المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب الإقرار الإقرَارُ: هو في اللغة الإثْبَاتُ، وفي الشَّرع إِخْبَارٌ عَنْ - عجالة المحتاج إلى توجيه المنهاج - جـ ٢

[ابن الملقن]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الصيام

- ‌بَابُ صَوْمِ التَّطَوُّعِ

- ‌كِتَابُ الاِعْتِكَافِ

- ‌كِتَابُ الْحَجِّ

- ‌بَابُ المَوَاقِيتِ

- ‌بَابُ الإِحْرَامِ

- ‌بَابُ دُخُولِ مَكَّةَ زَادَهَا اللهُ شَرَفًا

- ‌بَابُ مُحَرَّمَاتِ الإِحْرَامِ

- ‌بَابُ الإحِصَارِ وَالفَوَاتِ

- ‌كتاب البيع

- ‌بَابُ الْرِّبَا

- ‌بابُ الْبُيُوع الْمَنْهِيِّ عَنْها

- ‌بَابُ الخيَارِ

- ‌بَابُ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ

- ‌بَابُ التوْلِيَةِ وَالإِشْرَاكِ وَالْمُرَابَحَةِ

- ‌بَابُ الأصُولِ وَالثمَارِ

- ‌بَابُ اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ

- ‌بَابُ مُعَامَلَاتِ الْعَبِيدِ

- ‌كِتَابُ السَّلَمِ

- ‌كِتَابُ الرَّهنِ

- ‌كتاب التفليس

- ‌بِابُ الْحَجْرِ

- ‌كِتَابُ الْصُّلْحِ

- ‌كِتَابُ الحوالةِ

- ‌كتاب الضمان

- ‌كِتَابُ الشِّرْكَةِ

- ‌كِتَابُ الْوَكَالةِ

- ‌كتاب الإقرار

- ‌كِتَابُ الْعَارِيَّةِ

- ‌كِتَابُ الْغَصْبِ

- ‌فُرُوعٌ مَنْثُورَةٌ نَخْتِمُ بِهَا الْبَابَ مُهِمَّةٌ

- ‌كِتَابُ الشُّفْعَةِ

- ‌كِتَابُ الْقراضِ

- ‌كتاب المُسَاقَاةِ

- ‌كتاب الإجارة

- ‌كتاب إحياء الموات

- ‌كتاب الوقف

- ‌كتاب الهبة

- ‌كِتَابُ الْلُّقَطَةِ

- ‌كِتَابُ الْلَّقِيطِ

- ‌كتاب الجُعَالةِ

الفصل: ‌ ‌كتاب الإقرار الإقرَارُ: هو في اللغة الإثْبَاتُ، وفي الشَّرع إِخْبَارٌ عَنْ

‌كتاب الإقرار

الإقرَارُ: هو في اللغة الإثْبَاتُ، وفي الشَّرع إِخْبَارٌ عَنْ حَقٍّ سَابِقٍ (136). والأصلُ فيه قوله تعالى:{قَالُوا أَقْرَرْنَا} (137) وقوله: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ} (138) وقوله صلى الله عليه وسلم: [اُغْدُ يَا أُنَيس إِلَى امرَأَةِ هذا؛ فَإِنِ اعتَرَفَتْ فَارجُمها] متفق عليه (139) والإجماع أيضًا.

(136) الإِقرَارُ في اللغة إفْعَال مِنْ قَرَّ الشيء إِذا ثَبَتَ وسَكَنَ، وَأَقَرُّهُ فِي مَكَانِهِ: أثبَتَهُ بَعدَ أَنْ كَانَ مُزَلزَلا، وَأقَرَّ لَهُ بِحَقهِ: أذعَنَ وَاعتَرَفَ. وفي الإصطلاح عندَ الفقهاءِ؛ إخبَارٌ عَنْ حَق سَابِقٍ ثَابت عَلَى المُخْبِر؛ وصفتهُ إن كَانَ بحَق لَه عَلَى غَيرِهِ فَدَعوَى. أوْ لِغَيرِهِ عَلَى غَيرِهِ فَشَهادَةٌ. هذا على الخُصوصِ. أما إذا كَانَ عَامًّا، فإنْ كانَ على أمر مَحسُوسٍ فهُوَ الروايَةُ، وإنْ كَانَ عَن حكم شَرعِي فهو الفَتْوَى. ويسمى الإقْرَارُ اعتِرَافا.

(137)

آل عمران / 81.

(138)

التوبة / 102.

(139)

عَنْ أَبِي هريرةَ وَزَيدِ بْنِ خَالد الجهنِي؛ أن رَجُلَينِ اختصَمَا إِلَى رَسُول اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَال أحَدُهُمَا: يَا رَسُولَ اللهِ! اقْضِ بَينَنَا بِكِتَابِ اللهِ. وَقَال الآخَرُ؛ وَهُوَ أفقَهُهُمَا: أجل يَا رَسُولَ اللهِ. فَاقْضِ بينَنَا بِكِتَابِ اللهِ؛ وَائذَن لِي أن أتَكَلَّم؟ قَال: [تَكَلَّم]. فَقَال: إِن ابنِي كَانَ عَسِيفًا (أَجيرًا) عَلَى هذَا. فَزَنَى بامرأتهِ. فَأخْبَرَنِي أن عَلَى ابنِي الرجمَ. فَافتدَيتُ مِنْهُ بِمِائةِ شَاةٍ وَجَارِيَةٍ لِي. ثُمَّ إِني سأَلْتُ أهلَ العِلْمِ فَأخْبَرُونِي: أنَّ مَا عَلَى ابنِي جَلْدُ مِائةِ وَتَغْريبُ عَامٍ. وَأَخبَرُونِي أنمَا الرجْمُ عَلَى امرأتِهِ. فَقَال رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: [أمَّا وَالذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لأقْضِيَن بَينَكُمَا بِكِتَابِ اللهِ. أَما غَنَمُكَ وَجَارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيكَ] وفي رواية البخاري ومسلم [المِائَةُ وَالخَادِمُ رَدٌّ عَلَيكَ، وَعَلَى ابنِكَ جَلْدُ مِائة وَتَغْرِيبُ عَامٍ، وَيَا أنَيسُ اُغْدُ عَلَى امرَأةِ هذَا فَسَلْها، فَإِنِ اعتَرَفَتْ فَارجمها]. فَاعتَرَفت فَرَجَمَها. رواه الإمام مالك في الموطأ: كتاب الحدود: باب ما جاء في الرجم: =

ص: 850

يَصِح مِنْ مُطْلَقِ التَّصَرُّفِ، بالاتفاق ويستثنى المكره كما سيأتي، وَإِقْرَارُ الصبِي وَالمَجْنُونِ لاغٍ، أي كتصرفهما، وسواء في الصبي المراهق وغيره، أذِنَ الوَليُّ أم لَمْ يَأذَنْ، وإن كانت عبارته معتبرة في اختيار أحد أبويه كما ذكره المصنف في بابه؛ وفي دعواه استعجال الإنبات بالدواء نص عليه، وفي الإذن في الدخول وإيصال الهدية كما سلف في الوكالة، وَنُصَحِّحُ إقرارهُ بالوصية والتدبير إذا صححناهما منه، وقضيته أن يلحق بهما إقرار بالإسلام إذا صححناه منه كما قال ابن الرفعة، فَإِنِ ادَّعَى الْبلُوغَ بِالاحتلامِ مَعَ الإِمكَانِ، أي بأن يكون في سن تحتمل سن البلوغ، صُدِّقَ، وكذا دعوى الصبية بلوغها بالحيض مع إمكانه، لأنه لا يعرف إلا من جهتها، والمراد بالاحتلام خروج المني كيف كان، وَلَا يُحَلفُ، لما ذكرناه من أن ذلك لا يعرف إلا جهتهما، وَإِنِ ادعَاهُ بِالسِّنِّ طُولِبَ بِبَيِّنَةٍ، لإمكانها وكذا لو كان غريبًا خامل الذكَرِ على الأصح لإمكانها في الجملة.

فَرعٌ: لو أقرَّ بعد بلوغه ورشده أنه أتلف في صباه مالًا لزمه الآن قطعًا كما لو قامت به بيِّنة.

فَرع: يلتحق بالمجنون المغمى عليه ومن زال عقله بسبب يعذر فيه، وفيما لا يعذر فيه الخلاف الآتي في الطلاق.

