الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال القاضي: وهذا يدل على فضيلة الصوم على غيره؛ لأن الرياء لا يدخله؛ لأنه إمساك ونية، وهذا المعنى لا يصح إظهاره، فيقع الرياء فيه. . . .
مسألة:
والصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر، ولا قضاء عليه
.
وجملة ذلك أن منْ شرع في صيام التطوع؛ فإنه يجوز الخروج منه ولا قضاء عليه، لكن المستحب أن يتمه وأن يقضيه إذا أفطر. . . .
وهل يكره فطره لغير حاجة؟ وهل يستحب فطره مع الحاجة؟ وهل يقضي مع الحاجة؟
قال ابن أبي موسى: من أفطر في تطوعه عامداً؛ فالاحتياط له أن يقضيه من غير أن يجب ذلك؛ فعلى هذا لا يستحب له القضاء إذا أفطر بعذر، بل يكون بمنزلة صوم مبتدأ، [والأول].
وقال في رواية الأثرم فيمن أصبح صائماً متطوعاً فبدا له فأفطر يقضيه؟ قال: إن قضاه فحسن، وأرجو أن لا يجب عليه.
وقال حرب: سئل أحمد قيل: ما تقول فيمن نوى الصيام من الليل، ثم أصبح فأفطر؟ قال: إن قضى فهو أحب إليَّ، وإلا؛ فليس عليه شيء.
وسئل عن رجل صام تطوعاً، فأراد أن يفطر: أعليه قضاء أم لا؟ قال: إذا
كان من نذر أو قضاء رمضان يقضي، وإلا فلا.
وكذلك نقل ابن منصور. . . .
وهذا هو المذهب.
وروى عنه حنبل: إذا أجمع على الصيام من الليل، فأوجبه على نفسه، فأفطر من غير عذر؛ أعاد ذلك اليوم.
فاختلف أصحابنا في هذه الرواية:
فقال القاضي: هذا محمول على صوم النذر دون التطوع، وقد صرح به في مسائل حنبل، فقال: إذا كان [نذراً]؛ قضى وأطعم لكل يوم مسكيناً، وإن كان. . . .
وقال غيره: يحمل ذلك على استحباب القضاء دون إيجابه؛ ليوافق سائر الروايات، وأقرها طائفة رواية.
قال أبو بكر عبد العزيز: تفرد حنبل بهذه الرواية، وجميع أصحابنا على أن لا قضاء عليه، وبه أقول.
وهذه طريقة ابن البناء وغيره، وهي أصح؛ لأن أحمد فرق بين الأمر بالإِعادة وبين المعذور وغيره، وقضاء النذر لا [يختلف] ، ولم يتعرض لوجوب الكفارة، ولو كانت نذراَ؛ لذكر الكفارة.
ووجه ذلك: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ
وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33].
وهذا يعم إبطالها بعد إكمالها وفي أثنائها؛ فإن ما مضى من الصوم والصلاة والإِحرام ونحوها عمل صالح يثاب عليه؛ بحيث لو مات في أثنائه؛ أجر على ما مضى أجر من قد عمل لا أجر من قصد ونوى، وإذا كان عملاً صالحاً؛ فقد نهى الله عن إبطاله.
667 -
وعن شداد بن أوس؛ قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية» . قال: قلت: يا رسول الله! أتشرك أمتك بعدك؟ قال: «نعم؛ أما إنهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولا وثناً، ولكن يراؤون بأعمالهم، والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائماً، فتعرض له شهوة من شهواته، فيترك صومه» . رواه أحمد وابن ماجه من حديث رواد بن الجراح، عن عامر بن عبد الله، عن الحسن بن ذكوان، عن عبادة بن نسي، عن شداد بن أوس.
................ .
668 -
وعن الزهري، عن عروة، عن عائشة؛ قالت: كنت أنا وحفصة صائمتين، فعرض لنا طعان اشتهيناه، فأكلنا منه، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبدرتني إليه حفصة، وكانت ابنة أبيها، فقالت: يا رسول الله! إن كنا صائمتين، فعرض لنا طعام اشتهيناه، فأكلنا، فقلنا:«اقضيا يوماً آخر مكانه» . رواه أحمد والنسائي والترمذي [من حديث] جعفر بن برقان الزهري، وقال الترمذي: وروى صالح بن أبي الأخضر ومحمد بن أبي حفص هذا الحديث عن الحديث عن الزهري عن عروة عن عائشة.
