الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كِتَابُ الرَّهنِ
الرَّهْنُ: هو في اللغة الثُّبُوتُ، وفي الشرع: جعل عين مال وثيقة بدَيْن يستوفى منها عند تعذر استيفائه، والأصل في الباب قبل الإجماع قوله تعالى:{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} (87) وَرَهَنَ صلى الله عليه وسلم دِرْعَهُ بِالْمَدِيْنَةِ (88).
لَا يَصِحُّ إلَّا بِإِيْجَابٍ وَقَبُولٍ، أي أو ما يَقُومُ مَقَامَهُمَا لأنهُ عَقْدٌ مَالِيٌّ فافتقرَ إليهما كالبيع، فَإِنْ شُرِطَ فِيهِ مُقْتَضَاهُ كَتَقَدُّمِ الْمُرْتَهَنِ بِهِ أَوْ مَصْلَحَة لِلْعَقْدِ كاَلإِشْهَادِ أَوْ مَا لَا غَرَضَ فِيهِ صَحَّ الْعَقْدُ، كالبيع، وَإِدْ شُرِطَ مَا يُضُرُّ الْمُرْتَهِنَ بَطَلَ الرَّهْنُ، أي كشرط أن لا يبيعَة عِنْدَ المحل ونحوه، وِإنْ نَفَعَ الْمُرْتَهِنَ وَضَرَّ الرَّاهِنَ كَشَرْطِ مَنْفَعَتِهِ لِلْمُرْتَهِنِ بَطَلَ الشَّرْطُ، لقوله عليه الصلاة والسلام: [كُل
(87) البقرة / 283.
(88)
• عَنِ الأعْمَشِ؛ قالَ: ذَكَرنَا عِنْدَ إِبْرَاهِيْمَ الرَّهْنَ فِي السَّلَمِ، فَقَالَ: حَدَّثَنِي الأَسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِىَ الله عَنْهَا؛ (أَنَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم اشْتَرَى طَعَامًا مِنْ يَهُودِىِّ إِلَى أَجَلٍ وَرَهَنَهُ دِرْعًا مِنْ حَدِيْدٍ). رواه البخاري في الصحيح: كتاب البيوع: باب شراء النبي صلى الله عليه وسلم بالنسيئة: الحديث (2068). ومسلم في الصحيح: كتاب المساقاة: باب الرهن وجوازه: الحديث (126/ 1603).
• عن أنس رضي الله عنه؛ (أَنَّهُ مَشَى اِلَى النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم بِخُبْزِ شَعِيْرٍ وَإِهَالَةٍ سَنْخَةٍ، وَلَقَدْ رَهَنَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم دِرْعًا لَهُ بالْمَدِيْنَةِ عِنْدَ يَهُودِيِّ وَأَخَذَ مِنْهُ شَعِيْرًا لَأهْلِهِ) وَقَالَ أنَسٌ: (مَا أَمْسَى عِنْدَ آلِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم صَاعُ بُرٍّ وَلَا صَاعُ حَبٍّ، وَإِنَّ عِنْدَهُ لَتِسْعَ نِسْوَةٍ). رواه البخاري في الصحيح: الحديث (2069).
شَرْطٍ لَيْسَ في كِتَابِ اللهِ فَهُوَ بَاطِل] (89)، وَكَذَا الرَّهْنُ فِي الأَظْهَرِ، لمخالفته مقتضى العقد كالشرط الذي يضر المرتهن، والثاني: لا يبطل؛ لأنه تبرع فلم يؤثر ذلك فيه، كما لو أقرضه الصحاح بشرط رد المكسر يلغو الشرط ويصح العقد، والخلاف في رهن التبرع، وكذا المشروط في بيع على الأظهر، ثم البطلان فيما إذا أطلق المنفعة، فلو قيدها كسنةٍ مثلًا؛ فهذا جمع بين بيع وإجارةٍ في صفقة والأظهر الصحة، وَلَوْ شَرَط أَن تَحْدُثَ زَوَائِدُهُ مَرْهُونَةَ فَالأظْهَرُ فَسَادُ الشَّرْطِ، لأنها معدومة ومجهولة، والثاني: لا، لأن الرهن عند الإطلاق إنما لا يتعدى للزوائد لضعفه، فإذا قوى بالشرط سرى وتبع، واحترز بالزوائد عن الكسب فإن اشتراطها باطل على الأصح، لأنها ليست من أجزاء الأصل، قال الماوردي: ولو شرط أن تكون المنافع مرهونة بطل قطعًا، وَأَنَّهُ مَتَى فَسَدَ فَسَدَ العَقْدُ، أي عقد الرهن، الخلاف مُخرَّجٌ على الخلاف في فساد الشرط وقد عرفته.
وَشَرْطُ الْعَاقِدِ، أي راهنًا ومرتهنًا، كَوْنُهُ مُطْلَقَ التصَرُّفِ، كما في البيع، فَلَا يَرْهَنُ الْوَليُّ، أي ولي المال، مَالَ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُون وَلَا يَرْتَهِنُ لَهُمَا، لأن الولي في حال الاختيار لا يبيع إلا بِحَالٍّ مقبوضٍ قبل التسليمَ، أي فلا رهن ولا ارتهان.
فَرْعٌ: المحجورُ عليهِ بالسَّفَهِ كذلكَ.
إلَّا لِضَرُورَةِ، كنففة، أَوْ غِبْطَةٍ ظَاهِرَةٍ، أي كما إذا باع ماله مؤجلًا بغبطة وارتهن على الثمن، وَشَرْطُ الرَّهْنِ، أي المرهون، كَوْنُهُ عَيْنًا فِي الأصَحِّ، أي فلا يصح رهنُ الدَيْنِ؛ لأنه غير مقدور على تسليمه، والثاني: يصح إذا كان على مُقِرّ كبيعه تنزيلًا لما في الذمم منزلة الأعيان؛ كما نزلت منزلتها في بيعها وشرائها ثمنًا ومثمنًا.
(89) رواه النسائي في السنن: كتاب الطلاق: باب خيار الأَمَةِ تُعتق وزوجها مملوك: ج 6 ص 165. وابن ماجه في السنن: كتاب العتق: باب المكاتب: الحديث (2521). عن عائشة رضي الله عنها.
فَرْعٌ: في رهنِ الدَّيْنِ ممن هو عليه تَرَدُّدٌ.
فَرْعٌ: قد يصير الدَّيْنُ مرهونًا في ثاني الحال للضرورة، فيما إذا أتلفَ متلفٌ المرهونَ؛ فإن عليه الأرش، ويحكم بأنه مرهون وهو في ذمته على الأرجح في الروضة لامتناع الإبراء عنه.
فَرْعٌ: لا يصح رهن المنفعة قطعًا.
وَيَصِحُّ رَهْنُ الْمُشَاع، كالبيع، ولا يحتاج إلى إذن الشريك على الأصح كالبيع، وَالأُمِّ دُونَ وَلَدِهَا وَعَكْسِهِ، أي حيث يمتنع التفريق بينهما، لأن الرهن ليس بتفريق، وَعِنْدَ الْحَاجَةِ يُبَاعَانِ، حذرًا من التفريق بينهما، وَيُوَزَّعُ الثِّمَنُ؛ وَالأَصَحُّ، أي فيما إذا رهن الأم دون الولد: أَنْ تُقَومَ الأُمُّ وَحْدَهَا، أي موصوفة بكونها ذات ولد حاضنة له، فإذا قيل قيمتها مثلًا مائة، ثُمَّ مَعَ الْوَلَدِ، فقيمتها مائة وخمسون، فَالزَّائِدُ قِيمَتُهُ، أي وهو الزائد على المائة والزائد لاحق فيه للمرتهن، والثاني: أنَّ الأُمَّ تُقَوَّمُ وحدَها كما سبق، فإن قيل: مائة؛ قَوَّمْنَا الولد وحدَهُ، فإذا قيل: عشرون؛ عَلِمْنَا أنَّ النسبةَ بينهما بالأسْدَاسِ، فَيُقَسَّطُ الثمنُ عليهما على هذه النسبة؛ سُدُسٌ للولدِ يختص به الراهن والباقي يتعلق به حق المرتهن، وفي هذا تقل قيمة الولد كما قررناه؛ لأنه يكون ضائعًا، أما إذا رهن الولد دونها، فإن التقويم ينعكس فيقوم الولد وحده محضونًا مكفولًا، ثم هو مع أُمِّهِ فالزائد قيمةُ الأُمِّ.
فَرْعٌ: حكم الولد مع الأب وغيره ممن يمتنع التفريق بينهما كحكمه مع الأم.
