الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولأن من أفطر جاهلاً؛ لم يقصد فعل [العبادة] التي أمر بها، فتبقى في عهدته حتى يقضيها؛ كمن ترك الصوم جاهلاً بوجوبه، أو ترك تبييت النية جاهلاً بأن اليوم من رمضان أو ناسياً؛ بخلاف من قصد الكف والإِمساك عن الطعام، ثم أكله ناسياً لصومه؛ فإن له نظراً صحيحاً، وفعله الذي صدر لا يقدح فيه.
والصوم، وإن كان [تركاً، لكن يشبه] الأفعال من حيث وجوب النية فيه؛ بخلاف ترك جميع المحرمات؛ فإنه يكفي في عدم الإِثم عدم الفعل، وهنا لا بد من قصد الامتثال، فله شبه بالمأمورات من وجه، وبالمنهيات من وجه.
ومن أمر بترك الأكل والشرب، فلم يقصد ذلك ولم يرده؛ لم يمتثل ما أمر به البتة.
مسألة:
وإن طار إلى حلقه ذباب أو غبار، أو مضمض أو استنشق فوصل إلى حلقه ماء، أو فكر فأنزل، أو قطر في إحليله، أو احتلم، أو ذرعه القيء؛ لم يفسد صومه
.
في هذا الكلام فصول:
أحدها: أن ما دخل إلى فم الصائم بغير اختياره لا يفطره.
مثل أن يطير إلى حلقه غبار الطريق أو الذباب ونحو ذلك؛ فإنه لا يفطر
به. نص عليه؛ لأنه مغلوب على ذلك، فأشبه الاحتلام وذرع القيء.
فإن قصد جمعه [وابتلاعه، أي الغبار، ونحوه، أفطر]
وإن اجتمع في فيه بغير قصد، فابتلعه بقصده؛ أفطر أيضاً. قاله أبو محمد.
فإن اعتمد القعود في موضع يصيبه ذلك لحاجة، مثل أن يغربل الدقيق، أو يقعد عند منْ يغربله لحاجة، فدخل إلى فمه؛ لم يفطر. ذكر ابن عقيل.
الفصل الثاني: إذا تمضمض أو استنشق ولم يزد على الثلاث ولم يبالغ، فسبقه الماء فدخل في جوفه؛ فإنه لا يفطر، سواء توضأ لفريضة أو نافلة. نص عليه.
لأنه دخل بغير اختياره، فلم يفطره؛ كالذباب والغبار.
ولأنه نوع لا يوجب الكفارة، فلا يفطر ما وقع بغير اختياره؛ كذرع القيء.
فإن قيل: الفرق بينهما من وجهين:
أحدهما: أنه هنا مختار في الفعل الذي يتولد منه الدخول، وهو قادر على تركه في الجملة؛ بخلاف الذباب.
الثاني: المضمضة والاستنشاق من فعله، فإذا سبقه شيء إلى حلقه؛ كان ذلك لسوء فعله، فيفطر.
قلنا: لا فرق فيما غلب عليه بين أن يفعل سببه أو لا يفعله إذا كان سببه مباحاً من غير كراهة؛ فإنه لو أخذ ينخل الدقيق، فطار إلى حلقه؛ لم يفطر، وذلك لأن الشرع إذا أذن له في السبب؛ لم يؤاخذه بما يتولد منه.
ولهذا قلنا: سراية القَوَدِ غير مضمونة، وسراية التأديب والتعزير غير مضمونة؛ كسراية إقامة الحدّ.
وبهذا يظهر الجواب عن الوجه الثاني؛ فإنه إذا أذن له في المضمضة والاستنشاق، وفعل ما أذن له فيه بحسب وسعه؛ لم يضمن ما تولد من ذلك؛ كالرائض إذا ضرب الدابة، ولأنه [لم يتعد] المشروع لم يضمنه؛ كبقايا ما بين الأسنان إذا دخل؛ فإن بالغ في الاستنشاق أو زاد على المرة الثالثة فدخل الماء إلى حلقه؛ فقد قال بعض أصحابنا: هو مكروه.
والأشبه أنه محرم إن غلب على الظن دخوله إلى الجوف.
قال أحمد في رواية عبد الله في الصائم تمضمض فغلبه الماء فدخل حلقه: لا شيء عليه إذا غلبه، أو تمضمض أكثر من ثلاث: فيعجبني أن يعيد ذلك اليوم.
وذكر أبو الخطاب وغيره فيها وجهين:
أحدهما: وجوب الإِعادة عليه. وهو الذي ذكره القاضي وابن عقيل وغيرهما.
وقال ابن أبي موسى: إن دخل حلقَه الماءُ فيما زاد على الثلاث؛ أفطر قولاً واحداً.
479 -
لقول النبي صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة: «وبالغ في الاستنشاق؛ إلا أن تكون صائماً» .
فإذا فعل ما نهي عنه؛ لم يعف عن سرايته. . . .
ولأنه لو لم يكن ما ينزل من المبالغة مفطراً؛ لما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه.
481 -
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر: «أرأيت لو وضعت في فيك ماء ثم مججته؛ أكنت تفطر؟» . قال: لا. قال: «فمه» .
