الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسالة السادسة: إلى حمد بن عبد العزيز
…
الرسالة السادسة (1) : قال جامع الرسائل
وله أيضاً-قدّس الله روحه ونوّر ضريحه- رسالة إلى الشيخ حمد بن عبد العزيز (2) . وقد كان كتب له-أعني الشيخ حمد- رسالة ذكر له فيها أنّ الغربة اشتدّت، وأنّه قد أنكر عليه الفتوى بحل ما أخذ في درب العقير (3) مع العسكر والزوار. فأجابه بما نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم حمد بن عبد العزيز، سلّمه الله تعالى، وهداه، وألهمه رشده وتقواه، آمين. فضل الغربة. سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأحمد إليك الله الذي لا إله إلاّ هو، وإن أتى الهر بمرّ القضاء. والخط وصل، وصلك الله بحبله المتين، ونظّمك في سلك أنصار الملّة والدين. وقد عرفت أنّ الله ليس كمثله شيء في أفعاله وقضائه، كما أنه ليس كمثله شيء في ذاته وصفاته (4) .
(1) هذه الرسالة ساقطة في (ب) . وقد وردت في: الدرر السنيّة، 7/164-170.
(2)
تقدمت ترجمته ضمن تلاميذ الشيخ، ص92، فهو التلميذ (24) .
(3)
درب العقير: هو جهة ساحلية في سنجق الحسا. وفيه ميناء العقير، ويمتدّ على البحر.
انظر: دليل الخليج، القسم الجغرافي، تأليف ج. ج لورمير، ترجمة المكتب الثقافي، لحاكم قطر، دار العربية للطباعة والنشر، بيروت، 1390هـ/1970م، 5/2582.
(4)
هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة، والذي اتفق عليه السلف الصالح، أنّ الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته، ولا في أفعاله. وهو الذي يدل عليه قوله تبارك وتعالى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى:11] . شرح عقيدة الطحاوية: ص39.
وهذه الحوادث العظام التي هدمت أركان الإسلام، لله فيها سِرٌ وحكمة بالغة، يطلع من شاء من عباده على عنوان وأنموذج من سرّ القدر والقضاء، وأكثر الناس في خفارة1 جهله، وكثافة طبعه، كالبعير الذي يعقله أهله، ثم يطلقونه، لا يدري فيما عُقل؟ ولا فيما أطلق؟
وتذكر أنّ الغربة (2) اشتدّت، والأمر كما وصفت، وأعظم مما إليه أشرت، ولكن ليكن لك على بال ما ورد في فضل الغرباء ووصفهم (3) . فاغتنم نصرة الإسلام،
1 الخفارة: تطلق على الحماية والوفاء، وتطلق على الغدر والخيانة، والمراد هنا الثاني.
لسان العرب، 4/253، مادة (خفر) .
(2)
يشير هنا إلى غربة الدين الإسلامي، التي تزداد يوماً بعد يومٍ إلى قيام الساعة، وهي ما أشار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عمر-رضي الله عنهما-بقوله:" إنّ الإسلام بدأ غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، وهو يأزر بين المسجدين كما تأزر الحية في جحرها". صحيح مسلم بشرح النووي، 2/536، الإيمان، باب (بيان أنّ الإسلام بدأ غريباً. إلخ) . سنن الترمذي، 5/18، الإيمان، باب (ما جاء أنّ الإسلام بدأ غريباً) .
(3)
فضل الغرباء: ورد في فضل الغرباء ووصفهم، أحاديث عدّة، منها:
أ-حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم" بدأ الإسلام غريباً وسيعود كما بدأ غريباً، فطوبى للغرباء". صحيح مسلم بشرح النووي، 2/536. سنن ابن ماجة، 2/376، الفتن، باب (بدأ الإسلام غريباً) .
