الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قيل: قوله: «عيد كل قوم يوم يعيدون» ؛ كقوله: «صومكم يوم تصومون، وفطركم يوم تفطرون، وأضحاكم يوم تضحون» ، وذلك لا يمنع وقوع الخطأ في الهلال؛ فإنه قد يفطر الناس بعد الرؤية بيوم أو قبلها إذا شهد به شاهد، وإنما المقصود به أن الحكم مبني على ما ظهر، وأن العيد هو الاجتماع للصلاة والنسك؛ ففي أي يوم حصل هذا؛ فهو يوم عيد، واليوم الذي يخلو عن هذا ليس يوم عيد، وإن كان عاشر الشهر.
فيفيد هذا أن أهل مكة إذا اخطؤوا فوقفوا في الثامن أو العاشر؛ صح نسكهم، وأما سائر الأمصار إذا رأى الهلال أهل بلد، ولم يره الآخرون إلا بعد يوم؛ فأكثر ما فيه أنهم أخروا التضحية إلى ثاني النحر، وذلك جائز، والحديث لم يجئ إلا في عيد النحر، ثم لو عيد قوم اليوم، وآخرون غداً؛ لم يكن فيه إلا صوم يوم خطأ، وذلك لا محذور فيه؛ بخلاف الخطأ في فطر يوم؛ فإنه يوجب القضاء.
*
فصل:
ولا يصح الصوم إلا بنية كسائر العبادات
؛ لقوله سبحانه: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} [البينة: 5].
151 -
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إنما الأعمال بالنيات» .
152 -
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كل عمل ابن آدم له؛ إلا الصوم؛ فإنه لي، وأنا
أجزي به، يدع طعامه وشهوته من أجلي».
فمن لم يذر طعامه وشهوته لله؛ فليس بصائم.
والنية. . . .
وفيها مسألتان: تبييت النية وتعيينها.
أما تبيت النية: فإن الصوم الواجب الذي وجب الإمساك فيه من أول النهار لا يصح إلا بنية من الليل، سواء في ذلك ما تعين زمانه كأداء رمضان والنذر المعين، وما لم يتعين كالقضاء والكفارة والنذر المطلق.
قال أحمد في رواية أبي طالب: الفرض والقضاء والنذر يجمع عليه من الليل، فإن لم يجمع عليه من الليل؛ فلا صوم.
وقال في رواية الميموني: ويحتاج في رمضان أن يبيت الصيام من الليل، فلو أن رجلاً حمق، فقال: لا أصوم غداً، ثم أصبح، فقال: أصوم! لا يجزيه عندي.
وسواء ترك التبييت لغير عذر كالمستحمق أو لعذر مثل أن يغمى عليه أو يجهل ن ذلك اليوم من رمضان.
قال في رواية الأثرم: إذا لم يعزموا الصيام في أول الشهر، فأصبحوا على غير صوم، م تبين لهم أنه من رمضان، فصاموا بقية يومهم، فيقضون يوماً مكانه، وإن كانوا لم يأكلوا؛ لأنه لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل.
وهذا إنما هو في الفرض، وابن عمر إنما أصبح صائماً حين حال دون منظره، ويعتد به ويجزيه، وإذا لم يكن علة؛ قال: يصبح عازماً على الفطر.
وقال في الأسير إذا صام في أرض الحرب وهو لا يعلم أنه شهر رمضان ينوي به التطوع: لا يجزيه من شهر رمضان إلا بعزيمة أنه من رمضان.
وهؤلاء يقولون: يجزيه، وكيف يجزيه وهو لا يجزيه في يوم الشك إذا أصبح ولم يأكل، ولا يجزيه يوم الشك إلا بعزيمة من الليل؟! وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم لمن يجمع الصيام من الليل قبل الفجر الزهري عن سالم عن ابن عمر عن حفصة.
153 -
وذلك لما روى يحيى بن أيوب، وغيره عن عبد الله بن أبي بكر ابن عمرو بن حزم، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن حفصة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «من لم يجمع الصيام قبل الفجر؛ فلا صيام له» . رواه الخمسة.
وفي لفظ للنسائي: «من لم يبيت الصيام» .
وفي لفظ لعبد الله بن أحمد وابن ماجه والدارقطني: «لا صيام لمن لم يفرضه من الليل» . وفي لفظ لهم: «لمن يورضه» .