فشبه القبلة بالمضمضة في أن كلاًّ منهما مقدمة لغيره؛ فإذا لم يحصل ذلك الغير؛ لم يؤثر، فيجب إذا حصل ذلك الغير أن يؤثر، والمضمضة مقدمة الأكل، والقبلة مقدمة الإِنزال، ولولا أنهما مستويان في الموضعين؛ لما حسن قياس أحدهما بالآخر، وكان يقال: المضمضة لا تفضي إلى الفطر بحال؛ بخلاف القبلة، لكن القبلة ليست مشروعة بحال، والمضمضة مشروعة في بعض المواضع، فما كان منها مشروعاً؛ خرج عن هذا القياس، فيبقى غير المشروع كالقبلة سواء.
الثاني: لا يفطر؛ لأنه فعل مغلوب عليه، فلم يفطر؛ كالثالثة.
فإن اغتمس في ماء، فدخل الماء حلقه أو أنفه أو أذنه، أو اغتسل فدخل فمه أو أذنه أو أنفه، وتمضمض لغير طهارة، فدخل الماء حلقه بغير اختياره؛
فإن كان ذلك لطهارة مشروعة؛ مثل أن يغسل فمه من نجاسة به، أو يغسل غسلاً مشروعاً كالجنابة والجمعة؛ فهو كما لو سبقه الماء في المضمضة والاستنشاق.
وإن وضع الماء في فمه للتبرد أو عبثاً [أو اغتسل عبثاً] أو اغتمس في الماء، أو أسرف في الاغتسال عبثاً؛ فكلامه يقتضي روايتين:
أحدهما: يفطر. [والثانية: لا يفطر].
فقد قال في رواية ابن القاسم: كل أمر غلب عليه؛ فليس عليه فضاء، ولا غيره، وسواء ذكر أو لم يذكر. قيل له: يفرق بين المتوضأ للفريضة ومن توضأ للتطوع؟ قال: هو سواء إذا لم يتعمد إنما غلب، وقد يتبرد بالماء في الضرورة من شدة الحر.
فقد نص على أنه إذا تبرد من شدة الحر، فدخل أنفه أو فاه وهو مغلوب عليه؛ لم يفطر؛ لأنه دخل المفطر إلى جوفه بغير اختياره فلم يفطر؛ كما لو دخل في المضمضة والاستنشاق وما في معنى ذلك؛ لم يفطر. اهـ.
ولأنه نوع من المفطرات، فلم يؤثر إذا وجد بغير قصد منه؛ كالقيء والاحتلام، وهذا بخلاف نزول الماء عن مباشرة؛ فإنه، وإن لم يقصد نزول الماء، لكن هو لا ينزل الماء إلا بالمباشرة؛ فإذا فعل المباشرة؛ فقد فعل السبب الذي [منه] يستنزل الماء.
وأيضاً الابتلاع والازدراد في الغالب إنما يكون بقصده، ولا [مقصد] له في ذلك.
[والسباحة]: لا تفطر.
قال في رواية حنبل: الصائم إن لم يدخل مسامعه وحلقه الماء؛ فلا بأس أن ينغمس فيه.
482 -
ورووا عن مبارك عن الحسن: أنه كره أن يغوص في الماء، وقال:«إن الماء يدخل في مسامعه» .
وقال في رواية أبي الصقر: إذا استعط أو وضع على لسانه دواء، فدخل حلقه؛ فعليه القضاء.
وقال في رواية حنبل: وقد يسأله عن الرجل يصوم، ويشتد عليه الحرّ؛ ترى له أن يبل ثوباً أو يصب عليه يتبرد بذلك ويتمضمض ويمجه؟
483 -
قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم بالعرج يصب على رأسه الماء وهو صائم» .
وأما المضمضة؛ فلا أحب أن يفعله، لعله أن يسبقه إلى حلقه، ولكن يبل ثوباً ويصب عليه الماء.
وسئل عن الصائم يعطش فيتمضمض ثم يمجه؟ قال: «يرش على صدره أحب إليَّ» .
لأنه غير مأمور من الشرع بهذه الأشياء؛ فإذا فعلها؛ كان ضامناً لما يتولد منها من الفطر كما يضمن ما يتولد من ضرب الغير.
ولأن مباشرته للسبب المقتضي لدخول هذه الأشياء إلى جوفه بغير أمر
الشرع اختيار منه وقصد إذا لم يغلب على الظن دخول الداخل إلى جوفه.
فأما إن غلب على ظنه؛ حرم عليه فعله وأفطر بما يتولد منه بلا تردد.
ومن أصحابنا من فرق في هذه المواضع بين ما تدعو إليه الحاجة ويباح فعله من غير كراهة وما ليس كذلك، وما كان من هذه الأشياء لا حاجة إليه؛ فهو مكروه إن خيف حصول الفطر منه.
فأما ما يحتاج إليه لغير الطهارة. . . .
وأما الاغتسال ودخول الحمام؛ فلا بأس به إذا لم يخف الضعف من الحمام.
قال في رواية ابن منصور: الصائم يدخل الحمام وإن لم يخف الضعف.
وقال في رواية حنبل: لا بأس بالاغتسال من الحر.
484 -
لأن النبي صلى الله عليه وسلم «كان يصبح جنباً من جماع غير احتلام، ثم يغتسل ويصوم» . متفق عليه.
485 -
وعن أبي بكر بن عبد الرحمن، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال:«لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج يصب على رأسه الماء وهو صائم من العطش أو من الحر» . رواه أحمد وأبو داوود.