الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مسألة:
ويصح من المرأة في كل مسجد، ولا يصح من الرجل إلا في مسجد تقام فيه الجماعة، واعتكافه في مسجد تقام فيه الجمعة أفضل
.
في هذا الكلام فصول:
الأول: أن الاعتكاف لا يصح إلا في مسجد، ويصح في كل مسجد في الجملة، سواء في ذلك مساجد الأنبياء، وهي المساجد الثلاثة أو غيرها؛ لأن الله تعالى قال:{وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: آية 187].
فلم ينه عن المباشرة إلا من عكف في المسجد، وتخصيصه بالذكر يقتضي أن ما عداه بخلافه، وتبقى مباشرة العاكف في غير المسجد على الإِباحة.
وإذا لم يكن العاكف في غير المسجد منهيّاً عن المباشرة؛ علم أنه ليس باعتكاف شرعي؛ لأنا لا نعني بالاعتكاف الشرعي إلا ما تحرم معه المباشرة؛ كما أنا لا نعني بالصوم الشرعي إلا ما حرم فيه الكل والشرب، ولأن كل معتكف تحرم عليه المباشرة؛ فلو كان المقيم في غير المسجد معتكفاً؛ لحرمت عليه المباشرة كغيره.
فإن قيل: فقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} : دليل على أنه قد يكون عاكفاً في غير المسجد؛ لأن التقييد بالصفة [بما لولا هو] لدخل في المطلق.
قلنا: لا ريب أن كل مقيم في مكان ملازم له فهو عاكف كما تقدم، لكن الكلام في النوع الذي شرعه الله تعالى؛ كما أن كل ممسك يسمى صائماً، وكل قاصد يسمى متيمماً، ثم لما أمر الله تعالى بتيمم الصعيد وأمر بالإِمساك عن المفطرات؛ صار ذلك هو النوع المشروع.
على أن الصفة قد تكون للتبيين والإِيضاح؛ كما في قوله تعالى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} [المؤمنون: آية 117]، وقوله: وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ} [البقرة: آية 61] ، ونحو ذلك.
فإن قيل: فلو لزم الإِنسان بقعة، يعبد الله تعالى فيها خالياً من الناس أو غير خال، مثل كهف أو غار أو بيت أو شعب؛ فهل يشرع ذلك ويستحب؟. . . .
قيل: أما إذا قصد مكاناً خالياً. . . .
وإنما جاز في كل مسجد؛ لأن الله سبحانه عمَّ المساجد بالذكر، ولم يخص مسجداً دون مسجد، وهو اسم جمع، معرف باللام، والمباشرة نكرة في سياق النفي، فيكون معنى الكلام: لا تفعلوا شيئاً من المباشرة وأنتم عاكفون في مسجد من المساجد.
وله أن يلزم بقعة بعينه لاعتكافه، وإن كره ذلك لغيره؛ لأن الاعتكاف عبادة واحدة؛ فلزوم المكان لأجلها كلزومه لصلاة واحدة وإقراء قرآن في وقت ونحو ذلك، وقيامه منه لحاجة لا تسقط حقه منه؛ لأن مَن قام من مجلس [ثم] عاد إليه؛ فهو أحق به.
وأصل ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في موضع بعينه من المسجد.
792 -
قال نافع: «قد [أراني] ابن العمر الموضع الذي كان يعتكف فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد» . رواه مسلم.
الفصل الثاني: أن المسجد هو المكان المبني للصلوات الخمس، وبيت قناديله وسطحه منه، وحوائطه، والمنارة المبنية في حيطانه أو داخله.
فلو اعتكف فيها أو صعد عليها؛ جاز عند أصحابنا.
قال أصحابنا: ويستحب الأذان لكل أحد، ونحن للمعتكف أشد استحباباً، وإن كانت متصلة بحائط المسجد، وهي خارجة عن سمت حائط المسجد؛ فهي منه كالمحراب.
قال القاضي: كلها منه منفصلة أو متصلة. . . .
وإن كانت المنارة خارج المسجد وخارج رحبته، فخرج المعتكف للتأذين فيها؛ ففيه وجهان:
أحدهما: لا يبطل؛ لأنها مبنية للمسجد، فأشبهت المتصلة به.
والثاني: يبطل.
قال ابن عقيل: وهو الشبه؛ لأنها ليست من المسجد.
وأما الرحبة: ففيها روايتان:
إحداهما: هي من المسجد.
قال في رواية المروذي: يخرج المعتكف إلى الرحبة، هي من المسجد.
والثانية: ليست منه.
قال في رواية ابن الحكم: إذا سمع أذان العصر في رحبة المسجد الجامع؛ انصرف ولم يصل، ليس هو بمنزلة المسجد، حدّ المسجد هو الذي جعل عليه حائط وباب.
793 -
وهذا لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر المعتكفات إذا حضن أن يقمن في رحاب المسجد.
قال القاضي: إن كانت محوطة عن الطريق، وعليها أبواب؛ فهي تابعة للمسجد.
وإن كانت [مشروعة] عن الطريق وغير محازة؛ مثل: رحاب جامع المنصور، ورحاب جامع دمشق؛ فحكمها حكم الطريق، لا يجوز الخروج إليها لغير حاجة.
فإن قلنا: الرحبة من المسجد؛ فكذلك المنارة التي فيها.
وإن قلنا: ليست هي منه؛ ففي الخروج إلى المنارة التي فيها وجهان.
الفصل الثالث: أمنه لا يصح اعتكاف الرجل إلا في مسجد تقام فيه الصلوات الخمس جماعة، سواء كانت الجماعة تتم بدون المعتكف أو لا تتم إلا به، حتى لو اعتكف رجلان في مسجد، فأقاما به الجماعة؛ جاز.
