الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وأما دم الحيض: فلما كان له أوقات معلومة يمكن الاحتراز عن الصوم فيها لا تتكرر دائماً؛ صار الامتناع [في] الصوم معه [في] جملة ما يقدر عليه الإِنسان.
ولهذا إذا صار دم استحاضة، وهو الخارج عن الأمر المعتاد؛ لم يمنع صحة الصوم، وخرج عن هذا استخراج البول والغائط ونحوهما من وجهين:
أحدهما: أن ذلك فضلة محضة، فليس هو من قياس البدن الذي يخاف أن يورث ضعفاً.
الثاني: أن خروجه أمر طبيعي لا يمكن الاحتراز منه، وما كان من هذا الباب؛ لا يفطر؛ كذرع القيء والاحتلام وأولى.
وهذا معنى حسن، وقد نبه عليه بعض الآثار المتقدمة
إلا بذكر فرع المسألة.
*
فصل:
ويفطر بالحجامة في جميع البدن
. نص عليه.
مثل أن يحتجم في يده أو ساقه أو عضده أو رأسه أو قفاه.
وإن شرط بالمشرط ولم يخرج الدم؛ أفطر على ما ذكره ابن عقيل؛ فإنه قال: الحجامة نفس الشرط، يتعلق الإِفطار على الاسم.
فعلى هذا الإِفطار يسبق الدم.
وإن ركب المحاجم. . .؛ كما لو بل المحرم رأسه قبل التحلل ثم حلقه بعده.
وعلى ذكره القاضي: لا بفطر. وهو أصح؛ لأن الحجامة هي الامتصاص أيضا؛ يقال: ما حجم الصبي ثدي أمه؛ أي: ما مصه.
والحِجَام: ما يُجعل في خطم البعير لئلا يعض، يقال: حجمت البعير أو أحجمه: إذا جعلت على فِيْهِ حجاماً.
فالقارورة تحجم الدم عن أن يسيل.
وأيضاً؛ فإن الشرط أخص. . . .
فإن شرط وأخرج الدم من غير محجمة يمتص بها، مثل الشرط في الأذن؛ فقياس المذهب الفكر بها؛ لأن وضع المحجمة على العضو لا أثر له في الفطر.
ولهذا يجوز أن توضع المحاجم على العضو ويلين قبل غروب الشمس، ثم يقع الشرط بعد غروبها. قال أصحابنا: لأن التليين وتركيب المحاجم مقدمات.
وأما الفصاد وجرح العضو باختياره وبط الدمامل ونحو ذلك؛ فقال أكثر أصحابنا منهم القاضي وابن عقيل: لا يفطر.
لأنه لا نص فيه، ولا يمكن إثبات الحكم فيه قياساً؛ لجواز أن يكون في الحجامة معنى يختصه، ولأن الدم منه ما يخرج بنفسه وهو دم الحيض والاستحاضة والنفاس ومنه ما يخرج بالإِخراج.
ثم الأول يفطر بعضه دون بعض، فيجوز أن يكون الثاني كذلك، وهو لا يبطل القياس المتقدم؛ لأن التعليل للنوع والجواز، فلا ينتقض بأعيان المسائل. . . .
وقيل: يفطر الفصاد، وهذا أقيس. . . .
وأما الجرح والاسترعاف؛ فلا يكاد العاقل يفعله بنفسه، فيحتمل. . . .
وأما بط الدماميل والقروح؛ فتلك دماء فضلات لا يضعف خروجها.
وأما الحاجم: فظاهر قول الخرقي هو ظاهر القياس فيه؛ فإن ما ذكرنا من المعنى مفقود فيه.
لكن المذهب أنه يفطر؛ كما هو منصوص في الحديث؛ فإن الدلالة على فطرهما دلالة واحدة، ويلوح فيه أشياء:
أحدها: أن الحجامة لما لم تمكن إلا من اثنين؛ جاز أن يجعل الشرع فعل أحدهما الذي لا يتم فطر الآخر إلا به فِطراً، وأن يجعل تفطير الصائم فطراً؛ كما قيل في الجماع، وهذا بخلاف الإِطعام والإِسقاء؛ فإن ذلك يمكن أن يكون من واحد، فليس فعل الآخر شرطاً في وجوده.
467 -
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من فطر صائماً؛ فله مثل أجره؛ من غير أن ينقص من أجره شيء» .
فإذا كان المعين له على صومه بعشائه بمنزلة الصائم؛ جاز أن يكون المفسد لصومه بمنزلة المفطر.