تَنْبِيْهٌ: هذه المسألة مستثناة من قولنا كل ما لا يجوز بيعه لا يجوز رهنه.
وَرَهْنُ الْجَانِي وَالْمُرْتَدِّ كَبَيْعِهِمَا، أما الجاني فعلى الأصح كما تقدم في بابه إذا كانت الجناية عمدًا دون الخطأ، وإذا صححناه فلا يكون ملتزمًا للفداء عند الأكثرين بخلاف البيع؛ لأن الجناية لا تنافي الرهن، ومحلها باقٍ بخلاف البيع، وأما المرتد فالأصح صحة بيعه، كما أفهمه كلامه في الرد بالعيب فرهنه كذلك، وَرَهْنُ المُدَبِّرِ وَالْمُعَلَّقِ عِتْقُهُ بِصِفَةٍ يُمْكِنُ سَبْقُهَا حُلُولَ الدَّيْنِ، أي ولم يشترط بيعه قبل وجود
الصفة، بَاطِلٌ عَلَى الْمَذْهَبِ، لتعلق حق العتق بهما، وحاصل ما في المدبر ثلاثة طرق: الصِّحَّةُ قطعًا كبيعهِ، وَقَوَّاهَا في الروضةِ. وَمُقَابِلُهُ لما تقدم؛ وَحِكَايَةُ قولينِ بناءً على أنهُ وصيةٌ، فيصح أو تعليقُ عتقٍ بصفةٍ فلا. وأما المعلق عتقه بصفة، فالمشهور القطع بالمنع لفوات مقصود الرهن، وقيل: على القولين الآتيين في رهن ما يسرع إليه الفساد، والفرق على الأول: أن العاقل لا غرض له في إفساد ماله بخلاف العتق، واحترز بقوله (يُمْكِنُ سَبْقُهَا) عما إذا تيقن حلوله قبل وجود الصفة فيصح قطعًا فيباع في الدِّيْنِ، فإن احتمل الأمران فالأظهر بطلانه بالغرض للغرر، ووجه الصحة أنَّ الأصْلَ اسْتِمْرَارُ الرِّقِّ.
وَلَوْ رَهَنَ مَا يَسْرُعُ فَسَادُهُ، أي بمؤجل يحل بعد الفساد أو معه، فَإِن أَمْكَنَ تَجْفِيفُهُ كَرُطَبٍ فَعَلَ، حفظًا للرهن، والمجِّفف هو المالك ومؤنته عليه، كما قاله صاحب المطلب، أما إذا كان يحل قبل فساده فإنه يباع على حاله، وَإِلَّا، أي وإن لم يمكن تجفيفه كالثمرة التى لا تجفف والبقول، فَإِنْ رَهَنَهُ بِدَيْنٍ حَالٍّ أَوْ مُؤَجلٍ يَحِلُّ قَبْلَ فَسَادِهِ أَوْ شَرَطَ بَيْعَهُ وَجَعَلَ الثَّمَنَ رَهْنًا، مكانه، صَحَّ، لانتفاء المحذور، وَيُبَاعُ عِنْدَ خَوْفِ فَسَادِهِ وَيكُونُ ثَمَنُهُ رَهْنًا، أي من غير إنشاء عقد، وَإِنْ شَرَطَ مَنْعَ بَيْعِهِ لَمْ يَصِحَّ، لأنه شرط ينافي مقصوده، وَإِنْ أَطْلَقَ، أي فلم يشترط واحدًا منهما، فَسَدَ فِي الأَظْهَرِ، لأنه يتعذر استيفاؤه فبطل كرهن أم الولد، والثاني: يصح؛ ويباعُ كما لو شرط بيعه؛ لأن الظاهر أنه لا يقصد إتلاف ماله، وصححه الرافعي في الشرح الصغير، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ: هَلْ يَفْسُدُ قَبْلَ الأجَلِ؟ صَحَّ فِي الأَظْهَرِ، لأن الأصل دوام المالية، والثاني: يفسد لجهلنا إمكان البيع عند المحل؛ وهو نظير ما صححوه في المعلق عتقه بصفة لا يعلم هل يتقدم أو يتأخر فليحرر الفرق.
وَإِنْ رَهَنَ مَا لَا يَسْرُعُ فَسَادُهُ فَطَرَأَ مَا عَرَّضَهُ لِلْفَسَادِ كَحِنْطَةٍ اِبْتَلَّتْ لَمْ يَنْفَسِخِ الرَّهْنُ بِحَالٍ، لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء، ويباع عند الإشراف على الفساد ويُجْعَلُ ثمنهُ رهنًا مكانه، وَيجُوزُ أَنْ يَسْتَعِيرَ شَيْئًا لِيَرْهَنَهُ، لأن الرهن استيثاق وهو يحصل بما لا يملكه بدليل الاشهاد والكفالة، وَهُوَ فِي قَوْلٍ
عَارِيَةٌ، لأنَّهُ قبضَ مَالَ الغَيرِ بإذنهِ لِيُنْتَفَعَ بِهِ نَوْعُ اِنْتِفَاعٍ، وَالأَظْهَرُ أَنِّهُ ضَمَانُ دَيْنٍ فِي رَقَبَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ، لأن الأعيان كالذمم بدليل جواز التصرف فيها، ويصح الضمان في الذمة؛ فكذا في العَيْنِ ولا يتعلق ذلك بِذِمَّةِ الْمُعِيْرِ، فَيُشْتَرَطُ ذِكْرُ جنْسِ الدَّيْنِ وَقَدْرِهِ وَصِفَتِهِ، كما في الضمان، وَكَذَا الْمَرْهُون عِنْدَهُ في الأَصَحِّ، لما ذكرناه، والثاني: لا يجب؛ كضعف الغرض فيه، فَلَوْ تَلَفَ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ فَلَا ضَمَانَ، أي عليه، لأنَّ يَدَهُ يَدُ أَمَانَةٍ، ولا على الراهنِ أيضًا. لأنه لم يُسْقِطِ الدَّيْنَ عن ذمتهِ، وَلَا رُجُوعَ لِلْمَالِكِ بَعْدَ قَبْضِ الْمُرْتَهَنِ، أي وإلّا فلا فائدة في هذا الرهن إذ لا وثوق به، فَإِذَا حَلَّ الدّينُ أَوْ كَان حَالًا رُوجِعَ الْمَالِكُ لِلْبَيع، كما لو رهنه المالك، ويبَاعُ إِن لَمْ يَقْضِ الدَّيْنَ، أي معسرًا كان الراهن أو موسرًا، كما يطالب الضامن في الذمة مع يسار الأصل وإعساره، ثُمَّ يَرْجِعُ الْمَالِكُ بِمَا بِيْعَ بِهِ، لانتفاع الراهن سواء بِيْعَ بالأكثرِ أم أقلٍ بمقدار ما يتغابنُ بِهِ.
فَصْلٌ: شَرْطُ الْمَرْهُونِ بِهِ كوْنُهُ دَيْنًا، أي فلا يصح الرهن بالعين؛ لأنه يستحيل استيفاء تلك العين من المرهون، ومن هنا يؤخذ بطلان ما جرت العادة به من أخذ رَهْنٍ على عارية الكتب، وبه صرح الماوردي، لكن القفال أفتى بلزوم هذا الشرط واتباعه، فقال: إذا قال وقفت كتابًا على عامة المسلمين واشترط في الوقف أن لا يُعَارَ لأحدٍ مِن المسلمينَ إلا برهن فإنه ليس للقيم أن يعيرَهُ إلا برهن ويكون هذا الشرط ثابتًا، ذكره في أثناء مسألة الوقف وفي أواخر فتاويه وهو عزيز في النقل فأستفده، ثَابِتًا، أي فلا يصح بما لم يثبت سواءً وجد سبب وجوبه كنفقة زوجته في الغد أم لا، كما إذا رهن على ما سيقرضه غدا، لأن الرهن وثيقة حق فلا يقدم على الحق كالشهادة، لَازِمًا، أي فلا يصح بما لا يلزم، ولا يَؤُولُ إلى اللزومِ كمال الكتابة، كما سيأتي؛ لأنه لا فائدة في الوثيقة مع تمكن المديون من إسقاط دَيْنِهِ، فَلَا يَصِحُّ بِالْعَيْنِ الْمَغْصُوبَةِ وَالْمُسْتَعَارَةِ فِي الأصَحِّ، لما تقدم، والثاني: يصح كضمانها على الأصح، والخلاف جارٍ في المأخوذ على جهة السوم، وبالبيع الفاسد، فلو عبَّر بالمضمونة كان أَخْصَرُ وَأَحْصَرُ، وَلَا بِمَا سَيُقْرِضُهُ، لما تقدم.
