الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال الآمدي: لا تختلف الرواية أن من أراد أن يبتدئ الاعتكاف؛ فتشاغله بإقراء القرآن أفضل من تشاغله بالاعتكاف.
قال أحمد في رواية المروذي؛ وقد سئل عن رجل يقرئ في المسجد، ويريد أن يعتكف؟ فقال: إذا فعل هذا؛ كان لنفسه، وإذا قعد؛ كان له ولغيره، يقرئ أعجب إليَّ.
وفي لفظ: لا يتطيب المعتكف، ولا يقرئ في المسجد وهو معتكف، وله أن يختم في كل يوم، فإذا فعل ذلك؛ كان لنفسه، وإذا قعد في المسجد؛ كان له ولغيره، يقعد في المسجد يقرئ أحب إليَّ من أن يعتكف.
الثالث: أن النفع المتعدي ليس أفضل مطلقاً، بل ينبغي للإِنسان أن يكون له ساعات يناجي فيها ربه، ويخلو فيها بنفسه ويحاسبها، ويكون فعله ذلك أفضل من اجتماعه بالناس ونفعهم، ولهذا كان خلْوة الإِنسان في الليل بربه أفضل من اجتماعه بالناس. . . .
*
فصل:
قال أحمد في رواية ابن حرب: المعتكف إذا أراد أن ينام؛ نام متربعاً؛ لئلا [تبطل] عليه الطهارة، فإذا كان نهاراً، وأراد أن ينام؛ فلا بأس أن يستند إلى سارية، ويكون ماء طهارته معلوماً؛ لئلا يقوم من نومه وليس معه ماء.
قال علي بن حرب: إنما أراد أحمد أن يكون ماؤه معلوماً، لا يكون يستيقظ يشتغل قلبه بالطلب.
قال أبو بكر: لا ينام إلا عن غلبة، ولا ينام مضطجعا، ويكون الماء منه
قريباً؛ لأن الله سمى العاكف قائماً، والقائم هو الواقف للشيء المراعي له، والنوم يضيع ذلك عليه، ولأن العكوف على الشيء هو القيام عليه على سبيل الدوام، وذلك لا يكون من النائم.
نعم؛ يفعل منه ما تدعو إليه الضرورة؛ كما يخرج من المسجد لضرورة.
ولأن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف العشر الأواخر؛ أحيا الليل كله، وشد المئزر.
فإن شق عليه النوم قاعداً:
851 -
عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما:«أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اعتكف؛ طرح له فراش، ويوضع له سريره وراء أسطوانة [التوبة]» . رواه ابن ماجه.
*الفصل الثاني:
أنهه ينبغي له اجتناب ما لا يعنيه من القول والعمل؛ فإن هذا مأمور به في كل وقت.
وقال أحمد في رواية المروذي: يجب على المعتكف أن يحفظ لسانه، ولا يؤويه إلا سقف المسجد، ولا ينبغي له إذا اعتكف أن يخيط أو يعمل.
قال أصحابنا: ولا يستحب له أن يتحدث بما أحب، وإن لم يكن مأثماً، ويكره لكل أحد السباب والجدال والقتال والخصومة، وذلك للمعتكف أشد كراهة.
853 -
قال علي رضي الله عنه: «أيما رجل اعتكف؛ فلا يساب ولا يرفث في الحديث، ويأمر أهله بالحاجة (أي: وهو يمشي) ، ولا يجلس عندهم» . رواه أحمد.
قالوا: ويجوز الحديث ما لم يكن إثماً.
854 -
لحديث صفية: أنها زارت النبي صلى الله عليه وسلم ليلاً في معتكفه فحدثته.
قال أحمد في رواية الأثرم: لا بأس أن يقول للرجل: اشتر لي كذا، واصنع كذا.