وقد ذكر الإمام النووي-رحمه الله-في معنى قوله."طوبى للغرباء"، عدّة أقوال؛ عن ابن عباس –رضي الله عنهما-أنّ معناه: فرح، وقرة عين؛ وقال عكرمة: نعم ما لهم؛ وقال الضحاك: غبطة لهم؛ وقال قتادة: حسنى لهم، وعنه: أصابوا خيراً؛ وقال إبراهيم: خير لهم وكرامة؛ وقال ابن عجلان: دوام الخير؛ وقيل الجنة؛ وقيل: شجرة في الجنة. قال: وكلّ هذه الأقوال محتملة. شرح صحيح مسلم، للنووي، 2/534-535) .
وقال ابن الأثير-رحمه الله:" طوبى: اسم الجنة، وقيل: شجرة فيها". النهاية لابن الأثير، 3/141) .
ب-أخرج الترمذي في سننه-في صفة الغرباء-عن طريق كُثير بن عبد الله، عن أبيه، عن جدّه:"
…
إنّ الدين بدأ غريباً، ويرجع غريباً، فطوبى للغرباء، الذين يصلحون ما أفسد الناس من بعدي من سنّتي". قال الترمذي: هذا حديث حسن، صحيح. سنن الترمذي، 5/19-20. قال ابن الأثير-رحمه الله-في معنى الحديث:" أي أنه كان في أول أمره، كالغريب الوحيد الذي لا أهل له عنده؛ لقلة المسلمين يومئذٍ، وسيعود غريباً كما كان: أي يقلُّ المسلمون في آخر الزمان، فيصيرون كالغرباء. فطوبى للغرباء: الجنة لأولئك المسمين الذين كانوا في أوّل الإسلام، وإنّما خصهم بها؛ لصبرهم على أذى الكفار أولاً وآخراً، ولزومهم دين الإسلام". النهاية لابن الأثير، 3/348. وجاء عند ابن ماجة:" قيل: ومن الغرباء؟ قال:" النُّزَّاع من القبائل". سنن ابن ماجة، 2/376.
قال ابن الأثير:" (النُّزَّاع من القبائل) : هم جمع نازع ونزيع، وهو الغريب الذي نزع عن أهله وعشيرته، أي بَعُدَ وغاب.
والدعوة إليه، ونشره وتعريفه وتقريره؛ في كل مجلس ومجمع. فإنّ أكثر الناس قد ضلّ عنه، ولا يدري عن حقيقته ومسمّاه. وقد وقع ذلك ممن ينتسب إلى الدين، ونسي ما كان عليه من تقرير التوحيد وأدلّته، وجاء بما يناقضه، ويقوِّي عضد الشرك، ويقتضي نصرة أعداء الملة والدين. وقد بلغنا عن عبد الرحمن الوهيبي وأمثاله، بعد ذهابه إليهم، ما تصان عن ذكره الأسماع، وصار يعترض على من أنكر طريقته وذمّها، ويزعم أنه قد خالف طريقة الشيخ محمد بن عبد الوهاب، وصرّح بمسبّة من أنكر عليه، ونسبه إلى موالاتهم؛ فالذي يجادل عنه داخل في عموم قوله تعالى:{وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} (1) .
وكذلك ما ذكرت عن الذي أنكر عليكم الفتوى بحلّ ما أخذ في درب العقير، من العسكر والزوار؛ فلا يصدر هذا الإنكار إلاّ عن جهل بحقيقة الإسلام وقواعده الكبار.
وسريّة ابن الحضرمي (2) ، في عهده صلى الله عليه وسلم، مشهورة معروفة، وهي
(1) سورة غافر: الآية (5) .
(2)
ابن الحضرمي: هو عمرو بن الحضرمي، (والحضرمي) اسمه: عبد الله بن عباد، ويقال: مالك ابن عباد، الصدف، كان من أشراف كفار قريش. رماه واقد بن عبد الله التميمي بسهم، فقتله سنة (52هـ) ، إذ كان في عير قريش وتجارتهم. فكان أول دم –من الكفار-أهريق في الإسلام.