وَلَوْ قَالَ: أَقْرَضتُكَ هَذِهِ الدَّرَاهِمَ وَارْتَهنْتُ بِهَا عَبْدَكَ، فَقَالَ: اِقْتَرَضْتُ وَرَهَنْتُ، أَوْ قَالَ: بِعْتُكَهُ بِكَذَا وَارْتَهَنْتُ الثَّوْبَ بِهِ، فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ وَرَهَنْتُ صَحَّ فِي الأصَحِّ، لأن شرط الرهن فيهما جائز، فكذا مزجه وأولى، لأن الوثيقة هنا آكد، فإن الشرط ربما لا يفي به، والثاني: لا يصح، وهو القياس لتقدم أحد شقي الرهن قبل ثبوت الدين، وَلَا يَصِحُّ بِنُجُومِ الْكِتابَةِ، لانتفاء الوثيقة باحتمال تعجيزه، وَلَا بِجَعْلِ الْجَعَالَةِ قبْلَ الْفَرَاغِ، لعدم لزومه فإنه يجوز الفسخ للمجعول له، أما بعده فإنه يصح جزمًا للزومه، وَقَيلَ: يَجُوزُ بَعْدَ الشُّرُوع، لانتهاء الأمر فيه إلى اللزوم فأشبه الثمن في مدة الخيار، وَيَجُوزُ بِالثَّمَنِ في مُدة الْخِيَارِ، لقربه من اللزوم، وَبِالدَّيْنِ رَهْنٌ بَعْدَ رَهْنٍ، أي ويجوز إنشاء رهنين بالدين الواحد؛ لأنه زيادة في الوثيقة، ثم هو كما لو رهنهما معًا.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَرْهَنَهُ الْمَرْهُونُ عِنْدَهُ بِدَيْنٍ آخَرَ، أي من جنس الأول، فِي الْجَدِيدِ، أي وإن وفّى بهما، كما لا يجوز رهنه عند غير المرتهن، والقديم الجواز على تجوز الزيادة على الرهن بدين واحد، والفرق لائح، هذا في غير الفداء، أما لو جنى المرهون ففداه المرتهن بإذن الراهن ليكون مرهونًا بالدين والفداء، فالمذهب القطع بالجواز، لأنه من مصالح الرهن لتضمنه استيفاءه، وكذا الاتفاق على المرهون بشرطه ويكون رهنًا بالنفقة والدين كما ذكره في الروضة من زوائده، أما إذا كان الأول دراهم والثاني: دنانير فوجهان أقيسهما في الاستقصاء الجواز، وَلَا يَلْزَمُ، أي من جهة الراهن، إلَّا بِقَبْضِهِ، أي فلا يقهر قبله عليه، لأنه عقد إرفاق يحتاج إلى القبول، فلا يلزم إلا بالقبض كالقرض والبيع، مِمَّنْ يَصِحُّ عَقْدُهُ، أي قابضًا كان أم مقبضًا فلا يصح من المحجور عليه لفقدان الأهلية، وَتَجْرِي فِيهِ النَيَابَةُ، أي من الطرفين كما يجري في العقد، لَكِن لَا يَسْتَنِيبُ، أي المرتهن، الرَّاهِنَ، أي في قبضه لنفسه لئلا يؤدي إلى اتحاد القابض والمقبض وهو ممتنع إلا ما استثنى، ويستثنى من إطلاق المصنف ما لو كان الراهن وكيلًا في الرهن فقط، فوكله المرتهن في القبض من المالك فيصح لانتفاء ما سلف، وَلَا عَبْدَهُ، أي عبد الرَّاهِنِ؛ لأن يدَه يدُه، وَفِي
الْمَأْذُونِ لَهُ وَجْهٌ، لانفراده ياليد والتصرف كالمكاتب، والأصح: المنع لما قلناه، وَيَسْتَنِيبُ مُكَاتَبَهُ، لأنه معه كالأجنبي.
فَرْعٌ: صفة القبض هنا في العقار والمنقول كما سبق في البيع، ويطرد الخلاف في كون التخلية في المنقول قبضًا، وعن القاضي القطع بأنها لا تكفي هنا؛ لأن القبض مستحق هناك، قال في الشَّامِلِ: وإن خلَّى بينه وبين الدار وفيها قماش للراهن صح التسليم في الدار خلافًا لأبي حنيفة؛ ونقله عنه صاحب الْبَيَانِ وَأَقَرَّهُ.
وَلَوْ رَهَنَ وَدِيعَةَ عِنْدَ مُوَدَّعٍ أَوْ مَغْصُوبًا عِنْدَ غَاصِبٍ لَم يَلْزَمْ مَا لَمْ يَمْضِ زَمَنُ إِمْكانِ قَبْضِهِ، لأن دوام اليد كابتداء القبض، فلا بد من زمان يتصور فيه ابتداؤه، وفي اشتراط المصير إلى موضعه إذا غاب أو مشاهدته خلاف، والأصح المنع، إذ لا فائدة فيه ويكتفى بأن الأصل بقاؤه، وَالأظْهَرُ: اشْتِرَاطُ إِذْنِهِ فِي قَبْضِهِ، لأن اليد كانت عن غير جهة الرهن ولم يجرِ تعرض للقبض بحكم الرهن، والثاني: لا يشترط؛ لأن العقدَ مع صاحبِ اليدِ يتضمنُ الإذنَ في القبضِ، وَلَا يُبْرِئُهُ ارْتِهَانُهُ عَنِ الْغَصْبِ، لأن الرهن لا ينافي الضمان بدليل ما لو رهنه شيئًا فتعدى فيه، فإنه لا يبطل الرهن، ويبْرِئُهُ الإِيْدَاع فِي الأَصَحِّ، لأن الوديعة تنافي الضمان فتضمنت البراءة، والثاني: لا يبرأ كالرهن.
وَيحْصُلُ الرُّجُوعُ عَنِ الرَّهْنِ قَبْلَ الْقَبْضِ بِتَصَرُّفٍ يُزِيلُ الْمِلْكَ كَهِبَةٍ مَقْبُوضَةٍ، لزوال محل الرهن، فإن كانت غير مقبوضة، قال في البيان: هو رجوع على المشهور وعلى تخريج الربيع في التدبير ليس رجوعًا، وهذا ما يفهمه تقييد المصنف تبعًا للرافعي، وَبِرَهْنِ مَقْبُوضٍ، لتعلق حق الغير، فإن لم يقبضه قال في البيان أيضًا: هو الرجوع على المشهور، لأن موجبه ينافي الرهن وعلى تخريج الربيع الآتي في التدبير لا يكون رجوعًا، وهو ما يفهمه كلام المصنف أيضًا، وَكِتَابَةٍ، لما قلناه من تعلق حق الغير، وَكَذَا تَدْبِيرُهُ فِي الأَظْهَرِ، لمنافاةِ مقصودُ التدبيرِ مقصودَ الرَّهْنِ وإشعارُهُ بالرحوعِ، والثاني: لا؛ لأن الرجوع عن التدبير ممكن وهو قول مخرج مقيس،
وَبِإِحْبَالِهَا لَا الْوَطْءِ، لأنه ليس سببًا لزوال الملك، وَالتَّزْوِيج، إذ لا منافاة؛ لأن رهن المزوَّجِ والمزوَّجَةِ جائزٌ ابتداءً.
وَلَوْ مَاتَ الْعَاقِدُ، أي راهنًا كان أو مرتهنًا، قَبْلَ الْقَبْضِ أَوْ جُنَّ أَوْ تَخَمَّرَ الْعَصِيرُ أَوْ أبَقَ الْعَبْدُ لَمْ يَبْطُلْ الرَّهْنُ فِي الأَصَحِّ، أما في الأُولى: فلأنه عقد مصيره إلى اللزوم، فلا يتأثر بالموت قبل لزومه كالبيع في زمن الخيار، ووجه مقابله أنه جائز كالوكالة. وأما في الثانية: فهو مرتب على الأُولى، فإن قلنا لا يبطل ثَم فهنا أولى، وإلا فالوجهان والأصح عدم البطلان، وأما في الثالثة: فبالقياس على ما لو كان ذلك بعد القبض، ووجه مقابله اختلاله في حال ضعف الرهن وعدم لزومه، ووقع في بحر القمولي وجواهره أن الرافعي في الْمُحَرَّرِ صَحَّحَهُ وهو وَهْمٌ فاجتنبهُ. أما إذا تخمر بعد قبضه؛ فإن الرهن يبطل على الصحيح لخروجه عن المالية، فإن عاد خلّا عاد الرهن على المشهور، فالمراد ببطلانه أولًا: ارتفاع حكمه ما دام خمرًا فقط. وأما في الرابعة: فالخلاف فيها من تخريج الإمام؛ لأنه عاد إلى حالة يمنع ابتداء الرهن فيها، وقوله (فِي الأَصَحِّ) هو صحيح في الثالثة والرابعة، أما الأُولى والثانية فينبغي التعبير فيهما بالمذهب.
