المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌كتاب الوقف الوَقفُ؛ وَالتحبِيس؛ وَالتسْبِيلُ بمعنى واحِد، يُقَالُ: وَقفْتُ كَذَا، وَلَا - عجالة المحتاج إلى توجيه المنهاج - جـ ٢

[ابن الملقن]

فهرس الكتاب

- ‌كتاب الصيام

- ‌بَابُ صَوْمِ التَّطَوُّعِ

- ‌كِتَابُ الاِعْتِكَافِ

- ‌كِتَابُ الْحَجِّ

- ‌بَابُ المَوَاقِيتِ

- ‌بَابُ الإِحْرَامِ

- ‌بَابُ دُخُولِ مَكَّةَ زَادَهَا اللهُ شَرَفًا

- ‌بَابُ مُحَرَّمَاتِ الإِحْرَامِ

- ‌بَابُ الإحِصَارِ وَالفَوَاتِ

- ‌كتاب البيع

- ‌بَابُ الْرِّبَا

- ‌بابُ الْبُيُوع الْمَنْهِيِّ عَنْها

- ‌بَابُ الخيَارِ

- ‌بَابُ الْمَبِيعِ قَبْلَ قَبْضِهِ مِنْ ضَمَانِ الْبَائِعِ

- ‌بَابُ التوْلِيَةِ وَالإِشْرَاكِ وَالْمُرَابَحَةِ

- ‌بَابُ الأصُولِ وَالثمَارِ

- ‌بَابُ اخْتِلَافِ الْمُتَبَايِعَيْنِ

- ‌بَابُ مُعَامَلَاتِ الْعَبِيدِ

- ‌كِتَابُ السَّلَمِ

- ‌كِتَابُ الرَّهنِ

- ‌كتاب التفليس

- ‌بِابُ الْحَجْرِ

- ‌كِتَابُ الْصُّلْحِ

- ‌كِتَابُ الحوالةِ

- ‌كتاب الضمان

- ‌كِتَابُ الشِّرْكَةِ

- ‌كِتَابُ الْوَكَالةِ

- ‌كتاب الإقرار

- ‌كِتَابُ الْعَارِيَّةِ

- ‌كِتَابُ الْغَصْبِ

- ‌فُرُوعٌ مَنْثُورَةٌ نَخْتِمُ بِهَا الْبَابَ مُهِمَّةٌ

- ‌كِتَابُ الشُّفْعَةِ

- ‌كِتَابُ الْقراضِ

- ‌كتاب المُسَاقَاةِ

- ‌كتاب الإجارة

- ‌كتاب إحياء الموات

- ‌كتاب الوقف

- ‌كتاب الهبة

- ‌كِتَابُ الْلُّقَطَةِ

- ‌كِتَابُ الْلَّقِيطِ

- ‌كتاب الجُعَالةِ

الفصل: ‌ ‌كتاب الوقف الوَقفُ؛ وَالتحبِيس؛ وَالتسْبِيلُ بمعنى واحِد، يُقَالُ: وَقفْتُ كَذَا، وَلَا

‌كتاب الوقف

الوَقفُ؛ وَالتحبِيس؛ وَالتسْبِيلُ بمعنى واحِد، يُقَالُ: وَقفْتُ كَذَا، وَلَا يُقَالُ: أوْقفْتُ إِلا فِي لُغَة ضَعِيفَة رَدِيئَة، وَهُوَ فِي الشرع: حَبْسُ مَال يُمكِنُ الانتِفَاعُ بِهِ مَعَ بَقَاءِ عَينهِ مَمْنُوعٌ مِنَ التصَرُّفِ في عَينهِ، وَتُصْرَفُ مَنَافِعُهُ إِلَى البرِّ تَقَرُّبا إِلَى الله تَعَالى. وَالأصلُ فِي البَابِ السُّنة الصحِيحَةُ الشَّهِيرَةُ (184)، وَاتّفَاقُ الصُّحَابَةِ قَوْلًا وَفِعْلًا، وَوَقفَ عُمَرُ وَعُثْمَانُ وَعَلِي وَزَيد بْنُ ثَابِب وَعَبْدُ الله بنُ عُمَرَ وَأَنَس (185)، وَرُوي

لِيمنَعَ بِهِ الكَلأ]. رواه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب إحياء الموات: باب ما جاء في حريم الآبار: الحديث (12088).

* وعند البخاري في الصحيح: كتاب المساقاة: باب من قال: صاحب الماء أحق بالماء: الحديث (2353 و 2354): قال صلى الله عليه وسلم: [لَا يُمْنعُ فَضلُ المَاءِ لِيُمنَعَ الكَلأ] و [لَتَمنَعُوا بهِ فَضلَ الكَلإِ].

(184)

عن أبي هريرة رضي الله عنه؛ أن رَسُولَ الله قَال: [إذَا مَاتَ ابنُ آدَمَ انقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاث: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِية؛ أوْ عِلْمٍ يُنتفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَد صَالِح يَدْعُو لَهُ]. رواه مسلم في الصحيح: كتاب الوصية: باب ما يلحق الإنسان من الثواب: الحديث (14/ 1631).

وأبو داود في السنن: كتاب الوصايا: باب ما جاء في الصدقة: الحديث (2880).

والترمذي في الجامع: كتاب الأحكام: في الوقف: الحدث (1376)، وقال: حديث حسن صحيح.

(185)

* عن ابن عُمَرَ رضي الله عنهما؛ قَال: (أن عُمَرَ رضي الله عنه أصَابَ أرْضًا بِخَيبرَ فَقَال: يا رَسولَ الله إِني أصَبتُ أرضًا وَالله مَا أصَبتُ مَالا قطْ هوَ أنفَس عِنْدِي مِنْهَا، فَمَا تَأمُرُنِي يَا رَسُولَ الله، قَال:[إِن شِئتَ تَصَدقتَ بهَا وَحبسْتَ أصلَهَا] قال: =

ص: 960

أيضًا وَلَكِنْ بلَفظِ الصدَقَةِ عَنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم وأبِي بَكْرٍ وَفَاطِمَةَ الزَّهْرَاءِ وَالزبيرِ بْنَ العَوَّامِ وَحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ وَالأرقَمِ وَالْمِسْوَرَ بنِ مَخْرَمَةَ وَجبَير بنِ مُطْعِم وَعَمْرِو بن العَاصِ (186). قَال الشَّافِعِيُّ: وَبَلَغَنِي أنَّ أَكثرَ مِنْ ثَمَانِينَ رَجُلًا مِنْ أصْحَابِ النبِي صلى الله عليه وسلم

= فَجَعَلَهَا عُمَرُ رضي الله عنه صَدَقةً لَا تُبَاعُ وَلَا تُوْهَبُ وَلَا تُورَثُ، تَصَدَّقَ بِهَا عَلَى الفُقَرَاء؛ وَلِذِى القُربى، وَفِي سَبِيلِ الله، وَفِي الرقابِ وَالضيفِ، وَلَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَليَهَا أن يَأكُلَ بِالمَعرُوفِ ويطْعِمَهُ صَدِيقًا غَيرَ مُتَمَولٍ فِيهِ). رواه البخاري في الصحيح: كتاب الشروط: باب في الوقف: الحديث (2737)، وكتاب الوصايا: باب الوقف للغنى والفقر والضيف: الحديث (2773). ومسلم في الصحيح: كتاب الوصية: باب الوقف: الحديث (15/ 1632).

* عن أبي حعفر قال: (أنَّ عُمَرَ وَعَلِيًّا رضي الله عنه؛ وَقَفَ أرضًا لَهُمَا بَتا بَتلا). رواه البيهقي في السنن الكبرى: الأثر (12119).

* عن جعفر بن محمد عن أبيه (أن عَلِي بنَ أبِي طَالِبٍ قطَعَ لَهُ عُمَرُ بنُ الخَطابِ رضي الله عنهما يَنْبُعَ، ثُم اشتَرَى عَلِي بنُ أبِي طَالب رضي الله عنه إِلَى قطيعَةِ عُمَرِ رضي الله عنه أشياءَ؛ فَحَفَرَ فِيهَا عَينا، فَبَينَا هُمْ يَعْمَلُونَ فيهَا إذ تَفجَّرَ عَلَيهِم مِثْلَ عُنُقِ الجَزُورِ مِنَ الماءِ، فَأتِىَ عَلِي وبُشِّرَ بِذَلِكَ. قال: بَشرِ الوَارِثَ ثُم تَصَدقْ بِهَا عَلَى الفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَفِي سَبيلِ الله وَابنِ السبيلِ القَرِيبِ وَالْبَعِيدِ وَفِي السلْمِ وَالحرب لِيَوم تَبيض وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجوهٌ لِيَصرِفَ الله بِهَا وَجْهِي عَنِ النارِ وَيَصْرِفَ النارَ عَن وَجهِي). رواه البيهقي في السنن الكبرى: الأثر (12118).

(186)

عن عَبْدِ الله بنِ الزبيرِ الحُمَيدِي؛ قَال: (وَتَصَدقَ أبو بَكْر رضي الله عنه بِدَارِهِ بِمَكةَ عَلَى وَلَدِهِ، فَهِيَ إلي اليومِ. وَتَصَدقَ عُمَرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه برَبعِهِ عِندَ المَروَةَ وَبِالثنِيةِ عَلَى وَلَدِهِ، فَهِيَ إِلَى اليومِ، وَتَصَدقَ عَليُّ بن أبِي طَالب صلى الله عليه وسلم بَأرضهِ بِيَنْبُعَ، فَهِيَ إلَى اليومِ، وَتَصَدقَ الزبيرُ بنُ العوامِ صلى الله عليه وسلم بِدَارِهِ بِمَكةَ فِي الْحَرَاميةِ وَدَارِهِ بِمِصْرَ وَأمْوَالِهِ بِالمَدِينةِ عَلَى وَلَدِهِ، فَذَلِكَ إِلَى اليَوْمِ، وَتَصَدَّقَ سَعْدُ بن أبِي وَقاصٍ رضي الله عنه بِدَارِهِ بِالمَدِينَةِ وَبِدَارِهِ بِمِصْرَ عَلَى وَلَدِهِ، فَذَلِكَ إِلَى اليومِ، وَعُثمَانُ بنُ عَفَّان رضي الله عنه بِرُومَةَ، فَهِيَ إِلَى اليوم، وَعَمرُو بنُ العَاصِ رضي الله عنه بِالوَهْطِ مِنَ الطائف وَدَارِهِ بِمكةَ عَلَى وَلَدِهِ، فَذَلِكَ إلَى اليومِ، وَحَكِيمُ بنُ حِزَام رضي الله عنه بدَارِهِ بمَكةَ وَالمَدِينَةَ عَلَى وَلَدِهِ، فَذَلِكَ إِلَى اليومِ، قال: وَمَا لَا يَحْضُرني ذِكْرُهُ كَثِيرٌ، يُحْزِيء منْهُ أقَل مِما ذَكَرتُ. قَال: وَفِيمَا ذَكَرتُ مِنْ صَدَقتِ مَنْ تَصَدقَ =

ص: 961

مِنَ الأَنْصَارِ تَصَدَّقُوا بِصَدَقَاتٍ مُحَرَّمَاتٍ، وَالشَّافِعِي يُسَمِّي الأوْقَافَ الصدَقَاتُ المحَرمةُ (187).