وَالسفِيهُ وَالْمُفْلِسُ سَبَقَ حُكْمُ إِقْرَارِهِمَا، أي فِي بابيهما واضحًا كما تقدم، وَيُقْبَلُ إِقْرَارُ الرقِيقِ بِمُوجِبِ، أي بكسر الجيم، عُقُوبَةٍ، أي كالزنا؛ والقصاص؛ ونحوهما كالبيِّنة، بل هو أَوْلى لِبُعدِ التُّهْمَةِ.

= الحديث (6) من الباب: ج 2 ص 822. والبخاري في الصحيح: كتاب الحدود: باب هل يأمر الإمام رجلًا فيضرب الحدَّ: الحديث (6859 و 6860) وكتاب الأيمان والنذور: باب كيف يمين النبي صلى الله عليه وسلم: الحديث (6633 و 6634). ومسلم في الصحيح: كتاب الحدود: باب من اعترف على نفسه بالزنى: الحديث (25/ 1697 و 1698). ورواه الشافعي في الرسالة: الفقرة (691).

ص: 851

فَرعٌ: لو أقرَّ بسرقةٍ توجب القطع؛ قُبلَ مِنهُ قطعًا؛ لا في المال على الأظهر.

وَلَوْ أَقَرَّ بِدَينِ جِنَايَةٍ لَا تُوجِبُ عُقُوبَةً، أي كجناية خطأ، فَكَذَّبَه السَّيِّدُ، تَعَلقَ بِذِمتِهِ دُون رَقَبتِهِ، للتهمة، فيتبع به إذا عُتق، واحترز بقوله (لَا تُوْجِبُ عُقُوبَةً) عن الفرع الذي قدمته آنفًا، وبقوله (فَكَذبهُ) عما إذا صدَّقَهُ فإنه يتعلق برقبته ويباع إلّا أن يفديه بأقل الأمرين من قيمته، وَقَدَّرَ الدَّين على الأصح، وإذا بيع فبقى شيء من الدَّينِ؛ فالأظهر: أنه لا يتبع به إذا عتق، وَإنْ أَقَرَّ بِدَيْنِ مُعَامَلَةٍ، لَم يُقْبَل عَلَى السيدِ إِن لَم يَكُن مَأذُونا لهُ فِي التجارَةِ، أي بل يتعلق المقر به بذمته يُطَالبُ به إذا عتق سواء صدقهُ السيدُ أَم لَا؟ لتقصير من عامله بخلاف الجناية، ويقْبَلُ إِن كَان، لقدرته على إنشائه، قال الرافعي: إلّا أن يكون مما لا يتعلق بالتجارة كالقرض، ويؤدي مِنْ كَسبِهِ وَمَا فِي يَدِهِ، لما سلف في بابه حيث ذكره.

ويصِحُّ إِقْرَارُ المَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ لأجْنَبِيٍّ، بالإجماع كما ادعاه الغزالي، قال القفال: ولو أراد الورثة تحليف المُقَرِّ لَهُ على الاستحقاق لم يكن لهم ذلك، وَكَذَا لِوَارِثٍ عَلَى الْمَذهبِ، كالأجنبي، والثاني: لا تقبل؛ للتهمة في حرمانه بعض الورثة، والطريق الثاني: القطع بالأول، واختار الروياني مذهب مالك؛ وهو: أنه إن كان متهمًا لم يقبل إقرارُهُ؛ وإلا فيقبل؛ ويجتهد الحاكمُ في ذلك لفساد الزمان.

وَلَوْ أقَرَّ في صِحتِةِ بِدَينٍ، وَفِي مَرَضِهِ لآخَرَ لم يُقَدّمِ الأولُ، بل هما سواء كما ثبتا بالبيّنة، وَلَوْ أقر فِي صِحتِهِ أوْ مَرَضِهِ، أي بدين، وَأَقَر وَارِثُهُ بَعدَ مَوتهِ لآَخَرَ، لَم يُقدمِ الأولُ في الأصَحِّ، لأن الوارث يقوم مقامه فصار كما لو أقر بدينين، والثاني: يقدم ما أقر به المورث لأن بالموت تعلق بالتركة، فلا يتمكن الوارث من صرفها عنه.

وَلَا يَصحُّ إِقرَارُ مُكْرَهٍ، كسائر تصرفاته، وَاعلَم: أنه بقي من المحجور عليهم المرتد، وإقراره في بدنه لازم، وكذا في ماله قبل الحجر عليه وبعده إن قلنا حجره كحجر المرض، فإن قلنا كحجر السفه ففي صحة إقراره وجهان.

ص: 852

فصلٌ: ويشْتَرَطُ فِي الْمقَرِّ لَهُ أَهلِيَّةُ استِحقَاقِ الْمُقَر بِهِ، أي وإلّا كان الكلام لغوًا، ويخرج بالأهلية ما لو أقر بدَين للغير عقب ثبوته بحيث لا يحتمل جريان ناقل فلا أثر لاستثناء صاحب التلخيص عوض البضع وأريق الجناية بل سائر الأعيان كذلك، حتى لو أعتق عبده ثم أقر له السيد أو غيره عقب الاعتاق بِدَين أوْ عَينٍ لم يصح، لأن أهلية الملك لم تثبت له إلَّا في الحال، ولم يجر بينهما ما يوجب المال، فَلَو قَال لِهذِهِ الدابَّةِ: عَلي كَذَا، فَلَغوٌ، لأنها لا تملك شيئًا ولا تستحقه، فَإن قَال: بِسَبَبها لِمَالِكها، وَجَبَ، حَملًا على أنه جنى عليها، أو إكراهًا، أما إذا اقتصر على قوله بسببها عَلَيَّ كذا! سُئِلَ وحكم بموجب بيانه قاله الرافعي.

وَلَوْ قَال: لِحملٍ هِنْدٍ كَذا، أي عليَّ أو عندي، بإرثٍ أو وَصيةٍ لَزِمَهُ، لإمكانه، وَإن أَسْنَدَهُ إِلَى جِهةٍ لَا تُمكنُ فِي حَقِّهٍ فَلَغو، أي بأن قال: باعني به شيئًا، لأنا نقطعُ بكذبهِ في ما ادعاه، وصحح الرافعي في شرحيه الصحة، لأنه عقبه بما هو غير مقبول فأشبه قوله على ألفٍ لا يلزمني، وإن أَطْلَقَ، يعني الإقرار فلم يسنده إلى جهة صحيحة أو فاسدة، صَحَّ في الأظهرِ، أي ويحمل على الجهة الممكنة في حَقِّهِ، وإن كانت نادرة؛ لأنَّ كلام المُكَلّف يُحمل على الصحة في الأقارير ما أمكن؛ وهو ممكن هنا لجواز ملكه بطريق صحيح أو وصية أو إرث، والثاني: أنه باطل، لأن المال في الغالب إنما يجب بمعاملة، وهي متعذرة أو جناية ولم تكن! فيحمل الإقرار على الوعد.

وَإِذَا كَذبَ المُقَرُّ لَهُ المُقرَّ، تُرِكَ المَالُ في يَدِهِ فِي الأصَح، لأنا لا نعرف مالكه، فذو اليد أولى الناس بحفظه، ومقتضى هذا أن يَدَهُ يَدُ اسْتِحفَاظ، وهو الأشبه؛ كما قال في المطلب، لا كما قاله في المهذب من أن يده يد ملك، والثاني: ينزعه الحاكم ويتولى حفظه إلى أن يظهر مالكه كالمال الضائع، فإن رأى استحفاظ صاحب اليد فهو كما لو استحفظ عدلًا آخر، والثالث: يجبر المقر له على القبول والقبض وهو بعيد، والخلاف جار في العين والدَّين كما صرح به الرافعي، وإن استغرب في الكفاية جريانه في الدَّين.

ص: 853

فَرْعٌ: لو رجع المُقَرُّ لهُ عن الإنكارِ فحاصل المذهب عدم تسليمه إليه.

فَإن رَجَعَ الْمُقِرُّ فِي حَالِ تَكْذِيبِهِ، وَقَال: غَلِطْتُ، أي أو تعمدت الكذب، وقلنا يُقَرُّ في يدهِ، قُبِلَ قوْلُهُ فِي الأصح، بناء على أن الترك في يده إبطال للإقرار، والثاني: لا، بناءً على أنه لو عاد المقر له وصدقه قُبل منه، وإذا كان ذلك متوقعًا يلتفت إلى رجوعه.