669 -
قال: وروى مالك بن أنس ومعمر وعبيد الله بن عمر وزياد بن [سعد] وغير واحد من الحفاظ، عن الزهري، عن عائشة؛ مرسلاً، ولم يذكر فيه عروة، وهذا أصح.
670 -
وروي بإسناده عن ابن جريج؛ قال: سألت الزهري، فقلت: أحدثك عروة عن عائشة؟ فقال: لم أسمع من عروة في هذا شيئاً، ولكن سمعت في خلافة سليمان بن عبد الملك من ناس عن بعض منْ سأل عائشة عن هذا الحديث.
ورواه أحمد والنسائي من حديث سفيان بن حسين عن الزهري.
ورواه النسائي أيضاً، من حديث صالح بن أبي الأخضر، عن الزهري؛ قال: وصالح بن أبي الأخضر ضعيف في الزهري وفي غير الزهري، وسفيان بن حسين وجعفر بن برقان ليسا بقويين في الزهري، ولا بأس بهما في غير الزهري، ثم رواه مرسلاً من حديث معمر ومالك وعبيد الله بن عمر.
ورواه عن سفيان؛ قال: سألوا الزهري وأنا شاهد: أهو عن عروة؟ قال: لا.
ورواه سعيد عن سفيان بن عيينة [فثنا الزهري؛ قال: قالت عائشة: فذكره، وفيه: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:«صوما يوماً مكانه» . قال سفيان: فسألت الزهري: عن عروة؟ فغضب وأبى أن يسنده.
............................ .
............................. .
............................... .
671 -
قال سعد: ثنا عاطف بن خالد، عن زيد بن أسلم؛ قال: قالت عائشة: مثله، وقال لنا:«صوما مكانه ولا تعودوا» .
وفي حديث مالك وغيره: أن عائشة وحفصة أصبحتا صائمتين متطوعتين.
672 -
وعن ابن الهاد، عن زميل مولى عروة، عن عروة بن الزبير، عن عائشة؛ قالت: أهدي لحفصة طعام، وكنا صائمتين، فأفطرنا، ثم دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا: يا رسول الله! إنا أهديت لنا هدية، واشتهيناها، فأفطرنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«لا عليكما، صوما يوماً آخر» . رواه أبو داوود والنسائي وقال: زميل ليس بالمشهور. وقال البخاري: لا يعرف لزميل سماعاً عن عروة، ولا تقوم به الحجة.
673 -
وعن جرير بن حازم، عن يحيى بن سعيد، عن عمرة، عن عائشة: نحوه. رواه النسائي وقال: هذا خطأ.
وقال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: تحفظ عن يحيى عن عمرة عن عائشة: «أصبحت أنا وحفصة صائمتين» ؟ فأنكره وقال: مَنْ رواه؟ قلت: جرير. فقال: جرير يحدث بالتوهم، وأشياء عن [قتادة] يسندها جرير بن حازم باطلة.
674 -
وعن سعيد بن جبير: «أن حفصة وعائشة أصبحتا صائمتين تطوعاً، فأفطرتا، فأمرهما رسول الله أن يقضياه» . رواه سعيد.
675 -
وعن أنس بن سيرين؛ قال: «صمت يوماً، فأجهدت، فأفطرت، فسألت ابن عمرو وابن عباس؟ فأمراني أن أقضي يوماً مكانه» . رواه سعيد.
676 -
وعن محمد بن أبي حميد، عن إبراهيم عن عبيد؛ قال: صنع أبو سعيد الخدري طعاماً، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فقال رجل من القوم: إني صائم. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صنع لك أخوك، وتكلف لك أخوك؛ أفطر وصم يوماً مكانه» . رواه الدارقطني وقال: هذا مرسل.
ورواه حرب وقال: «كل وصم يوماً مكانه إن أحببت» .
وقد تكلم في محمد بن أبي حميد.
677 -
وعن ابن عيينة، عن طلحة بن يحيى، عن عائشة بن طلحة، عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها؛ قالت: دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فقربت له حيساً، فأكل منه وقال:«إني كنت أريد الصيام، ولكن أصوم يوماً مكانه» . رواه عبد الرزاق عنه.
