الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عينيه، ينظر إليهم من بعيد، فصار معهم، لأنه الآن يبصر كأنهم بين يديه، وهو بعيد عنهم، فالأمر ممكن في حق المخلوق، فكيف لا يمكن في حق الخالق؟!
الوجه الثالث:
أنه لو تعذر اجتماعهما في حق المخلوق، لم يكن متعذراً في حق الخالق، لأن الله أعظم وأجل، ولا يمكن أن تقاس صفات الخالق بصفات المخلوقين، لظهور التباين بين الخالق والمخلوق.
والرسول صلى الله عليه وسلم يقول في سفره: "اللهم أنت الصاحب في السفر، والخليفة في الأهل"(1)، فجمع بين كونه صاحباً له وخليفة له في أهله، مع أنه بالنسبة للمخلوق غير ممكن، لا يمكن أن يكون شخص ما صاحباً لك في السفر وخليفة لك في أهلك.
وثبت في الحديث الصحيح (2): أن الله عز وجل يقول إذا قال المصلى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} : "حمدني عبدي".
كم من مصل يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ؟
لا يحصون.
وكم من مصليين، أحدهما يقول:{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، والثاني يقول:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، وكل واحد منهما له رد، الذي يقول: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
(1) رواه مسلم (1342)؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما.
(2)
رواه مسلم (395)؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه.
الْعَالَمِينَ}: يقول الله له: "حمدني عبدي". والذي يقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} : يقول الله له: "هذا بيني وبين عبدي نصفين" .....
إذاً، يمكن أن يكون الله معنا حقاً وهو على عرشه في السماء حقاً، ولا يفهم أحداً أنهما يتعارضان، إلا من أراد أن يمثل الله بخلقه، ويجعل معية الخالق كمعية المخلوق.
ونحن بينا إمكان الجمع بين نصوص العلو ونصوص المعية، فإن تبين ذلك، وإلا، فالواجب أن يقول العبد: آمنت بالله ورسوله، وصدقت بما قال الله عن نفسه ورسوله، ولا يقول: كيف يمكن؟! منكراً ذلك!
إذا قال: كيف يمكن؟! قلنا: سؤالك هذا بدعة، لم يسأل عنه الصحابة، وهم خير منك، ومسؤولهم أعلم من مسؤولك وأصدق وأفصح وأنصح، عليك أن تصدق، لا تقل: كيف؟ ولا لم؟ ولكن سلم تسليماً.
تنبيه:
تأمل في الآية، تجد كل الضمائر تعود على الله سبحانه وتعالى:{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى} ، {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ} ، فكذلك ضمير {وَهُوَ مَعَكُمْ} ، فيجب علينا أن نؤمن بظاهر الآية الكريمة، ونعلم علم اليقين أن هذه المعية لا تقتضي أن يكون الله معنا في الأرض، بل هو معنا مع استوائه على العرش.
هذه المعية، إذا آمنا بها، توجب لنا خشية الله عز وجل وتقواه، ولهذا جاء في الحديث:"أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت"(1).
أما أهل الحلول، فقالوا: إن الله معنا بذاته في أمكنتنا، إن كنت في المسجد، فالله معك في المسجد والذين في السوق الله معهم في السوق!! والذين في الحمامات الله معهم في الحمامات!!
ما نزهوه عن الأقذار والأنتان وأماكن اللهو والرفث!!
المبحث السادس: في شبهة القائلين بأن الله معنا في أكنتنا والرد عليهم:
شبهتهم: يقولون: هذا ظاهر اللفظ: {وَهُوَ مَعَكُمْ} ؛ لأن كل الضمائر تعود على الله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ} ، {ثُمَّ اسْتَوَى} ، {يَعْلَمُ} ، {وَهُوَ مَعَكُمْ} ، وإذا كان معنا؛ فنحن لأنفهم من المعية إلا المخالطة أو المصاحبة في المكان!! والرد عليهم من وجوه:
أولاً: أن ظاهرها ليس كما ذكرتم؛ إذ لو كان الظاهر كما ذكرتم؛ لكان في الآية تناقض: أن يكون مستوياً على العرش، وهو
(1) رواه الطبراني في الكبير والأوسط كما في مجمع الزائد (1/ 60) ، والبيهقي في الأسماء والصفات (907) ، وأبو نعيم في الحلية (6/ 124) والحديث ضعفه الألباني في ضعيف الجامع (1002).
