بأعيننا، فالباء هنا للمصاحبة، تجري على الماء الذي نزل من السماء ونبع من الأرض، لأن نوحاً عليه الصلاة والسلام دعا ربه {أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} [القمر: 10]، قال الله تعالى:{فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الأَرْضَ عُيُوناً} [القمر: 11 - 12]، فكانت هذه السفينة تجري بعين الله عز وجل.

قد يقول قائل: لماذا لم يقل: وحملناه على السفينة، أو: حملناه على فلك، بل قال:{عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ} ؟

(1) قاله ابن عباس وسعيد بن جبير والقرطبي وقادة وابن يد واخاره ابن جرير انظر: فسير الطبري وابن كثير.

ص: 317