فإن رجا أن يجمع فيه، وغلب على ظنه ذلك، مثل إن نوى أن يؤذن فيه، فيجيء من يصلي معه؛ صار مسجد جماعة.
فإن غلب على ظنه أن لا يصلي معه أحد؛ لم يصح الاعتكاف؛ لأن الاعتكاف لا يكون إلا بالعزم على المقام في المسجد، والعزم يتبع الاعتقاد، فإذا اعتقد حصول الصلاة فيه؛ عزم على العكوف فيه، وإلا؛ فلا.
فإن اختلت الجماعة فيه بعض الأوقات. . . .
794 -
وذلك لما روي عن أبي وائل شقيق بن سلمة؛ قال: قال حذيفة لعبد الله بن مسعود: إن قوماً عكوفاً بين دارك ودار الشعري؛ فلا تغير! وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة (أو قال: في مسجد جماعة» ). فقال عبد الله: فلعلهم أصابوا وأخطأت، وحفظوا ونسيت. رواه سعيد بإسناد جيد.
............... .
795 -
وعن جويبر، عن الضحاك، عن حذيفة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل مسجد له مؤذن وإمام؛ فالاعتكاف فيه يصلح» . رواه سعيد والنجاد والدارقطني وقال: الضحاك لم يسمع من حذيفة.
796 -
وقد رواه حرب، عن الضحاك، عن النزال بن سبرة؛ قال: أقبل ابن مسعود وحذيفة من النجف، وأشرفوا على مسجد الكوفة؛ فإذا خيام مبنية، فقالوا: ما هذا؟ قالوا: أناس عكفوا. فقال ابن مسعود: لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام. فقال حذيفة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كل مسجد له إمام مؤذن؛ فإنه يعتكف فيه» .
فإن قيل: جويبر ضعيف متروك، ويدل على ضعف الحديث أن مذهب حذيفة أنه لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة؛ بدليل:
797 -
قلنا: قد روى هذا الحديث عن جويبر رجال من كبار أهل العلم، مثل هشيم وإسحاق والأزرق، وقد تابعه على نحو من معناه أبو وائل عن حذيفة، وهو معضود بآثار الصحابة، والرواية الأخرى عن حذيفة مرسلة.
وأيضاً؛ فإنه إجماع الصحابة.
798 -
روى النجاد عن علي رضي الله عنه؛ قال: «لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة» .
799 -
وعن ابن عباس؛ قال: «لا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الصلاة» .
800 -
وعن عائشة رضي الله عنها: أنها قالت: «لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة» .
801 -
وروى حرب، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس رضي الله عنهما؛ قال:«كل مسجد تقام فيه الصلاة فيه اعتكاف» .
802 -
وقد روى أبو داوود وغيره حديث عائشة؛ قالت: «من السنة لا اعتكاف إلا في مسجد جامع» .
................... .
................. .
............... .
803 -
وعن الزهري؛ قال: «مضت السنة أن لا يكون اعتكاف إلا في مسجد جماعة، مسجد يجمع فيه الجمعة» . رواه النجاد.
804 -
وفي لفظ للدارقطني: «من السنة لا اعتكاف إلا في مسجد جماعة» .
وقال غير عبد الرحمن بن إسحاق: لا يقول فيه: «قالت: السنة» ، جعله قول عائشة.
وهذا قول عامة التابعين، ولم ينقل عن صحابي خلافه؛ إلا قول من خص الاعتكاف بالمساجد الثلاثة وبمسجد نبي.
فقد أجمعوا كلهم على أنه لا يكون في مسجد لا جماعة فيه.
وأيضاً؛ المسجد موضع السجود ومحله، وهذا الاسم إنما يتم له ويكمل إذا كان معموراً بالسجود وبالصلاة فيه، أما إذا كان خراباً معطلاً عن إقام الصلاة
فيه؛ فلم يتم حقيقة المسجد له، وإنما يسمى مسجداً بمعنى أنه مهيأ للسجود معدٌّ له؛ كما قد تسمى الدار الخالية مسكناً ومنزلاً، ويُصان مما تُصان منه المساجد؛ لأنه مسجد، وإن لم يتم المقصود فيه.
وبهذا يعلم أن قوله: {عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} : إنما يفهم منه المواضع التي فيها الصلاة والسجود.
وأيضاً؛ فإن الصلوات الخمس في الجماعة واجبة كما تقدم بيانه؛ فلو جاز الاعتكاف في مسجد مهجور معطل؛ للزم: إما ترك الجماعة، وذلك غير جائز، وإما تكرار الخروج في اليوم والليلة لما عنه مندوحه، وذلك غير جائز؛ لأن الاعتكاف هو لزوم المسجد، وأن لا يخرج منه إلا لما لا بد منه. . . .
وأيضاً؛ فلو لم تكن الجماعة واجبة؛ فإنها من أعظم العبادات، وهي أوكد من مجرد الاعتكاف الخالي عنها بلا ريب، والمداومة على تركها مكروهة كراهة شديدة؛ فلو كان العكوف الخالي عنها مشروعاً؛ لكان قد شرع التقرب إلى الله تعالى بما ينهى فيه عن الجماعة، بل يحرم فعلها معه؛ إذ الخروج من المعتكف لا يجوز، وهذا غير جائز. . . .