شرْطُ الْوَاقِفِ صِحةُ عِبَارَتهِ، أي فَلَا يَصح وَقْفُ الصَّبي وَالْمَجْنُونِ لأنهُ تَصَرُّف في الْمَالِ، وَأَهْلِيةُ التبَرع، أي فلا يصح من المبذرٍ والمكاتبٍ، ولو اتخذ ذِمِّي مِلكَهُ مَسْجِدًا جَازَ، قاله البغوي في فتاويهِ وأبدى فيه احتمالًا آخر.

فَرْعٌ: للإمامِ أنْ يَقِفَ مِن بيت الْمالِ كما قالهُ الأكثرونَ وبِهِ أَفتى المصنفُ.

وَالْمَوْقُوفِ، أي وشرطُ الموقوفِ، دَوَامُ الانْتِفَاع بِهِ لَا مَطْعُوم، لأن منفعتَهُ في استهلاكهِ، وَرَيحَانٌ، لسرعة فسادهِ وهذا في الريحانِ المحصودِ. أمَّا القَائِمُ؛ فإنه يبقى مدة ففي صِحةِ وَقْفِهِ نَظَر، وكذا ما يبقى من الطِّيبِ كالصندل والكافور ينبغي أنْ يصحَّ وقفُهُ للشَّمِّ، ويصِح وَقْفُ عَقَار، بالإجماع، منقُولِ، للإنفاقِ على وقف الحُصُرِ، والقناديل والزلالي في كل عصر مِنْ غَيرِ نكِيرٍ، وَمُشاع، لأن عمر رضي الله عنه[وَقَفَ مِائَةَ سَهْمٍ مِنْ خَيبَرَ مَشَاعًا] رواهُ الشافعي رحمه الله (188). ولا يسري إلى

= بِدَارِهِ بِمَكةَ حُجةٌ لأَهلِ مَكةَ فِي مِلك بُيُوتِهَا وَكِرَاءِ مَنَازِلهَا لأنهُ لَا يَعْمَدُ أبو بَكرٍ وَعُمَر وَالزَبيرُ وَعُثمَانُ وَعُمرُو بن الْعَاصِ وَحَكِيمُ بنُ حِزَامٍ رضي الله عنه إِلَى شَيْءٍ الناسُ فِيهِ شرْعٌ سَوَاءٌ فَيَتَصَدَّقون بِهِ عَلَى أوْلادِهِم دُونَ مَالِكِيهِ مَعَهُم). رواه البيهقي في السنن الكبرى: الأثر (12122).

(187)

ينظر: الأُم للشافعي رضي الله عنه: الأحباس: الخلاف في الصدقات المحرمات والخلاف في الحبس وهي الصدقات الموقوفات: ج 4 ص 51 و 52 و 58.

(188)

* قال الشافعي رضي الله عنه: الصدقات يلزمها اسم الحبس، وليس لك أن تخرج مما لزمه اسم الحبس شيئًا إلا بخبر عن رسول الله رضي الله عنه يدل على ما قلت. وقلتُ: أخبرنا سفيان عن عبد الله بن عمر بن حفص العمري عن نافع عن عبد الله بن عمر؛ (أن عُمَرَ بن الخَطابِ مَلَكَ مِائَةَ سَهم مِنْ خَبيرَ اشْتَرَاهَا، فَأتَى رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم فَقَال: (يَا رَسُولَ الله إِنّي أَصبت مَا لَم أصبْ مِثْلَهُ قَط، وَقدْ أَرَدتُ أَنْ أتَقَربَ بِهِ إِلَى اللهِ عز وجل فَقَال:[حَبِّسِ الأصْلَ، وَسبِّلِ الثمَرَةَ]: كتاب الأم للشافعي: ج 4 ص 52.

* ينظر: الحاوي الكبير شرح مختصر المزني للماوردي: كتاب العطايا والصدقات =

ص: 962

الباقي؛ لأنها من خواصِّ العتقِ، لَا عَبْدٍ وَثَوْب في الذمَّةِ، كالعتقِ.

فَرْعٌ: لا يشترطُ رؤيةُ الموقوفِ على الأصحِّ.

وَلَا وَقْفُ حُرٍّ نَفْسَهُ، لأن رقبتَهُ غَيرُ مَملُوكَةٍ.

فَرْعٌ: مالكُ المنفعةِ دونَ رَقَبَتِهَا لا يصح وَقْفُهُ إِياهَا.

وَكَذا مُسْتَوْلَدَةٍ وَكَلْبٍ مُعَلَّمٍ وَأحَدِ عَبْدَيهِ فِي الأصَحِّ، أما في المستولدةِ فلأنهُ حلَّها حرمةُ العتقِ فكأنها عَتِيقة، ووجهُ مقابلهِ القياسُ على إِجَارَتهَا، وأما في الكلبِ المعلَّم فلأن رقبتَهُ غيرُ مملوكةٍ، ووجهُ مقابلهِ القياسُ على جوازِ إجارتهِ أو هِبَتِهِ، أو أنَّ الوقفَ لا ينقل المِلك، وأمَّا في أحدِ عَبْدَيهِ فبالقياس عَلَى الْبَيع، ووجهُ مقابلهِ القياسُ على العَتْقِ، وقولُهُ (مُعَلَّم) لَعَلَّ مرادَهُ ما ينتفعُ بِهِ لِيَخْرُجَ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ؛ فإنهُ لا يَصح وَقْفُهُ قطْعًا، نَعَمْ الكلبُ القابلُ لِلتعْلِيمِ يَنْبَغِي جريانُ خلافِ فيه كاقتنائهِ، فيحمل قوله (مُعَلَّمٍ) على أنه مما يُعَلَّمُ وهو من جنس كلابِ الصيدِ كبارَها وصغارَها.

وَلَو وَقَفَ بِنَاءً أَوْ غَرْسًا فِي أَرْض مُسْتَأجَرَةٍ لَهُمَا، فالأصَحُّ جَوَازُهُ، لأنه مملوك يمكنُ الانتفاعُ بهِ مع بقاءِ عَينهِ، والثاني: لا، لأنَّ مالكَ الأرضِ بسبيلٍ من قلعهِ فكأنهُ وقفَ ما لَا يُنتفَعُ بهِ، والخلافُ جارٍ فيما إذا اسْتَعَارَ أرضًا للبناءِ فبنى ثُمَّ وقفَهُ كما رأيتُهُ في فتاوى القَفالِ.

فَرْعٌ: أَجَّرَ أَرْضَهُ ثُمَّ وَقَفَهَا؛ فالأصَحُّ الصِّحَّةُ، وقدْ يفعلُ ذلكَ مَن يريدُ إبقاءَ الوقف لنفسهِ مُدَّةً بعد الوقف.

فَرْعٌ: يجوزُ وقفُ المغصُوب كعتقهِ قاله الجُوْرِيُّ.

فَإن وَقَفَ عَلَى مُعَينٍ وَاحِدٍ أَوْ جَمْع اشئتُرِطَ إِمْكان تملِيكِهِ، لأنَّ الوقفَ تمليكُ العينِ والمنفعةِ، إن قلنا بانتقالِ الملكِ للموقوفِ عليهِ، وَتمليك المنفعةِ إن لم نَقُل به.

= والحبس: ج 7 ص 511. والسنن الكبرى للبيهقي: كتاب الوقف: باب وقف المشاع: الحديث (12126 و 12127).

ص: 963

وخرجَ بالعين الفُقَرَاءُ كما ذكرهُ بعدُ، ولا بد في الموقوفِ عليه أن يكونَ موجودًا، وعبارة الْمُحَرَّر: وجَمَاعَةٍ بَدَلَ جَمْعٍ وهي أحسنُ لدخولِ الاثنينِ فيها، فَلَا يَصِحُّ عَلَى جَنِينٍ، أي بخلاف الوصيَّةِ لأنها تتعلق بالمستقبل، والوقفُ تسليطٌ في الحالِ، وَلَا عَلَى الْعَبْدِ لِنَفْسِهِ، لأنَّهُ تمليكٌ مُنَجَّزٌ فلا يصحُّ كالبيعٍ، فَلَوْ أطْلَقَ الْوَقْفَ عَلَيهِ فَهُوَ وَقْفٌ عَلَى سَيِّدِهِ، أي إذا تَمَّ بالقبولِ كما لو أوصَى لهُ أو وهبَ لَهُ.

فَرْعٌ: الوقفُ على الرقيقِ الموقوفِ لسدانة الكعبة وخدمة قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم صحيحٌ على الأصحِّ.

وَلَوْ أَطْلَقَ الْوَقْفَ عَلَى بَهِيمَةٍ لَغَا، لأنها ليست أهلًا للملك بحال، وَقِيلَ: هُوَ وَقْفٌ عَلَى مَالِكهَا، كما لو وقف على العبد، وَيَصِحُّ عَلَى ذِمِّيٍّ، أي معين كما تجوز الوصية له، لَا مُرْتَدٍّ وَحَرْبِيٍّ، لأنهما مقتولان، والوَقْفُ صَدَقَةٌ جَارِيَةٌ فلا يوقفُ على مَن لا يَبْقَى، كما لا يوقفُ مَا لَا يَبْقَى، وَنَفْسِهِ، لتعذر تمليكِ الإنسانِ مِلْكَهُ لِنَفْسِهِ، فِي الأَصَحِّ، أي في المسائل الثلاث المذكورة، ووجهُ الجوازِ في المرتدِّ والحربيِّ القياس على الذِّمِّيِّ. وفي الوقف على نفسِهِ؛ أنَّ استحقاقَ الشئِ مِلكًا غير استحقاقِهِ وَقْفًا، وقد يُقْصَدُ حَبْسُهُ ومنعُ نفسه من تصرفِ المزيلِ للملك، وقيل: إنْ وَقَفَ على نفسهِ وغيرِهِ جَازَ قياسًا على المسجدِ والهَدْيِ والأُضحية، فإنه إذا قال: على أن لا يصلى فيهِ غيري فَبَاطِلٌ، وإن قال: أُصَلِّي فيهِ أَنَا وغَيري جَازَ، حكاهُ ابنُ خَيرَانَ في لطيفه ومنه نقلتُهُ، وصوَّرَ الماورديُّ المسألةَ بما إذا قاك: وقفتُ هذِهِ الأرضَ أو الشجرَةَ على الْفُقَرَاءِ، وشرطَ أنْ يأكُلَ من مغل الأرضِ أو ثمرةِ الشجرة غَنِيًّا كان أو فَقِيرًا، وقطعَ بالبطلانِ فيما إذا قَال: وَقَفْتُ عَلَى نَفْسي وَسَكَتَ، وحكى قولين فيما إذا قال: وقفت على نفسي ثُمَّ الفقراء والحيلة على المذهبِ في وقفهِ على نفسهِ أنْ يقفَ على أولادِ أبيهِ الَّذِينَ مِنْ صِفَتِهِمْ كَذَا وَيَذكُرَ أَوْصَافًا تَقْتَضِي حَصْرَ الْوَقْفِ فِيهِ فيصحُّ، وَيَحْصِلُ مَقْصُودَهُ أوْ يَرْفَعَهُ إِلَى حَاكِمٍ يَرَى ذَلِكَ فَيَحْكُمَ لَهُ بِهِ، وفي فَتَاوَى القَفَّالِ: أنهُ لَوْ وَقَفَ أرْضًا وَشَرَطَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا مَا احْتَاجَ إِلَيهِ جَازَ وَلَا يَبْطلُ بِهِ الْوَقْفُ، وَلَهُ أَنْ