قال الترمذي: لا نعرفه مرفوعاً إلا من هذا الوجه، وقد روي عن نافع عن ابن عمر قوله، وهو أصح. وقال الدارقطني: رفعه عبد الله بن أبي بكر عن الزهري، وهو من الرفعاء. وقال ابن عبد البر: هذا حديث مُرِّض في إسناده، ولكنه أحسن ما روي مرفوعاً في هذا الباب اهـ.
وقد رواه النسائي من حديث ابن جريج عن الزهري مرفوعاً كذلك.
ورواه حرب من حديث إسماعيل، عن الزهري، عن حمزة بن عبد الله ابن الزبير، عن حفصة رضي الله عنها؛ قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
(لا صيام لمن لم يوجبه بالليل».
ورواه أيضاً من حديث عبيد الله بن عمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه، عن حفصة: أنها كانت تقول موقوفاً.
ورواه أيضاً من حديث معمر بن [راشد و] يونس وابن عيينة، عن الزهري، عن حمزة بن عبيد الله بن عمر، عن أبيه، عن حفصة موقوفاً.
ورواه مالك، عن الزهري، عن عائشة وحفصة قولها.
.......................
.........................
...........................
ورواه مالك وعبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر: أنه كان يقول: «لا يصوم إلا من اجمع الصيام قبل الفجر» .
والذي يقوي رفعه أشياء:
أحدها أن الذي رفعه عن الزهري رجل جليل القدر سمع منه قديماَ، وقد تابعه وغيره، والذين وقفوه سمعوه منه بعد ذلك، ومعلوم أن رفعه زيادة، والزيادة من الثقة مقبولة، لا سيما وسماع صاحب الزيادة متقدم، فعلم أن الزهري ترك رفعه في آخر عمره، إما نسياناَ أو شكاَ أو غير ذلك.
ومنها: أن هذا الحديث كان عند الزهري عن عائشة وعن حفصة، حمزة عن ابن عمر، ولهذا ليس بغريب من الزهري؛ فإن الحديث كان يكون عنده من عدة جهات، يرويه كل وقت عن بعض شيوخه، وإذا كان كذلك؛ أمكن أن يكون عنده مرفوعاً وموقوفاَ.
ومنها: أن احتجاج أحمد به يدل على صحة رفعه عنده.
قال أبو بكر عبد العزيز: صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «لا صيام لمن لم يجمع الصيام الليل» .
ومنها: أنه قول عائشة وحفصة وابن عمر ولا يُعرف لهم مخالف من الصحابة.
154 -
وعائشة تروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه كان ينشئ صوم التطوع نهاراً» ؛ كما سيأتي.
فلولا أن عندها عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك سنة؛ لما فرقت بين الفرض والنفل.
قال الميموني سألت أحمد عنه؟ فقال: أخبرك ما له عندي ذاك الإِسناد؛ إلا أنه عن ابن عمر وحفصة إسنادان جيدان.
155 -
وقد روى الدارقطني، عن يحيى بن أيوب، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال:«من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر؛ فلا صيام له» . وقال: كلهم ثقات.
156 -
وروى أيضاً عن ميمونة بنت سعد؛ قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «من أجمع الصيام من الليل؛ فليصم، ومن أصبح ولم يجمعه؛ فلا يصم» . وفي إسناده الواقدي.
وأيضاً: فإن الصوم الواجب هم الإِمساك من أول النهار إلى آخره؛ فإذا خلا أوله عن النية؛ فقد خلا بعض العبادة الواجبة عن النية؛ ذكراً واستصحاباً، وذلك لا يجوز، ولأنه إذا لم يعتقد الصوم أول النهار؛ لم يكن ممتثلاً للأمر بصومه؛ لأن امتثال الأمر بدون القصد لا يصح؛ فإذا لم يكن ممتثلاً للأمر؛ بقي في عهدة الأمر قوله:{حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ. . .} [البقرة: 187] ، وكونه معذوراً لا يقتضي أن يحكم له بما لم يفعله، لكن يقتضي سقوط الإِثم عنه، ويجزيه القضاء؛ كما لو لم يعلم به إلا بعد الزوال.