فأما اعتكاف لا يتضمن وجوب جماعة، مثل أن يكون زمنه يسيراً، لا يحضر فيه صلاة مكتوبة:
فقال ابن عقيل وغيره: يصح في كل مسجد؛ إذ لا محذور فيه؛ فإنما اشترطنا مسجداً تقام فيه الجماعة لأجل وجوبها، وهذا إذا صححنا اعتكاف بعض يوم على المشهور من المذهب، وكذلك من لا يمكنه شهود الجماعة؛ لكونه في موضع لا تقام فيه الجماعة.
وأما من يمكنه حضور الجماعة ولا يجب عليه كالمريض وغيره من المعذورين والعبد؛ ففيه وجهان:
أحدهما يصح اعتكافه في كل مسجد؛ لأن الجماعة لا تجب عليه.
والثاني: لا يصح إلا في مسجد الجماعة؛ لأنه من أهل الوجوب، فإذا تكلف الاعتكاف في مسجد؛ وجب أن يكون مسجد الجماعة.
وإذا تكلف حضور محلها؛ وجبت عليه كما تجب عليه الجمعة إذا حضر المسجد؛ لأن المسقط للحضور قد التزمه كما يجب عليه إذا حضرها.
ولأن من التزم التطوعات لا يصح أن يفعلها إلا بشروطها؛ كالصوم والصلاة.
فعلى هذا: إن أقيمت فيه بعض الصلوات، فاعتكف في وقت تلك الصلاة. . . .
الفصل الرابع: أن المرأة لا يصح اعتكافها إلا في المسجد المتخذ للصلوات الذي يحرم مقام الجنب فيه وتناله أحكام المساجد.
فأما مسجد بيتها – وهو مكان من البيت يتخذه الرجل أو المرأة للصلاة فيه مع بقاء حكم الملك عليه-؛ فلا يصح الاعتكاف فيه عند أصحابنا.
قال أحمد في رواية أبي داود وقد سئل عن المرأة تعتكف في بيتها: فذكر النساء يعتكفن في المساجد، ويضرب لهن فيه الخيم، وقد ذهب هذا من الناس.
لأن هذا ليس مسجداً، ولا يسمى في الشرع مسجداً؛ بدليل جواز مكث
الحائض فيه، والاعتكاف يكون في المساجد.
805 -
ولأن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اعتكفن في المسجد بعده كما تقدم.
806 -
وعن عائشة رضي الله عنها؛ قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف؛ صلى الفجر، ثم دخل معتكفه، وأنه أمر بخبائه فضرب، ثم أراد الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، فأمرت زينب بخبائها، وأمرت غيرها من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بخباء فضرب، فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الفجر؛ نظر؛ فإذا الأخبية، فقال:«ألبر تردن؟» . فأمر بخبائه فقُوِّض، وترك الاعتكاف في شهر رمضان حتى اعتكف في العشر [الأول] من شوال. رواه الجماعة.
.................... .
وفي رواية للبخاري وغيره عن عائشة: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر أن يعتكف العشر الأواخر من رمضان، فاستأذنته عائشة فأذن لها، وسألت حفصة عائشة ـن تستأذن لها ففعلت، فلما رأت ذلك زينب؛ أمرت ببناء فبني لها؛ قالت: كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى؛ انصرف إلى بنائه، فبصر الأبنية، فقال:«ما هذا؟» . قالوا: بناء عائشة وحفصة وزينب. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «آلبر أردن بهذا؟! ما أنا بمعتكف» . فرجع، فلما أفطر؛ اعتكف عشراً من شوال.
فهذا نص مفسر في أنه أذن لعائشة وحفصة أن يعتكفا في المسجد، وذلك دليل على أنه مشروع حسن، ولو كان اعتكافهن في غير المسجد العام ممكناً؛ لاستغنين بذلك عن ضرب الأخبية في المسجد كما استغنين بالصلاة في بيوتهن عن الجماعة في المساجد، ولأمرهن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
807 -
كما قال في الصلاة: «وبيوتهن خير لهن» .
لا سيما وقد خاف أن يكون قد دخلهن في ذلك شيء من المنافسة والغيرة حين تشبه بعضهن ببعض، واعتكفن معه، حتى ترك الاعتكاف من أجل ذلك، وقد كان يمكنه أن يقول: الاعتكاف في البيت يغنيكن عن الاعتكاف في المسجد.
وكان مما يحصل به مقصوده ومقصود من أرادت الاعتكاف منهن، وتقوم به الحجة على من لم يرده.
809 -
وأيضاً؛ فما روت عائشة قالت: «اعتكف مع النبي صلى الله عليه وسلم بعض أزواجه، وكانت ترى الدم والسفرة والطست تحتها وهي تصلي» . رواه البخاري وغيره.
810 -
[و] عن كثير مولى [ابن] سمرة أن امرأة أرسلت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم: إني أريد أن أعتكف العشر الأواخر وأنا أستحاض؛ فما ترى؟ قال: «ادخلي المسجد، واقعدي في طست، فإذا امتلأ؛ فليهراق عنك» . رواه النجاد.
فقد مكَّن النبي صلى الله عليه وسلم امرأته أن تعتكف في المسجد وهي مستحاضة، وهي لا تفعل ذلك إلا بأمره، وأمر التي سألته أن تدخل المسجد، والأمر يقتضي الوجوب، ولو كان الاعتكاف في البيت جائزاً؛ لما أمرها بالمسجد، ولأمرها بالبيت؛ فإنه أسهل وأيسر وأبعد عن تلويث المسجد بالنجاسة وعن مشقة جمل الطست ونقله.
811 -
وهو صلى الله عليه وسلم لم يخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً.
فعلم أن الجلوس في غير المسجد ليس باعتكاف.