فَصْلٌ: قَولُهُ لِزَيدٍ كَذَا، صِيغَةُ إِقْرَارٍ، لأن اللَّامَ تَدُل علَى الْمِلْك، وهذا إذَا قَال: لَهُ على أو عندي أو نحوهما مما سيأتي، وإلا فهو مجرد إخبار، وَقولُهُ: عَلَي وَفِي ذِمَّتِي لِلدَّينِ، أي الملتزم في الذمة؛ لأنه المتبادر عرفًا، وَلَوْ عَبَّرَ بِأَوْ بَدَلَ الوَاو كَانَ أحْسَنَ، ويؤاخَذُ مما ذكره على الأصح، وَمَعِي وَعِنْدِي لِلْعَين، أي كلّ منهما؛ لأن مَعَ وَعِنْدَ ظَرْفَانِ، ومعنى كونه إقرارًا بالعين؛ أنه يحمل عند الإطلاق على الوديعة حتى لو ادعى الرد أو التلف قَبْلُ، كما سيأتي من كلامه بخلاف الدينِ.

وَلَوْ قال: لِي عَلَيكَ أَلْفٌ، فَقَال: زِن؛ أَوْ خُذْ؛ أَوْ زِنْهُ؛ أَوْ خُذْهُ؛ أَوْ اخْتِمْ عَلَيهِ؛ أَو اجْعَلْهُ فِي كِيسِكَ فَلَيسَ بإقْرَارٍ، لأنه ليس بالتزام وإنما يذكر للاستهزاء، وَلَوْ قَال: بَلَى؛ أَوْ نَعَمْ؛ أَوْ صَدَقْتَ؛ أَوْ أَبْرَأتنِي مِنْهُ؛ أَو قَضيتُهُ؛ أَو أَنَا مُقِرٌّ بِهِ فَهُوَ إِقرَارٌ، لأنها ألفاظ موضوعة للتصديقِ والموافقةِ ولا بد من بيِّنة الإبراء، قال الرافعي: وكلامهم في الأخير يئول على أن الحكمَ بكونه إقرارًا محله إذا خاطبه فقال: أنا مُقِرٌّ لك به وإلّا فهو يَحْتَمِلُ الإقرارَ بهِ لغيرهِ.

وَلَوْ قَال: أَنَا مُقِرٌّ، أي ولم يقل به، أَوْ أَنَا أقر به فَلَيسَ بِإقرَارٍ، أما في الأولى: فلجواز أن يريد الإقرار ببطلان دعواه أو بالوحدانية، وأما في الثانية: فلأنه قد يريد الوعد بالإقرار في ثاني الحال.

وَلَوْ قَال: أَلَيسَ لِي عَلَيكَ كذَا؟ فَقَال: بَلَى؛ أَوْ نَعَمْ فَإقْرَارٌ، وَفِي نَعَمْ وَجْهٌ، لأنهُ مُقتضَاهُ في اللغة، ووجه الأول أنَّ الإقرارَ يُحْمَلُ على مفهومِ أهلِ العُرفِ لا على

ص: 854

دَقائقِ الْعَرَبِيَّةِ، وَلَوْ قَال: اقْف الألْفَ الذِي لِي عَلَيكَ، فَقَال: نَعَمْ؛ أَوْ اقْضِي غَدًا؛ أَوْ إمْهِلْنِي يَوْمًا؛ أَوْ حَتى أَقْعُدَ؛ أوْ أَفْتَحَ الْكِيسَ؛ أَوْ أَجِدَ، المفتاح، فَإِقْرَار فِي الأصَح، لأن هذه الألفاظ تذكر للالتزام؛ وجزم صاحب العمدة بمقابله في قوله غدًا.

فَصْلٌ: يُشْتَرَطُ فِي الْمُقَرِّ بِهِ أَن لَا يَكُون مِلْكًا لِلْمُقِرّ، لأن الأقرار ليسَ إزالةَ مِلْك؛ وإنما هو إخبار عن كونه مملوكًا لِلْمُقَر لَهُ، فلا بد من تقديم الْمُخْبَرِ عنه على الْخَبَرِ، فَلَوْ قَال: دَارِي؛ أَوْ ثَوْبِي؛ أَوْ دَيني الذِي عَلَى زَيد لَعَمرو، فَهُوَ لَغْو، لأن الإضافة إليه تقتضي الْمِلْكَ حقيقة فينافي إقراره به لغيره ويفهم منه الوعد.

وَلَوْ قَال: هَذَا لِفُلان، وَكَان مِلْكِي إِلَى أَن أَقْرَرْتُ بِهِ فَأولُ كَلامِهِ إِقْرَار، وَآخِرُهُ لَغْوٌ، لمناقضتهِ لأَوَّلِهِ وكذا لو عكس صرح به الإمامُ. تَنْبِيه: يشترط في القر به أيضًا أن يكون مما يستحق جنسه لا كعيادةٍ أو إحسان. وَلْيَكُن الْمُقَرُّ بِهِ فِي يَدِ المُقِر، لِيُسَلِّمَ بِالإقْرَارِ لِلْمُقِرّ لَهُ، لأنه إذا لم يكن كذلك كان دعوى عن الغير بغير إذنه أو شهادة بغير لفظها فلم ينظر إليه، فَلَوْ أَقَر وَلَمْ يَكُنْ فِي يَدِهِ، ثُم صَارَ، عُمِلَ بِمُقْتَضَى الإقْرَارِ، لوجود شرط العمل به، فإذا أقر أنه في ملك عمرو أو في إجارته ألزمناه بتسليمه، والمرادُ بِالْيَدِ الْيَدَ الْحِسِّيَّةَ وَالشرْعِيَّةَ، ويشترط فِي اليد الاستقلال؛ فإن كانت يد نائبة عن غيره بأن أقر بمال تحت يده ليتيم أو جهة وقف هو ناظره لم يصح إقراره، فَلَو أَقَر بِحُريةِ عَبْد فِي يَدِ غَيرِهِ، ثُم اشْتَرَاهُ؛ حُكِمَ بِحُريتهِ، أي وترفع يده عنه، لوجود شرط العمل بالإقرار، ويصح الشراء والحالة هذه تنزيلا للعقد على قول من صدقه الشارع، وهو البائع، وإن اعتقد المشتري حريته استنقاذًا له من رق ظلم، وقوله (عَبْد) لو عبر بدله بقوله بِحُريةِ شخص كان أَوْلى، ثُم إن كَان قَال: هُوَ حُر الأصلِ؛ فَشِرَاؤهُ افْتِدَاءٌ، أي من جهته كما صرح به في الْمُحَرَّرِ، لأن اعترافه بحريته مانع من جعله بيعًا من جهته، أما من جهة البائع ففيه الخلاف الآتي وبه صرح في المطلب أيضًا، وَإن قَال: أعْتَقَهُ، أي ويسترقه ظلمًا، فَافْتِدَاءٌ مِنْ جِهَتِهِ، لتعذر شراء الحر بزعمه، وَبَيع مِنْ

ص: 855

جِهَةِ البائِع عَلَى المَذْهَبِ، بناء على اعتقاده، وفي وجه أنه شراء من جانب المشتري، وهو بعيد غير منتظم كما في جانب البائع، وقيل: بيع منهما، وقيل: فداء منهما، أي يجري على كل منهما الفداء تغليبًا لجانب المشترى وهو بعيد غيرُ منتظم من جانب البائع، فَيَثْبُتُ فِيهِ الخيارَانِ لِلْبَائِع فَقَطْ، بناء على أنه بيع من جهته، وقيل: يثبت له خيارُ الشرطِ دونَ خيار المجلس ذكرهُ الإمام بحثًا.

فَرْعٌ: لو قال: العبد الذي في يَدِكَ غَصَبْتَهُ مِن فلانٍ ثم اشتراه، فالأصحُّ: الصِّحةُ كما لو أقر بحريتهِ ثم اشتراه.