ولأنه: صوم واجب، فلم يصح إلا بنية من الليل؛ كصوم الكفارة والقضاء والنذر المطلق، ولا يصح أن يقال: هناك لم يتعين زمانه فلا بد من النية، بخلاف صوم رمضان والنذر المعين؛ لأن التعيين لو كان كافياً؛ لكفى مجرد الإِمساك بدون النية، ولم تفترق الحال بين ما قبل الزوال وبين ما بعده.
فإن قيل: فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء أن يصوموا بنية من النهار، وكان صوماً واجباً، ولولا أن الواجب يصح بنية من النهار؛ لم يجزهم.
قيل: لا نسلم أن صوم يوم عاشوراء كان واجباً على ما يختاره كثير من أصحابنا على القول الآخر؛ فذاك إنما ابتدأ الله إيجابه من النهار، ولم يكن
واجباً عليهم بالليل؛ بخلاف صوم رمضان؛ فإنه واجب من أول النهار، وإن لم يعلم بالزمان، وليس لنا صوم يوجبه الله ابتداءً في أثناء النهار.
نعم؛ أشبه شيء بهذا أن يسلم الكافر أو يفيق المجنون أو يحتلم الصبي في أثناء النهار؛ فيجب عليه الصوم من حينئذٍ؛ إذ في المشهور عنه.
وأيضاً: فإن هذا لو ثبت؛ لكان في صوم عاشوراء، وذاك صوم ومنسوخ؛ فلا يلزم من ثبوت الحكم فيه ثبوته في الصوم المحكم؛ لجواز أن يكون ثبت وجوبه بصفة تخالف صوم رمضان، لا سيما وقد كانوا في أول ما فرض رمضان عليهم يُخيَّر أحدهم بين أن يصوم وبين أن يفتدي بطعام مسكين عن كل يوم؛ لأنهم لم يكونوا قد اعتادوا الصوم، فخفف عنهم في أول الأمر، ثم أحكمت الفرائض.
فإن كان الواجب قد يجزئ بنية من النهار؛ فلعله في ذلك الوقت.
ثم إن قوله: «لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل» : حديث متأخر عن صوم عاشوراء، فيكون ناسخاً له لو اجتمعا في صوم واحد؛ فكيف إذا كان ذلك في الصوم المنسوخ؟! لأن راويه حفصة، وإنما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم. . . ، وحديث عاشوراء كان في السنة الثانية من الهجرة.
فأما صوم التطوع؛ فيجزئ بنية من النهار. نص عليه في غير موضع.
157 -
لما روي عن عائشة؛ قالت: دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال: «هل عندكم من شيء؟» . فقلنا: لا. قال: «فإني إذاً صائم» . ثم أتانا يوماً آخر، فقلنا: يا رسول الله! أهدي لنا حيس، فقال: «أدنيه؛ فلقد أصبحت
صائماَ». رواه الجماعة إلا البخاري، وفي بعض الروايات: فقال: «فغني صائم» ، ولم يقل:«إذاً» .
وهذا يدل على أنه أنشأ الصوم من النهار؛ لأنه قال: «فإني صائم» ، وهذه الفاء تفيد السبب والعلة؛ فيصير المعنى: إني صائم؛ لأنه لا شيء عندكم.
ومعلوم أنه لو كان قد أجمع الصوم من الليل؛ لم يكن صومه لهذه العلة.
وأيضاً: فقوله: «فإني أذاً صائم» ، وإذاً أصرح في التعليل من الفاء.
وأيضاً: فإن الظاهر من حال مَنْ أجمع الصيام من الليل أن لا يجيء سائلاً عن الغداء، وإنما يسأل عن الغداء المفطر أو المتلوم.
وذكر إسحاق بن إبراهيم الحنظلي هذا الحديث، فقال: دخل النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة، فقال:«أطعمينا شيئاً» . فقالت: ما عندنا. قال: «فأشهدكم إني صائم يومي هذا» . قال: فنوي الصيام بعد مضي بعض اليوم.
158 -
وأيضاً: قال البخاري: وقالت أم الدرداء: [كان أبو الدرداء] قول: عندكم [طعام]؟ فإن قلنا: لا. قال: فإني صائم يومي هذا.
159 -
160 - قال: وفعله أبو طلحة وأبو هريرة.
161 -
162 - وابن عباس وحذيفة.
163 -
165 - وذكر ابن عبد البر عن علي وابن مسعود وأنس.
166 -
وذكره إسحاق عن معاذ بن جبل. . . .