468 -
وكذلك قوله: «من جهز غازياً؛ فقد غزا، ومن خلفه في أهله بخير؛ فقد غزا» .
وضد ذلك من صدَّ عن سبيل الله بالتثبيط عن الجهاد؛ فإنه بمنزلة المحارب لله ورسوله.
469 -
كما قال صلى الله عليه وسلم: «من حالت شفاعته دون حد من حدود الله؛ فقد ضاد الله في أمره» .
وخص الحاجم بهذا من بين [الطاعم] والمسقي؛ فإنه لو امتنع عن حجمه؛ لم يفطر؛ بخلاف المطعم والمسقي؛ فإنَّ أكْل ذلك وشربه غير منوط بفعل غيره. نعم يشبه هذا ما لو مكنت المرأة زوجها من أن يطأها دون الفرج، فأنزل هو، ولم تنزل هي. وطرد هذا أن منْ حجم من ليس بصائم لا يفطر، وهذا الوجه ليس بذاك. . . .
ومنها: أن الحاجم إذا امتص المحجم بعد شرط العضو؛ جاز أن يسبق شيء من الدم إلى حلقه ولا يشعر به، والحكمة إذا كانت خفية؛ أقيمت المظنة الظاهرة مقامها؛ كالنوم مع الحدث، ولهذا لو امتص الحجم عند وضعه قبل الشرط؛ لم يفطر؛ كما جاء في الحديث:«أنه كان وضع المحاجم قبل الغروب، ثم شرط بعد الغروب» . . . .
فعلى هذا؛ لو شرط بدون مص مثل ما شرط الأذن، وقلنا. يفطر المشروط؛ فإن الشارط هنا لا يفطر، وكذلك الفاصد.
ومنها: أن الحجامة في الأصل لما كانت إخراج دم، وهي من الصناعات الرديئة، ولهذا كره كسبها.
الفصل السادس: أن منْ فعل هذه الأشياء ناسياً لصومه؛ لم يفطر.
ولا يختلف المذهب في الأكل والشرب ونحوهما مما فيه القضاء فقط، وقد تقدم ذكر المباشرة. والله أعلم.
وأما الحجامة إذا فعلها ناسياً.
فالمنصوص أنه لا يفطر.
قال حرب: قلت لأحمد: فاستحجم ناسياً؟ قال: لا شيء.
وذكر ابن عقيل فيها وجهين:
أحدهما: كذلك؛ لأنها ليست بأكثر من الأكل.
الثاني: يفطر؛ لأن الفطر بها ثبت على خلاف القياس، والنبي صلى الله عليه وسلم لم
يفصل في قوله: «أفطر الحاجم والمحجوم» ، ولم يستفصل عن حال اللذين مرَّ بهما، وفي الاستقاء. . . .
470 -
والأصل في ذلك ما روى محمد بن سيرين، عن أبي هريرة؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من نسي وهو صائم، فأكل أو شرب؛ فليتم صومه؛ فإنما أطعمه الله وسقاه» . رواه الجماعة.
وفي رواية أبي داوود: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إني أكلت وشربت ناسياً وأنا صائم؟ فقال: «الله أطعمك وسقاك» .
وفي هذا الحديث الدلالة من وجوه:
أحدها: أنه أمره بإتمام الصوم تخصيصاً له بهذا الحكم بقوله: «من أكل أو شرب ناسياً» ، فعلم أن هذا إتمامٌ لصوم صحيح، إذ لو كان المراد به وجوب الإِمساك؛ لم يكن بين العامد والناسي فرق.
الثاني: أنه قال: «فليتم صومه» ، وصومه هو الصوم الصحيح المجزئ.
وقد أمر بإتمامه، فعلم أن الصوم الذي بعد الأكل تمام للصوم الذي قبله، ولو أراد وجوب الإِمساك [فقط]؛ لقال: فليتم صياماً، أو: فليصم بقية يومه. . . ونحو ذلك؛ كما قال لأهل عاشوراء.
الثالث: أنه لم يأمره بالقضاء، وقد جاء مستفتياً له عما يجب عليه شاكّاً في الأكل مع النسيان؛ هل يفسد أو لا يفسد؟ ومعلوم أنه لو كان واجباً؛ لذكره،
لم يجز تأخير البيان عن وقت الحاجة.