ص: 964

يَأْكُلَ مِنْهُ بِخِلافِ مَا إِذَا شَرَطَ أنْ يَأْكُلَهُ كُلَّهُ إِذَا احْتَاجَ إِلَيهِ، وقال: مَرَّةً هَذَا الشَّرْطُ أعْنِي الأوَّلُ نافذٌ كذا رويتُهُ عَنْ جَمِيعِ مَشَايِخِي والقضاةِ، وما رأيتُ أحدًا أنكرَ هذا فهو كالإجماع مِنْهُمْ، وإِنْ وَقَفَ عَلَى جِهَةِ مَعْصِيَةٍ كَعِمَارَةِ الْكَنَائِسِ فَبَاطِلٌ، لما فيه من الإعانة على المعاصي، وهذا في كنيسة بُنِيَتْ للتعبدِ، أما المعدَّةُ لنزولِ المارَّةَ، فالجمهورُ على أنهُ يجوزُ أنْ يُوصِي ببناءِ كنيسةٍ يَنْزِلُهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ كما نقلهُ عنهُم في المطلبِ، قال: فيشبه أنْ يكون له الوقف كذلك فيأتي فيه الخلاف، وفي فتاوى القفال: أنَّ اليهوديَّ إذا وقفَ ضيعةً على عمارةِ الكنيسةٍ فإنَّ الوقفَ باطلٌ، فإن رُفع إلينا مَكَّثَّاهُ من بيعهِ أوْ كانَ الواقفُ قَدْ ماتَ ولا وارثَ لهُ كان ذلك فَيئًا كما لو مَاتَ ذِمِّيٌّ ولا وارثَ لهُ، قال: وعلى هذه العلَّة يجوزُ للإمامِ بيعُ الكنائسِ لأنها لا يُعْرَفُ لها مَالِكًا فيكونُ فَيئًا، وقال في موضع آخر منها: أمَّا ما كانَ وَقْفًا عَلَيهَا قَبْلَ الْبِعْثَةِ فَإِنَّهُ يُقَرُّ وَلَا يُتَعَرَّضُ لَهُ كَالْكَنَائِسِ، أَوْ جِهَةِ قُرْبَةٍ، أي على جهةٍ يَظْهَرُ فِيهَا قَصْدُ الْقُرْبَةِ؛ لأنَّ الْوَقْفَ كُلَّهُ قُرْبَةٌ، كَالْفُقَرَاءِ وَالْعُلَمَاءِ وَالْمَسَاجِدِ وَالْمَدَارِسِ صَحَّ، لظهور مقصود الوقف، أَوْ جِهَةٍ لَا تَظْهَرُ فِيهَا الْقُرْبَةُ كَالأغْنِيَاءِ صَحَّ فِي الأصَحِّ، بناءً على أنَّ المرعيَّ في الوقفِ على الجهةِ العَامَّةِ التَّمْلِيكُ كَمَا فِي الوَصِيَّةِ، لَا القربةَ، والثاني: لا، بناءً على مقابلهِ، قال الرافعيُّ: والأحسنُ أنَّهُ يصحُّ على الأغنياءِ؛ ويبطل على اليهودِ والنصارَى وسائرِ الْفُسَّاقِ لِتَضَمُّنِهِ الإعانةَ على المعصيةِ، قال صاحبُ المطلبِ: وهو صحيحُ ببادِئ الرَّأْيِ، ولكنه ناظرٌ في الأغنياءِ لقصدِ التمليكِ، وفي أهلِ الذِّمَّةِ لِقَصْدِ القربةِ وهو كإحداثِ قولٍ بعدَ إجماعِ الأوَّلينَ على قولينِ. في المسألة تَتِّمَاتٍ يَتَعَيَّنُ عَلَيكَ مُرَاجَعَتُهَا مِنَ الأصْلِ.

فَائِدَةٌ: رأيتُ في فتاوي الحناطي وقد سئل: هل يصح الوقف على دارٍ أو حانوت مُعَيَّنَينِ؟ فأجاب: إنهُ لا يصحُّ إلا أنْ يقولَ: وقفت على هذه الدار على أن يأكل فوائدها طارقوها، فيصح على أظهر الوجهين.

وَلَا يَصحُّ إِلَّا بِلَفْظٍ، كغيرِهِ مِن التَّمْلِيكَاتِ، نَعَمْ لو بَنَى مسجدًا في مَوَاتٍ كَفَتٍ النِّيَّةُ، كما قاله الماوردي؛ لأنَّ المواتَ لم يدخل في مِلك المحييِّ لَهُ مسجدًا، وأما للبناءِ

ص: 965

فصارَ لَهُ حكمُ المسجدِ بطريقِ التَّبَعِيَّةِ وخالفَ الفارقيُّ في ذلكَ.

فَرْعٌ: إشارةُ الأخرسِ المُفْهِمَةُ كالنُّطْقِ، كما ذكره المصنفُ في البيع وغيرِهِ.

وَصَرِيحُهُ: وَقَفْتُ كَذَا أَوْ أَرْضِي مَوْقُوفَةٌ عَلَيهِ، لأنه موضوع له، وأشار بقوله وَقَفْتُ وَمَوْقُوفَةٌ إلى أنه لا فَرْقَ بين الفعلِ وما يُشْتَقُّ منهُ، وَالتَّسْبِيلُ وَالتَّحْبِيسُ صَرِيحَانِ عَلَى الصَّحِيحِ، لكثرةِ استعمالهما واشتهارهما شرعًا وعُرفًا، والثاني: أنهُمَا كنايتان؛ لأنهما لَمْ يَشْتَهِرَا اشتهار الوقفِ، والثالث: أنَّ التَّحْبِيسَ صَرِيحٌ وَالتَّسْبِيلَ كِنَايَةٌ.

وَلَوْ قَال: تَصَدَّقْتُ بِكَذَا صَدَقَةً مُحَرَّمَةَ أَوْ مَوْقُوفَةً أَوْ لَا تُبَاعُ وَلَا تُوهَبُ فَصَرِيحٌ فِي الأصَحِّ، لانصرافهِ بهذا عن التمليك الْمَحْضِ، والثاني: أنه كنايةٌ، لأنه صريحٌ في التمليكِ المحضِ المخالفِ لمقصودِ الوقفِ، والخلافُ في الثانية بعيدٌ، عِوَضًا عن كونِهِ قَويًّا، لأنَّهُ قَطَعَ بصراحةِ لفظِ الوقفِ عند الانْفِرَادِ، فما ظَنُّكَ بحالةِ الاجتماعِ مع غَيرِهَا، نَعَمْ هو ظاهرٌ فيما لو قال: صدقةٌ مؤبَّدَةٌ، وَقَوْلُهُ: تَصَدَّقْتُ فَقَطْ، لَيسَ بِصَرِيحٍ وَإنْ نَوَى، لتردُّدِ اللَّفظِ بينَ صدقِةِ الْفَرضِ وَالتَّطَوُّع وَالصَّدَقَةِ الْمَوْقُوفَةِ، إِلَّا أن يُضِيفَ إِلَى جِهَةٍ عَامَّةٍ وينْويَ، أي بأنْ قال: تَصَدَّقْتُ بِهَذَا عَلَى الْفُقَرَاءِ فَإنَّهُ يَصِيرُ وَقْفًا على الأصحِّ، لأنَّ الصدقةَ بمعنى الْهِبَةِ لا تَصُحُّ مِنْهُمْ، فانصرفَ إلى ما يَصِحُّ إِضَافَتُهُ إِليهِمْ حَذَرًا مِن إِلْغَاءِ اللَّفظِ وهو الوَقْفُ، ومقتضى كلام المصنف أنه إذا أَضَاف إلى جهةٍ عامَّةٍ ونَوَى، صارَ صريحًا؛ ولفظُ الْمُحَرَّرِ بخلافهِ، فإنه قال: ولو نَوَى لَمْ يَحْصَلِ الْوَقْفُ أيضًا إلّا إذا نَوَى إلى جهةٍ عَامَّةٍ، وكذا عبارةُ الشَّرْحِ، واحْتَرَزَ بِالْجِهَةِ الْعَامَّةِ عَنِ الْمُعَيَّنِ، فإنهُ لا يكونُ وَقْفًا على الأصَحِّ، بل ينفذ فيما هو صريحٌ فيه وهو التمليك المحض، كذا قاله الإمامُ وفيه بحثٌ للرافعيِّ، وَالأصَحُّ: أَنَّ قَوْلَهُ حَرَّمْتُهُ أَوْ أَبَّدْتُهُ لَيسَ بِصَرِيحٍ، لأنَّهُمَا لا يُستعملان مستقلَّينِ وإنما يؤكدُ بهما الألفاظَ السَّابقةَ، والثاني: أنهما صريحان لإِفَادَتِهِمَا الغرضَ كَالتَّحْبِيسِ وَالتَّسْبِيلِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: جَعَلْتُ الْبُقْعَةَ مَسْجِدًا، تَصِيرُ بِهِ مَسجِدًا، لإشعارِهِ بالمقصودِ

ص: 966

واشتهاره فيهِ، والثاني: لَا تَصِيرُ، لِفَقْدِ الألْفَاظِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وقد وَصَفها بما وَصَفها الشَّرعُ حيثُ قال:[جُعِلَتْ لِيَ الأرْضُ مَسْجِدًا](189) وهو ما عليه الأكثرُ كما أوضحتُهُ في الأصلِ، قال في الكفاية: ومحل الخلافِ إذا خَلا عن نِيَّةِ الْوَقْفِ، أما إذا نَوَى بقوله جَعَلْتُهَا مَسْجِدًا الْوَقْفَ صارَتْ مَسْجِدًا قاله القاضي، وَأنَّ الْوَقْفَ عَلَى مُعَيَّنٍ يُشْتَرَطُ فِيهِ قُبُولُهُ، لأنَّهُ يَبْعُدُ دُخُولُ عينٍ أو منفعةٍ في مِلْكِهِ قَهْرًا وعلى هذا فَلْيَكُنْ مُتَّصِلًا بالإيجابِ كما في البيعِ، والثاني: أنهُ لا يُشترطُ كالعتقِ وهو ظاهر نَصِّهِ في الأُمِّ وهو المختارُ، والثالث: الفرقُ بين البطن الأَوَّلِ وغيره، وَلَوْ رَدَّ بَطَلَ حَقُّهُ شَرَطْنَا الْقُبُولَ أَمْ لَا؟ كالوصية والوكالة، وقال البغويُّ وصاحبُ الكافي: لَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهِ، وهو متجهٌ، كما قال ابنُ الصلاح، واقتصرَ المصنفُ على بُطْلانِ حَقِّهِ وَلَمْ يُبَيِّنْ هَلْ بَطَلَ حَقُّهُ مِنَ الْغَلَّةِ أَوْ مِنَ الْوَقْفِ، وبالأول قال الماورديُّ والصحيحُ الثَّانِي، واحترزَ المصنفُ بقوله أولًا على (مُعَيَّنٍ) عمَّا إذا كان الوقفُ على جهةٍ عامَّةٍ كالفقراءِ أو جهةِ تَحْرِيرٍ كَالْمَسْجِدِ، فإنه لا يُشترطُ القَبُولُ قَطْعًا لِتَعَذُّرهِ، قال الرافعي: ولم يجعلوا الحاكم نائبًا في القبولِ كما جُعِلَ نائبًا عن المسلمينَ في استيفاءِ القِصَاصِ والأمْوَالِ ولو صَارُوا إليه لَكَانَ قَرِيبًا.