812 -
وأيضا؛ ما روى قتادة، عن أبي حسان وجابر بن زيد:«أن ابن عباس سئل عن امرأة جعلت عليها أن تعتكف في مسجد نفسها في بيتها؟ فقال: بدعة، وأبغض الأعمال إلى الله تعالى البدع، لا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الصلاة» . رواه حرب.
مع ما تقدم من غيره من الصحابة؛ فإنهم لم يفرقوا بين الرجال والنساء، وعائشة منهم، ومعلوم أنها لا تهمل شأن اعتكافها، ولم يعرف عن صحابي خلافه، لا سيما والصحابي إذا قال: بدعة؛ علم أنه غير مشروع؛ كما أنه إذا قال: سنة؛ علم أنه مشروع.
فعلى هذا يجوز اعتكافها في كل مسجد، سواء أقيمت فيه الجماعة أو لم تقم.
هكذا ذكر كثير من أصحابنا، منهم القاضي في «المجرد» وأبو الخطاب وابن عقيل وعامة المتأخرين؛ لأن الجماعة ليست واجبة عليها، فسيَّان في حقها مسجد جماعة وغيره.
813 -
وقد روى ابن أبي مليكة؛ قال: اعتكفت عائشة بين حراء وثيبر، فكنا نأتيها هناك وعبداً لها يؤمها». رواه حرب.
وليس هناك مسجد تقام فيه الجماعة.
وقال القاضي في «خلافه» : كل موضع لا يصح اعتكاف الرجل فيه لا يصح اعتكاف المرأة فيه.
وكذلك الخرقي وابن أبي موسى وغيرهما اشترطوا للاعتكاف مسجداً يجمع فيه، ولم يفرقوا بين الرجل والمرأة.
وقال أحمد في رواية ابن منصور: الاعتكاف في كل مسجد تقام فيه الصلاة، ولم يفرق. . . .
وهذا ظاهر ما تقدم ذكره عن الصحابة؛ فإنهم لم يفرقوا، لا سيما حديث ابن عباس؛ فإنه سئل عن اعتكاف المرأة؟ فقال:«لا اعتكاف إلا في مسجد تقام فيه الصلاة» ، وحديث عائشة أيضاً؛ فإن اعتكاف النساء لا بد أن يدخل في عموم كلامهما.
وأما اعتكافها في مسجد حراء؛ فقد كان يؤمها فيه عبدها، وهذا يؤيد أنه لا بد في الاعتكاف من مسجد جماعة.
وأيضاً؛ فإن المقصود من المسجد إقامة الصلاة فيه؛ فاعتكافها في مسجد
لا جماعة فيه كاعتكافها في بيتها، والجماعة إن لم تكن واجبة عليها في الأصل، لكن إذا أرادت الاعتكاف، فجاز أن يجب عليها ما لم يكن واجباً قبل ذلك؛ كما لو أرادت الجمعة والجماعة؛ وجب عليها ما يجب على المأموم، وإن لم يجب بدون ذلك.
وإذا كان الاعتكاف يوجب الاحتباس في المسجد، مع أنه غير مقصود لنفسه، بل لغيره؛ فلأن يوجب الجماعة التي [هي] أفضل العبادات الأولى، ولأن ذلك لو لم يكن واجباً. . . .
ولا يكره الاعتكاف للعجوز التي لا يكره لها شهود الجمعة والجماعة.
وهل يكره للشابة؟
المنصوص عنه الرخصة مطلقاً.
قال الأثرم: سمعت أبا عبد الله سئل النساء: يعتكفن؟ قال: نعم؛ قد اعتكف النساء.
فعمَّ، ولم يخص الشابة من غيرها، وقد تقدم نحو ذلك في رواية أبي داوود.
وقال القاضي: قياس قوله أنه يكره للشابة؛ لأنه قد نص على ذلك في خروجها لصلاة العيدين، وأنه مكروه.
وهذا اختيار القاضي؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بنقض قباب أزواجه لما أردن الاعتكاف معه.
814 -
وقالت عائشة رضي الله عنها: لو رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء؛ لمنعهن كما منعت نساء بني إسرائيل.
ولأنه خروج من البيت لغير حاجة، فكره للشابة؛ كالخروج للجمعة والجماعة.
قال القاضي: وكذلك يكره لها الطواف نهاراً.
والصحيح المنصوص. . . .
لأن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لعائشة وحفصة أن يعتكفا معه، وكانتا شابتين.
815 -
وقد اعتكف معه امرأة من أزواجه كانت ترى الدم، وقد جاء مفسراً أنها أم سلمة رضي الله عنها، ولم تكن عجوزاً.
وإنما أمرهن بتقويض الأبنية لما خافه عليهن من المنافسة والغيرة، ولهذا قال:«آلبر يردن؟» .
ولأن مريم عليها السلام قد اخبر الله سبحانه أنها جعلت محررة له، وكانت مقيمة في المسجد الأقصى في المحراب، وأنها انتبذت من أهلها مكاناً شرقيّاً، فاتخذت من دونهم حجاباً، وهذا اعتكاف في المسجد واحتجاب فيه، وشرع ما قبلنا شرع لنا، ما لم يرد شرعنا بنسخه، ولأن هذه العبادة لا تفعل إلا في المسجد، فلو كرهت لها؛ للزم تفويتها بالكلية، ونحن لا ننهى عن العبادة بالكلية؛ لجواز أن يفتتن بها إنسان، مع أن الظاهر خلافه.
ولهذا لا يكره لها الخروج لمصلحة متعينة من عيادة أهلها ونحو ذلك؛ بخلاف خروجها في الجنائز؛ فإنه لا فائدة فيه، وفيه مفاسد ظاهرة.