الرابع: أنه علل أمره بالإِتمام بأن الله أطعمه وسقاه، ولو لم يكن مقصوده إتمام الصوم الصحيح؛ لم يصح التعليل بهذا؛ فإنه إذا أفسد الصوم في رمضان؛ وجب الإِمساك، وإن لم يكن الله أطعمه وسقاه بغير قصد من التعبد ولا إرادة؛ فلا بد أن يكون لهذه العلة أثر في هذا الحكم، ولا يكون لها أثراً؛ إلا أن يكون الصوم صحيحاً.
الخامس: أنه قال: «الله أطعمك وسقاك» ؛ تعليلاً وجواباً.
ومعلوم أن إطعام الله وإسقاءه للعبد على وجهين:
أحدهما: أنه خلق له الطعام والشراب والحركة التي بها يأكل ويشرب، وعلى هذا؛ فالعامد والناسي وجميع الخلق الله أطعمهم وسقاهم؛ كما قال إبراهيم {وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ} [الشعراء: 79].
وهذا المعنى لم يقصده النبي صلى الله عليه وسلم؛ فإنه قدر مشترك بين المتعمد والناسي، وهو بمنزلة قوله: أنت أكلت وشربت؛ فهي حكاية حال محضة.
والثاني: أن يطعمه ويسقيه بغير قصد من العبد ولا عمد؛ كما في هذه الصورة؛ فإنه لو ذكر أنه صائم؛ لم يأكل ولم يشرب، لكن أنساه الله تعالى صومه، وقيض له الطعام والشراب، فصار غير مكلف؛ لأجل النسيان، فأضيف الفعل إلى الله تعالى قدراً وشرعاً، فسقط قلم التكليف عن هذا الفعل.
وفعل الله تعالى لا يتوجه إليه تكليف؛ فإن إطعامه وإسقاءه لا يكون منهيًاً عنه، والمكلف لم يوجد منه ما يخفي عنه؛ فالصوم باقٍ بحاله.
فقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الله أطعمك وسقاك» : معناه: لا صنع لك في هذا الفعل، وإنما هو فعل الله فقط؛ فلا حرج عليك فيه ولا إثم؛ فأتمم صومك.
471 -
السادس: ما روي في لفظ: «إذا أكل الصائم أو شرب ناسياً؛ فإنما هو رزق ساقه الله إليه، ولا قضاء عليه» . رواه الدارقطني وقال: إسناد صحيح كلهم ثقات.
472 -
وفي لفظ: «من أفطر يوماً في رمضان ناسياً؛ فلا قضاء عليه ولا كفارة» . رواه الدارقطني وقال: تفرد به ابن مرزوق - وهو ثقة- عن الأنصاري.
473 -
وأيضاً: عن أم حكيم بنت دينار، عن مولاتها أم إسحاق: أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتي بقصعة من ثريد، فأكلت معه، ومعه ذو اليدين، فناولها رسول الله صلى الله عليه وسلم عرقاً، فقال:«يا أمّ إسحاق! أصيبي من هذا» . فذكرت أني كنت صائمة، فتركت يدي لا أقدمها ولا أؤخرها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«ما لكِ؟» . قلت: كنت صائمة فنسيت. فقال ذو اليدين: الآن بعدما شبعت؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أتمي صومك؛ فإنما هو رزق ساقه الله إليك» . رواه الإِمام أحمد وأبو بكر عبد العزيز.
ولأن الصوم من باب الترك؛ فإن الواجب فيه الإِمساك عن المفطرات، وليس فيه فعل ظاهر يفعله، وإذا كان الفطر من باب المنهيات؛ فإن الإِنسان إذا فعل ما نهي عنه ناسياً أو مخطئاً؛ كان وجود ذلك الفعل كعدمه في حق الله تعالى.
474 -
لقوله تعالى {رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} . قال الله تعالى: «قد فعلت» .
475 -
ولقوله صلى الله عليه وسلم: «عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان» .
فإذا لم يؤاخذ العبد بهذا الأكل؛ كان صومه باقياً على صحته، هذا هو الأغلب.
وقد يستثنى منه مواضع تغلظ، مثل الحلق والتقليم وقتل الصيد في الإِحرام؛ لأنه من باب الإِتلاف، ومثل الكلام في الصلاة على رواية؛ لأنه بغير هيئة الصلاة، ولا يفرق في [مبطلاتها] بين العمد والسهو، ومثل الجماع في الصيام والإِحرام لتغلظ جنسه، ولأنه يشبه الإِتلاف، ولأنه لا يكاد يقع فيه النسيان؛ لكونه غير معتاد، وغير ذلك من الأحكام والأسباب، وإلا فالأصل ما قدمناه.