فَصْلٌ: وَيَصح الإقْرَارُ بِالمجهُولِ، للحاجة ولأنه إخبار عن حقّ سابقٍ، والشئُ يُخْبَرُ عَنْهُ تارةً مُجْمَلًا وَمُفَصَّلًا أُخْرَى، فَإذَا قَال لَهُ: عَلَي شَيء، قُبِلَ تَفْسِيرُهُ بكُل مَا يُتَمَوَّلُ وَإن قَلَّ، أي كفلس لصدق الاسم، وَلَوْ فَسرَهُ بِمَا لَا يُتمَوَّلُ، لَكنهُ مِنْ جِنْسِهِ؛ كَحَبَّةِ حِنْطَةٍ؛ أَوْ بِمَا يَحِلُّ اقْتِنَاؤهُ كَكَلبٍ مُعَلّمٍ وَسِرْجِينٍ، قُبِلَ فِي الأصَح، لأنه شيء يحرم أخذه، ويجب على أخذه رده، والثاني: لا يقبل فيهما، أما الأول: فلأنه لا قيمة له فلا يصح التزامه بكلمة علي، وأما الثاني: فلأنه ليس بمال، وظاهر الإقرار للمال، وَلَا يُقْبَلُ بِمَا لَا يُقْتَنَى كَخِنزِير وَكَلْب لَا نَفْعَ لِيهِ، إذ ليس فيها حق ولا اختصاص ولا يلزم ردها، وقوله (عَلَى) يقتضي ثُبوت حَقّ لِلْمُقَر لَهُ، نعم لو قال له عندي شيء أو غصبت منه شيئًا، يصح تفسيره بما لا يقتنى، ولو قال: له في ذمتى شيء وفسره بحبة حنطة أو بكلب أوخنزير لا يقبل، لأن هذه الأشياء لا تثبت في الذمة، وَلَا بِعِيَادَةٍ وَرَدِّ سَلامٍ، أي لا يقبل تفسير الشيء بهما، وكذا بجواب كتاب لبعده عن الفهم في معرض الإقرار إذ لا مطالبة بهما.

وَلَوْ أَقَرَّ بِمَالٍ أَو مَالٍ عَظِيمٍ أَوْ كَبِيرٍ أو كَثِير، قُبِلَ تَفْسِيرُهُ بِمَا قَلَّ مِنْهُ، لصدق الاسم؛ والأصل براءة الذمة مما سواه، وَكَذَا بِالْمُسْتَولَدَةِ فِي الأصَح، لأنه ينتفع بها وتستأجر وإن كانت لا تباع، والثاني: لا، لخروجها عن اسم المال المطلق، لَا بِكَلْبٍ وَجِلدَ مَيتةٍ، أي فإنه لا يقبل تفسير المال بهما لمباينة اسم المال لهما،

ص: 856

وكذا الخمر والسرجين والخمرة المحترمة؛ لأنها ليست بمال، وَقَوْلُهُ: لَهُ كَذَا كَقَولِهِ شَيءٌ، لإبهامهما، وَقَولُهُ: شَيءٌ شَيءٌ، أَوْ كَذَا كَذَا، كمَا لَو لَم يُكَرر، لأن الثاني تأكيد.

وَلَو قَال: شَيء وَشَيء، أَوْ كَذَا وَكَذَا، وَجَبَ شَيئَانِ، لاقتضاء العطف المغايرة وله التفسير بأيِّ شيئين شاء، وَلَو قَال: كَذَا دِرْهَما، أَو رَفع الدرهمَ، أَوْ جَرهُ، لَزِمَهُ دِرْهَم، أما في حالة النصب فَلأن الدِّرْهَمَ تَفْسِيرُ مَا أَبهَمَهُ وَالنصبُ فِيهِ جائِزٌ عَلَى التميزِ، وأما في حالةِ الرفع فتقديره عليَّ شيء وهو دِرْهَم فهو عَطْفُ بيان أو بَدَلٍ، وأما في حالة الجَر فهر وإن كان لحنًا عند البصريين لكنه لا أثر له كما لو لحن في لفظة أخرى من الإقرارِ، وَالمَذْهَبُ: أنهُ لَو قَال: كَذَا وَكَذَا دِرْهَما بِالنصبِ وَجَبَ دِرْهَمَانِ، لأنه أقر بجملتين مبهمتين وعقبهما بالدرهم، والظاهر كونه تفسيرًا لهما، والقول الثاني: يلزمه درهم واحد لجواز تفسير اللفظين معًا بالدرهم، وحينئذ يكونُ المراد من كل واحد نصف درهم، والثالث: يلزمه درهم وشيء، والطريق الثاني: القطع بالأول.

فَرْعٌ: ثُمُّ كَالوَاو، وَأمَّا الْفَاءُ فَإنْ أرَادَ العَطْفَ فَكَذَلِكَ وَإِلا فَدِرْهَم.

وَأَنَّهُ لَو رَفع الدرهمَ أَو جَر فَدِرهَم، أما في الأولى: فلأنه حينئذ يكون خبرًا عن المبهمين فيكرن تقديره هما درهم، والأصح القطع به، والطريق الثاني: طرد القولين الأولين لأنه يسبق إلى الفهم أنه تفسير لهما وإن أخطأ في إعراب التفسيرِ. وأما في الثانية: فعبارته في الروضة في إيراد الخلاف فيها تبعًا للرافعي، يلزمه درهم فقط وأنه يمكن أن يخرج على ما سبق أنه يلزمه شيء وبعض درهم أو لا يلزمه إلا بعض درهم ففي التعبير حينئذ بالمذهب في هذه نظر.

وَلَوْ حَذَفَ الْوَاوَ، فَدِرْهَم فِي الأحوَالِ، أي المذكورة نصبًا ورفعًا وجرًّا لاحتمال التأكيد، وَاعلَم: أنه يتحصل من ذلك اثنا عشرة مسألة؛ لأن كذا إما أن يُؤتى بها مفردة أو مركبة أو معطوفةً، والدرهم إما أن يُرفع أو يُنصب أو يُجر أو

ص: 857

يُسكن ثلاثة في أربعة يحصل اثنا عشر؛ الواحد منها ستة دوانق. والواجب في جميعها درهم إلا إذا عُطِفَتْ وَنُصِبَ تَمْيِيزُهَا فدرهمان.

وَلَوْ قَال: لَهُ أَلْف وَدِرْهَم، قُبِلَ تَفْسِيرُ الألِفِ بِغَيرِ الدرَاهِمِ، لأنه مبهم والعطف إنما يفيد زيادة على العدد ولا يفيد تفسيرًا، وَلَوْ قَال: خَمْسَة وَعِشْرُون دِرْهَمًا، فَالْجَمِيعُ دَرَاهِمُ عَلَى الصحيح، لأنه لم يعطف الدرهم بل جعله تَمْيِيزًا فيكون تفسيرًا للكل، والثاني: الخمسة مُجْمَلَةٌ، والعشرون مُفَسَّرَة بالدراهم لمكان العطف (•).

وَلَوْ قَال: الدرَاهِمُ التِي أَقرَرْتُ بِهَا نَاقِصَةَ الْوَزْنِ، فَإن كانَتْ دَرَاهِمُ الْبَلَدِ تَامةَ الْوَزْنِ، أي كالدراهم الإسلامية، فَالصحِيحُ قبولُهُ إِن ذَكَرَهُ مُتصِلًا، كما لو استثنى، وَمنْعُهُ إِن فَصَلَهُ عَنِ الإقْرَارِ، أي وتلزمه دراهم الاسلام إلا أن يصدقه المقر له، وقال ابن خيران: في قبول الأول قولان؛ بناء على تبعيض الإقرار، واختار الروياني القبول في الثاني؛ لأن اللفظ يحتمله، وَالأَصْلُ بَرَاءَةُ ذِمَّتِهِ، وحكاهُ عن جماعةٍ مِنَ الأَصْحَابِ. ولو عبر المصنف بالمذهب في الأولى لكان أَولى، وَإِن كانَتْ نَاقِصَة، أي كالدراهم الطبرية كل درهم أربعةُ دَوَانِقَ، قُبِلَ إِن وَصَلَهُ، لأن اللفظ والعرف يصدقانه فيه، وَكَذَا إِن فَصَلَهُ فِي النص، حملًا على المعهود وفي وجه لا يقبل حملًا لإقراره على وزن الإسلام (•).

وَالتفْسِيرُ بِالْمَغْشُوشَةِ كَهُوَ بِالناقِصَةِ، لأن نُقْرَتَهَا تَنْقُصُ عَنِ التامةِ فيعودُ التفصيلُ فيها، وَلَوْ قَال: عَلَيَّ مِنْ دِرْهَمٍ إِلَى عَشْرَة لَزِمَهُ تِسْعَة فِي الأصَح، إدخالًا للطرف الأول؛ لأنه مبدأ الالتزام، والثاني: ثمانية، والثالث: عشرة، وقد مر نظير

(•) في هامش نسخة (3): بلغ مقابلة.

(•) في هامش نسخة (2): الدراهم الإسلامية عشرة فيها تُساوي سبعة مثاقيل، وكُلُّ واحد منها ستةُ دوانيق، كُلُّ دونقٍ ثمانٍ حباب وخُمسا حبة. فيكون الدرهم الواحد خمسي حبة وخُمس حبة.