وَلَيْسَ لِلرَّاهِنِ الْمُقْبِضِ تَصَرُّفٌ يُزِيلُ الْمِلْكَ، أي كالبيع ونحوه لأَنَّا لو صَحَّحْنَاهَا لفاتت الوثيقة، لَكِنْ فِي إِعْتَاقِهِ أَقْوَالٌ؛ أَظْهَرُهَا: يَنْفُذُ مِنَ الْمُوسِرِ، أي دون المعسر، لأنه عتق يبطل به حق الغير، فَفَرَّقَ فيه بينَ الموسرِ والمعسرِ، كعتق العبد المشترك، وثانيها: النفود مطلقًا لأنه مالكه، وثالثها: لا مطلقًا لأجل الحجر. وهذه المسألة هي التي بحث الشافعي فيها مع فتيان فكان سبب موته. واحترز بقوله (وفِي إِعْتَاقِهِ) عن الحكم بعتقه لا بإعتاق الراهن له بالسرايةِ لكن بشرط اليسار في الأصح، وَيغْرَمُ، الموسر، قِيمَتَهُ، جبرًا لحق المرتهن، يَوْمَ عِتْقِهِ، لأنه يوم الإتلاف، رَهْنًا، أبي من غير إنشاء عقد الرهن عليها لقيامها مقام الرهن، وَإِذَا لَمْ نُنَفّذْهُ، لكونه معسرًا أو على القول بأنه لا ينفذ مطلقًا، فَانْفَكَّ، أي الرهن بأداءٍ أو غيره، لَمْ يُنَفِّذْ
في الأَصَحِّ، لأنه عتق، ولا يملك اعتاقه، فأشبه ما لو عتق المحجور عليه بسفه ثم زال حجره، والثاني: ينفذ لزوال المانع.
وَلَوْ عَلَّقَهُ بصِفَةٍ، أي علق الراهن العتق بصفةٍ بعد رهنه كقدوم زيدٍ، فَوُجِدَتْ وَهُوَ رَهْنٌ فَكَالإِعْتَاقِ، لأن التعليق مع الصفة كالتنجيز، أَوْ بَعْدَهُ نَفَذَ عَلَى الصَّحِيح، لأنه لا يبطل حق المرتهن، والثاني: لا ينفذ؛ لأن التعليق صدر في حالةٍ لا يملك التنجيز فيها، والأولُ فَرَّقَ بأن مجرد التعليق لا يضر المرتهن بخلاف التنجيز، وَلَا رَهْنُهُ لِغَيرِهِ، لمزاحمته حق الأول فيفوت مقصود الرهن، أَمَّا رهنه منه فقد تقدم، وَلَا التَّزْوِيجُ، لما فيه من تنقيص القيمة، وَلَا الإِجَارَةُ إِن كَان الدَّيْنُ حَالَّا أَوْ يَحِلُّ قَبْلَهَا، لأنها تنقص القيمة والرغبات عند الحاجة إلى البيع، أما إذا كان يحل بعدها أو مع انقضائها فإنها صحيحة من ثقة لانتفاء المحذور حالة البيع، وَلَا الْوَطْءُ، لما فيه من التنقيص في البكر وخوف الحبل في الثيب وحَسمًا للباب فيمن لا تحبل، فَإِنْ وَطَءَ فَالْوَلَدُ حُرٌّ، لأنها علقت به في ملكه، وَفِي نُفُوذِ الاِسْتِيلَادِ أَقْوَالُ الإِعْتَاقِ، أي وَأَوْلى بالنفوذ لما مَرَّ، فَإِنْ لَمْ نُنَفِّذْهُ فَانْفَكَّ، أي الرهن من غير بيع، نَفَذَ في الأَصَحِّ، أي بخلاف العتق لقوة الاستيلاد (•)، فَلَوْ مَاتَتْ بِالْوِلَادَةِ، أي وقلنا الاستيلاد لا يَنْفُذُ، غَرِمَ قِيمَتَهَا رَهْنًا فِي الأَصَحِّ، لأنه تسبب إلى إهلاكها بالإحبال، والثاني: لا غُرْمَ لِبُعْدِ إضافةِ الهلاك إلى الوطءِ. وقوله (رَهْنًا) أي من غير إنشاء رهن ولا يَبْعُدُ جريانُ وجهٍ فيهِ.
وَلَهُ، أي لِلرَّاهِنِ، كُلُّ انْتِفَاعٍ لَا يَنْقُصُهُ كَالرُّكُوبِ وَالسُّكْنَى، لقوله صلى الله عليه وسلم:[الرَّهْنُ مَرْكُوبٌ وَمَحلُوبٌ] رواه الحاكم وصححه على شرطهما (90)، لَا الْبِنَاءُ
(•) في النسخة (3) فقط: فلو بيعت في الدَّيْنِ ثم ملكها نفذ في الأصح.
(90)
• الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الرَّهْنُ مَحلُوبٌ ومَرْكُوبٌ] أو [مَركُوبٌ وَمَحْلُوبٌ]. رواهما البيهقي في السنن الكبرى: كتاب الرهن: باب ما جاء في زيادات الرهن: الحديث (1386 أو 11387). والحاكم في المستدرك: الحديث =
وَالغِرَاسُ، لنقصان قيمة الأرض بهما، فَإنْ فَعَلَ، أي غرس وبنى، لَمْ يَقْلَعْ قَبْلَ الأجَلِ، رجاء أن يقضي الدَّيْن من موضع آخر أو يفي قيمة الأرض بالدَّيْن فلا يجوز الاضرار المحقق بقطعه لضرر متوهم، وَبَعْدَهُ، أي بعد حلول الأجل، يَقلَعُ إِن لَمْ تَفِ الأرْضُ بِالدَّيْنِ وَزَادَتْ بِهِ، أي بالقلع، ولم يأذن الراهن في بيع الغراس مع الأرض لتعلق حق المرتهن بأرضٍ فارغة، ثُمَّ إِدْ أَمْكَنَ الانْتِفَاعُ بِغَيْرِ اسْتِرْدَاد، أي بأن كان المرهون عبدًا لَهُ صَنْعَة يمكن أن يعملها عند المرتهن، لَمْ يَسْتَرِدَّ، أي من المرتهن لأجل عملها عنده لأن الحق له، وَإِلَّا، أي بأن كانت دارًا أو نحوها، فَيَسْتَرِدُّ، للحاجة إلى ذلك، وَيُشهِدُ إِنِ اِتَّهَمَهُ، أي يشهد عليه شاهدين أنه أخذه للانتفاع؛ أي إن لم يثق به، فإن وثق به فلا يكلف الإشهاد على أخذه على الأصح لما فيه من المشقة.
وَلَهُ بِإِذْنِ الْمُرتَهِنِ مَا مَنَعْنَاهُ، أي من التصرفات والانتفاعات؛ لأن المنع لحقّه وقد زال باذنه، وَلَهُ الرُّجُوعُ قَبْلَ تَصَرُّفِ الرَّاهِنِ، لأن حقه باقٍ كما للمالك أن يرجع قبل تَصَرُّف الوكيلِ، فَإنْ تَصَرَّفَ جَاهِلًا بِرُجُوعِهِ فَكَتَصَرُّفِ وَكِيلٍ جَهِلَ عَزْلَهُ، أي عزل موكله، والأصح فيه عدم النفوذ، كما سيأتي في بابه إن شاء الله تعالى، وَلَوْ أَذِن فِي بَيْعِهِ لِيُعَجِّلَ الْمُؤَجَّلَ مِنْ ثَمَنِهِ، أي شرط ذلك، لَمْ يَصِح الْبَيْعُ، لأنه قد شرط في الإذن شرطًا فاسدًا وهو التعجيل فأبطله، وَكَذَا لَوْ شَرَطَ رَهْنَ الثَّمَنِ، أي يجعله مرهونًا مكانه، فِي الأظْهَرِ، لأن الثمن مجهول عند الإذن، والثاني: يصح، لأن الرهن قد ينتقل من العين إلى البدل شرعًا كما إذا أتلف المرهون فجاز أن ينتقل بالشرط.
= (2347/ 218)، وقال: هذا إسناد صحيح على شرط الشيخين. وقال الذهبي في التلخيص: على شرط البخارى ومسلم.