[و] عن سعيد بن المسيب؛ قال: «رأيت أبا هريرة يطوف بالسوق، ثم يأتي أهله، فيقول: هل عندكم شيء؟ فإن قالوا: لا. قال: فأنا صائم. رواه
أبو عاصم.
وهذا يفسر حديث حفصة. أن المراد بذلك الحديث الصوم الواجب، لا سيما وعائشة يروي هذا الحديث وهي تقول:«لا صيام لمن لم يجمع الصيام من الليل» .
ولأن صيام عاشوراء لم يكن واجباً في المشهور لأصحابنا، وقد أمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بصومه من النهار، ولأن بعض الواجبات يجوز أن يكون بتطوع به؛ كما بتطوع بالقراءة والتسبيح من أركان الصلاة والطواف من أركان الحج، ولأن النافلة
يخفف فيها ما لا يخفف في الفريضة؛ بدليل أن نفل الصلاة يصح قاعداَ أو على الراحلة توسعة للنافلة، فجاز أن يوسع التنفل بالصوم بنية من النهار.
فعلى هذا يجوز التطوع بنية من النهار قبل الزوال وبعده، نص عليه في رواية الميموني، وقد سأله عن الذي ينوي الصيام بعد الفجر: أليس يتأول حديث النبي صلى الله عليه وسلم أنه أتاهم فقال: «هل عندكم طعام؟» بعدما تعالى النهار؟ قال: نعم.
ويتأول حديث حذيفة بعدما زالت الشمس ورأيته يذهب إلى هذا ما لم يكن فرضاَ.
ولذلك أطلق الإِجزاء بنية من النهار في رواية أبي طالب وغيره، وأطلقه الخرقي وغيره، وعلى هذا أصحابنا مثل ابن أبي موسى والقاضي في آخر قوليه. وذكر ابن عقيل وغيره في هذه المسألة روايتين: إحداهما: كذلك، والثانية: لا يجزئ نية بعد الزوال. قال: وهي أصح في الروايتين.
وهذا اختيار القاضي في «المجرد» ؛ لأن الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم إنما جاء في صدر النهار.
ولا يمكن إلحاق ما بعد الزوال به؛ لأنه إذا نوى أول النهار؛ فقد حصل معظم اليوم منويّاً، فجاز أن يقوم مقام الجميع، كما لو أدرك الإِمام راكعاً؛ فإنه يحسب له جميع الركعة، بخلاف ما إذا نوي بعد الزوال، ولأن الإِمساك أول النهار أمرٌ معتادٌ؛ فإذا لم يصادفه النية؛ لم يقدح ذلك فيه؛ بخلاف الإِمساك
آخره؛ فإنه بخلاف المعتاد؛ فإذا لم ينو؛ ذهب الإِمساك المقصود في الصوم باطلَا، لهذا يكره للصائم الاستياك بالعشي، ولم يكره له أول النهار.
فعلى هذا يصح قبل الزوال قولا واحداَ على ما ذكره القاضي وعامة أصحابنا.
ومنهم من قال: إنما يصح قبل انتصاف النهار الذي أوله طلوع الفجر، وذلك قريب من آخر الساعة الخامسة؛ لأن النهار الذي يجب صومه من طلوع الفجر؛ فإذا لم تقع النية قبل مضي نصفه؛ لم يكن أكثر زمان الصوم منويّاً.
ووجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد صام بنيةٍ من النهار، ولا فرق بين أوله وآخره.
وقال إسحاق بن إبراهيم الحنظلي: الأكثرون على أنه يجوز، وإن لم ينو إلا بعد نصف النهار، منهم ابن مسعود وحذيفة بن اليمان ومعاذ بن جبل، رأوا إن لم ينو ليلاً أن يصوم في نهاره؛ يعني: ينوي أي وقت شاء، ولو كان بعد الزوال أيضاً، وهذا أعدل الأقوال عندنا وأشبه بسنة محمد صلى الله عليه وسلم.
167 -
عن المستورد بن الأحنف: أن رجلاً صلى مع عبد الله بن مسعود الظهر، فسأله، فقال: إني جئت في طلب غريم لي، فأصبحت، فلا أنا صائم ولا أنا مفطر. فقال:«أنت بالخيار، إن شئت فصم، وإن شئت فافطر» . رواه حرب.