ولهذا لا يكره لها حج النافلة، بل هو جهادها، مع أن خوف الفتنة به أشد ما لم يكن فعله إلا كذلك.
وأما خروجها للجمعة والجماعة إن سلم؛ فلها مندوحة عن ذلك بأن تصلي في بيتها، وكذلك الطواف إن سلم؛ فإن لها في الطواف بالليل مندوحة عن النهار.
فعلى هذا لا يستحب الاعتكاف للنساء، ولا يكون الأولى بتركه، بل الأولى فعله، إذا لم يكن فيه مفسدة.
كما قال في رواية أبي داوود، وذكر النساء يعتكفن في المسجد ويضرب لهن فيه الخيم: وقد ذهب هذا من الناس، ويستحب لها أن تستتر من الرجال بخباء ونحوه.
نص عليه اقتداء بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ونساء السلف كما ذكره أحمد، ولأن المسجد يحضره الرجال، والأفضل للنساء أن لا يرين الرجال ولا يراهم الرجال.
ويضرب الخباء في موضع لا يصلي فيه الرجال؛ لئلا تقطع صفوفهم وتضيق عليهم.
ولا بأس أن يستتر الرجل أيضاً، بل هو أفضل.
816 -
فإن عائشة؛ قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يعتكف؛ صلى الصبح، ثم دخل معتكفه، وإنه أمر بخباء فضرب» .
وفي لفظ للبخاري: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، فكنت أضرب له خباء، فيصلي الصبح، ثم يدخله» .
817 -
وعن أبي سعيد: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط، في قبة تركية، على سدتها حصير» . قال: «فأخذ الحصير بيده، فنحاها في ناحية القبة، ثم أطلع رأسه، فكلم الناس، فدنوا منه» . رواه مسلم بهذا اللفظ، وهو في «الصحيحين» ، قد تقدم.
وقد تقدم في الصلاة: أنه اتخذ حجرة من حصير في رمضان، فصلى فيها ليالي، فصلى بصلاته ناس.
وينبغي أن يكون استتار المعتكف مستحبّاً؛ اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وليجمع له فضل الصلاة في المسجد، وفضل إخفاء العمل، وليجمع عليه قلبه بذلك، فلا يشتغل برؤية الناس وسماع كلامهم، ولينقطع الناس عنه فلا يجالسونه ويخاطبونه.
الفصل الخامس: أن الاعتكاف في المسجد الجامع الذي تقام فيه
الجمعة والجماعة أفضل؛ لأنه إذا اعتكف في غيره؛ لم يجز له ترك الجمعة، فيجب عليه الخروج من معتكفه، وقد كان يمكنه الاحتراز عن هذا الخروج بالاعتكاف في المسجد الأعظم، وهذا إنما يكون في اعتكاف تتخلله جمعة.
فأما إن لم تتخلله جمعة؛ فإن اعتكف في غير مسجد الجمعة، وخرج للجمعة؛ جاز؛ لما تقدم من الحديث المرفوع وأقاويل الصحابة: أن الاعتكاف في كل مسجد تقام فيه الجماعة، لا سيما والاعتكاف الغالب إنما يكون في العشر الأواخر من رمضان، ولا بد أن يكون فيها جمعة.
818 -
وقد روي ذلك صريحاً عن علي رضي الله عنه؛ قال: «إذا اعتكف الرجل؛ فليشهد الجمعة، وليحضر الجنازة، وليعد المريض، وليأت أهله يأمرهم بحاجته وهو قائم» . رواه سعيد.
ولم يستثنوا ذلك.
فأما قول الزهري المتقدم؛ فليس هو متصلاً، وهو من صغار التابعين، ويشبه أن يكون محمولاً على الاستحباب.
وأيضاً؛ فإن الخروج للجمعة خروج لحاجة لا تتكرر، فلم يقطع الاعتكاف؛ كالخروج للحيض.
وأيضاً؛ فإن من أصلنا أن قطع التتابع في الصيام والاعتكاف لعذر لا يمنع البناء، وإن أمكن الاحتراز منه؛ كما سنذكر إن شاء الله تعالى.
وأيضاً؛ فإن اعتكاف العشر الأواخر سنة، وتكليف الناس يعتكفوا في المسجد الأعظم فيه مشقة عظيمة، وربما لم يتهيأ ذلك لكثير من الناس، فعفي عن الخروج للجمعة كما عفي عن الخروج لحاجة الإِنسان.
وأيضاً؛ فإن من أصلنا أنه يجوز له اشتراط الخروج لما له منه بد؛ فالخروج الذي يقع مستثنى بالشرع أولى وأحرى، سواء كان الاعتكاف واجباً أو مستحبّاً تطوعاً، وسواء كان نذراً متتابعاً أو نذراً مطلقاً، وسواء كان الاعتكاف قليلاً يمكن فعله في غير يوم الجمعة أو لا بد من تخلل يوم الجمعة له.
وركن الاعتكاف شيئان:
أحدهما: لزوم المسجد، فلو خرج منه لغير حاجة؛ بطل اعتكافه؛ كما نبين إن شاء الله تعالى.
الثاني: النية؛ فلا يصح الاعتكاف حتى يقصد لزوم المسجد لعبادة الله، فلو لزم المسجد من غير قصد؛ لم يكن معتكفاً؛ ولو قصد القعود فيه لعبادة يعملها؛ كصلاة مكتوبة، أو تعلم علم أو تعليمه.