فَرْعٌ: في اشتراطِ القَبْضِ في الوقفِ على الْمُعَيَّنِ وَجْهَانِ كالوجهينِ في اشتراطِ القَبُولِ إنْ قُلْنَا الْمِلْكُ للموقوفِ عليهِ اشْتُرِطَ، وإن قلنا لله تعالى فلا على المشهورِ المنصوصِ، كما قاله صاحبُ المطلب، وقال في الروضة: شَذَّ الْجُرْجَانِيُّ حيثُ قال: إذا كان على شخصٍ، وَقُلْنَا الْمِلْكُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيهِ افْتَقَرَ إِلَى قَبْضِهِ كَالْهِبَةِ.

فَصْلٌ: وَلَوْ قَال: وَقَفْتُ هَذَا سَنَةَ فَبَاطِلٌ، لفسادِ الصيغةِ لأنَّ وَضْعَهُ لِلتَّأْبِيدِ، ولو قال: وقفتُ هذا على زَيدٍ سَنَةً وبعدَ السَّنَةِ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، قال العمراني: ظاهرُ كلامِ ابنِ الصَّبَّاغِ أنَّهُ يَصِحُّ قَطْعًا، ومن هنا شَرَعَ الشيخُ في الشرائطِ؛ لأنَّ الأركانَ فرعٌ مِنْهَا وهي الواقفُ والموقوفُ عليهِ والصيغةِ، وَلَوْ قَال: وَقَفْتُ عَلَى

(189) تقدم في الرقم (248) من الربع الأول: كتاب الطهارة: باب التيمم.

ص: 967

أَوْلادِي أَوْ عَلَى زَيدٍ، ثُمَّ نَسْلِهِ، وَلَمْ يَزِدْ، فَالأظْهَرُ صِحَّةُ الْوَقْفِ، لأنَّ مقصودَ الوقفِ الْقُرْبَةُ والدَّوَامُ فإذا بَيَّنَ مَصْرِفَهُ ابتداءً سَهُلَتْ إِدَامَتُهُ، وهذا هو المسمَّى منقطعُ الانتهاءِ، والثاني: بطلانُهُ؛ لأنهُ لم يُؤَبِّدْهُ ولم يردْهُ إلى ما يدوم فكان كالتأقيت، والثالث: إن كان حيوانًا صحَّ إذ مصيره إلى الهلاك فربما هلكَ قبل موت الموقوف عليه بخلاف العقار، فَإِذَا انْقَرَضَ الْمَذْكُورُ، فَالأظْهَرُ: أَنَّهُ يَبْقَى وَقْفًا، لأنَّ وَضْعَ الوقفِ الدَّوَامُ، والثاني: ينقطعُ الوقفُ ويعودُ مِلْكًا للواقفِ أو إلى ورثَتِهِ إنْ كانَ ماتَ، لأن إقرارَ الوقفِ بلا مصرف متعذرٌ، وإثباتُ مصرفٍ لم يتعرَّضْ لهُ الواقفُ بعيدٌ فَتَعَيَّنَ ارتفاعُهُ، وَأنَّ مَصْرِفَهُ أَقْرَبُ النَّاسِ إِلَى الْوَاقِفِ يَوْمَ انْقِرَاضِ الْمَذْكُورِ، لأنَّ الصَّدَقَةَ على الأقاربِ أفضلُ لما فيه من صلةِ الرَّحِمِ، فكان الصرفُ إليهم أهمُّ، فإنْ لَمْ يَكُونُوا، صُرِفَ إلى الفقراءِ قالهُ المتولّي وابنُ الصَّلاحِ، والمعتبرُ قُرب الرَّحمِ، وقيل: باستحقاق الإرثِ، وقيل: بالجوازِ، حكاهُ القاضي، والأظهرُ أنهُ يختصُّ بفقراءِ الأقاربِ، ومقابلُ الأظهرِ في كلام المصنِّفِ ثلاثةُ أقوالٍ؛ أحدُها: أنَّ مصرِفَهُ إلى المساكين، وثانيها: إلى المصالح العامَّةِ، وثالثها: إلى مستحقِّي الزكاةِ خاصَّة، وَلَوْ كَانَ الْوَقْفُ مُنْقَطِعَ الأَوَّلِ؛ كَوَقَفْتُهُ عَلَى مَن سَيُولَدُ لِي، فَالْمَذْهَبُ: بُطْلانُهُ، لأنَّ الأولَ باطلٌ لعدمِ إمكانِ الصرفِ إليهِ في الحالِ، والثاني: فرعُ الباطل، والطريق الثاني فيهِ قولانِ: وجهُ الصِّحَّةِ أنَّ الأوَّلَ لَمَّا بَطَلَ صَارَ كالمعدومِ وكان الثاني مبتدأً بِهِ وطريقُهُ القطعُ صَحَّحَهَا الجمهورُ، كما أفاده في المطلب فلهذا قَدَّمْتُهَا، والرافعي لم يصحِّحْ واحدًا من الطريقين، أَوْ مُنْقَطِعَ الْوَسَطِ؛ كَوَقَفْتُ عَلَى أَوْلادِي، ثُمَّ رَجُلٍ، ثُمَّ لِلْفُقَرَاءِ، فَالْمَذهَبُ: صِحَّتُهُ، هذا الخلاف مرتبٌ على منقطعِ الآخرِ، فإن صححناهُ، فهذا أَولى، وإلّا فوجهان أصحهما: الجوازُ، ويصرِف عند توسطِ الانقطاعِ إلى مَنْ صَرَفْنَاهُ إليهِ هناكَ؛ كما سبقَ بالخلافِ فيهِ، وَلَو اقْتَصَرَ عَلَى، قولِهِ: وَقَفْتُ، أي ولم يذكر الصرفَ، فَالأَظْهَرُ: بُطْلانُهُ، لأن جهالة المصرفِ مُبْطِلَةٌ فعدمُ ذكرها أَوْلى، والثاني: يصح كما لو قال: أوصيتُ بِثُلُثِ مَالي واقتصرَ عليهِ، فإنَّهُ يَصِحُّ ويصرفُ إلى الفقراءِ، واستشكلَ الرافعيُّ الفَرْقَ، وَفَرَّقَ في الروضةِ بأنَّ الوصيةَ مبنيةٌ على

ص: 968

المساهَلَةِ فيصحُّ بالمجهولِ بخلافِ الوقفِ، وَبِأَنَّ أغْلَبَ الْوَصَايَا للمساكينِ فَحُمِلَ المطلقُ عليهِ بخلافِ الوقفِ، وَلَا يَجُوزُ تَعْلِيقُهُ، كَقَوْلِهِ: إِذَا جَاءَ زَيدٌ فَقَدْ وَقَفْتُ، أي كذا على زيد ثُمَّ الفقراءِ كَالْهِبَةِ.

فَرْعٌ: قال: وَقَفْتُ دَارِي هَذِهِ عَلَى الْمَسَاكِينِ بَعْدَ مَوْتِي فَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ وَصِيَّةٌ.

وَلَوْ وَقَفَ بِشَرْطِ الْخِيَارِ، أي كما إذا شَرَطَ أن يرجع فيه أو يَبِيعُهُ مَتَى شَاءَ، بَطَلَ عَلَى الصَّحِيحِ، كَالصَّدَقَةِ، والثاني: يبطلُ الشَّرْطُ وَيَصِحُّ الوقفُ، وهو احتمال لابن سريج وحكاه الجوريُّ قولًا وكذا الَّذي قبله وقاس الثاني على من طَلَّقَ على أن لا رجعةَ، ونُقِلَ عن أبي يوسف وغيرُه أنَّ الوقفَ جائزٌ والشرطَ ثَابِتٌ، قال: وكذلكَ لو اشترطَ أنَّ لهُ بَيعُهُ إِذا عُطِبَ أو خربَ أو بطلتْ منافِعُهُ، وأنْ يُصْرَفَ ثَمَنُهُ في أرضِ غيرِهِ فيكونُ موقوفًا، أو شرطَ أنَّ لهُ بيعها إذا رأى الحظَّ في نقلهِ إلى موضع غيرهِ، فجميع ذلك جائز عندهم. قال: وهو قويٌّ، ثم زاد على ذلك فقال: له الاستبدالُ إذا رآهُ حَظًّا للوقفِ، وإن لم يشرط، وهذا غريبٌ منه، وَالأَصَحُّ: أَنَّهُ إِذَا وَقَفَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُؤَجَّرَ اُتُّبِعَ شَرْطُهُ، كسائِرِ الشُّرُوطِ لما فيه من وجوبِ المصلحةِ، والثاني: لا، لِتَضَمُّنِ الْحَجْرِ على مستحقِّ المنفعةِ، والثالث: إنْ مَنَعَ الزيادةَ على سَنَةٍ اتُّبِعَ، لأنَّهُ مِن مَصَالِحِهِ وإنْ مَنَعَ مُطْلَقًا فَلَا.

فَرْعٌ: لو شرط ألّا يؤجِّر أكثرَ من ثلاثِ سنينَ وصححناهُ وهو الأصحُّ فأجَّرَهُ النَّاظِرُ ثلاثًا في عقدٍ وثلاثًا قبل مضيِّ الْمُدَّةِ الأُولى لا يصحُّ الثاني، قاله ابن الصلاح اتِّباعًا لشرطِ الواقفِ وأَفتى أيضًا أنَّهُ إذا وَقَفَ بشرطِ أَنْ لا يُؤَجِّرَ أكثرَ من سَنَةٍ ولا يُورد عقدًا على عقدٍ فخربَ ولا يمكن عمارتُهُ إلَّا بإيجارِهِ سنتينِ أنَّهُ يصحُّ إيجارُهُ سنتينِ بعقودٍ متفرقةٍ، ولا يصحُّ بشرط ألّا يُدخل عقدًا على عقدٍ في هذه الحالة؛ لأنه يُفضي إلى تعطيلهِ فهو مخالفٌ لمصلحةِ الوقفِ.