ورواه الدارقطني، ولفظه: قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال:«إني أريد الصيام» . وأهدي إليه حيس، فقال:«إني آكل وأصوم يوماً مكانه» .
قال الدارقطني: لم يروه بهذا اللفظ غير ابن عيينة عن محمد بن عمرو بن العباس الباهلي، ولم يتابع على قوله:«وأصوم يوماً مكانه» ، ولعله شبه عليه، والله أعلم، لكثرة من خالفه عن ابن عيينة.
ورواية عبد الرزاق التي ذكرناها تدل على خلاف قول الدارقطني.
فهذا الحديث غايته أن يكون مرسلاً.
لكن قد أرسله الزهري وزيد بن أسلم وسعيد بن جبير، وعمل به الصحابة، والمرسل إذا تعدد مرسلوه وعمل به الصحابة؛ صار حجة بلا تردد، وقد أسند من غير حديث الزهري كما تقدم.
ولأنها عبادة، فلزمت بالشروع فيها ووجب القضاء بالخروج منها لغير
عذر؛ كالحج، ولأن الشروع في العبادة التزام لها، فلزم الوفاء به كالنذر.
يحقق التماثل: أن الله تعالى قال في آية الصوم: {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] كما قال في آية الحج: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196].
فإذا كان عليه إتمام ما دخل فيه من الحج والعمرة؛ فكذلك عليه إتمام ما دخل فيه من الصيام.
فعلى هذه الرواية: إنما تقضى إذا أفطر لغير عذر.
فأما إن أفطر لعذر من مرض أو سفر ونحو ذلك؛ فلا إعادة عليه.
وإن أفطر لكون الصوم مكروهاً، مثل أن يفرد يوماً بالصوم. . . .
678 -
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دعي أحدكم إلى طعام؛ فإن كان مفطراً؛ فليطعم، وإن كان صائماً؛ فليصل» .
ولو كان الأكل جائزاً؛ لبينه، ولاستحبه في الدعوة.
679 -
ولأنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تصومن امرأة وزوجها شاهد إلا بإذنه» .
ولو كان التفطير جائزاً؛ لم يكن في شروعها في الصوم عليه ضرر.
والأول المذهب:
680 -
لما روى شعبة، عن جعدة، عن أم هانئ وهي جدته.
وفي لفظ: قال شعبة: كنت أسمع سماك بن حرب يقول: أحد بني أم هانئ حدثني، فلقيت أنا أفضلهما، وكان اسمه جعدة، وكانت أم هانئ جدته، فذكره عن جدته: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها، فدعا بشراب فشرب، ثم ناولها فشربت، وقالت: يا رسول الله! أما إني كنت صائمة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الصائم المتطوع أمير نفسه، إن شاء صام، وإن شاء أفطر» .
وفي رواية: قلت له: سمعته من أم هانئ؟ قال: لا. حدثنيه أبو صالح وأهلنا عن أم هانئ.
رواه أحمد والنسائي والترمذي وقال: في إسناده مقال.
وفي رواية لأحمد والنسائي: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل عليها يوم الفتح.
ورووه أيضاً من حديث سماك بن حرب، عن ابن أم هانئ، عن أم هانئ.
وفي لفظ: سمعه منها.
وفي لفظ: عن هارون ابن بنت أم هانئ أو ابن ابن أم هانئ عن أم هانئ: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب شراباً، فناولها لتشرب، فقالت: إني صائمة، ولكن كرهت أن أرد سؤرك. فقال:«إن كان قضاء من رمضان؛ فاقضي يوماً مكانه، وإن كان تطوعاً؛ فإن شئت فاقضي، وإن كان تطوعاً؛ فإن شئت فاقضي، وإن شئت فلا تقضي» .
قال النسائي: اختلف فيه على سماك، وسماك ليس ممن يعتمد عليه إذا انفرد بالحديث.
ورواه أحمد وأبو داوود: عن يزيد بن أبي زياد، عن عبد الله بن الحارث، عن أم هانئ؛ قالت: لما كان يوم الفتح؛ فتح مكة؛ جاءت فاطمة، فجلست عن يسار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم هانئ عن يمينه. قالت: فجاءت الوليدة بإناء فيه شراب، فناولته فشرب منه، ثم ناوله أم هانئ فشربت منه، فقالت: يا رسول الله! لقد أفطرت وكنت صائمة. فقال لها: «أكنت تقضين شيئاً؟» . قالت: لا. قال: «فلا يضرك إن كان تطوعاً» .