[و] إذا قطع النية بأن نوى ترك الاعتكاف؛ بطل في قياس قول أصحابنا؛ كما قلنا في الصوم والصلاة والطواف ونحوها.
ويتخرج على قول ابن حامد.
فأما الصوم؛ فإن السنة للمعتكف أن يكون صائماً؛ لأن الله سبحانه ذكر آية الاعتكاف في ضمن آية الصوم، ولأن النبي صلى الله عليه وسلم فسر الاعتكاف بفعله، وإنما
كان يعتكف في شهر رمضان وهو صائم.
وقد أجمع الناس على استحباب الصوم للمعتكف، ولأن الصوم أعون له على كف النفس على الفضول؛ فإنه مفتاح العبادة، فيجتمع له حبس النفس عن الخروج، وحبسها عن الشهوات، فيتم مقصود الاعتكاف.
فإن اعتكف بدون الصوم؛ فهل يصح؟ على روايتين:
إحداهما: لا يصح.
819 -
لما روى عبد الرحمن بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن عائشة رضي الله عنها؛ قالت:«السنة على المعتكف أن لا يعود مريضاً، ولا يشهد جنازة، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا يخرج لحاجة؛ إلا لما لا بد منه، ولا اعتكاف إلا بصوم، ولا اعتكاف إلا في مسجد جامع» . رواه أبو داوود، وقال: غير ابن إسحاق، لا يقول فيه: قالت: السنة. جعله قول عائشة.
820 -
ورواه الدارقطني من حديث ابن جريج، عن ابن شهاب، عن سعيد وعروة، عن عائشة:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأواخر من رمضان، وأن السنة للمعتكف أن لا يخرج إلا لحاجة الإِنسان، ولا يتبع جنازة، ولا يعود مريضاً، ولا يمس امرأة، ولا يباشرها، ولا اعتكاف إلا في مسجد جماعة، ويأمر من اعتكف أن يصوم» .
وقال الدارقطني: يقال: إن قوله: «إن السنة للمعتكف. . .» إلى آخره: ليس من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه من كلام الزهري، ومَنْ أدرجه في الحديث فقد وهم.
821 -
823 - وعن ابن عمر وابن عباس وعائشة: أنهم قالوا: «لا اعتكاف إلا بصوم» . رواه سعيد.
ولأن الاعتكاف لبث في مكان مخصوص، فلم يكن قربة، حتى ينضم إليه قربة أخرى؛ كالوقوف بعرفة ومزدلفة، لا يكون قربة حتى ينضم إليه الإِحرام، ولأن المعتكف ممنوع مما يمنع منه الصائم من القبلة ونحوها؛ فلأن يمنع مما منعه الصائم كالأكل والشرب أولى.
فعلى هذه الرواية: لا يصح إفراده بالزمان الذي لا يصح صومه؛ كليلة مفردة، ويوم العيد، وأيام التشريق.
ولو نذر اعتكافاً؛ لزمه الصوم.
فأما إن اعتكف يوم العيد ويوماً آخر معه؛ فإنه يصح على ظاهر ما قالوه.
وهل يصح اعتكاف بعض يوم أو ليلة وبعض يوم إذا صام اليوم كله؟ فيه
وجهان:
أحدهما": لا يجزيه. قاله القاضي في «المجرد» وأبو الخطاب في «الهداية» .
والثاني: يجزيه.
ولو نذر على هذا أن يعتكف، ولم يسم شيئاً؛ لزمه أن يصوم مع اعتكافه.
وهل يجزيه صوم يوم أو بعض يوم؟. . . .
وإن اعتكف تطوعاً:
فقال في رواية حنبل، وقد سئل عن الاعتكاف في غير شهر رمضان؟ فقال: لا يكون إلا في شهر رمضان؛ إلا النذر، فإن كان نذراً؛ فلا بأس، وإنما الاعتكاف في شهر رمضان؛ لأنه لا اعتكاف إلا بصوم.
وظاهره أنه لا اعتكاف إلا بصوم واجب، وربما يكون وجهه أن الاعتكاف يلزم بالشروع، وصوم التطوع لا يلزم بالشروع، فإذا اعتكف في غير رمضان صائماً متطوعاً؛ كان مخيراً في ترك الصوم دون الاعتكاف.
ويحتمل أن يكون كلامه يُخَرَّج على عادة الناس. . . .
وقال القاضي: إذا قلنا: من شرطه الصوم؛ فلا بد أن يكون صائماً في الجملة تطوعاً أو رمضان أو قضاء رمضان أو نذراً. . . .
والرواية الثانية: يصح بغير صوم، والاستحباب له أن يصوم. وهذا اختيار
أصحابنا؛ لأن الله سبحانه قال: {طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ} [البقرة: آية 125]، وقال تعالى في موضع: وَالْقَائِمِينَ} [الحج: آية 26].
فعلم أن المقام في بيت الله هو العكوف فيه من غير شرط، وأنه عبادة بنفسه؛ كما كان الطواف والركوع والسجود عبادة بنفسه.
ولأن العكوف في اللغة: الإِقبال على الشيء على وجه المواظبة، وهذا يحصل من الصائم والمفطر، وهو لفظ معروف، ولا إجمال فيه.
ولأن العاكفين على الأصنام ولَهاً سمُّوا بذلك بمجرد احتباسهم عليها، وإن لم يصوموا؛ فالمحتبس لله في بيته عاكف له، وإن لم يكن صائماً.
ولأن الله سبحانه أطلق قوله: {عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} [البقرة: 187] ، ولم يخصص به صائماً من غيره.