وقد ورد الحديث بلفظ: "تزكية النفس أن يعلم أن الله عز وجل معه حيث كان" رواه البيهقي في "السنن"(4/ 95) ، وابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني"(1062) ، والفسوي في "المعرفة والتاريخ"(1/ 269) بسند صحيح؛ كما في "السلسلة الصحيحة"(1046).
مع كل إنسان في أي مكان! والتناقض في كلام الله تعالى مستحيل.
ثانياً: قولكم: "إن المعية لا تعقل إلا مع المخالطة أو المصاحبة في المكان! هذا ممنوع؛ فالمعية في اللغة العربية أسم لمطلق المصاحبة، وهي أوسع مدلولاً مما زعمتم؛ فقد تقتضي الإختلاط، وقد تقتضي المصاحبة في المكان، وقد تقتضي مطلق المصاحبة وإن اختلف المكان؛ هذه ثلاثة أشياء:
1 -
مثال المعية التي تقتضي المخالطة: أن يقال: اسقوني لبناً مع ماء؛ أي: مخلوطاً بماء.
2 -
ومثال المعية التي تقتضي المصاحبة في المكان: قولك: وجدت فلاناً مع فلان يمشيان جميعاً وينزلان جميعاً.
3 -
ومثال المعية التي تقتضي الإختلاط ولا المشاركة في المكان: أن يقال: فلان مع جنوده. وإن كان في غرفة القيادة، لكن يوجههم. فهذا ليس فيه اختلاط ولا مشاركة في مكان.
ويقال: زوجة فلان معه. وإن كانت هي في المشرق وهو في المغرب. فالمعية إذا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وكما هو ظاهر من شواهد اللغة: مدلولها مطلق المصاحبة، ثم هي بحسب ما تضاف إليه. فإذا قيل:{إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا} [النحل: 128]؛ فلا
يقتضي ذلك لا اختلاطاً ولا مشاركة في المكان، بل هي معية لائقة بالله، ومقتضاها النصر والتأييد.
ثالثاً: نقول: وصفكم الله بهذا! من أبطل الباطل وأشد التنقص لله عز وجل، والله عز وجل ذكرها هنا عن نفسه متمدحاً؛ أنه مع علوه على عرشه؛ فهو مع الخلق، وإن كانوا أسفل منه، فإذا جعلتم الله في الأرض؛ فهذا نقص. إذا جعلتم الله نفسه معكم في كل مكان، وأنتم تدخلون الكنيف؛ هذا أعظم النقص، ولا تستطيع أن تقوله ولا لملك من ملوك الدنيا: إنك أنت في الكنيف! لكن كيف تقوله لله عز وجل؟!
رابعاً: يلزم على قولكم هذا أحد أمرين لا ثالث لهما، وكلاهما ممتنع: إما أن يكون الله متجزئاً، كل جزء منه في مكان.
وإما أن يكون متعدداً؛ يعني: كل إله في جهة ضرورة تعدد الأمكنة.
خامساً: أن نقول: قولكم هذا أيضاً يستلزم أن يكون الله حالاً في الخلق؛ فكل مكان في الخلق؛ فالله تعالى فيه، وصار هذا سلماً لقول أهل وحدة الوجود.
فأنت ترى أن هذا القول باطل، ومقتضى هذا القول الكفر.
ولهذا نرى أن من قال: إن الله معنا في الأرض؛ فهو كافر؛ يستتاب، ويبين له الحق، فإن رجع، وإلا؛ وجب قتله.