وَأَنَّهُ إِذَا شَرَطَ فِي وَقْفِ الْمَسْجِدِ إخْتِصَاصَهُ بِطَائِفَةٍ كَالشَّافِعِيَّةِ اخْتُصَّ، أي فَلا يصلي فيه ولا يعتكفُ غَيرُهُمْ، كَالْمَدْرَسَةِ وَالرِّبَاطِ، رعايةً لغرضهِ وقطعًا

ص: 969

للنزاع، قال القاضي في آخر كتاب الجزيةِ: وهو مكروهٌ، والثاني: لا يَخْتَصُّ، لأَنَّ جَعْلَ الْبُقْعَةِ مَسْجِدًا كَالتَّحْرِيرِ، فَلَا مَعْنَى لاخْتِصَاصِهِ بِجَمَاعَةٍ وَهُوَ قَويٌّ، وقوله (كَالْمَدْرَسَةِ وَالرِّبَاطِ) أي فإنَّهُ إذا شَرَطَ في وقفهما الاختصاص اخْتَصَّ قطعًا، ثُمَّ الخلافُ إذا جعل مآله عند انقراضِ المذكورينَ إلى عامَّةِ المسلمينَ فإنْ لم يَتَعَرَّضْ لَهُ ففيهِ خلافٌ آخرُ لاحتمال انقراضها، قال في الروضة: وَالأَصَحُّ أَو الصَّحِيحُ الصِّحَّةُ.

وَلَوْ وَقَفَ عَلَى شَخْصَينِ، ثُمَّ الْفُقَرَاءِ فَمَاتَ أَحَدُهُمَا، فَالأَصَحُّ: الْمَنْصُوصُ، أي في حرملةٍ، أَنَّ نَصِيبَهُ يُصْرَفُ إِلَى الآخَرِ، لأنَّ شرطَ الانتقالِ إلى الفقراءِ انقراضَهُمَا جميعًا ولم يُوْجَدْ، وإذا امتنعَ الصرفُ إليهم فالصرفُ إلى مَن ذَكَرَهُ الواقفُ أَولى، والثاني: أنَّهُ يصرفُ إلى الفقراءِ؛ لأنَّ نَصِيبَهُمَا إذا انْقَرَضَا لَهُمْ، قال الرافعيُّ في شرحيه والْمُحَرَّرِ: والقياسُ وجهٌ ثالثٌ؛ وهو أنَّهُ لا يُصرفُ إلى صَاحِبِهِ ولا إلى المساكينِ بَلْ صَارَ الوقفُ في نصيبِ الْمَيِّتِ منقطعُ الوَسَطِ، وهذا الذي أبداهُ حكاهُ في شرحهِ يُعَدُّ وجهًا عن السَّرْخَسِيِّ في الكلامِ على مَا إذا وَقَفَ على أولادهِ بَطْنًا بعدَ بطنٍ وماتَ واحدٌ مِن الْبَطْنِ الأَوَّلِ.

فَصْلٌ: قَوْلُهُ: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلادِي وَأَوْلادِ أَوْلادِي، يَقْتَضِي التَّسْويَةَ بَينَ الْكُلِّ، أي بين الأولادِ وأولادِ الأولادِ، والتَّسْويَةُ بينَ أفرادِ كُلِّ مِنْهُمَا لأنَّ المعطوفَ شريكِ المعطوفِ عليهِ، هذا إذا قلنا الواو لمطلقِ الْجَمْع كما هُو الصَّحِيحُ، فإن قلنا إنها للترتيبِ وهو ما حكاه الماورديُّ في باب الوضُوءِ عن أكثر أصحابنا فَيُرَتَّبُ ولم يذكروهُ هنا، وقد أدخلَ المصنِّفُ الأَلِفَ وَاللَّامَ على (كُلٍّ) وقد أجازهُ الأخفش والفارسي واستعملهُ الزجاجي في الجُمَلِ كما استعملَهُ المصنِّفُ هنا. والجمهورُ على منعِهِ، وَكَذَا لَوْ زَادَ مَا تَنَاسَلُوا، أي فإنه يقتضي التسوية بين الكُلِّ أيضًا، والمرادُ عليهِمْ وَعَلَى أَعْقَابِهِمْ مَا تَنَاسَلُوا، أَوْ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ، أي فإنهُ يقتَضِي التسويةَ أيضًا، والجمهورُ على أنَّ هذا يقتضي الترْتِيبَ أيضًا، كما لو قال: الأعلى فالأعلى أو الأقربُ فالأقرب كما أوضحتُهُ في الأصل فراجعه، وما جزَمَ بِهِ المصنِّفُ تَبَعَ فيه الفورانيُّ والبغويُّ فقط.

ص: 970

فَرْعٌ: لو جَمَعَ بينهما فقال: وقفتُ على أولادي وأولاد أولادي ما تناسلوا بطنًا بعد بطنٍ، فأفتى الأستاذُ أَبُو طاهرٍ الزِيَادِيِّ والقاضي حُسين بأنه للترتيبِ وهو ظاهرٌ، وخالفَ أبُو عاصمِ العباديِّ والفورانيُّ ولم يذكر المصنفُ تبعًا للرافعي هذِهِ الصورةَ.

فَرْعٌ: لو قال: وقفتُ على ذُرِّيَّتِي أو نَسْلِي أو عقبي بطنًا بَعْدَ بطنٍ فينبغي أن يجيء فيه ما سَبَقَ.

فَرْعٌ: قوله: نسلًا بَعْدَ نسلٍ هل هو كقوله بطنًا بعد بطن؟ فيه نظر، وينبغي كما قال بعضُ المتأخرين: أن لا يكون للترتيبِ لأنَّ كُلَّ مَنْ وُجِدَ وإنْ كان مِن بطنينِ وأكثرَ يُسَمَّى نَسْلًا فيستحِقُّونَ ويكونونَ هُم النسل الأول، ومن لم يُوْجَدْ بَعْدَهُمْ النسلُ الثَّانِي إذا وُجِدُوا بِخِلافِ البطنِ فَإِنَّ لِلْعُرْفِ فيه دلالةٌ تَخُصُّ الطبقةَ الواحدةَ مِن النَّسْلِ.

وَلَوْ قَال: عَلَى أَوْلادِي، ثُمَّ عَلَى أَوْلادِ أَوْلادِي، ثُمَّ أَوْلادِهِمْ مَا تَنَاسَلُوا، أَوْ عَلَى أَوْلادِي وَأَوْلادِ أَوْلادِي الأعْلَى فَالأَعْلَى، أَو الأَوَّلِ فَالأَوَّلِ فَهُوَ لِلتَّرْتِيبِ، لأجل (ثُمَّ) في الأولى المقتضية للترتيب، وتصريحُهُ به لا الثَّانِيَةِ، وقوله (الأَوَّلِ فَالأوَّلِ) ضَبَطَهُ الْمُصَنِّفُ بِكَسْرِ اللَّامِ وَيَجُوزُ الْفَتْحُ أيضًا فالكسرُ إمَّا على البَدَلِ، وَإمَّا على إضمارِ فِعْلٍ أي وَقَفْتُهُ عَلَى الأَوَّل فَالأَوَّل والفتحُ إمَّا على الحالِ والأَلِفِ وَاللَّامِ قيل: زَائِدَةٌ، وقيل: معرفةٌ، وإما على أنهُ مُشَبَّه بالمفعولِ، وَلا يَدْخُلُ أَوْلادُ الأَوْلادِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الأَوْلادِ، فِي الأصَحِّ، لأنَّهُ لا يَقَعُ حقيقةً إلَّا على أَوْلادِ الصُّلْبِ، ألا تَرى أنَّهُ يَنتظِمُ أَنْ يُقَال: لَيسَ هَذَا وَلَدُهُ وَإِنَّمَا هُوَ وَلَدُ وَلَدهِ وهذا ما نصَّ عليه في البويطي، والثاني: يدخلُ لقوله تعالى {يَابَنِي آدَمَ} (190)، وخرَّجَهُ صاحبُ الإِفْصَاحِ قولًا وغَلَطَ فِيهِ، والثالث: يدخلُ أولادُ البنينِ للانتسابِ دُوْنَ أولادِ البناتِ، وهذا الخلاف عند الإطلاق؛ وقد يقترنُ بِاللَّفْظِ ما يقتضي الجزمَ بخروجهم

(190) الأعراف / 26 و 27 و 31 و 35.

ص: 971

كقوله: وَقَفْتُ عَلَى أَوْلادِي؛ فإذا انقرضُوا فَلأَحْفَادِي الثُّلُثُ والبَاقِي للفقراء، وقد يقترنُ به ما يقتضي الجَزْمَ بِدُخُولهِمْ كقوله: وقفتُ على أولادي وليسَ لهُ إلَّا أولاد أولاد فإنه يَتَعَيَّنُ حَمْلُ كلامِهِ عليهِمْ.

وَيَدْخُلُ أَوْلادُ الْبَنَاتِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ وَالنَّسْلِ وَالْعَقِبِ وَأَوْلادِ الأوْلادِ، كقوله تعالى:{وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيمَانَ} إلى أن ذكر {عِيسَى} (191) عليهم السلام وَلَيسَ هُوَ إِلَّا وَلَدُ الْبِنْتِ، وأما في أولاد الأولاد فلصدق الاسم عليهم، إِلَّا أَنْ يَقُولَ: عَلَى مَنْ يَنْتَسِبُ إِلَيَّ وَمِنهُمْ، أي فإنَّ أولادَ البناتِ لا يدخلونَ في أولادِ الأولادِ؛ وقيل: يدخلونَ لقوله عليه الصلاة والسلام في الحسن بن عليٍّ [إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ] أخرجهُ البخاري (192)، لكن مِنْ خَصَائِصِهِ عليه الصلاة والسلام أَنَّهُمْ يُنْسبونَ إِلَيهِ.