• وعن أبي هريرة رضي الله عنه؛ قال: أن النبي صلى الله عليه وسلم كَانَ يَقُولُ: [الظَّهْرُ يُرْكَبُ بِنَفَقَتِهِ إِذَا كَانَ مَرهُوْنًا؛ وَيُشْرَبُ لَبَنُ الدَّرِّ إِذَا كَانَ مَرْهُوْنًا، وَعَلَى الَّذِي يَرْكَبُ وَيَشْرَبُ نفَقتُهُ]. رواه البخاري في الصحيح: كتاب الرهن: باب الرهن مركوبٌ ومحلوبٌ: الحديث (2511 و 2512).
فَصلٌ: إِذَا لَزِمَ الرَّهْنُ فَالْيَدُ فِيهِ لِلمُرْتَهِنِ، لأن قوام التوثق بها، وَلَا تُزَالُ إِلَّا لِلاِنْتِفَاعِ كَمَا سبَقَ، جمعًا بين الحقين.
فَرْعٌ: لو رهن عبدًا مسلمًا أو مُصحفًا أو نحوهما عند كافر؛ أو السلاح عند حربي؛ أو جارية حسناء عند أجنبي صَحَّ على المذهب فيهن؛ فيستنيب مسلمًا في قبض المسلم ونحوه، ويجعلُ العبدُ المسلمُ عندَ عَدْلٍ وكذا السلاحُ والجاريةُ إن لم يكن عنده امرأةٌ أو أمَةٌ أو أجنبي ثقة.
وَلَوْ شَرَطَ وَضْعَهُ عِنْدَ عَدْلٍ جَازَ، لأن كلًا منهما قد لا يثق بصاحبه ويثقان بثالث؛ وعبارة الروضة في يد ثالثٍ؛ وهىَ أعَمُّ.
فَرْعٌ: لو شرطا وضعه بعد اللزوم عند الراهن فكلام الغزالي كالصريح في المنع؛ وحمله في المطلب على ابتداء القبض.
أَوْ عِنْدَ اثْنَينِ وَنَصّا عَلَى اجْتِمَاعِهِمَا عَلَى حِفْظِهِ أَوْ الاِنْفِرَادِ بِهِ فَذَاكَ، أي فيتبع الشرط، وَإِنْ أطْلَقَا فَلَيسَ لأحَدِهِمَا الاِنْفِرَادُ فِي الأصَحِّ، كما لو أوصى إلى اثنين لا ينفرد أحدهما، والثاني: نعم؛ لأن العرف قاضٍ به، وَلَوْ مَاتَ الْعَدْلُ أَوْ فُسِّقَ جَعَلَاهُ حَيثُ يَتَّفِقَانِ وِإِن تَشَاحَّا وَضَعَهُ الْحَاكِمُ عِنْدَ عَدْلٍ، لأنه العدل، وصورة التشاحح استشكلت، لأنه إن كان قبل القبض فالتسليم غير واجب، وإجبارُ الحاكم إنما يكون في واجب، وإن كان بعده فلا يجوز نزعه ممن هو في يده، وكان بعض المتأخرين من شيوخ شيوخنا يصوره بما إذا وضعَاه عند عدل ففسق وكذا لو رضى بيد المرتهن؛ ففسق؛ فينبغي أن يكون مثله.
وَيَسْتَحِقُّ بَيْعَ الْمَرْهُونِ عِندَ الْحَاجَةِ، أي بأن لم يوف الراهن الدين من غيره، وكذا يستحق بيعه عند الإشراف على التلف قبل الحلول، ويُقَدَّمُ الْمُرْتَهِنُ بِثَمَنِهِ، لأنه فائدة الرهن؛ بل قال الإمام: إنه لا يجب عليه الوفاء من غير الرهن؛ وفيه نظر، وَيَبِيعُهُ الرَّاهِنُ، لأنه المالك، أَوْ وَكِيلُهُ بِإِذْنِ االْمُرْتَهِنِ، أي وكذا وكيل المرتهن؛ لأنه صاحب الحق، فَإِنْ لَمْ يَأْذَن، وأراد الرَّاهِنُ بَيْعَهُ، قَالَ لَهُ الْحَاكِمُ، أي للمرتهن:
تَأْذَنُ أَوْ تُبْرِئُ، دفعًا لضرر الراهن، وَلَوْ طَلَبَ الْمُرْتَهِنُ بَيْعَهُ فَأَبَى الرَّاهِنُ أَلْزَمَهُ الْقَاضِي قَضَاءَ الدَّينِ أَوْ بَيْعَهُ، فَإِن أَصَرَّ بَاعَهُ الْحَاكِمُ، دفعًا لضرر المرتهن، وَلَوْ بَاعَهُ الْمُرْتَهِنُ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ فَالأصَحُّ أَنَّهُ إِن بَاعَ بِحَضْرَتِهِ صَحَّ وإلَّا فَلَا، لأنه يبيعه لغرض نفسه؛ فيتهم في الغيبة بالاستعجال، وترك النظر دون الحضور. والثاني: يصح مطلقًا، كما لو أذن له في بيع غيره، والثالث: لا يصح مطلقًا، لأنه توكيل فيما يتعلق بحقه إذ المرتهن مستحق للبيع.
فَرْعٌ: حيث صححنا الإذن، فإن قال: بعهُ لي صَحَّ أو لنفسك فلا، على الأظهرِ، لأنه لا يتصور أن يبيع الإنسانُ مالَ غيرِهِ لنفسه، ولو أطلق صَحَّ في الأصحِّ.
وَلَوْ شُرِطَ أَنْ يَبِيعَهُ الْعَدْلُ جَازَ، أي الشرط، وَلَا يُشْتَرَطُ مُرَاجَعَةُ الرَّاهِنِ فِي الأَصَحِّ، لأن الأصلَ بقاء الإذن الأول، والثاني: يشترط، لأنه قد يكون له غرض في استيفاء وقضاء الحق من غيره، واحترز بالراهن عن المرتهن، لأنه لا بد من مراجعته، لأنه ربما أمهل أو أبرأ، وقيل: لا، فَإِذَا بَاعَ، أي في موضعهِ، فَالثمَنُ عِندَهُ مِنْ ضَمَانِ الرَّاهِنِ حَتَّى يَقْبِضَهُ الْمُرْتَهِنُ، لأنه ملكه فهو كالرهن، فَلَوْ تَلِفَ ثَمَنُهُ فِي يَدِ الْعَدْلِ ثُمَّ اسْتَحَقَّ الْمَرْهُون فَإِن شَاءَ الْمُشْتَرِي رَجَعَ عَلَى الْعَدْلِ، لوضع يده، وَإِنْ شَاءَ عَلَى الرَّاهِنِ، لإلجائه المشتري شرعًا إلى التسليم للعدل بحكم توكيله، وَالْقَرَارُ عَلَيهِ، أي على الراهن، وَلَا يَبِيعُ الْعَدْلُ إِلَّا بِثَمَنِ مِثلِهِ حَالًا مِنْ نَقدِ بَلَدِهِ، كالوكيل، والمرتهن كالعدل في ذلك فيما يظهر، فَإِنْ زَادَ رَاغِبٌ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ فَلْيَفْسَخْ وَلْيَبِعْهُ، أي ولا ينفسخ بمجرد الزيادة؛ فإن لم يفعل انفسخ في الأصح؛ لأن المجلس كحال العقد، واحترز بقوله (قَبْلَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ) عما لو زاد بعده، فإن البيعَ لازمٌ ولا أثر للزيادةِ، ولو لم يفسخ بل باع من الراغب صح في الأصح، فالواجب حينئذ أحَدُهُمَا، وشمل قوله (قَبْلَ انْقِضَاءِ الْخِيَارِ) خيار المجلس والشرط.
فَصْلٌ: وَمُؤنَةُ المَرْهُونِ عَلَى الرَّاهِنِ، بالإجماع وانفرد الحسن البصري حيث قال: إنها على المرتهن، ويجْبَرُ عَلَيْهَا لَحِقِّ الْمُرْتَهِنِ عَلَى الصَّحيحِ، حفظًا للوثيقة،
والثاني: لا، بل إذا امتنع باع القاضي جزءًا من المرهون فيها بحسب الحاجة، إلا أن تستغرق المؤنة الرَّهْنِ قبل الأجلِ؛ فيباع ويجعل ثَمَنُهُ رهنًا نقله في الكبير عن الإمام وجزم به في الشرح الصغير.