نعم؛ لما أباح المباشرة للصائم بالليل، وقد يكون معتكفاً؛ نهاه أن يباشر في حال عكوفه؛ ليتبين أن كل واحد من الصوم والعكوف [مانع] من المباشرة.
824 -
وأيضاً؛ ما روى ابن عمر: أن عمر سأل النبي صلى الله عليه وسلم قال: كنت نذرت في الجاهلية أن أعتكف ليلة في المسجد الحرام. قال: «فأوف بنذرك» . رواه الجماعة إلا أبا داود.
825 -
وفي لفظ للبخاري: «أوف بنذرك، اعتكف ليلة» . فاعتكف ليلة.
............. .
............. .
ولو كان الصوم شرطاً في صحته؛ لما جاز اعتكاف ليلة؛ لأن الليل لا صوم فيه. . . .
فإن قيل: معنى الحديث: نذرت أن أعتكف ليلة بيومها؛ فإن العرب تذكر الليالي وتدخل الأيام فيها تبعاً:
بدليل ما روي عن ابن عمر عن عمر: أنه جعل على نفسه يوماً يعتكفه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أوف بنذرك».
وفي رواية في الصحيح لهما أو لأحدهما: أن عمر سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالجعرانة، بعد أن رجع من الطائف، فقال: يا رسول الله! إني نذرت في الجاهلية أن أعتكف يوماً في المسجد الحرام؛ فكيف ترى؟ قال: «اذهب؛
فاعتكف يوماً». رواه مسلم.
826 -
وأيضاً؛ عن عبد الله بن بديل، عن عمرو بن دينار، عن ابن عمر رضي الله عنهما: أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يومها عند الكعبة، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال:«اعتكف وصم» . قال: فبينما هو معتكف؛ إذ كبر الناس، فقال: ما هذا يا عبد الله؟ قال: سبي هوزان، أعتقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال. وتلك الجارية فأرسلها معهم. رواه أبو داوود.
فهذا نص في أنه أمره بالصيام، ودليل على أن الاعتكاف كان نهاراً؛ لأن
تكبير الناس وانتشارهم في أمورهم وظهور عتق السبي إنما كان بالنهار.
قال عبد الله بن عمر: بعثت بجاريتي إلى أخوالي في بني جمح ليصلحوا لي منها، حتى أطوف بالبيت ثم آتيهم إذا فرغت، فخرجت من المسجد، فإذا الناس يشتدون، فقلت: ما شأنكم؟ فقالوا: رد علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءنا وأبناءنا. فقلت: دونكم صاحبتكم؛ فهي في بني جمح. فانطلقوا فأخذوها.
827 -
وأيضاً؛ فقد روى إسحاق بن راهوية عن ابن عمر: أنه قال: «لا اعتكاف أقل من يوم وليلة» .
827 -
وقد روى عن سعيد: أنه قال: «لا اعتكاف إلا بصوم» .
فلو كان يروى عن عمر أنه اعتكف ليلة مفردة؛ لما قال هذا ولا هذا.
فقد أجاب أصحابنا عن الأول:
بجواز أن يكونا واقعتين.
وبجواز أن يكون عنى باليوم والليلة؛ لأن رواية البخاري صريحة بأنه اعتكف ليلة، وأما الرواية الأخرى؛ فقال الدارقطني: سمعت أبا بكر النيسابوري يقول: هذا حديث منكر؛ لأن الثقات من أصحاب عمرو ن دينار لم يذكروه، منهم: ابن جريج، وابن عيينة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وابن بديل ضعيف.
829 -
وأيضاً؛ تقدم في حديث عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد الاعتكاف في العشر الأواخر من رمضان، فتركه، واعتكف في العشر الأول من شوال» .
وفي لفظ: «فلما أفطر؛ اعتكف عشراً من شوال» .
وفي لفظ: «فلم يعتكف في رمضان حتى اعتكف في آخر العشر من شوال» .
رواهن البخاري.
فقد بينت عائشة أنه اعتكف العشر الأول من شوال، وهذا إنما يكون إذا اعتكف يوم العيد، لا سيما ومقصوده عشر مكان عشر، وكان يدخل معتكفه بعد صلاة الفجر اليوم الأول من العشر؛ فلذلك ينبغي أن يكون قد دخل معتكفه بعد صلاة العيد.
وقولها: «حتى اعتكف في العشر» ؛ يعني - والله أعلم - في آخر عشر رمضان؛ يعني: في منسلخه ومنقضاه، وهذا يقتضي أن اعتكافه في أول يوم من شوال؛ كما دلت عليه بقية الروايات، لكن يحتمل أنه لم يحتسب بيوم الفطر، بل بالليلة التي تليه؛ إلا أن يكون دخل ليلة العيد، ويحتمل أن يصح اعتكاف يوم العيد مع أيام أخر.
وأيضاً؛ فإنه عبادة من العبادات، فلم يكن الصوم شرطاً في صحتها كسائر العبادات.
ولأنه ليس فيه اشتراط الصوم كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس صحيح، والحكم إنما يثبت بواحدة من هذه الجهات؛ بخلاف نفي الاشتراط؛ فإنه ثابت بالنفي الأصلي وعدم الدليل الدال على الإِيجاب.
وأما حديث عائشة؛ فقد ذكر أبو داوود وغيره أن المشهور أنه من قولها.
وكذلك قول الزهري: «السنة» : عنى به السنة في اعتقاده؛ كما يقول الفقيه: حكم الله في هذه المسألة كذا وكذا، والسنة أن يفعل كذا، وحكم الشريعة كذا؛ يعني به: فيما [علمته] وأدركته.