وفي معنى ذلك ما يأمر به مما يحتاجه أو يأمر بمعروف من غير إطالة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان معتكفاً؛ أطلع رأسه من القبة، وقال: «من كان اعتكف
معي؛ فليعتكف العشر الأواخر. . .» الحديث، وتحدث مع صفية بنت حُيي.
قالوا: فإن خالف وخاصم أو قاتل؛ لم يبطل اعتكافه؛ لأن ما لا يبطل العبادة مباحه لا يبطلها محظوره؛ كالنظر، وعكسه الجماع.
فأما الصمت عن كل كلام؛ فليس بمشروع في دين الإِسلام.
قال ابن عقيل: يكره الصمت إلى الليل.
وقال غيره من أصحابنا: بل يحرم مداومة الصمت.
والأشبه: أنه عن صمت عن كلام واجب – كأمر بمعروف ونهي عن منكر وتعين عليه ونحو ذلك -؛ حرم، وإن سكت عن مستحب أو فرض قام به غيره – كتعليم العلم والإِصلاح بين الناس ونحو ذلك -؛ فهو مكروه.
فإن أراد المعتكف أن يفعل ذلك؛ لم يستحب له ذلك، وهو مكروه أو محرم.
855 -
وذلك لما روي عن علي رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: «لا صمات يوم إلى الليل» . رواه أبو داوود.
856 -
وعن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قائماً في الشمس، فقال:«منْ هذا؟» . قالوا: هذا أبو إسرائيل؛ نذر أن يقوم في الشمس ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. فقال: «مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه» . رواه البخاري.
857 -
وعن ليلى امرأة بشير بن الخصاصية: أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أصوم يوم الجمعة ولا أكلم ذلك اليوم أحداً؟ فقال: «لا تصم يوم الجمعة إلا في أيام هو أحدها أو في أو في شهر، وأما [أن] لا تكلم أحداً؛ فلعمري؛ لأن تكلم بمعروف وتنهى عن منكر خير من أن تسكت» . رواه أحمد.
858 -
وعن قيس بن أبي حازم؛ قال: «دخل أبو بكر على امرأة من أحمس، فقال لها: زينب! فأبت أن تتكلم. فقال: ما بال هذه؟ قالوا: حجت مصمتة. فقال لها: تكلمي؛ فإن هذا لا يحل، هذا من عمل الجاهلية. فتكلمت» . رواه البخاري.
فقد بينت الأخبار أن هذا منهي عنه في الصوم والإِحرام وفي غيرها.
ويتوجه أن يباح هذا للمعتكف؛ لأنه بمنزلة الطائف والمصلي؛ خلاف الصائم والمحرم. . . .
وأما قول مريم: {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا} [مريم: رقم 26]؛ أي:
صمتاً؛ فذاك كان في شريعة من قبلنا، وقد نسخ ذلك في شرعنا.
قال ابن عقيل وغيره من أصحابنا: ولا يجوز أن يجعل القرآن بدلاً عن الكلام؛ لأنه استعمال له في غير ما وضع له؛ فأشبه استعمال المصحف في التوسد والوزن ونحو ذلك.
859 -
وقد جاء: «لا تناظر بكتاب الله» .
قيل: معناه: لا تتكلم به عن الشيء تراه كأنك ترى رجلاً قد جاء في وقته، فتقول: لقد جئت على قدر يا موسى.
قال ابن عقيل: كان أبو إسحاق الخراز صالحاً، وكان من عادته الإِمساك عن الكلام في شهر رمضان، فكان يخاطب بآي القرآن فيما يعرض له من الحوائج، فيقول في إذنه:{ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} ، ويقول لابنه في عشية الصوم:{مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا} ؛ آمراً له أن يشتري البقل. فقلت له: هذا تعتقده عبادة وهو معصية. فصعب عليه، فقلت: إن هذا القرآن العزيز نزل في بيان أحكام شرعية، فلا يستعمل في أعراض دنيوية، وما هذا إلا بمثابة صرك السدر والأشنان في ورق المصحف. فهجرني ولم يصغ إلى الحجة.