ص: 858

الأوجه في الضمان، ومن نظائرها الطلاق، والإبراء؛ والوصية؛ واليمين، والنذر، وَإن قَال: دِرْهَم فِي عَشرَة، فإن أَرَادَ المَعِيةَ لَزِمَهُ أَحَدَ عَشَرَ، لأنَّ فِي تُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى مَعَ. قال تعالى:{فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} (140)، أَوْ الحِسَابَ فَعَشْرَة، لأنه موجبه عندهم، وهذا إذا كان يعرف الحساب، فإن كان لا يعرفه ففي الكفاية أنه يشبه إن يلزمه درهم واحد، وإن قال: أردت ما يريد الحساب، وهو قياس ما ذكره المصنف في الطلاق كما سيأتي، وَإِلا، أي ولم يرد المعيّة ولا الحساب بل أراد الطرفَ أو أطلق، فَدِرْهَمٌ، لأنه الْيَقِينُ.

فَصلٌ: قَال: لَهُ عِنْدِي سَيفٌ في غِمْدٍ، أَو ثَوْبٌ فِي صُنْدُوقٍ، لا يَلْزَمُهُ الظرْفُ، آخذًا باليقين فإن المظروف غير الظرف، والقاعدة: أَن الإقْرَارَ بِالمَظْرُوفِ لَيسَ إِقْرَارًا بِالظرْفِ وَكَذَا عَكْسُهُ. وَدَلِيلُهُ مَا قُلناهُ، أَو غِمْد فِيهِ سَيف، أَوْ صُنْدُوقٌ فِيهِ ثَوْبٌ، لَزِمَهُ الظرْفُ وَحْدَهُ، أي دون المظروف لما قلناه، والغِمد بكسر الغين المعجمة بخلاف السيف، أَوْ عَبدٌ عَلَى رأسه عِمَامَةٌ، لَم تَلْزَمْهُ الْعِمَامَةُ عَلَى الصحِيح، لأنَّ الإقْرَارَ لَا يَشْمَلُهَا، والثاني: يلزمه؛ لأنَّ العبدَ لهُ يَدٌ عَلَى مَلْبُوسِهِ وما في يَدِ العبدِ فهو في يَدِ سَيِّدِهِ، أَوْ دَابةٌ بِسَرْجِهَا، أَوْ ثَوْب مُطَرزٌ، لَزِمَهُ الْجَمِيعُ، لأن المعنى بسرجها أي مع سرجها والطراز جزء من الثوب، ولو قال: دابة مسروجة، لا يكون مقرًا بالسِّرْج، ولو قال: عليه طراز، فيظهر عدم اللزوم.

وَلَوْ قَال: فِي مِيرَاثِ أَبِي أَلف، فَهُوَ إِقْرَار عَلَى أَبِيهِ بِدَينِ، وَلَوْ قَال: فِي مِيرَاثِي مِن أَبِي أَلْف، فَهُوَ وَعْدُ هِبَةٍ، أي إلا أن يريد إقرارًا، كذا نص عليه فيهما، والفرق أنه في الثانية أضاف التركة إلى نفسه ثم جعل له منها جزءًا ولا يكون إلا هبةً وفي الأولى لم يُضفْ وأثبت حق المقر له في التّرِكَةِ، واستشكله القاضي فإن الدَّينَ عندنا لا يمنع الإرث ولعله بناه على العرف، وقوله (فَهُوَ وَعْدُ هِبَةٍ) عبارة الوجيز لم يلزمه، واستشكل صاحب المطلب حمل الأول على الإقرار بالدين على الأب، وقال: لم لا

(140) الفجر / 29.

ص: 859

يصح تفسيره أيضًا بالوصية وبالرهن على دَينِ الغَيرِ ونحو ذلك، قال: وصورة المسألة ما إذا كان الميراث دراهم، فإن لم يكن فإنه يلتحق بما إذا قال: له في هذا العبد ألف أي فيسأل ويبين هذا المجمل، قال: وهذا وإن لم أره منقولًا فلا شك فيه عندي، ثم نبَّه على أن المقر إذا لم يكن حائزا وكذّبه الباقون فلا يغرم إلا بالحصة على الأظهر. كما في نظائره، وهذا كله إذا لم يذكر كلمة الالتزام، فإن ذكرها بأن قال علي ألف في ميراثي من أبي فهو إقرار بكل حالٍ.

وَلَوْ قَال: لَهُ عَلَي دِرْهَمٌ دِرْهم، لَزِمَهُ دِرْهَمٌ، لاحتمال إرادة التأكيد بالإقرار، وإن كرره ألف مرة وسواء كَرَّرَهُ في مجلس أو مجالس عند الحاكم أَوْ غَيرِهِ، فإن قال: له عَلَيَّ وَدِرْهَمٌ، لَزِمَهُ دِرْهَمَانِ، لاقْتِضَاءِ الْعَطْفِ المُغَايَرَةَ وَثُمَّ كَالْوَاو وَأَما الفَاءُ فَإنْ أَرَادَ الْعَطْفَ فَكَذَلِكَ وَإِلا فَدِرْهَمٌ، وفي نظيره من الطلاق يلزمه طلقتان هذا هو المنصوص فيهما.

وَلَو قَال: لَهُ دِرْهَمٌ وَدِرهَمٌ وَدِرْهَمٌ، لَزِمَهُ بالأولَينِ دِرْهَمَانِ، لاقتضاء العطف المغايرة كما قررناه، وَأَما الثالِثُ؛ فَإن أَرَادَ بِهِ تأكِيدَ الثانِي؛ لَم يَجِبْ بِهِ شيءٌ، وَإن نَوَى الاسْتِئْنَافَ، لَزِمَهُ ثالِثٌ، عملًا بإرادته ونيّته، وَكَذَا إِن نوَى تأكِيدَ الأولِ، أي بالثالث، أَوْ أطْلَقَ فِي الأصَحِّ، أما في الأولى: فلأن التكرار إنما يُؤَكدُ به إذا لم يتخلل بينهما فاصل، ووجه مقابله: العمل بما نوى، وأما في الثانية: فهو الذي قطع به الأكثرون، وقال ابن خيران: فيه قولان كالطلاق ينظر في أحدهما إلى صورة اللفظ، وفي الثاني إلى احتمال التكرار، والأصح القطع بأنه يلزمه ثلاثة هنا. والفرق أن دخول التأكيد في الطلاق أكثر منه في الإقرار، لأنه يقصد به التخويف والتهديد، ولأنه يؤكد بالمصدر فيقال هي طالق ثلاثًا، والإقرار بخلافه، وطريقة ابن خيران هي مقابل الأصح في المسألة الثانية، ولو عبَّر المصنف بالأصحِّ في الأولى وبالمذهب في الثانية كما فعل في الروضة لكان أحسنُ. وَاعْلَمْ: أن ابن الصباغ حكى قول ابن خيران فيما إذا قال: أردت بالثالث تأكيد الثاني، وكذا قاله سليم، وأشار إليه القاضي أبو الطيب؛ لكن ابن الصباغ فرض المسألة فيما إذا قال له عندى بدل علي

ص: 860

ولفظ عندي إقرار بالعين وارادة تأكيد الأعيان تقل كما في الاستثناء منها.

وَمَتَى أَقَر بِمُبْهَمٍ كَشَيء، وَثوب وَطُولبَ بِالْبيانِ فَامتَنَعَ، فَالصحِيحُ أنهُ يُحْبَسُ، كحبس من امتنع من أداء الحق؛ لأن التفسير واجب عليه. والثاني: لا يحبس، لأنه يمكن حصول الغرض بدونه وهذا كله إذا لم يمكن معرفته دون مراجعته فإن أمكن لم يحبس، وذلك بأن نحيله على معروف، وهو ضربان، الأول: أن يقول بِزِنَةِ هذه الصنْجَةِ أو قدر ما باع به فلان فرسَهُ ونحوه، فيرجع إلى ما أحال عليه، والثاني: أن يمكن استخراجه بالحساب وقد ذكره الرافعي في شرحه وتبعه الحاوى الصغير وقد أوضحته في شرحه فراجعه منه.