وكان قاتله (واقد بن عبد الله) أحد الثمانية من المهاجرين الذين خرجوا في سريّة عبد الله ابن جحش، الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتب له كتاباً، وأمره ألاّ ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه، فيمضي لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحداً. فلمّا سار بهم يومين، فتح الكتاب، فإذا فيه:" إذا نظرت في كتابي، فامض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف، فترصّد بها قريشاً، وتعلم لنا أخبارهم"، فقال: سمعاً وطاعة، ففعل، وتبعه أصحابه. انظر قصته: سيرة ابن هشام، 2/601-603. البداية والنهاية، 3/247-249.
أما نسبة المصنف هذه السريّة لابن الحضرمي، فلعل ذلك لكونه أول دم أهريق في الإسلام من الكفار، فاشتهرت به السَّرِيَّة التي قتل فيها. أو لأنه كان يستدلّ بهذه السَّرِيَّة على حال ما أخذ من عسكر الكفّار.
أوّل دم أهريق في الإسلام. وقصدت عير قريش، وقريش في ذلك الوقت -مع كفرهم وضلالتهم- أهدى من كثير من العسكر والزوار، من الرافضة بكثير (1) . فكيف وقد بلغ شركهم إلى تعطيل الربوبية، والصفات العليّة، وإخلاص العبادات للمعبودات الوثنيّة، ومعرضة الشريعة المحمديّة، بأحكام الطواغيت، والقوانين الإفرنجية؟ فمن جادل عمّن خالط هؤلاء ودخل لهم في الشورى، وترك الهجرة إلى الله ورسوله، وافتتن به كثير من خفافيش البصائر، فالمجادلة فيه، وفي حلّ ما أخذ من العسكر والزوار، لا يدري ما الناس فيه من أمر دينهم، فعليه أن يصحح عقيدته، ويراجع دين الإسلام من أصله، ويتفطّن في النزاع الذي جرى بين الرسل وأممهم (2) في أي شيء،
(1) إن كفار قريش كانوا أهدى من أولئك، بل من مشركي اليوم؛ إذ غنّهم كانوا إذا مستهم ضرّاء، لجأوا إلى ربهم بالدعوة الخالصة، إلى أن ينجيهم الله، ذم يعودون إلى شركهم، كما أخبر بذلك في كتابه العزيز؛ قال تعالى:{فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] .
أما المشركون اليوم، فإنّهم أثناء المصائب أشدّ بعداً عن الله تعالى، فتجدهم حينئذٍ يستغيثون بالمشايخ والأولياء، بل بأسماء الجان، ونحو ذلك، ويعطّلون الربوبية والألوهية في السرّاء والضرّاء، بتعطيلهم صفات الله تعالى، نفياً وتأويلاً.
(1)
إنّ أصل النزاع الذي كان بين الرسل وأممهم، كان في دعوتهم لهم على عبادة الله وحده لا شريك له، وإخلاص ذلك له، وهذا هو المعروف بتوحيد الله بأفعال العباد، المعبّر عنه: بتوحيد الألوهية، أو توحيد الطلب والقصد، أو توحيد العبادة فهذا الذي أوقع الرسل في النزاع والجدال بينهم وبين أممهم حتى قالوا – كما حكى القرآن الكريم عنهم-:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] . ومن أجله شرع الجهاد؛ إذ إنّهم كانوا معترفين بربوبيّة الله، كما قال تعالى:{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [الزخرف:87] . وقوله تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت:61] .
ومع ذلك لم يدخلهم اعترافهم ذلك بالربّ، في الإسلام، ولم يدفع عنهم القتال، ولم يعصم لهم دماء ولا أموالاً، إلى أن يقولوا: لا إله إلا الله.
وبأي شيء، {وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً} (1) .
والذي أوصيك به، الثبات والغلظة على هؤلاء الجهلة، الذين يسعون في هدم أركان الإسلام، ومحو آثاره. وبلّغ سلامنا من لديك من الإخوان وسلام. وصلى الله على محمد وآله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
(1) سورة الفرقان: الآية (31) .