فعلى هذا: لا فرق بين الأكل الكثير والقليل.
الفصل السابع: أن من فعلها مكرهاً لم يفسد صومه أيضاً.
وهو نوعان:
أحدهما: أن لا يكون له فعل في الأكل والشرب ونحوهما، مثل أن يُفتح فوه [ويوضع] الطعام والشراب فيه، أو يُلقى في ماء فيدخل إلى أنفه وفمه، أو يرش عليه ماء فيدخل مسامعه، أو يُحجم كرهاً، أو يداوي مأمومة أو جائفة بغير اختياره، أو يجرح جرحاً نافذاً إلى جوفه بغير اختياره، ونحو ذلك.
فهذا لا يفطر في المنصوص عنه الذي عليه أصحابه.
قال في رواية ابن القاسم في الذباب يدخل حلق الصائم والرجل يرمي بالشيء فيدخل حلق الآخر: وكل أمر غلب عليه؛ فليس عليه قضاء ولا غيره، وهذا كله سواء ذكر أو لم يذكر. قلت له: فرق بين مَنْ توضأ للفريضة وبين من توضأ للتطوع؛ فإنهم يفرقون بينهما. قال: هو سواء إذا لم يتعمد وإنما غلب عليه.
وقد يتبرد بالماء في الضرورة من شدة الحر.
والذي عليه أكثر أصحابنا الفرق بين أن يستكرهها على الوطء أو يستكرهها على الأكل والشرب.
وخرَّج ابن عقيل رواية [أخرى] أن الإِكراه على الأكل والشرب يفطر كالاستكراه على الوطء.
فأما الاحتلام وذرع القيء؛ فإنه لا يفطر قولاً واحداً.
وأما إذا أكره على الأكل بالضرب أو الحبس أو الوعيد حيث يكون إكراهاً، حتى أكل بنفسه؛ فهل يفسد صومه؟ فيه وجهان ذكرهما القاضي في «خلافه» .
أحدهما: لا يفطر أيضاً، وهو قول القاضي في «المجرد» وأبي الخطاب وغيرهما.
الثاني: يفطر هنا، وهو قول ابن عقيل.
وينبغي أن يكون في جواز الفطر هنا روايتان؛ كالروايتين في جواز أكل الدم والميتة ولحم الخنزير وشرب الخمر. والله تعالى أعلم.
الفصل الثامن: أنه إنما اشترط أن يفعله عامداً ذاكراً لصومه.
فالعامد خرج به المخطئ والمكره.
فإذا فعل جاهلاً:
فإما أن يجهل أن ذلك الوقت من نهار رمضان؛ مثل أن يعتقد أن ذلك اليوم ليس من رمضان، أو يعتقد أن الفجر لم يطلع؛ فإن هذا يفطر؛ كما سيأتي إن
شاء الله تعالى.
وإما أن يجهل ذلك الشيء مفطر؛ فذكر أبو الخطاب أنه لا يفطر.
476 -
477 - لأن عدي بن حاتم ورجلاً من المسلمين كانوا يأكلون حتى يتبين لهم العقال الأبيض من العقال الأسود؛ معتقدين أن ذلك معنى قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} [البقرة: 187] ، ولم يأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالقضاء؛ لكونهم غير عالمين بأن الأكل في هذا الوقت مفطراً.
لأن الجهل أشد عذراً من النسيان؛ فإن الناسي قد كان علم ثم ذكر، والجاهل لم يعلم أصلاً؛ فإذا كان النسيان عذراً في منع الإِفطار؛ فالجهل أولى.
ولأن الصوم من باب الترك، ومن فعل من نهي عنه جاهلاً بالنهي عنه؛ لم يستحق العقوبة، فيكون وجود الفعل منه كعدمه؛ فلا يفطر؛ كالناسي.
والمنصوص عن أحمد فيمن احتجم جاهلاً بالحديث: أنه يفطر.
ولذلك ذكر القاضي [في مسألة تطيبه في الحج ناسياً] وغيره من أصحابنا: أن العالم بحظره والجاهل سواء؛ قال: لأن كل عبادة حظر فيها معنى من المعاني؛ فإن حكم العالم بحظره والجاهل به سواء.
478 -
لأن النبي صلى الله عليه وسلم مر بالذي يحتجم، فقال:«أفطر الحاجم والمحجوم» ، ولم يكن يعلم أن ذلك منهي عنه.