وَلَا يُمْنَعُ الرَّاهِنُ مِنْ مَصْلَحَةِ الْمَرْهُونِ كَفَصْدٍ وَحِجَامَةٍ، أي عند الحاجة إليهما، لأنه يحفظ بِه ملكه، لكن لا يجبر عليها بخلاف النفقة، كذا قاله الأصحاب، واستدرك صاحب المطلب فقال في كتاب النفقات: هذا محمول على أنها لا تجب من خالص ماله؛ بل في عين المرهون ببيع جزء منه لأجلها، وَهُوَ أَمَانَةٌ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، كقوله عليه الصلاة والسلام [الرَّهْنُ مِنَ رَاهِنِهِ] أي من ضمان راهنه [لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ] رواه الشافعي رحمه الله والمحفوظ إرساله (91)، وَلَا يَسْقُطُ بِتَلَفِهِ شَيْءٌ مِنْ دَيْنِهِ، لأنه وثيقة في دَيْنٍ ليس بعوض فيه فلا يسقط الدَّيْنُ بتلفه كالضامن والشاهد، وفيه احتراز من تلف المبيع في يد البائع.
وَحُكْمُ فَاسِدِ الْعُقُودِ حُكمُ صَحِيحِهَا فِي الضَّمَانِ، أي فيما اقتضى صحيحه الضمان كالبيع وسائر العقود اقتضاه فاسده أيضًا، وَمَا لَا؛ كالرهن ونحوه فلا، أما الأول: فلأن الصحيح إذا أوجب الضمان فالفاسد أَوْلى، وأما الثاني: فلأن إثبات اليد عليه بإذن المالك، ولم يلتزم بالعقد ضمانًا. ويستثنى مسائل من طرد هذه القاعدة ومن عكسها فراجعها من الشرح الكبير.
(91) • روى الشَّافِعيُّ عن سعيدٍ بن الْمُسَيِّبِ؛ أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: [لَا يَغْلقُ الرَّهْنُ الرَّهنَ مِنْ صَاحِبِهِ الَّذي رَهَنَهُ، لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ]. ونقل الشافعى رحمه الله: وَغُنمُهُ زِيَادَتُهُ؛ وَغُرْمُهُ هَلَاكُهُ وَنَقْصُهُ. رواه في الأُمِّ: باب ضمان الرهن: ج 3 ص 167.
• سعيد بن الْمُسَيِّبِ عن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لَا يَغْلَقُ الرَّهْن؛ لَهُ غُنْمُهُ وَعَلَيْهِ غُرْمُهُ]. رواه ابن حبان في الإحسان: كتاب الرهن: الحديث (5904).
• سُئِلَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ؛ فَقِيْلَ لَهُ: أرَأيْتَكَ قَوْلَكَ: لَا يَغْلَقُ الرِّهنَ؛ أهُوَ الرَّجُلُ يَقُولُ: إِنْ لَمْ آتِك بِمَالِكَ؛ فَهَذَا الرَّهْنُ لَكَ؟ قَالَ: (نَعَمْ). رواه البيهقي في السنن الكبرى: باب الرهن غير مضمون: الحديث (11401).
وَلَوْ شَرَطَ كَوْن الْمَرْهُون مَبِيعًا لَهُ عِنْدَ الْحُلُولِ فَسَدَ، أي للرهن لِتَأْقِيْتِهِ والبيع لتعليقهِ، وَهُوَ قَبْلَ المَحِلِّ أَمَاَنَةٌ، وبعدَهُ مضمونٌ، لأنه مقبوضٌ بحكمِ الشراءِ الفاسدِ وهو عقدُ ضَمَانٍ، وَيُصَدَّقُ الْمُرْتَهِنُ فِي دَعْوَى التَّلَفِ بِيَمِيْنِهِ، لأنه أمين كما مَرَّ، والمراد تصديقه في الجملة، وله تفصيل يأتى في الوديعةِ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي الرَّدِّ عِنْدَ الأَكْثَرِينَ، لأنه قبضه لمنفعةِ نفسه فأشبه المستعير، وقيل: نعم كالمودع.
فَصْلٌ: وَلَوْ وَطَءِ المُرْتَهِنُ المَرْهُونَةَ بِلَا شُبْهَةٍ فَزَانٍ، أي فهو زانٍ فعليه الحد إجماعًا، ومهرُ المكرهة لا المطاوعة في الأصح، وَلَا يُقْبَلُ قَوْلُهُ جَهِلْتُ تَحْرِيمَهُ إِلَّا أَن يَقْرُبَ إِسْلَامُهُ أَوْ يَنشَأَ بِبَادِيَةٍ بَعِيدَةٍ عَنِ الْعُلَمَاءِ، لأنه قد يخفى عليهما بخلاف غيرهما، وَإِنْ وَطَءَ بِإِذْنِ الرَّاهِنِ قُبِلَ دَعْوَاهُ جَهْلَ التْحْرِيمِ فِي الأَصَحِّ، لأن التحريم مع الإذن لا يبعد خفاؤه على العوام، والثاني: لا تقبل دعواه، لبعدها إلا أن يقرب إسلامه كما سلف، فَلَا حَدَّ، للشبهة، وُيجِبُ الْمَهْرُ إِن أَكْرَهَهَا، قياسًا على المفوضة، وقيل: لا؛ لإذن مستحقه، وحكاهُ في الْمُحَرَّرِ وحذفه المصنف وهو غريب. وخرج بالمكرهة المطاوعة، فإنه لا مهر لها، لإنضمام الإذن إلى طواعيتها، وَالْوَلَدُ حُرٌّ نَسِيبٌ، لأنه حكم وطءِ الشبهة، وَعَلَيهِ قِيمَتُهُ لِلرَّاهِنِ، لأن الإذن في الوطء رضًا بإتلاف المنفعة، لا بالإحبال.
فَصْلٌ: وَلَوْ أَتْلَفَ الْمَرْهُونُ وَقَبضَ بَدَلَهُ صَارَ رَهْنًا، لقيامهِ مَقَامَهُ ويجعل في يَدِ مَنْ كَانَ الأصلُ في يدهِ، وَالْخَصْمُ فِي الْبَدَلِ الرَّاهِنُ، لأنه المالك، فَإِنْ لَمْ يُخَاصِمْ لَمْ يُخَاصِمِ الْمُرْتَهِنُ فى الأَصَحِّ، لأنه غير مالك، والثاني: يخاصم لتعلق حقه بما في ذمته ونسبه الإمام إلى المحققين، فَلَوْ وَجَبَ قِصَاصٌ، أي في نفسٍ، اِقْتَصَّ الرَّاهِنُ، لعموم الأدلة، وَفَاتَ الرَّهْنُ، لفوات العين وبدلها، أما إذا كانت على طرف، واقتص، فإن الرهن يبقى بحالهِ، فَإِنْ وَجَبَ الْمَالُ بِعَفْوِهِ أَوْ بِجنَايَةِ خَطَإٍ، أي أو عمدٍ على نفسٍ أو طرفٍ لكون الجاني حُرًّا، لَمْ يَصِحَّ عَفْوُهُ، أي عفو الراهن، عَنْهُ، لتعلق حق المرتهن به، وَلَا إبْرَاءُ الْمُرْتَهِنِ الْجانِي، لأنه غير مالك، فإن فعل، فالأصح: أنَّ ذلكَ ليسَ فَسْخًا للرَّهْنِ.
فَصْلٌ: وَلَا يَسْرِي الرَّهْنُ إِلَى زِيادَتِهِ الْمُنْفَصِلَةِ كَثَمَرَةٍ وَوَلَدٍ، لأنه لا يزيل الملك عن الرقبة، فلم يسرِ إليهما كالإجارة، أما المتصلة كالسمن، فإنها تتبع الأصل، فَلَوْ رَهَنَ حَامِلًا وَحَلَّ الأَجَلُ وَهِيَ حَامِلٌ بِيعَتْ، لأنا إن قلنا إنَّ الحملَ يُعْلَمُ فكأنه رهنهما، وإلا فقد رهنها والحمل محض صفة، وَإنْ وَلَدَتْهُ بِيعَ مَعَهَا فِي الأَظْهَرِ، بناء على أنَّ الحملَ يُعْلَمُ وَمُقَابِلُهُ مَبْنِيٌّ على مُقَابِلِهِ، فَإِن كَانَتْ حَامِلًا عِندَ الْبَيْع دُون الرَّهْنِ فَالْوَلَدُ لَيْسَ بِرَهْنٍ فِي الأظْهَرِ، بناء على أنه يعلم، قال الرافعي: ويتعذر بيعُهُ معها، لأنَّ استثناءَ الحملِ متعذرٌ ولا سبيلَ إلى بَيْعِهَا حامِلًا، ويوزع الثمن، لأنَّ الحملَ لا تعرف قيمتُهُ، والثاني: أنَّ الوَلَدَ رَهْنٌ بناءً على أنه لا يُعلم فيتبع كالسمن.