(191) الأنعام / 84 - 85. عَنْ عَاصِمِ بْنِ بَهْدَلَةَ؛ قَال: اجْتَمَعُوا عِنْدَ الْحَجَّاجِ؛ فَذُكَرَ الْحُسَينُ بْنُ عَلِيٍّ؛ فَقَال الْحَجَّاجُ: لَمْ يَكُنْ مِنْ ذُرِّيَّةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ وَعِنْدَهُ يَحْيَى بْنُ يَعْمَرَ؛ فَقَال لَهُ: كَذَبْتَ أَيُّهَا الأَمِيرُ؛ فَقَال: لَتَأْتِيَنِّي عَلَى مَا قُلْتَ بِبَيِّنَةٍ مِنْ مِصْدَاقٍ مِنْ كِتَابِ اللهِ أَوْ لأَقْتُلَنَّكَ؟ قَال: فَقَال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ} إِلَى قَوْلهِ تَعَالى: {وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى} [الأنعام / 84 - 85] فَأَخْبَرَ الله عز وجل أَنَّ عِيسَى مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ بأُمِّهِ، وَالحُسَينُ بْنُ عَلِيٍّ مِنْ ذُرِّيَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم بِأُمِّهِ. قَال: صَدَقْتَ؛ فَمَا حَمَلَكَ عَلَى تَكْذَيبِي فِي مَجْلِسِي؟ قَال: مَا أخَذَ الله عَلَى الأنْبِيَاءِ {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران / 187] قَال الله عز وجل: {فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} [آل عمران / 187]. فَنَفَاهُ إلَى خُرَاسَان. رواه البيهقي في السنن الكبرى: كتاب القرض: باب الصدقة في الذرية ومن يتناوله اسم الذرية: الأثر (12150).

(192)

عن الحسن البصريِّ؛ قال: سَمِعْتُ أبَا بَكْرَةَ يَقُولُ: رَأَيتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمِنْبَرِ -وَالحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ إِلَى جَنْبهِ- وَهُوَ يُقْبِلُ عَلَى النَّاسِ مَرَّةً وَعَلَيهِ مَرَّةٌ أُخْرَى وَيَقُولُ: [إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، وَلَعَلَّ الله أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَينَ فِئَتَينِ عَظِيمَتَينِ مِنَ المُسْلِمِينَ]. رواه البخاري في الصحيح: كتاب الصلح: باب قول النبي صلى الله عليه وسلم لِلْحَسَنِ بْنِ عَلى رضي الله عنهما: الحديث (7204).

ص: 972

فَائِدَةٌ: الْعَقِبُ؛ قال القاضي عياضُ: هُوَ وَلَدُ الرَّجُلِ الَّذِي يَأْتِي بَعْدَهُ.

وَلَوْ وَقَفَ عَلَى مَوَالِيهِ وَلَهُ مُعْتِقٌ، أي بكسرِ التَّاءِ، وَمُعْتَقٌ، أي بِفَتْحِهَا، قُسِمَ بَينَهُمَا، لتناول الاسم لهما، وَقِيلَ: يَبْطُلُ، لأنه وقفٌ على مجهولٍ، فإنَّ الْمَوْلَى يَشْمَلْهُمَا، ولا يمكنُ حَمْلُ اللَّفْظِ على العمومِ لاختلاف معناهُما، وما صحَّحَهُ المصنِّفُ هو ما صحَّحَهُ الأكثرونَ. والرافعيُّ في الْمُحَرَّرِ لَمْ يُرَجِّحْهٌ؛ بل قال: رَجَّحَ كُلًّا مُرَجِّحُونَ؛ وكذا فعل الحاوي الصغير والرافعيُّ في الشرح الكبير لم يصحِّحْ شيئًا؛ بَلْ نَقَلَ الأوَّلَ عن تصحيحِ صاحبِ التَّنْبِيهِ خاصَّةً، واقتصر في الشرح الصغير على عزو تصحيحِ البُطلانِ إلى الغزاليِّ ولم يذكرْ تصحيحًا عن غيره، والمسألةُ مبسوطةٌ في الأصل بفوائِدَ لا بُدَّ لكَ مِن مُرَاجَعَتِهَا، وَالصِّفَةُ الْمُتَقَدِّمَةُ عَلَى جُمَلٍ مَعْطُوفَةِ؛ تُعْتَبَرُ فِي الْكُلِّ كَوَقَفْتُ عَلَى مُحْتَاجِي أَوْلادِي وَأَحْفَادِي، أي وَهُمْ أوْلادُ الأوْلادِ، وَإخْوَتِي، وَكَذَا الْمُتَأَخِّرَةُ عَلَيهَا، وَالاسْتِثْنَاءُ إِذَا عُطِفَ بِوَاوٍ كَقَوْلهِ: عَلَى أَوْلادِي وَأَحْفَادِي، وَإِخْوَتِي الْمُحْتَاجِينَ أَوْ إِلَّا أنْ يَفْسُقَ بَعْضُهُمْ، لِمَا تَقَرَّرَ في الأصولِ مِن أنَّ الأصلَ اشتراكُ المعطوفِ والمعطوفِ عليهِ في جميع الْمُتَعَلِّقَاتِ كالصِّفَةِ وغيرها، وَكَذَا الاستثناءُ بجامع عدم الاستقلالِ، وَمَثَّلَ الإمامُ في الأصولِ الاستثناءَ بقولهِ: وَقَفْتُ عَلَى بَنِي فُلان دَارِي وَحَبَسْتُ عَلَى أقَارِبِي ضَيعَتِي وَسَبَّلْتُ عَلَى خَدَمِي بَيتِي إِلَّا أَنْ يَفْسُقَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وهو مثالٌ مطابقٌ. وَقَيَّدَ الإمامُ أيضًا ما ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ والأصحاب بِقَيدَينِ، وحُمِلَ إطلاقُ الأصحابِ على ذلك؛ أحدُهما: أنْ يكونَ العطفُ بالواو الجامعةِ كما مَثَّلَهُ المصنِّفُ، فإنْ كانَ بـ (ثُمَّ) اختصَّ الاستثناءُ والصفةُ بالأخيرة وَتَبِعَهُ عَلَى هَذَا الْقَيدِ الآمِدِيُّ في الإِحكام وابنُ الحاجبِ، ولم يذكرْ الأصحابُ حُكْمَ عطفِ بـ (لَكِنْ) وَبِـ (بَلْ) وَبِـ (أَوْ) وكذا لم يذكرُوا حُكْمَ الجُمَلِ بِغَيرِ عَطفٍ، نَعَمْ إِطْلاقُ الإِمَامِ فَخْر الدِّينِ يَشْمَلُهُ، والظاهرُ خِلافُهُ، لأنَّ بِتَرْكِ العَطْفِ لَا يَكُونُ بَينَهُمَا ارْتبَاطٌ، نَعَمْ ذَكَرَ الْبَيَانِيُّونَ أنَّ تَرْكَ العطفِ قَدْ يَكُونُ لِكَمَالِ الارْتبَاطِ؛ فإذا كانَ في مِثْلِ ذلكَ فالظاهرُ مَجِيءُ الخلاف فيه، والثاني: أن لا يَتَخَلَّلَ بين الجملتينِ كلامٌ طويلٌ، فَإِنْ تَخَلَّلَ كَوَقَفْتُ عَلَى أَوْلادِي، عَلَى أَن مَن مَاتَ مِنْهُمْ

ص: 973

وَأَعْقَبَ فَنَصِيبُهُ بَينَ أَوْلادِهِ لِلذكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأْنثيَينِ، وَإِلا فَنَصِيبُهُ لِمَنْ في دَرَجَتِهِ، فَإذَا انْقَرَضُوا صُرِفَ إلَى إِخْوَتِي فُلانٌ وَفُلانٌ الْفقَرَاء؛ إلا أَنْ يَفْسُقُوا؛ اختصَّ بِالْجُمْلَةِ الأخِيرَةِ، وَذَكَرَ النُّحَاةُ المسألَةَ، وَلَمْ يَخصُّوهَا بِالْجُمَلِ، بل قالوا: إذا عَقَبَ الاستثناءَ معمولات، والعاملُ فيها واحدٌ، نحو اهْجُرْ بَنِي فُلانٍ وَبَنِي فُلانٍ وَبَنِي فُلانٍ إِلا مَنْ صَلُحَ، كان الاستثناءُ راجعًا إلى تِلْكَ المعمولاتِ، وَكَذَا لو تَكَرَّرَ العاملُ والمعمولُ في صفةٍ واحدةٍ كقوله تعالى:{إلا الَّذِينَ تَابُوا} (193) فقال ابنُ مالكٍ: الْحُكْمُ كَالْحُكْمِ فِيمَا إِذَا اتحَدَ الْعَامِل، وقيل: لا يكونُ الاستثناءُ إلَّا مِنَ الْجُمْلَةِ التِى تَلِيهِ وَهُوَ بَعِيدٌ. فَصْلٌ: الأظْهَرُ: أَن الْمِلْكَ في رَقَبَةِ الْمَوْقُوفِ يَنْتَقِلُ إِلَى اللهِ تَعَالى؛ أَي يَنْفَكُّ عَنِ اخْتِصَاصِ الآدَمِيّ، فَلَا يَكُونُ لِلْوَاقِفِ وَلَا لِلْمَوْقُوفِ عَلَيهِ، هاتان مسألتان، الأولى: هل يزولُ مِلْكُ الواقفِ عن رقبةِ الموقوفِ؟ فيه تفصيلٌ؛ فإنْ جعل الأرض مسجدًا أو الأرضَ مقبرةً ونحوهُ فهو تَحْرِيرٌ لَا يَقتضِي تَمْلِيكًا كما جَزَمَ بِهِ الرافعيُّ، وقيل: يقتضيه. وإن كان الوقفُ على جهةٍ عامةٍ أو على مُعَيَّنٍ؛ وهي مسألةُ الكتاب: فقولان: أصحهما أنَّ المِلكَ ينتقلُ عن الواقف كالعتق، والثاني: لا بدليل اتِّبَاع شَرْطِهِ. الثانية: إذا فرَّعنا على الانتقال وهو الأظْهَرُ، فَإِلَى مَنْ يَنْتَقِلُ؟ فيه طرقٌ؟ أظهرُهَا: كما اقتصرَ عليه المصنِّفُ حكايةَ قولينِ أصحهُمَا أنهُ ينتقلُ إلى اللهِ تعالى، ومعناه انفكاكُهُ عَنِ اختصاصِ الآدمينِ كالعتق، والثاني: أنه ينتقلُ إلى الموقوفِ عليه كالصدقة، والثاني: القطع بالأول، والثالث: القطع بالثاني، وَمنافِعُهُ مِلْكٌ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيهِ؛ لأنَّ ذلك هو مقصودُ الوقفِ، يَسْتَوْفِيهَا بنَفْسِهِ أَوْ بِغَيرِهِ بإعَارَةٍ وَإِجَارَةٍ، كسائرِ الأمْلاكِ، اللَّهُمَّ إلا أَنْ يَكُونَ الْوَقْفُ على أَنْ يَسْكُنُهَا فَلَيسَ لَهُ الإسْكَانُ، وفي المنع مِن إِعَارَةِ بَيتِ الْمُدَرِّسِ في المدرسةِ الذي جعل لسكناهُ نظرٌ، وَيمْلِكُ الأجْرَةَ، أي فيما إذا أجَّرها عند الإطلاق لأنَّها من المنافع، وَفوائِدَهُ كَثَمَرَةٍ وَصُوفٍ وَلَبَنٍ،

(193) البقرة / 160، وآل عمران / 89، والنساء / 146، والمائدة / 34.