والذي يبين أن الزهري لم يكن عنده بذلك أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم:
830 -
ما رواه سعيد، عن الدراوردي، عن أبي سهيل؛ قال:«كان على امرأة من أهلي اعتكاف، فسألت عمر بن عبد العزيز؟ فقال: ليس عليها صيام؛ إلا أن تجعله على نفسها. وقال الزهري: لا اعتكاف إلا بصوم. فقال له عمر: عن النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: لا. قال: فعن أبي بكر؟ قال: لا. قال: فعن عمر؟ قال: لا. وأظنه قال: عن عثمان؟ قال: لا. قال أبو سهيل: فخرجت من عنده، فلقيت طاووساً وعطاء، فسألتهما، فقال طاووس: كان فلان لا يرى عليها صياماً إلا أن تجعله على نفسها» .
831 -
وروي بهذا الإِسناد عن طاووس، عن ابن عباس؛ قال:«ليس على المعتكف صيام؛ إلا أن يجعله على نفسه» .
832 -
ورواه الدارقطني مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: رفعه السوسي، وغيره لا يرفعه.
833 -
وعن مقسم: أن عليّاً وابن مسعود قالا: «إن شاء الله المعتكف صام، وإن شاء لم يصم» .
834 -
وقال ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما: «لا اعتكاف إلا بصوم» . رواهما سعيد.
وأما اعتكاف النبي صلى الله عليه وسلم صائماً؛ فلأنه كان يتحرى أفضل الأحوال في اعتكافه، ولهذا كان يعتكف العشر الأواخر، مع أن اعتكاف غيرها جائز، وكان يعتكف عشراً، ولو اعتكف أقل جاز.
وأما قياسه على الوقوف؛ فينقلب عليهم بأن يقال: فلم يكن الصوم شرطاً في صحته كالأصل، وهذا أجود؛ لأنه قد صرح فيه بالحكم، ثم القرينة المتضمنة إلى الوقوف هي الإِحرام، وهي تنعقد بالنية، ومثله في الاعتكاف لا بد من النية.
وأما اشتراط زيادة على النية؛ فإنه وإن وجب في الأصل، لكنه يصح بدونه.
ثم الفرق بين المسجد والمعرِّف ظاهر؛ فإن المسجد لدخوله مزية على
غيره في كل وقت، وعلى كل حال، ولهذا يجب صونه عن أشياء كثيرة، والمعرّف لا يمتاز المكث فيه إلا في يوم مخصوص على وجه مخصوص؛ فكيف يقاس بهذا؟!
فعلى هذا يصح اعتكافه ليلة مفردة ويومي العيدين وأيام التشريق مفردات.
ولو نذر اعتكافاً؛ لم يلزمه الصوم؛ إلا أن ينذره.
فعلى هذا لا بد من اللبث فيه، فلو اجتاز في المسجد، ولم يلبث فيه؛ لم يكن عاكفاً عند أصحابنا؛ بخلاف الوقوف بعرفة؛ فإن الواجب فيه الكون في ذلك المكان؛ لأن العكوف هو الاحتباس والمقام كما تقدم، وذلك لا يحصل إلا بنوع لبث.
فعلى هذا: إذا نذر اعتكافاً مطلقاً، وقلنا: الصوم واجب فيه:
فقال القاضي وابن عقيل وأبو الخطاب: أقله يوم واحد.
وإن قلنا: ليس الصوم شرطاً فيه على ظاهر المذهب؛ لم يكن لأقله حد، فيجزيه ما يقع عليه الاسم؛ كما قلنا في الصلاة والصوم والصدقة.
قال القاضي وابن عقيل: ولسنا نريد بقولنا: أقل ما يقع عليه الاسم أن يجلس أقل ما يقع عليه اسم الجلوس، بل ما يُسمى به معتكفاً لابثاً، وإنما يحصل هذا باستقرار ما وقع عليه اسم لبثه.
فأما أن يوقع عقيب ما وقع عليه اسم لبث؛ فلا.
قالوا: والمستحب له أن لا ينقص من يوم وليلة.
وقال بعض أصحابنا: يلزمه ما يُسمى به معتكفاً، [ولو ساعة من نهار؛
فاللحظة وما لا يسمى به معتكفاً]؛ لا يجزيه.
فأما إذا مر في المسجد، ولم يقف؛ فليس بمعتكف قولاً واحداً.
وإذا نذر أن يعتكف صائماً أو وهو صائم؛ لزمه ذلك، ولم يجز له أن يفرد الصوم عن الاعتكاف في المشهور من المذهب؛ لأن الصوم في الاعتكاف صفة مقصودة كالتتابع، فوجب الوفاء به، فلو ترك ذلك؛ لزمه أن يستأنف الصوم والاعتكاف معاً، وليس له أن يقضي كل منهما مفرداً.
وقيل:. . . .
ولو نذر أن يعتكف صائماً؛ فكذلك على أحد الوجهين.
ولو قال: لله عليَّ أن أعتكف وأصوم.
فقال القاضي: هو بالخيار بين الإِفراد والمقارنة.
ولو نذر أن يعتكف مصلياً؛ فقيل: هو على أحد الوجهين.
وقيل: لا يجب الجمع هنا، وإن وجب في الأولى.
ولو قال: لله عليَّ أن أصلي وأصوم؛ فله أن يفرد ويقرن؛ لأن أحدهما ليس شعاراً للآخر. . . .
وإذا أفطر في اعتكافه، وقلنا: الصوم شرط فيه، أو كان قد نذره في اعتكافه؛ بطل اعتكافه؛ كما يبطل بالوطء والخروج.
فإذا كان متتابعاً؛ كان عليه الاستئناف.