وَلَوْ بَيَّنَ، يعني إقراره المبهم، وَكَذَّبَهُ الْمُقَر لَهُ فلْيُبَين وَليَدَع، وَالْقَولُ قَولُ الْمُقِر في نَفْيِهِ، أي في نفي ما ادعاه المُقر له، وَلَو أَقَر لَهُ بِألف، ثُم أَقَر لَهُ بِألف في يَوْمٍ آخَرَ، لَزِمَهُ أَلْف فَقَط، لأن الإقرار خبر ولا يلزم من تعدده تعدد المخبر؛ وسواء وقع الإقرار به في مجلس أو مجلسين وسواء كتب به صكًّا أم لا، وإن اختلَفَ القَدر، أي بأن أقر في يوم بألف وفي آخر بخمسمائة، دَخَلَ الأقَل فِي الأكثرِ، إذ يحتمل أنه ذكر بعض ما أقر به أولًا، فلو وَصَفَهُمَا بِصِفَتَينِ مُخْتَلِفَتَينِ، أي بأن قال مرة بمائة صحاح وأخرى بمائة مكسرة، أَوْ أسنَدَهُمَا إِلَى جِهَتَينِ، أي بأن قال له علي ألف من ثمن مبيع وقال ألف بَدَلَ قَرضٍ، أَو قال: قَبَضتُ يَومَ السبتِ عَشرة، ثم قَال: قَبَضْتُ يَوْمَ الأحَدِ عَشْرَة، لَزِمَا، لتعذر الجمع.

وَلَو قَال: لَهُ عَلَيَّ أَلفٌ مِن ثمَنِ خَمر؛ أو كَلْب، أو أَلفٌ قَضيتُهُ، لَزِمَهُ الألْفُ في الأظْهَرِ، عملًا بأول الإقرار؛ وألفًا إلغاءً لآخره؛ لأنه وصل به ما يرفعه فأشبه قوله الألف لا يلزمني، والثاني: يقبلُ؛ ولا يلزمه شيء، لأن الكل كلام واحد فتعْتَبَرُ جُملتهُ وَلَا يَتَبَعَّضُ، فعلى هذا للمقر تحليفه إن كان من ثمن خمر. قال الإمام: وَكُنْتُ أود لو فصل فاصل بين أن يكون المقر جاهلًا بأن ثمن الخمر لا يلزم، وبين أن يكون عالمًا، فيعذر الجاهل دون العالم لكن لم يَصِر إليه أحد من الأصحاب، ومحل الخلاف

ص: 861

إذا وقع قوله من ثمن خمر موصولًا كما فرضه المصنفُ، فإن وقع مفصولًا عن قوله له ألف لم يقبل، ويلزمه ألف؛ وما إذا قدم ذكر الألف، فلو قدم الخمر؛ فقال: له عليَّ من ثمن خمر ألف؛ فلا يلزمه شيء بحال، نعم؛ طرد الخلاف فيه الشاشي في المعتمد.

وَلَوْ قَال: مِن ثَمَنِ عَبْدٍ لَمْ أَقْبِضهُ إِذَا سَلمَهُ؛ سَلمْتُ، قُبِلَ عَلَى الْمَذهَبِ وَجُعِلَ ثَمَنًا، لأن المذكور هنا آخرًا لا يرفع الأول بخلاف ثمن الخمر، والطريق الثاني طرد القولين في المسألة قبلها، لأنه يرفعه على تقدير عدم إعطاء العبد.

وَلَوْ قَال: لَهُ عَلَي أَلْف إِن شاءَ الله، لَم يَلْزَمهُ شَيء عَلَى الْمَذْهَبِ، لأنه لم يجزم بالإقرار وإنما علّقه بالمشيئة، وهي غيب عنا، والثاني: طرد القولين. وقيد المصنف نظر المسألة من الطلاق بما إذا قصد التعليق كما ستعلمه إن شاء الله تعالى.

وَلَوْ قال أَلف لَا يَلْزَمُ؛ لَزِمَهُ، لأنه غير منتظم، وَلَو قَال: لَهُ عَلَي أَلْفٌ، ثُم جَاءَ بِألْفٍ، وَقَال: أَرَدتُ بهِ هَذَا، وَهُوَ وَدِيعَةٌ، لَقَال الْمُقَر لَهُ: لِي عَلَيهِ أَلْف آخَرُ. صُدِّقَ المُقِرُّ فِي الأظهَرِ بِيَمِينهِ، لأن الوديعة يجب حفظها؛ والتخلية بينها وبين مالكها، فَلَعَلهُ أرَادَ بِكَلِمَةِ عَلَيَّ: الإخْبَارُ عَلَى هَذَا الوَاجِبِ، ويحتمل أيضًا أنه تعدى فيها حتى صارت مضمونة عليه، فلذلك قال هي عليَّ وأيضًا فقد يريد بـ (عَلَي) عندي قال تعالى {وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ} (141). والثاني: أن القولَ قولُ الْمُقَرّ لهُ؛ لأنه على الإيجاب في الذمة، فقد التزم مالًا في ذمته ثم جاء بعين فأشبه من أقر بثوب ثم جاء بعبد فأنه يؤخذ منه ويطالب بالثوب، فَإن كَان قَال: في ذِمتِي أَو دَينا، ثم جاء بالف وَفَسَّرَ كما ذكرنا، صُدق الْمُقَرُّ لَهُ عَلَى المَذْهَبِ، لأن العين لا تثبت في الذمة والرديعة لا تكون في ذمته بالتعدي بل بالتلف، ولا تلف، والطريق الثاني: حكاية وحهين، ثانيهما: القول قول المقر لجواز أن يريد ألفًا في ذمتي إن تلفت الوديعة؛ لأني تعديت فيها.

(141) الشعراء / 14.

ص: 862

فَرْعٌ: لو جمع بينهما، فقال: له عليَّ ألف درهم دَينًا في ذمتي؛ فالخلاف مرتب؛ وأوْلى بأن لا يقبل.

تَنْبِيهٌ: جميع ما تقدم فيما إذا كان زَعْمُهُ الْوَدِيعَةَ مَفْصُولًا عن الإقرارِ كما فرضَهُ المصنف، فإن وصله بإقراره بأن قال: له عليّ ألف وديعة فيقبل على المذهب، وقيل: على قولين كقوله ألف قضيته.

قُلْتُ: فَإذَا قبِلْنَا التفْسِيرَ بِالْوَدِيعَةِ، فَالأصَحُّ: أَنهَا أَمَانَة، فَيُقْبَلُ دَعوَاهُ التْلَفَ بَعْدَ الإقْرَارِ وَدَعْوَى الردِّ، لأن هذا شأن الوديعة بخلاف ما إذا ادّعى التلف أو الرد قبل الإقرار، فإنه لا يقبل؛ لأن التالف والمردود لا يكون عليه بمعنى من المعاني، وهذا ما صرح به ابن الصباغ واقتضاه كلام غيره، والثاني: أنها تكون مضمونة فلا تقبل دعوى الرد والتلف أخذًا بقوله علَيَّ فإنها متضمنة للالتزام، وهذا قول الأصحاب كما ذكره الإمام عنهم ثم استشكله توجيهًا ونقلًا.

وَإِن قَال: لَهُ عِنْدِيَ أَو مَعِيَ أَلْف؛ صُدقَ فِي دَعوَى الوَديعَةِ وَالرد وَالتلَفِ قَطْعًا، وَالله أَعْلَمُ، لأنه لا إشعار له بالدينية ولا بالضمان، وَلَوْ أَقَر بِبَيع أَوْ هبة وإقباض، ثُم قال: كان فاسِدا، وَأَقررْت لِظَنِّيَ الصِّحةَ، لَم يُقْبَلْ، لأن الاسم يختص بالصحيح عند الإطلاق، وهذا هو الصحيح في نظيره فيما إذا ادعى أحدهما صحة البيع والآخر فساده، كما سلف عند ذكر المصنف له في بابه، وَله تحلِيفُ الْمُقَر لَهُ، لأن ما ادعاه ممكن، وجهات الفساد قد تخفى عليه، فَإن نَكَلَ، حَلَفَ الْمُقِر وَبَرِىَء لأنَّ الْيَمين المَردُودَةَ كالإقرار أو كالبيِّنةِ وَكلاهُمَا يحصل هذا الغرض، وعبارة المُحَرَّرِ والشرحين والروضة: وَحكِمَ بِبُطْلانِهِ بَدَلَ وَبَرِئ وهي أحسنُ؛ لأن النزاع في عَينٍ لا دَينٍ، واحترز بقوله (أوْ هِبَةٍ وَإقبَاض) عمَّا إذا أقر بالهبةِ فقطْ فإنه لا يكون مقرًا بالإقباض على المذهب.