ص: 974

أي ويملكُ أيضًا فوائدَهُ المذكورةِ لأنَّ الوقف كذلك يَنْشَأ، ويملكُ الشَّعْرَ والوَبَرَ أيضًا، وكذا الريشَ والبَيضَ، ولا يملكُ أغصانَ الشجرةِ مع نَمَائِها إلا فيما يُعْتَادُ قَطْعُهُ كشجرةٍ، فأغصانُهَا كَثَمَرَةِ غيرها واستثنى الإمامُ أيضًا ما إذا شَرَطَ قطعَ أغصان الأشجارِ مع ثمرتِها، وَكَذَا الْوَلَدُ في الأصَحّ، كالثمرة، وَالثانِي: يَكود وَقْفًا، تبعًا لأُمِّهِ كولدِ الأضْحِيَةِ، والثالث: نَعَمْ لا وَلَدِ النعَمِ فَقَطْ، والرابع: أنه يُصرف إلى أقربَ الناسِ إلى الواقف ثمَّ ما ذكرناهُ لا الدارِ، والنَّسْلُ مَحِلُّهُ فيما إذا أطلقَ أو جَعَلَهُ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيهِ، أما لو وَقَفَ دَابَّة على رَكوبِ زيدٍ وَلَم يَشْرُطْ لَهُ الدَّرَّ وَالنسْلَ، فَالأوْجُهُ في الرَّافِعِيِّ أَنهُ لِلْوَاقِفِ، وَلَوْ مَاتَتِ الْبَهِيمَةُ اخْتَصَّ بِجِلْدِهَا؛ لأنه أَولى من غيره، فلو دبغَهُ ففي عودهِ وقفًا وجهان؛ قال المتوفى: أصحهُما العَودُ، وَلَهُ مَهْرُ الْجَارِيَةِ إِذَا وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ أَوْ نِكَاحٍ إِن صَحَّحْنَاهُ؛ لأنهُ من جملةِ الفوائدِ كالثمرة فَلَوْ وُطِئَتْ لَا بِشُبْهَةٍ وَلَا بِنِكَاحٍ، فَإِنْ كَانت مُكْرَهَة فَلَها الْمَهرُ ثُمَّ هُوَ لِلْمَوْقُوفِ عَلَيهِ، أَوْ مُطَاوعَة فَلَا على الصَّحِيح، وَهُوَ الأصَحُّ، أي صحَّةُ نكاحِهَا كإجارتها، ومقابله المنعُ لِمَا فِيهِ مِنَ النقْصِ وَرُبَّمَا مَاتت مِنَ الطْلْقِ فَيَفُوتُ حَقُّ الْبَطنِ الثانِي؛ فَعَلَى الأصَحِّ ولايَةُ تَزْويجِهَا تُخَرَّجُ عَلَى أقوالِ الملك.

وَالمذْهَبُ: أَنهُ لَا يَمْلِكُ، أي الموقوفُ عليه، قِيمَةَ العَبدِ الْمَوْقُوفِ إِذَا أتْلِفَ، أي سواء أَتلفَهُ أَجْنَبِيّ أو الواقِفُ أو الموقُوفُ عليهِ، بَلْ يُشْتَرَى بِهَا عبد لِيَكُون وَقْفًا مَكَانَهُ، مراعاة لغرضِ الواقِفِ من استمرارِ الثوابِ وتعليقِ حَق البطنِ الثاني، وما بعدهُ بِهِ، فإِنْ تَعَذَّرَ فَبَعْضُ عَبْدٍ؛ لأنه أقربُ إلى غَرَضِهِ، وهذا بخلاف الأضحية حيثُ لا يُشترى بقيمة مُتْلَفِهَا شَقْص لِتَعَذُّرِ التضْحِيَةِ بِهِ، والطريق الثاني: التخريجُ على أقوالِ مِلْكِ الرقبةِ إن قلنا لله تعالى اشترى بها عبدًا يكون وَقْفًا مكانه، فإنْ لم يوجدْ فبعضُ عبدٍ، وإن قلنا للموقوفِ عليه أو للواقفِ فالأصحُّ كذلك، والثاني: يصرفُ ملكًا إلى مَنْ حَكَمْنَا لَهُ بِمِلْكِ الرَّقَبَةِ، فإنها بدلُ مِلْكِهِ. وينتهي الوقفُ، ولم يُرَجِّحِ الرافعيُّ واحدًا من هذين الطريقين، وقال بعد حكايتهما: وأصحابُ الطريقين مُتفِقُونَ على أن الفَتْوَى بأنْ يُشترى عبد.

ص: 975

فَرْعٌ: إذا اشترى عبدًا وفضل من القيمة شيءٌ، فالمختار في الروضة: أنه يُشْتَرَى بِهِ شَقْصُ عَبْدٍ؛ وهُو ظاهرٌ؛ إِنْ لَمْ يَتَعَذرْ شِرَاؤُهُ.

فَرْعٌ: لا يجوزُ شراءُ عبدٍ بقيمةِ الجارِيَةِ ولا عكسُهُ، وكذا شراءُ الصَّغِيرِ بِقِيمَةِ الْكَبِيرِ عَلَى الأقْوَى في الروضة.

فَرْعٌ: إذا اشترى العبدَ فالأصحُّ في الروضة والشرح الصغيرِ: أنه لا بُد مِن إنشاءِ وَقْفِهِ، والخلافُ جارٍ في بَدَلِ المرهونِ إذا تَلَفَ، وصححَ فيه من زوائدهِ في الروضةِ أنهُ رَهْنٌ في ذِمَّةِ الْجَانِي؛ قال في المطلب: وذَكَرَ الماورديُّ والرويانيُّ تفصيلًا في بَدَلِ الأُضْحِيَةِ يظهرُ مجيئُهُ هُنا، وهو أنهُ إِنِ اشترى بعينِ القيمةِ أو في الذِّمَّةِ ونوى أنها أضحيةٌ لم يَحْتَجْ إلى إنشاء جَعْلِهَا أُضْحِيَةٌ، وإلّا فلا بُد مِنْ جَعْلِهَا أُضْحِيَة، قلتُ: وبهذا جزَم في الروضة تبعًا للرافعيِّ؛ أعْنِي في بَدَلِ الأضْحِيَةِ.

وَلَوْ جَفتِ الشجَرَةُ، أي وكذا لو قَلَعَهَا الرّيحُ، لَمْ يَنْقَطِع الْوَقْفُ عَلَى الْمَذْهَبِ، بَلْ يُنْتَفَعُ بِهَا جذْعًا، إدامةً للرقفِ في عَينِهِ، وقيل: ينقطعُ كما لو مَاتَ العبدُ فينقلبُ الْحَطَبُ مِلْكًا للواقفِ، وَقِيلَ: تُبَاعُ، لتعذر الانتفاع بشرطِ الواقفِ واختارَهُ في الْمُرشِدِ، وَالثَّمَنُ كَقِيمَةِ الْعَبْدِ، أي الْمُتلَفِ، ففي وجهٍ يُصْرَفُ إلى الموقوفِ عليهِ مِلْكًا، وعلى وجهٍ يُشترى بهِ شجرةً أو شقصَ شجرةٍ من جِنْسِهَا ليكونَ وَقفًا، قال الرافعي: ويجوزُ أنْ يُشترى به وَدِيٌّ يغرسُ موضعها، وقوله (عَلَى الْمَذْهَبِ) صوابُهُ على الأصَحّ كما عبَّر به في الْمُحَرَّرِ، وهو في الروضة، قال في الكفاية: وإنما ينتفع بإجارتها جذعًا إن لم يكن في استيفاءِ منفعتهِ استهلاكهُ، فإنْ كان فالأصحُّ أنها تكونُ للموقوفِ عليهِ.

وَالأصَحُّ: جَوَازُ بَيع حُصْرِ الْمَسْجِدِ إِذَا بَلِيَتْ وَجُذُوعِهِ إِذَا انكسَرَتْ وَلَمْ تَصلُحْ إلا لِلإحْرَاقِ، لِئَلَّا تضيعَ ويضيقَ المكانُ بها من غير فائدةٍ، فَتَحصِيلُ نُزْرٍ يَسِير مِنْ ثَمَنِهَا يَعُودُ على الواقِفِ أوْلى مِنْ ضَيَاعِهَا، ولا يدخلُ بذلك تحتَ بيع الوقفِ لأنها صارتْ في حُكْمِ المعدومةِ، وهذا الوجه صَحَّحَهُ المصنِّفُ تَبَعًا للرافعي، وهو

ص: 976

تَبِعَ الإمامَ؛ والمتولِّي لم يُصَحِّحْ في المسألةِ شيئًا، وكذا الماورديُّ وصاحبُ المهذبِ، والثاني: لا تُباع لأنها عَينُ الوَقْفِ، بل تُتركُ بحالِها أبدًا، كما لو وَقَفَ أرضًا فَخَرَبَتْ، واستبعدَهُ الإمامُ، لكنهُ الْمُصَحَّحُ في التهذيبِ والبيانِ، وبهِ جَزَمَ الْجُرْجَانِيُّ في شافيهِ حيث قال: ولو وقف حصيرًا أو جذوعًا على مسجدٍ فَبَلِيَ لم يَجُزْ بَيعُهُ وَلَا نَقلهُ إلى مسجدٍ آخرَ، لكن يُنتفَعُ بِهِ في تسقيفٍ أو طبخِ جص أو آجُر للمسجد. انتهى. أما إذا صلحت لأنْ ينتفعَ بِها في الوقفِ أدنَى انتفاع فيبقى قطعًا، فعلى الأول قالوا يصرفُ ثَمَنُهَا في مصالح المسجدِ، والقياسُ كما قال الرافعي: أن يُشترَى بِثَمَنِ الْحَصِيرِ حَصير، ولا يصرفُ إلى منفعةٍ أخْرَى، ويُشْبِهُ أَنْ يكونَ هو المرادُ لإطلاقِهم، والخلافُ جارٍ في الدَّارِ الْمُنْهَدِمَةِ وَالْمُشْرِفَةِ على الانهِدام؛ والجذع المشرف على الانكسارِ، قالهُ الرافعي ومقتضاهُ جوازُ البيعُ، وبه صرح الحاوي الصغير لكن المنقول: المنعُ كما أوضحتُهُ في الأصلِ، ونقلَهُ الإمامُ عن الأكثرينَ في المشرفةِ على الانهِدَامِ، وجميعُ ما ذكرنَاهُ في حُصُرِ المسجدِ، ونظائرها هو فيما إذا كانت موقوفةً على المسجدِ. أما ما اشتراهُ الناظرُ للمسجدِ أو وَهَبَهُ لَهُ وَاهِبٌ وَقَبِلَهُ الناظرُ فيجوزُ بيعُهُ عندَ الحاجةِ بلا خلاف كما نَقَلَهُ الرافعيُّ لأنه مِلْكٌ، قال في الروضة: هذا إذا اشتراهُ الناظرُ ولم يَقِفْهُ، فأما إذا وَقَفَهُ فإنهُ يصيرُ وَقْفًا قطعًا وتجري عليهِ أحكامُ الوقفِ.