فَصْلٌ: جَنَى الْمَرْهُون، أي بغير إذن السيد، قُدِّمَ المَجْنِيِّ عَلَيْهِ، لأن حقه يتعين في الرقبة، وحق المرتهن ثابت في الذمة، فإن أمره بها وكان لا يميز أو كان أعجميًا يعتقدُ وجوبَ طاعتِهِ، فالجاني هو السيدُ وعليه القصاصُ والضمانُ، ولا يتعلق برقبة العبدِ شيءٌ على الأصح، فَإِنِ اقْتَصَّ أَوْ بِيعَ لَهُ، أي لِحَقِّهِ، بَطَلَ الرَّهْنُ، لفوات محله حتى لو عاد إلى ملك الراهن لم يكن رهنًا، وَإِن جَنَى عَلَى سَيِّدِهِ فَاقْتَصَّ بَطَلَ، أي في المقتص فيه طرفًا كان أو نفسًا، وَإنْ عُفِيَ عَلَى مَالٍ لَمْ يَثْبُتْ عَلَى الصَّحِيح فَيَبْقَى رَهْنًا، لأن السيد لا يثبت له على عبده مالٌ، والثاني: يثبت؛ ويتوصل به المالكُ إلى فكِّ الرَّهْنِ، وِإن قَتَلَ، أي المرهون، مَرْهُونًا لِسَيِّدِهِ عِنْدَ آخَرَ، أي عند مرتهن آخر، فَاقْتَصَّ، أي السَّيِّدُ، بَطَلَ الرَّهْنَانِ، لفواتهما؛ فإن لم يكن مرهونًا؛ فهو كما لو جنى على السيد، وَإنْ وَجَبَ مَالٌ، أي إما بعفوه أو كانت الجناية خطأً، تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ مُرْتَهِنِ الْقَتِيلِ، لأن السيد لو أتلف المرهون لغرم قيمته لحق الرهن، فإذا أتلفه عبده كان تعلق الغرم به أولى، وإنما وجب المال وإن كان لا يجب للسيد على عبده مال؛ لأجل تعلق حق الغير، فَيُبَاعُ وَثَمَنُهُ رَهْنٌ، وَقِيلَ: يَصِيرُ رَهْنًا، أي إذا وجب المال فوجهان أحدهما: أن العبد ينقل إلى يد مرتهن القتيل ولا يباع العبد؛ لأنه لا فائدة فيه، وأصحهما يباع ويجعل الثمن رهنًا في يده؛ لأن حَقَّهُ في ماليةِ العبدِ لا في عينه؛ ولأنه قد يرغبُ راغبٌ بزيادةٍ، قَالَ الرافعي: والوجهان إنما يظهرانِ إذا طلبَ الراهنُ
النقلَ؛ ومرتهنُ القتيلِ البيعَ، أما لو عكس فالمجابُ الراهنُ؛ لأنه لا حقَّ للآخرِ في عينهِ، فَإِنْ كاَنَا مَرْهُونَيْنِ عِنْدَ شَخْصٍ، أي وكذا عند اثنين، بِدَيْنٍ وَاحِدٍ نَقَصَتِ الْوَثِيقَةُ، كما لو مات أحدُهما، وعبارةُ الْمُحَرَّرِ: فتنقض الوثيقة أو تفوت، أَوْ بِدَيْنَيْنِ وَفِي نَقْلِ الْوَثِيقَةِ غَرَضٌ نُقِلَتْ، أي وإلا فلا، فإذا كان الدَّيْنَانِ مختلفين حلولًا وتأجيلًا فله التوثيق لِدَيْنِ القتيلِ بالقاتل، لأنه إن كان الحال دين القتيل فقد يريد استيفاؤُهُ من ثمنه في الحال، أو دَيْن القاتل. فقد يُريدُ الوثيقة للمؤجل ويطالب بالحالِّ وكذا لو اختلفا في قَدْرِ الأجَلِ، وإن لم يختلفا في ذلك واختلفا في القدر كعشرةٍ وعشريْنَ، والقتيل مرهونٌ بأكثرهِمَا نقل؛ وإلا فلا، أو اتفقا فيه أيضًا، نقل قدر بدله؛ أي قدر قيمة القتيل؛ إن كانت قيمة القاتل أكثر؛ وإلا فلا إذ لا فائدة فيه.
وَلَوْ تَلِفَ الْمَرْهُونُ بِآفَةٍ بَطَلَ، يعني الرهن لفواته، وَيَنْفَكُّ بِفَسْخ الْمُرْتَهِنِ، لأن الحقَّ لَهُ وهو جائز من جهته، أما الراهن فلا للزومه من جهته، وَبِالْبَرَاءَةِ مِنَ الدَّيْنِ، أي بأي وجه كان، فَإِنْ بَقِيَ شَيْءٌ مِنْهُ لَمْ يَنْفَكَّ شَيْءٌ مِنَ الرَّهْنِ، بالإجماع، وَلَوْ رَهَنَ نِصْفَ عَبْدٍ بِدَينٍ وَنصْفَهُ بِآخَرَ فَبُرِئَ مِنْ أَحَدِهِمَا انْفَكَّ قِسْطُهُ، لتعدد الصفقة بتعدد العقد، وَلَوْ رَهَنَاهُ فَبَرِئَ أَحَدَهُمَا انْفَكَّ نَصِيبُهُ، لتعددها بتعدد العاقدِ.
فَصْلٌ: اِخْتَلَفَا فِي الرَّهْنِ، أي في أصله، أَوْ قَدْرِهِ صُدِّقَ الرَّاهِنُ بِيَمِينِهِ إِن كاَن رَهْنَ تَبَرُّعٍ، لأن الأصل يعضده وهو عدم الرهن، ولو عبَّر المصنف بالمالك بدل الراهن لكان أَولى لأن منكر الرهن ليس براهن، وَإِن شُرِطَ في بَيْعٍ، أي اختلفا في رهن مشروط في بيع، تَحَالَفَا، كسائر صفات البيع إذا اختلف فيها.
وَلَوِ ادْعَى أَنَّهُمَا رَهَنَاهُ عَبْدَهُمَا بِمِائَةٍ؛ وَصَدَّقَهُ أَحَدُهُمَا فَنَصِيبُ الْمُصَدِّقِ رَهْنٌ بِخَمْسِينَ، وَالْقَوْلُ فِي نَصِيبِ الثَّانِي قَوْلُهُ بِيَمِينِهِ، لِمَا مَرَّ، وَتُقْبَلُ شَهَادَةُ الْمُصَدِّقِ عَلَيْهِ، أي على النافي لخلوها من جلب النفع له ودفع الضرر عنه، وَلَوِ اخْتَلَفَا فِي قَبْضِهِ فَإِنْ كاَن فِي يَدِ الرَّاهِنِ أَوْ فِي يَدِ الْمُرْتَهِنِ، وَقَالَ الرَّاهِنُ: غَصَبْتُهُ
صُدِّقَ الرَّاهِنُ (•) بيَمِينِهِ، إذ الأصل عدم اللزوم والإذن في القبض، وَكَذَا لَوْ قَالَ: أَقْبَضْتُهُ عَنْ جِهَةٍ أُخْرَى، أي كإيداع ونحوه، فِي الأَصَحِّ، لما قلناه من أن الأصل عدم ما ادعاه وهذا هو المنصوصُ أيضًا، والثاني: يصدق المرتهن لاتفاقهما على قبض ما دون فيه، والراهن يريد صرفه إلى جهة أخرى، والظاهر خلافه لتقدم العقد المحوج إلي القبض.
وَلَوْ أَقَرَّ بِقَبْضِهِ، ثُمَّ قَالَ: لَمْ يَكنْ إِقْرَارِي عَنْ حَقِيقَةٍ فَلَهُ تَحْلِيفُهُ، لأن الوثائق يشهد فيها غالبًا قبل تحقق ما فيها، وَقِيلَ: لَا يُحَلِّفُهُ إِلَّا أَن يَذْكُرَ لإِقْرَارِهِ تَأْوِيلًا كَقَوْلِهِ: أَشْهَدْتُ عَلَى رَسْمِ الْقَبَالَةِ، أي على الكتابة الواقعة في الوثيقة لكى آخذ بعد ذلك، لأنه إذا لم يذكر تأويلًا يكون مكذبًا لدعواه بإقراره السابق.
فَرْعٌ: لَوْ أَقَرُّ فِي مَجْلِسِ الْقَضَاءِ بَعْدَ تَوَجُّهِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ، قال القفالُ: ليس له التحليف، وإن ذكرَ تأويلًا؛ لأنه لا يكادُ يقر عند القاضى إلا عن تحقيق، وقال غيره: لا فرق لشمول الإمكان وهو مقتضى إطلاق المصنف.