وَلَو قَال: هَذِهِ الدارُ لِزَيد بَل لَعَمرو أو غَصبْتُهَا مِنْ زَيدٍ بل مِن عَمرو، سُلمَت لِزيدٍ، لأنه مَنْ أَقَر لآدَميّ بِحَقٍّ لَم يُقبَلْ رُجُوعُهُ، وَالأظْهَرُ: أن المقر يغْرَم قِيمَتَهَا

ص: 863

لِعَمْرٍو، للحيلولة، بِالإِقْرَارِ، الأول. والثاني: لا، لمصادقة الإقرار الثاني مِلْكَ الغير، والخلاف جارٍ سواء سلمها بنفسهِ أو بالحاكمِ؛ فَصَلَ بين الإقرار لَهُمَا أو وَالا.

فَرْعٌ: ثُمَّ كَـ (بَلْ) فِيمَا ذَكَرْنَاهُ.

فَصْلٌ: وَيَصِح الاسْتِثْنَاءُ، لأنهُ معهود في القرآنِ والسُّنَّةِ، وَهُوَ إِخْرَاجُ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ في الأوَّلِ، إن اتَّصَلَ، بإجماع أهل اللغة، فإنِ انفصلَ فهو لغوٌ. وشَرَطَ الحاوي الصغير أن يقصد الاستثناء من أول الإقرار، وصحح المصنف في الطلاق أنَّه يشترط أن يقصده قبل فراغ اليمين كما ستعلمه هناك، وَلَمْ يَسْتَغْرِق، أي فإن استغرق كعَليَّ عشرةٌ إلّا عشرة فإنَّه باطل وهو إجماع أَيضًا إلّا مَن شذ، فَلَوْ قَال: لَهُ عَلَيَّ عَشْرَةٌ إلا تِسْعَةً؛ إلا ثَمَانِيَةً، لَزِمَهُ تِسْعَةٌ؛ لأن الاسْتِثناءَ مِنَ الإثْبَاتِ نَفْيٌّ وَعَكْسُهُ كما سيأتي في الطلاق.

وَيصِحُّ مِنْ غَيرِ الْجِنْسِ كَأَلْفٍ إلا ثَوْبًا، لوروده لغةً وشرعًا ومنه قوله تعالى:{مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} (142)، وَيُبَيِّنُ بِثَوْبٍ قِيمَتُهُ دُون أَلْفٍ، أي حتَّى لا يستغرق، فإن استغرق فالتفسير لغو وكذا الاسثناء على الأصح؛ لأنه بيَّن ما أراد بالاستثناء، فكأنه تَلَفَّظَ بهِ فهو مستغرق، وَمِنَ المُعَيَّنِ، أي ويصح الاستثناء منه كما يصح من المطلق، كَهَذِهِ الدَّارُ لَهُ إلا هَذَا الْبَيتَ، أَوْ هَذِهِ الدَّرَاهِمُ لَهُ إلَّا ذَا الدّرْهَمَ، لأَنَّهُ إِخْرَاجٌ بِلَفْظٍ مُتَّصِلٍ فَهُوَ كَالتَّخْصِيصِ، وَفِي الْمُعَيَّنِ وَجْهٌ شَاذٌ، أي أنَّه لا يصح الاستثناء منه؛ لأن الاستثناء المعتاد إنما يكون من المطلق لا من المعيّن، واستشهد قائله بأنه لو قال هذه الدار لَهُ وهذا البيت لفلانِ؛ لم يصح لأنه رجوع بعد الإقرار وهذا الاستشهاد (•) ممنوع.

قُلْتُ: لَوْ قَال: هَولَاءِ الْعَبيدِ لَهُ إلا وَاحِدًا، قُبِلَ، لأن الاستثناء يصح وإن كان مجهولًا كما لو قال: عشرة إلَّا شيئًا؛ إذ لا فرقَ بين العَينِ أو المُعَيَّنِ وَالدَّينِ، وَرَجَعَ

(142) النساء / 157.

(•) في النسخة (1): الاستثناء.

ص: 864

فِي الْبَيَانِ إِليهِ، لأنه أعرف بما أراد ويلزمه البيان لتعلق حق الغير به كالعتق، فَإن مَاتُوا إلا وَاحِدًا؛ وَزَعَمَ أَنَّهُ الْمُسْتَثْنَى، صُدِّقَ بِيَمِينِهِ عَلَى الصَّحِيح، وَالله أعْلَمُ، لاحتمال صدقه؛ والثاني: لا؛ للتهمة.

فَرْعٌ: لو مات قبل البيان؛ قامَ وَارِثُهُ مَقَامَهُ.

فَصْلٌ: أَقَرَّ بِنَسَبٍ، أي من يعتبر إقراره بأن يكون صحيح العبارة، إِن أَلْحَقَهُ بِنَفْسِهِ، أي بأن قال هذا ابْنِي، اشْتُرِطَ لِصِحَّتِهِ: أَنْ لا يُكَذّبَهُ الْحِسُّ، أي بأنه يمكن ما يدعيه؛ وقد ضبط المصنف زمن ذلك في اللعان، وفي معنى تكذيب الحس أن يكون المستلحق ممسوحًا على الصحيح إذ الولد لا يلحقه في زمن يتقدم على زمن العلوق بالمستلحق، وَلَا الشَّرْعُ، أي وأن لا يكذبه الشرع أَيضًا، بِأَنْ يَكُون مَعْرُوفَ النَّسَبِ مِنْ غَيرِهِ، لأن النسب الثابت من شخص لا ينتقل إلى غيره وسواء صدقه المستلحق أم لا! وَأَن يُصَدِّقَهُ الْمُسْتَلْحَقُ، أي بفتح الحاء، إِن كَان أَهْلًا لِلتّصْدِيقِ، أي وهو البالغ العاقل؛ لأن له حقًّا في نسبه؛ وهو أعرف به من غيره، وقضية هذا أنَّه لو سكت لم يثبت النسب وبه صرح الرافعي هنا، وخالف في فصل التسامع في الشهادة؛ فقال: إن سكوتَ البَالِغ في النَّسَبِ كالإقرارِ، واحترز المصنف بالأهل عن الصبي والمجنون ونحوهما، فَإِن كَان بَالِغًا، أي عاقلًا، فَكَذْبَهُ، أو سكت فكذبه، لَمْ يَثْبُتْ إِلّا بِبَيِّنَةٍ، كسائر الحقوق.

تَنْبِيهٌ: يُشْتَرَطُ أَيضًا أن لا يزاحمَهُ غيره في الاستلحاق، فإن زاحمَهُ فسيأتي قريبًا، ويشترطُ أَيضًا: أن لا يكون المقر له عبد الغير أو معتقه إن كان صغيرًا، واستلحاقُ المرأة والعبد والكافر يأتي في اللقيط. ويشترط أَيضًا: أن لا يولد على فراش نكاح صحيح.

وَإنِ اسْتَلْحَقَ صَغِيرًا ثَبَتَ، أي نسبه عند وجدان شروطه، ولا يعتبر تصديقه، فَلَوْ بَلَغَ وَكَذّبَهُ؛ لَم يَبْطُلْ في الأصَحِّ، لأن النسب يحتاط له؛ فلا يندفع بعد ثبوته كالثابت بالبينة، والثاني: يبطل للتكذيب، وهذا إذا لَم نُشَاهِدْ فِرَاشًا وَلَا ولَادَةً

ص: 865

عَلَيهِ، فإن شاهدنا ذلك لم نلتفت إلى الإنكار، والخلاف جارٍ فيما لو استلحق مجنونًا فأفاق فأنكر.

وَيصِحُّ أَن يَسْتَلْحِقَ مَيِّتًا صَغِيرًا، أي وإن كان له مال لبناء أمر النسب على التغليب، ولهذا يَثْبُتُ بمجرُّدِ الإمكانِ حتَّى لو قَتَلَهُ ثم استلحقهُ قُبِلَ مِنْهُ وحكم بسقوط القصاص، وَكَذَا كَبيرٌ في الأصَحِّ، كالصغير، والثاني: لا، لفوات التصديق وهو شرط، وَيرِثُهُ، أي يرث الميت المستلحق؛ لأنه فرعُ النسب ولا ينظر إلى التهمة.