فقد عاد الحديث إلى إسنادين:
أحدهما: رواته أهل بيت أم هانئ عنها، رواه عنهم شعبة وسماك، ولم ينفرد به سماك.
والثاني: رواته عبد الله بن الحارث.
وأهل البيت [عدة] نفر، منهم أبو صالح؛ فروايتهم أوكد من رواية الواحد، ورواية ذريتها عنهم دليل على ثقتهم وأمانتهم.
فإن قيل: النبي صلى الله عليه وسلم دخل مكة يوم الفتح في رمضان، ولا يجوز أن تكون صائمة في رمضان عن قضاء ولا تطوع.
681 -
قيل: «النبي صلى الله عليه وسلم أقام بمكة بضع عشرة ليلة بعد الفتح، وهذه الأيام كلها تسمى أيام الفتح» . . . . .
ولا يجوز أن يعتقد أنها أفطرت ناسية؛ لأنها أخبرت أنها كانت صائمة، وإنما كرهت أن ترد سؤر النبي صلى الله عليه وسلم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن التطوع لا قضاء فيه بحال، وأنه إن كان قضاء من رمضان؛ فعليها القضاء، ولأنه لم يقل: فالله أطعمك وسقاك.
682 -
وأيضاً [روى] طلحة بن يحيى، عن عائشة بنت طلحة، عن عائشة؛ قالت: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فقال:«هل عندكم من شيء؟» . فقلنا: لا. فقال: «فإني إذاً صائم» . ثم أتانا يوماً آخر، فقلنا: يا رسول الله! أهدي لنا حيس. فقال: «أرينيه؛ فلقد أصبحت صائماً» . فأكل. رواه الجماعة إلا البخاري.
زاد النسائي: ثم قال: «إنما مثل صوم التطوع مثل الرجل يخرج من ماله الصدقة؛ فإن شاء أمضاها، وإن شاء حبسها» .
وفي لفظ له: قال: «يا عائشة! إنما بمنزلة من صام في غير رمضان أو في قضاء رمضان أو في التطوع بمنزلة رجل أخرج صدقة من ماله، فجاد منها بما شاء فأمضاه، وبخل منها بما شاء فأمسكه» .
وفي رواية لمسلم؛ قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم: «يا عائشة! هل عندكم شيء؟» . قالت: فقلت: يا رسول الله! ما عندنا شيء. قال: «فإني إذاً صائم» . قالت: فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأهديت لنا هدية (أو: جاءنا زور). قالت: فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ قلت: أهديت لنا هدية (أو: جاءنا زور)، وقد خبأت لك شيئاً. قال:«ما هو؟» . قلت: حيس. قال: «هاتيه» . فجئت به، فأكل، ثم قال:«قد كنت أصبحت صائماً» . قال طلحة: فحدثت مجاهداً بهذا الحديث، فقال: ذلك بمنزلة الرجل يخرج الصدقة من ماله؛ فإن شاء أمضاها، وإن شاء أمسكها.
والحيس: تمر وسمن وأقط يطبخ.
قال الشاعر:
التمر والسمن جميعاً والقط الحيس إلا أنه لم يختلط
فهذا نص في جواز الإِفطار بعد إِجماع الصيام.
683 -
وعن عكرمة؛ قال: قالت عائشة: دخل علي النبي صلى الله عليه وسلم، فقال:«هل عندكم شيء؟» . فقلت: لا. فقال: «إني إذاً أصوم» . ودخل يوماً آخر، فقال:«هل عندكم شيء؟» . قلت: نعم. قال: «إذاً أطعم، وإن كنت فرضت الصوم» . رواه الدارقطني وقال أيضاً: إسناد حسن صحيح.
684 -
وعن أبي جحيفة؛ قال: آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا. فجاء أبو الدرداء، فصنع له طعاماً، فقال: كل؛ فإني صائم. فقال: ما أنا بآكل حتى تأكل. فأكل فلما كان الليل؛ ذهب أبو الدرداء يقوم. قال: نم. فنام، ثم ذهب يقوم، فقال: نم. فلما كان من آخر الليل؛ فقال: قم الآن. فصلَّيا، فقال له سلمان: إن لربك عليك حقّاً، ولنفسك عليك حقّاً، ولأهلك عليك حقّاً؛ فأعط لكل ذي حق حقه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«صدق سلمان» . رواه البخاري.
فقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم سلمان على تفطير أبي الدرداء ولم يأمره بالقضاء.
685 -
وعن سالم؛ قال: صنع عطاء طعاماً، فأرسل إلى سعيد بن جبير، فأتاه، فقال: إني صائم. فحدثه بحديث سلمان أنه أفطر أبا الدرداء، فأفطر. رواه البغوي.
686 -
وعن عمرو، عن سعيد؛ قال:«لأن أضرب بالخناجر أحب إليَّ من أن أفطر من تطوع بالنهار» . رواه سعيد البغوي.
فقد رجع سعيد إلى حديث سلمان هذا، وهو ممن روى حديث عائشة وحفصة.
687 -
وعن جويرية بنت الحارث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على جويرية في يوم جمعة وهي صائمة، فقال لها:«أصمت أمس؟» . قالت: لا. قال: «أتصومين غداً؟» . قالت: لا. قال: «فأفطري» . رواه الجماعة إلى مسلماً وابن ماجه والترمذي.
688 -
ورواه أحمد من حديث عبد الله بن عمرو.
إلا أن هذين الحديثين إنما يدلان على الفطر في موضع يكون الصوم مكروهاً؛ كإفراد يوم الجمعة، وسرد الصوم الذي يضعف به حقوق أهله، ونحو ذلك.
وأيضاً؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم أفطر في شهر رمضان هو وأصحابه وهو مسافر بعد أن أصبحوا صياماً لما كان جائزاً لهم ترك الصوم؛ فلن يجوز الفطر في صيام التطوع أولى وأحرى.
وأيضاً؛ فإنه إجماع ذكرناه عن سلمان وأبي الدرداء.
689 -
وعن الحارث، عن علي؛ قال:«إذا أصبحت وأنت تريد الصيام؛ فأنت بالخيار: إن شئت صمت، وإن شئت أفطرت؛ إلا أن تفرض الصيام عليك من الليل» . [يعني والله أعلم بالنذر]
690 -
وعن عبد الله: «متى أصبحت وأنت تريد الصوم؛ فأنت على خير النظرين: إن شئت صمت، وإن شئت أفطرت» .
وفي رواية عنه؛ قال: «أحدكم بأخير الفطرين ما لم يأكل أو يشرب» .
691 -
وعن عكرمة، عن ابن عباس؛ قال:«الصائم بالخيار: إن شاء صام، وإن شاء أفطر» .
692 -
وعن عطاء، عن ابن عباس؛ قال:«إذا صام الرجل تطوعاً، ثم شاء أن يقطعه؛ قطعه، وإذا دخل في صلاة تطوعاً، ثم شاء أن يقطعها؛ قطعها، وإذا طاف بالبيت تطوعاً، ثم شاء أن يقطعه؛ قطعه، غير أنه لا ينصرف إلا على وتر خمساً أو ثلاثاً أو شوطاً، وإذا أخرج الرجل صدقة تطوعاً، ثم شاء أن يحبسها؛ حبسها» .
693 -
وعن ابن عمر: أنه أصبح صائماً، ثم أتى بطعام، فأكل، فقيل له: ألم تكن صائماً؟ فقال: «لا بأس به؛ ما لم يكن نذراً أو قضاء رمضان» . رواهن سعيد.
694 -
وعن جابر: «أنه كان لا يرى [بالإِفطار] في صيام التطوع بأساً» . رواه الشافعي.
وأيضاً؛ فإن الرجل إذا أصبح صائماً؛ لم يوجد منه إلا مجرد النية والقصد، والنية المجردة لا يجب بها شيء.
695 -
لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تتكلم به أو تعمل به» .
يبقى الفرق بينه وبين الإِحرام وبين أن يتكلم بالنية أو لا يتكلم بها.
ولأنها عبادة يخرج منها بالإِفساد، فلم يجب قضاؤها إذا أفسدها؛ كالوضوء، وكما لو صام يعتقد أن عليه فرضاً؛ فإنه بخلافه، وعكسه الإِحرام؛ فإنه لا يخرج منه بالفساد. . . .
ولأنه إذا كان له أن لا يفعل؛ كان له أن يخرج منه قبل الإِتمام. . . .
وأما قوله سبحانه: {وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} [محمد: 33]؛ فإنه ما لم يتم فليس بعمل.