وَلَوْ قَالَ أَحَدُهُمَا: جَنَى الْمَرْهُونُ وَأَنْكَرَ الآخَرُ صُدِّقَ الْمُنْكِرُ بِيَمِينِهِ، لأن الأصل عدمها، وَلَوْ قَالَ الرَّاهِنُ: جَنَى قَبْلَ الْقَبْضِ؛ فَالأَظْهَرُ: تَصْدِيقُ الْمُرْتَهِنِ بِيَمِينِهِ فِي إِنْكَارِهِ، صيانة لحقه لإحتمال التواطؤ، والثاني: يصدق الراهن؛ لأنه أقَرَّ في مِلكهِ عَمَّا لا يجرُّ نفعًا إلى نفسهِ، ومحل الخلاف ما إذا عين الراهن المجني عليه وصدقه فإن لم يُعَيِّنْهُ أَوْ عَيَّنَهُ ولم يصدقه أو لم يدعه فالرَّهْنُ باقٍ بِحَالِهِ، وَالأَصَحُّ: أنهُ إِذَا حَلَفَ! غَرِمَ الرَّاهِنُ لِلْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، كما لو قتله؛ لأنه حال بينه وبين حقهِ، والثاني: لا يغرم؛ لأنه أقر في رقبة العبد بما لا يقبل إقراره فكأنه لم يقر أصلًا.
وَأَنهُ يَغرَمُ الأقَلَّ مِنْ قِيمَةِ الْعَبْدِ وَأَرْشِ الْجِنَايَةِ، كما في جناية أم الولد لامتناع
(•) في نسخة (2) و (3) لا توجد كلمة الراهن. وأثبتها من النسخة (1)، لأن الزيادة من الثقة مقبولة.
البيع، وقيل: على القولين في فداء الجانى، أظهرهما: الأقل من قيمته وأرش الجناية، وثانيهما: الأرش بالغًا ما بلغ، والأكثرون قطعوا بالأوَّلِ.
وَأَنَّهُ لَوْ نَكَلَ الْمُرْتَهنُ رُدَّتِ الْيَمِينُ عَلَى الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ لَا عَلَى الرَّاهِنِ، لأنَّ الحَقَّ لَهُ والرَّاهِنُ لا يَدَّعِي لنفسهِ شيئًا، والثاني: على الراهن؛ لأنه مالك العبد والخصومة تجري بينهما، فَإِذَا حَلَفَ بِيْعَ فِي الْجِنَايَةِ، لثبوتها باليمين المردودة، وَاعْلَمْ: أنه كان ينبغي للمصنف التعير في الأُولى والثالثة بالأظهر؛ وفي الثانيةِ بالمذهبِ كما فعل في الروضةِ.
وَلَوْ أَذِنِ، يعني المرتهن، فِي بَيْع الْمَرْهُونِ فَبِيعَ وَرَجَعَ عَنِ الإِذْنِ وَقَالَ: رَجَعْتُ قَبْلَ الْبَيْع، وَقَالَ الرَّاهِنُ: بَعْدَهُ، فَالأصَحُّ: تَصْدِيقُ الْمُرْتَهِنِ، لأن الأصلَ استمرارُ الرَّهْنِ، والثاني: القول قول الراهن لتقوّي جانبه بالإذن، والثالث: القول قول السابق منهما، قال البغوي: وهو الصحيح في نظيره من الرجعة وفي اختلاف الوكيل والموكل في أن الرجوع قبل البيع أو بعده، ومحل الخلاف ما إذا صدقه الراهن على الرجوع، واختلفا في وقته كما فرضه المصنف، أما إذا أنكر الراهن أصل الرجوع فإن القول قوله بيمينه، لأن الأصلَ عَدَمُهُ.
وَمَنْ عَلَيْهِ أَلْفَانِ، بِأَحَدِهَمَا رَهْنٌ فَأَدَّى أَلْفًا؛ وَقَالَ: أَدَّيْتُهُ عن أَلْفِ الرَّهْنِ صُدِّقَ، أي، بِيَمِينِهِ، لأنه أعرف بقصده وكيفية أدائه، وَإنْ لَمْ يَنْوِ شَيْئًا جَعَلَهُ عَمَّا شَاءَ، لأن التعيين إليه ولم يوجد، وَقِيلَ: يُقَسَّطُ، لعدم الأولوية لكن هل التقسيط على قَدْرِ الدَّيْنَيْنِ أو عليهما بالسَّوِيَّةِ؟ تَرَدَّدَ فيه الصيدلاني، واقتصر الإمامُ على الأوَّلِ؛ والعمرانِيُّ عَلَى الثَّانِي.
فَصْلٌ: مَن مَاتَ وَعَلَيْهِ دَينٌ تَعَلَّقَ بِتَرِكَتِهِ، مراعاة للميت، تَعَلُّقَهُ بِالْمَرْهُونِ، لأنه أحوط للميت إذ يَمْتَنِعُ والحالةُ هَذِهِ التَّصَرُّف جَزْمًا، وَفِي قَوْلٍ كَتَعَلُّقِ الأرْشِ بِالْجَانِي، لأن كل واحدٍ منهما ثبت شرعًا بغير رضا المالك، وقال الفوراني: كحجر المفلس؛ واختاره صاحب المطلب وينبني على الخلاف تصرف الوارث بما
يزيل الملك كالببع، فإن جعلنا تعلقه كتعلق الأرش خرج على الخلاف في بيع الجانى أو الرهن فيبطل، فَعَلَى الأَظْهَرِ يَسْتَوِي الدَّيْنُ الْمُسْتَغْرِقُ وَغَيْرُهُ فِي الأَصَحِّ، كما هو قياس الديون، والثاني: إن كان الدَّيْن أقل نفد تصرف الوارث إلى أن لا يبقى إلا قدر الدَّيْن؛ لأن الحجر في مال كثير بشيء حقير بعيدٌ.
وَلَوْ تَصَرَّفَ الْوَارِثُ وَلَا دَيْنَ ظَاهِرٌ، فَظَهَرَ دَيْنٌ بِرَدِّ مَبِيع بِعَيْبٍ، فَالأَصَحُّ: أَنهُ لَا يَتَبَيَّنُ فَسَادُ تَصَرُّفِهِ، لأنه تَصَرَّفَ تَصَرُّفًا كان سائغًا له ظاهرًا، والثاني: يتبينُ فسادُهُ إلحاقًا لما تجدَّدَ مِن الدَّيْن بالدَّيْن المقارن لتقدم سببهِ، لَكِنْ إِنْ لَمْ يُقْضَ الدَّيْنُ فَسَخَ، ليصل الحقَّ إلى مستحقِّهِ، ولا طريق إلّا ذلك إذ لا دَيْن على الوارث حتى يطالَبَ، وقولهُ (يُقْضَ) بضم الياء يَعُمُّ قضاءَ الوارثِ والأجنبيِّ، ولو عبَّر بالسقوط لَعَمَّ الإبراءَ أيضًا.
وَلَا خِلَافَ أَن لِلْوَارِثِ إِمْسَاكَ عَينِ التَّرِكَةِ وَقَضَاءَ الدَّيْنِ مِنْ مَالِهِ، لأنه خليفَة المورِّثِ؛ والْمُوَرِّثُ كان له ذلك، نعم: لو أَوْصَى بِبَيْعِهَا في وفاءِ دينهِ فإنَّ وَصِيَّتَهُ يُعْمَلُ بِهَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّ تَعَلُّقَ الدَّيْنِ بِالتَّرِكَةِ لَا يَمْنَعُ الإِرْثَ، لأنه لو كان باقيًا على ملك الميت لوجب أن يرثه من أسلم أو أعتق من أقاربه قبل قضاءِ الدَّيْن، وأن لا يرثه من مات قبل القضاء من الورثة، والثاني: أنه يمنع؛ ونقله الإمام عن القديم؛ والأول عن الجديد؛ لقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} (92) أي من بعد إعطاء وصية وإيفاء دَيْن إن كان، وأجيب عن هذه الآية بأن المعنى المقادير لا المقدر، فَلَا يَتَعَلَّقُ بِزَوَائِدِ التَّرِكَةِ، كَكَسْبٍ وَنَتَاجٍ، وَاللهُ أَعْلَمُ، لأنه تبع للملك؛ وإن قلنا: يمنع انتقالها! فيتعلق بها لبقائها على ملك الميت؛ وصححه الرافعي في النِّكَاحِ (•).
(92) النساء / 11.
(•) في هامش نسخة (3): بلغ مقابلة حسب الطاقة فَصَحَّ.