وَلَو انْهَدَمَ مَسْجِدٌ وَتعَذَّرَتْ إِعَادتُهُ لَمْ يُبَعْ بِحَالِ، كالعبد إذا عُتق ثم زَمِنَ، وليس كجفاف الشجرةِ لِتَوَقع العمارةِ ولإمكانِ الصَّلاةِ في عَرَصَتِهِ، وكذا لو تَعَطلَ المسجدُ بِتَفَرُّقِ الناسِ عن البلدِ أو خَرَابِهَا فإنهُ لا يباعُ أيضًا بل إن لم يَخَفْ مِن أهلِ الفسادِ نَقْضُهُ لم يُنْقَضْ وإن خِيفَ نُقِضَ وَحُفِظَ نَقْضُهُ، وإن أراد الحاكمُ أن يُعَمِّرَ بهِ مسجدًا آخرَ جازَ وما كانَ أَقْرَبَ إليهِ فَهُوَ أَوْلى.

فَرْعٌ: قال الجرجاني في الشافي: لو وقفَ دابَّةً فَزَمِنَتْ، أو شجرةً فَجَفتْ، فقولان؛ أحدهما: لا تُباعُ كما لو وَقَفَ دارًا فَانهَدَمَتْ وَصَارَتْ بَرَّاحًا لا يُنتفعُ بِها، والثاني: تُباعُ ويُصرفُ ثَمَنُهَا إلى الموقوفِ عليهِ، لبطلانِ الانتفاع بالأصلِ رأسًا بخلاف الْبَرَاح، وحكَى القاضي أبو الطيب الخلافَ من غيرِ ترجيحٍ أيضًا لكنَّهُ حكاهُ

ص: 977

وجهينِ، وحَكَى الفورانيُّ وابنُ الصباغ أيضًا وزاد أَنهُ يَنْبَغِي إِذَا قُلنا تُبَاعُ أنْ يَكُونَ ثَمَنُهَا بِمَنزِلَةِ قِيمَةِ الْعَبْدِ الْمَوْقُوفِ إِذَا تَلِفَ وصَحَّحَ الْبَغَويُّ الْمَنْعَ.

فَصْلٌ: إِن شَرَطَ الْوَاقِفُ النظَرَ لِنَفْسِهِ أَوْ غَيرِهِ اُتُّبِعَ، لأنَّهُ الْمُتَقَرِّبُ بِصَدَقَتِهِ فَهُوَ أَحَقُّ مَن يَقُومُ بِإِمْضَائِهَا وَصَرْفِهَا إلى مَصَارفِهَا وَمَنْ نَصبهُ لِذَلِكَ كَانَ أَحَق بِهِ مِنْ غَيرِهِ (194)، وَإِلا، أي وإنْ لم يشرط شيئًا، فَالنَّظَرُ للْقَاضِي عَلَى الْمَذْهَبِ، مجموعُ ما حكى الرافعيُّ في هذه المسألة ثلاثُ طُرُق: الأولى: أنهُ للواقفِ؛ ونقلها عن كثيرينَ. وثانيها: أنَّ فيه ثلاثَةَ أوجهٍ أحدُها: أنهُ لَهُ؛ لأنهُ لم يَصْرِفِ النظَرَ عَنْهُ، وثانيها: أنهُ للموقوفِ عليهِ لأنه المنتفعُ، وثالثها: أنهُ للحَاكِمِ لأنَّ لَهُ النظَرَ العَامَّ. الثالثة: أن يبنى على أقوال الملك والأظهر أنه لله تعالى كما تقدم، فالنظرُ للقاضي قال الرافعي: وهو الذي يقتضي كلامَ الْمُعْظَمِ الْفَتْوَى بِهِ.

فَرْعٌ: لو شرط الواقفُ النظرَ للحاكِمِ هل يُشَارِكُهُ الإمَامُ؟ فيه نظرٌ.

وَشَرْطُ النَّاظِرِ، أي وَاقِفًا كانَ أو غَيرَهُ، العَدَالةُ؛ وَالْكِفَايَةُ؛ وَالاهْتِدَاءُ إِلَى التصَرُّفِ، كما في الوصيِّ لأنهَا ولايَةٌ على الغَيرِ، وقوله:(وَالاهْتِدَاءُ إِلَى التَّصَرُّفِ) هُوَ بَيَانٌ لِمَا أجْمَلَهُ مِنَ الْكِفَايَةِ، فَإِنَّ مَنْ لَا يَهْتَدِي إِلَى التَّصَرفِ لَا يَكُونُ كَافِيًا.

فَرْعٌ: لَوْ فَسَقَ الناظرُ ثُمَّ صارَ عَدْلًا عادَتْ ولايتُهُ إنْ كانتْ لهُ بشرطِ الواقفِ، وَإِلا فَلَا؛ قالهُ المصنِّفُ في فتاويهِ.

فَرْعٌ: قبولُ المتولي ينبغي أن يجيء فيه ما في قبولِ الوَكِيلِ والموقوفِ عَلَيهِ قالهُ الرافعيُّ، وَوَظِيفَتُهُ، أي عندَ الإطلاقِ، الْعِمارَةُ وَالإجَارَةُ وَتحصِيلُ الْغَلَّةِ وَقِسْمَتُهَا، على وجهِهِ، وكذا حِفْظُ الأصولِ والغَلاتِ على الاحتياطِ، لأنَّهُ المعهودُ في مثلهِ،

(194) لحديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: عَنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَال: [المسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِم]. رواه البيهقي في السنن الكبرى: باب الصدفة على ما شرط الواقف: الحديث (12151). وأخرجه الترمذي في الجامع: كتاب الأحكام: الحديث (1352)، وقال: حديث حسن صحيح.

ص: 978

والتولية للمدرس وكذا تقديرُ الْجَامَكِيَّةِ، فَإن فَوَّضَ إِلَيهِ بَعْضَ هَذِهِ الأمورِ لَمْ يَتَعَدهُ، اتباعًا لشرطهِ.

فَرْعٌ: إذا ادَّعَى متولِّي الوقفِ صرفَهُ إلى مستحقِّهِ وهو مُعَيَّن فالقولُ قولُ المستحقِّ ولهُ المطالبهُ بالحسابِ فإن كان غيرَ مُعَيَّنِ فهل للإمامِ مطالبته بالحسابِ، فيه وجهان حكاهما القاضي شُريح في آداب القضاء.

وَللْوَاقِفِ عَزْلُ مَنْ وَلاهُ وَنَصْبُ غَيرِهِ، كما يُعزل الوكيل، إلا أَن يُشْتَرِطَ نَظَرَهُ حَال الْوَقْفِ، أي فإنه ليس للواقف عزلُهُ، قال الرافعي: ويشبه أنْ تكون المسألةُ مصورةً في التولية بعدَ تمامِ الوقفِ دونَ ما إذا وقفَ بشرطِ أن تكون التوليةُ لفلان وما قاله مُتَعَين، وَإِذَا أَخرَ النَّاظِرُ فَزَادَتِ الأجْرَةُ في الْمُدَّةِ أَوْ ظَهَرَ طَالبَ بِالزِّيَادَةِ لَمْ يَنْفَسِخ الْعَقْدُ في الأصَح؛ لأن العقدَ جرَى بالغبطةِ في وقتهِ فَأَشبهَ ما إذا باعَ الوليُّ مال الطفلِ ثم ارتفعت القيمةُ بالأسواقِ أو ظَهَرَ وطالبَ بالزيادةِ، والثاني: ينفسخُ لأنهُ تَبَيَّنَ وُقوعهُ على خلافِ الغبطةِ في المستقبلِ فينفسخُ بنفسهِ وفيه احتمالٌ للإمامِ، والثالث: إنْ كانت الإجارَةُ سَنَةً فما دُونها لم يتأثرِ العقدُ، وإن كانت أكثرَ فالزيادةُ مردودةٌ، ومحِلُّ الخلافِ عند إلامامِ إذا تغيرت الأجرة بكثرة الطالبينَ، أما إذا وجد زبونًا يزيدُ على أجرةِ المثلِ فلا أثرَ لهُ وغيرُهُ فَرَضَهُ كما في الكتاب، واحترز بالناظرِ عما إذا أجَّر الموقوف عليه بحكم الملك وجوزناه فزادت الأُجرة في المدَّةِ أو ظَهَرَ طالب بالزيادةِ فإنَّ العقدَ لا ينفسخُ قطعًا كما لو أجَّرَ الملك الطَلْقَ، قال الإمامُ: ولو كانَ أجَّرَهُ بدونِ أُجْرَةِ المثلِ؛ لأنَّ لَهُ إِعَارَتَهُ.

فُرُوعٌ مَنثورَةٌ نَخْتِمُ بِهَا الْبَابَ: قال الدارمي في الاستذكار: إنْ شَرَطَ أنَّ لهُ بيعه أو نقضه والاستبدال به وبما شاءَ منهُ بطل، إلَّا أنْ يحكُمَ به حَاكِم يجوزُ حكمهُ، ولو حكم حاكم ببطلان وقف الْمُشَاع نُقِضَ؛ نقلَهُ الدارميُّ عن ابن القطان، ولو وقف على مسجدٍ يعمره ويشتري كُل سَنَةٍ كذا ويعمرُ بكذا ويُسْتَزَادُ في غَلَّتِهِ صَحَّ، نقلَهُ عَنْهُ أيضًا، وإذا اشترى شيئًا فاسدًا فوقفه لم يصح خلافًا لأبي يوسف ومحمد بن

ص: 979

الحسن، وإذا حصل مال كثير من غَلةِ المسجدِ أعد منهُ قَدْرَ مَا لَوْ خَربَ المسجدُ أعيدَتْ بِهِ العمارةُ والزائدُ يشتري به ما فيه للمسجد زيادةُ غَلتِهِ قالهُ ابنُ كج، والموقوف لعمارةِ المسجدِ لا يُشترى به شيء أصلًا؛ لأنَّ الوَاقِفَ وَقَفَ على العمارةِ، أفتى به القفالُ، وقال الدارمي: إذا فضل من غَلةٍ للوقف عن نَفَقَةِ المسجدِ؛ قال ابن القطان: قال ابن أبي هريرة: يُوْقَفُ حَتى يُحْتَاجَ، قال ابن القطان: يُزاد في غَلَّتِهِ إذا كان في الشرط إذا لم تكْفِهِ الغَلةُ تُمَّمَ مِن بيتِ المالِ، وفي فتاوى الغزالي: إذا اشترى الحاكمُ للمسجدِ من غَلتِهِ وَقْفًا عَقَارًا يكونُ طَلْقًا إلا إذا وقفهُ الحاكمُ على المسجدِ ورأى ذلك صوابًا فيصيرُ وقفًا فإنا بمجرد الشراءِ لا نجعله وقفًا، وفروع الباب كثيرة ومنتشرة وقد ذكرنا في الأصل ها هنا فروعًا مهمة بلغت أوراقًا فسارع إليها ترشد والله المعين.

ص: 980