وأما الأحاديث التي فيها الأمر بالقضاء إن كانت صحيحة؛ فإنما هو أمر استحباب، وبيان أن الصوم لم يفت، وأن المفطر إذا صام يوماً مكان هذا اليوم؛ فقد عمل بدل ما ترك.
696 -
وهذا كما قضت عائشة عمرة بدل العمرة التي أدخلت عليها الحج وصارت قارنة.
وكما قضى النبي صلى الله عليه وسلم اعتكافه حتى لا يعتقد المعتقد أن المتطوع إذا أفطر؛ فقد بطلت حسنته على وجه لا يمكن تلافيه؛ كالمفطر في رمضان ونحوه.
ويدل على ذلك أشياء:
أحدها أن الرواية المسندة قال فيها: «لا عليكما صوما مكانه يوماً» ، مع إخبارهما أنهما أكلتا بشهوة ولم يفطرا لعذر.
وبقوله: «لا عليكما» ؛ أي: لا بأس عليكما، ولو كان الفطر حراماً والقضاء واجباً؛ لكان عليهما بأس.
ثانيهما: أن في رواية سفيان عن الزهري: أنهما لما أخبرتاه؛ تبسم النبي
صلى الله عليه وسلم، ولو كانتا قد أذنبتا؛ لغضب أو لبيَّن لهما أن هذا حراماً؛ لئلا يعودا إليه.
وأما قوله: «ولا تعودا» ؛ فهي رواية مرسلة، ثم معناها – والله أعلم – لا تعودا إلى فطر تريدان قضاؤه؛ فإن إتمام الصيام أهون من التماس القضاء، وهذا لما رأى حزنهما على ما فوتاه من الصوم؛ قال: فلا تفعلاه شيئاً تحزنا عليه.
وثالثهما: أن في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الحيس: أنه قال: «إني آكل وأصوم يوماً مكانه» ، ولولا أن الخروج جائز والقضاء مستحب؛ لما أفطر.
ورابعهما: أن في حديث المدعو إلى طعام أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أفطر وصم يوماً مكانه» . وفي رواية: «إن أحببت» ، ولو كان القضاء واجباً؛ لما قيل هذا.
وخامسها: أن ابن عمر وابن عباس قد أمرا بالقضاء، وصح عنهما جواز الإِفطار لغير عذر، فعلم أن ذلك أمر استحباب.
697 -
فروى يوسف بن ماهك؛ قال: «وطئ ابن عباس جارية له وهو صائم، فقال: إنما هو تطوع وهي جارية اشتهيتها» .
698 -
وفي رواية عن سعيد بن جبير؛ قال: «دخلنا على ابن عباس صدر النهار فوجدناه صائماً، ثم دخلنا فوجدناه مفطراً، فقلنا: ألم تك صائماً؟ قال: بلى، ولكن جارية لي أتت عليَّ، فأعجبتني، فأصبتها، وإنما هو تطوع، وسأقضي يوماً مكانه، وسأزيدكم: إنها كانت بغيّاً فحصنتها، وإنه قد عزل عنها» . قال سعيد بن جبير: «فعلمنا أربعة أشياء في حديث واحد» . رواهما سعيد.
وأما حديث شداد بن أوس إن صح؛ فيشبه – والله أعلم – أن يكون ذلك فيمن يعتاد أبداً الصوم ثم تركه لشهوته؛ فإن هذا مكروه.
ويحتمل أن يكون تفسير الشهوة الخفية من جهة بعض الرواة مدرجاً في الحديث.
يدل على ذلك ثلاثة أشياء.
أحدها: أن الشهوة الخفية قد فسرها أبو داوود وغيره بأنها حب الرئاسة، ولو كان تفسيرها مرفوعا؛ لما أقدموا على ذلك.
الثاني: أن تفسيرها بحب الرئاسة أشبه؛ لأن حب الرئاسة يكون في الإِنسان، ويظهر الأعمال الصالحة ولا نعلم أن مقصوده درك الرئاسة.
الثالث: أن الأكل شهوة ظاهرة؛ فإنه إن لم تكن هي الشهوة الظاهرة؛ لم يكن لها شهوة ظاهرة.
الرابع: أن قرانه بالرياء دليل على أنه أراد ما هو من جنسه، والذي هو من جنسه هو حب الشرف لا أكل الطعام. والله تعالى أعلم.