وَلَو اسْتَلْحَقَ اثنَانِ بَالِغًا ثَبَتَ لِمَنْ صَدَّقَهُ، لاجتماع الشرائط فيه دون الآخر، فإن لم يصدق واحد منهما عرض على القائف، وَحُكْمُ الصَّغيرِ يَأْتِي في اللَّقِيطِ إِن شَاءَ الله تَعَالى، وَلَوْ قَال لِوَلَدِ أَمَتِهِ: هَذَا وَلَدِي، ثَبَتَ نَسَبُهُ، أي عند اجتماع شروطه كما تقدم، وَلَا يَثْبُتُ الاسْتِيلَادُ في الأظْهَرِ، لأن الأصل الرّقُّ، ويحتملُ أَن الإِسْتِيلَادَ كَانَ في نِكَاحٍ قَبْلَ الْمِلْكِ، والثاني: يثبت عملًا بالظاهر، وصححه الشيخُ أَبو حامدٍ وجاعةٌ، وَكَذَا لَوْ قَال وَلَدِي وَلَدَتْهُ في مِلْكي، لاحتمال أن يحبلها قبل الْمِلْكِ بالنكاح ثم يشتريها فتلد في الْمِلْكِ فيجري فيها القولان، فَإِن قَال: عَلِقَتْ بِهِ في مِلْكِي، ثَبَتَ، يعني، الاسْتِيلَادُ، وانقطع الاحتمال وكانت أُم ولدٍ لا محالة، قاله الرافعي وفيه نظر؛ لأنها قد تكون في تلك الحالة مرهونة وهو معسر فبيعت في الدَّين ثم اشتراها ففي ثبوت الاستيلاد والحالة هذه خلاف مشهور فلم ينتفِ الاحتمال، فَإن كانَتْ، أي الأَمة، فِرَاشًا لَهُ، وأقر أي بوطئها لَحِقَهُ بِالْفِرَاشِ، مِنْ غَيرِ اسْتِلْحَاقٍ، لإطلاق الحديث الصحيح [الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ](143) فيعتبر فيه الإمكان

(143) حديث [الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ، وَللْعَاهِرِ الْحَجَرُ] عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها؛ قَالتْ: كَانَ عُتبَةُ بْنُ أَبِي وَقاصٍ عَهِدَ إلَى أخِيهِ سَعْدَ بْنِ أبي وَقَّاصٍ، أنَّ وَليدَةَ زَمْعَةَ مِنِّي فَاقْبِضْهُ. قَالت: فَلَمَّا كَانَ عَامُ الْفَتْحِ أَخَذَهُ سَعْدُ بْنُ أبِيَ وَقَّاصٍ، وَقال: ابْنُ أخِي، قَدْ عَهِدَ إِلَيَّ فِيهِ. فَقَامَ عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ؛ فَقَال: أَخِي، ابْنُ وَليدَةِ أَبِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ. فَتَسَاوَقَا إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. فَقَال سَعد: يَا رَسُولَ اللهِ، ابْنُ أَخِي، كَانَ قَدْ عَهِدَ إِلَي فِيهِ. فَقَال عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ: أَخِي، وَابْنُ وَليدَةِ أبي، وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ. فَقَال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم:[هُوَ لَكَ يا عَبْدُ بْنُ زَمْعَةَ].=

ص: 866

فقط، وَإنْ كَانَتْ مُزَوَّجَةَ فَالْوَلَدُ لِلزَّوْج، وَاستِلْحَاقُ السَّيِّدِ بَاطِل، للحوقه بالزوج؛ لأن الْفِرَاشَ لَهُ، وَأَمَّا إِذَا أَلْحَقَ النَّسَبَ بِغَيرِهِ؛ كهَذا أَخِي أَوْ عَمِّي، فَيَثْبُتُ نَسَبُهُ مِنَ الْمُلْحَقِ بهِ، أي إذا كان رجلًا، بِالشُّرُوطِ السَّابِقَةِ، أي فيما إذا ألحقه بنفسه وشرائط أخر تأتي، ومرادُهُ بالغير من يتعدى النسب منه إلى نفسه لا إلى الأجانب.

ويشْتَرَطُ كَوْنُ المُلْحَقِ بِهِ مَيِّتًا، أي فما دام حيًّا ليس لغيره الإلحاق به، وَلَا يُشْتَرَطُ أَن لا يَكُون نَفَاهُ في الأصَحِّ، كما لو استلحقه المورث بعد ما نفاه بلعان وغيره، والثاني: يشترط؛ لأنه نسب سبق الحكم ببطلانه؛ ففي إلحاقه بعد الموت إلحاق عارٍ بنسبه.

ويُشْتَرَطُ كَوْنُ الْمُقِرِّ وَارِثًا حَائِزًا، أي فلا يثبت بإقرار الأجنبي والقريب الذي لا يرث، لأنه يشير خليفة للمورث؛ ويشترط موافقة الزوج والزوحة على الصحيح، وَالأصَحُّ: أَنَّ الْمُسْتَلْحَقَ لا يَرِثُ، كذا هو بخطه، وإطلاقه يقتضي أنَّه؛ مع كون المقر وارثًا حائزًا؛ أن الأصح: أن المستلحق لا يرث، وهذا لا يعقل، فَسَقَطَ هنا شيء وهو في الْمُحَرَّر على الصَّوَابِ فإنَّه فرضه فيما إذا كان المقرُّ وارثًا غيرُ حائزٍ، ووجه المنع: أن الإرث فرع النسب وهو لم يثبت، وإذا لم يثبت الأصلُ لم يثبت الفرعُ، ومقابله يتَأيد بما إذا قال أحدُ الابْنَينِ فُلَانَةٌ بِنْتُ أَبِينَا، وأنكرَ الآخرُ، فإنَّه يحرم على المقر نكاحها مع أنَّه فرع النسب الذي لم يثبت، وَلَا يُشَارِكُ الْمُقِرَّ في حِصَّتِهِ، أي دون الذي لم يقر به قطعًا، وَأَنَّ الْبَالِغَ مِنَ الْوَرَثَةِ لا يَنْفَرِدُ بِالإِقْرَارِ، لأنه غير حائز، والثاني: ينفرد احتياطًا للنسب.

وَأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ أَحَدُ الْوَارِثِينَ، أي بثالث، وَأَنْكَرَ الآخَرُ وَمَاتَ، يعني المنكر، وَلَمْ

= ثُمَّ قَال النبِيُّ صلى الله عليه وسلم: [الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَللْعَاهِرِ الْحَجَرُ]. رواه البُخَارِيّ في الصحيح: كتاب البيوع: باب تفسير المْشَّبِهَاتِ: الحديث (2053). والحديث له طرق عديدة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها طريق أبي هريرة وعثمان وابن مسعود وعلي بن أبي طالب وابن الزُّبير والبراء بن عازب وزيد بن أرقم وعبادة بن الصامت وغيرهم.

ص: 867

يَرِثْهُ إلا الْمُقِرُّ؛ ثَبَتَ النَّسَبُ، لأن جميع الميراث صار له، والثاني: المنع، لأن إقرار الفرع مسبوق بإنكار الأصل، وقوله (وَلَمْ يَرِثهُ إلا الْمُقِرُّ) أي بأن لم يخلِّف وارثًا سواه، فإن خلف وارثًا آخر كما لو كانا أخوين فمات المنكر وخلف ابنًا وأقرَّ؛ فالخلاف جارٍ فيه أَيضًا كما ذكره الرافعي وغيره؛ ولا خلاف أن الميراثَ يثبت بتوافق الباقين، لأنه لم يكذب فرعه، وعنه احترز بقوله (وَأَنْكَرَ الآخَرُ).

وَأَنَّهُ لَوْ أَقَرَّ ابْنٌ حَائِزٌ بِأُخُوَّةِ مَجْهُولٍ، فَأَنْكَرَ الْمَجْهُولُ نَسَبَ الْمُقِرِّ، أي بأن قال لَستَ ابْنَ أبِي، لَمْ يُؤَثّرْ فِيهِ؛ لأن المُقِرَّ (•) مشهور النسب فإنكاره لا وجه له، والثاني: نعم، لإنكاره إياه.

وَيثْبُتُ أَيضًا نَسَبُ الْمَجْهُولِ، لِحُكمِنَا بأنَّهُ وارث حائز، والثاني: لا، لأن المقرَّ ليس بوارث في زعمهِ، وَأنَّهُ إِذَا كَان الْوَارِثَ الظَّاهِرُ يَحْجُبُهُ الْمُسْتَلْحَقُ كَأَخٍ أَقَرَّ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ ثَبَتَ النَّسَبُ وَلَا إِرْثَ، للدور، والثاني: يثبتان ويحجب الْمُقِرُّ واختاره جماعة.

(•) في نسخة (3): الْمُقِر، وفي نسخة (1 و 2): الغيَّر، وفي هامش نسخة (1) كتب الناسخ: لَعَلَّهُ الْمُقِرَّ. فأثبتناه لأنه يتوافق والمعنى المقصود في عبارة الشارح رحمه الله. اقتضى التنويه.

ص: 868