المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الرسالة السادسة عشر: إلى محمد بن راشد الجابري - عيون الرسائل والأجوبة على المسائل - جـ ١

[عبد اللطيف آل الشيخ]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌القسم الأول: الدراسة

- ‌الباب الأول: عصر المؤلف وحياته

- ‌الفصل الأول: عصر المؤلف

- ‌المبحث الثالث: الحالة الدينية

- ‌المبحث الأول: الحالة السياسية

- ‌المبحث الثاني الحالة الاجتماعية

- ‌الفصل الثاني: حياة المؤلف

- ‌المبحث الأول: اسمه ونسبه

- ‌المبحث الثاني ولادته وأسرته

- ‌المبحث الثالث صفاته الذاتية والفكرية

- ‌المبحث الرابع نشأته العلمية ورحلاته

- ‌المبحث الخامس شيوخه

- ‌المبحث الساس: تلاميذه

- ‌المبحث السابع ثقافته وإنتاجه العلمي

- ‌المبحث الثامن عقيدته

- ‌المبحث التاسع أعماله ووظائفه

- ‌المبحث العاشر حياته السياسية

- ‌المبحث الحادي عشر وفاته والمرثيات التي قيلت فيه

- ‌المبحث الثاني عشر: ثناء علمائه عليه

- ‌الباب الثاني: دراسة الكتاب

- ‌الفصل الأول: التعريف بالكتاب

- ‌المبحث الأول: عنوان المخطوط

- ‌المبحث الثاني ترجمة جامع الرسائل

- ‌المبحث الثالث توثيق نسبة الكتاب إلى المؤلف

- ‌المبحث الرابع موضوع الكتاب

- ‌المبحث الخامس وصف النسخة الخطية والمطبوعة

- ‌الفصل الثاني: دراسات تقويمية للكتاب

- ‌المبحث الأول: منهج المؤلف في الكتاب

- ‌المبحث الثاني مصادره

- ‌المبحث الثالث قيمة الكتاب

- ‌القسم الثاني: تحقيق النص

- ‌مقدمة جامع الكتاب

- ‌الرسائل الخاصة بعقيدة التوحيد والاتباع وما ينافيها من الشرك والابتداع

- ‌الرسالة الأولى: إلى عبد العزيز الخطيب

- ‌مدخل

- ‌فصل في معنى الظلم والمعصية والفسوق والفجور

- ‌الأصل الأول: أن السنة والأحاديث النبوية هي المبينة للأحكام القرآنية

- ‌الأصل الثاني: أن الإيمان أصل، له شعب متعددة

- ‌الأصل الثالث: حقيقة الأيمان

- ‌الأصل الرابع: أنواع الكفر

- ‌الأصل الخامس: لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمى مؤمنا

- ‌مسألة في من يعمل سنة ختمة في ليلة مولد النبي صلى الله عليه وسلم هل ذلك مسنون أو لا

- ‌مسألة: في النوم في المسجد

- ‌الرسالة الثانية: إلى إبراهيم بن عبد الملك

- ‌تقديم جامع الرسائل

- ‌المسألة الأولى: الإنكار على من كفر أناسا شمتوا بانتصار أعداء المسلمين عليهم

- ‌المسألة الثانية: في حظر الإقامة حيث يهان الإسلم ويعظم الكفر

- ‌المسألة الثالثة: حكم تصرف الوالد في مال ولده الصغير

- ‌المسألة الرابعة: حكم تملك الوالد جميع مال ولده

- ‌المسألة الخامسة: إذا كان لرجل على آخر دين مثل الصقيب يكون له الدين الكثير يصطلحان بينهما

- ‌الرسالة الثالثة: إلى إبراهيم بن عبد الملك

- ‌الرسالة الرابعة: إلى محمد بن علي آل موسى

- ‌الرسالة الخامسة: إلى حسن بن عبد الله

- ‌الرسالة السادسة: إلى حمد بن عبد العزيز

- ‌الرسالة السابعة: إلى أهل الفرع

- ‌الرسالة الثامنة: نصيحة إلى كافة المسلمين

- ‌الرسالة التاسعة: إلى محمد بن عجلان

- ‌الرساة العاشرة: إلى عبد الله بن عبد العزيز الدوسري

- ‌التوصية بلزوم الكتاب والسنة

- ‌الرسالة الحادية عشرة: إلى أهل عنيزة

- ‌فتنة القبور والتوسل بالموتى

- ‌الرسالة الثانية عشرة: إلى علي بن أحمد بن سلمان

- ‌قول العلماء في الجهمية والرد عليهم

- ‌تفضيل القبورين للقبور على الكعبة

- ‌الرسالة الثالثة عشرة: إلى زيد بن محمد

- ‌المسألة الأولى: عن قول الله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ

- ‌ المسألة الرابعة: عن قوله صلى الله عليه وسلم في الدعاء المشهور: " إلى من تكلني إليه، إلى بعيد يتجهمني

- ‌المسألة السادسة: عن قوله تعالى: {قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا

- ‌الرسالة الرابعة عشرة: محمد بن عون

- ‌الرسالة الخامسة عشرة: إلى صالح محمد الشثري

- ‌الرسالة السادسة عشر: إلى محمد بن راشد الجابري

- ‌الرسالة السابعة عشرة: إلى عبد الله بن معيذر

- ‌حول كتاب الإحياء للغزالي

- ‌[فصل] في بيان أشياء مهمة، أنكرت على أبي حامد:

- ‌الرسالة الثامنة عشرة: إلى صالح بن عثمان بن عقيل

- ‌الرسالة التاسعة عشرة: إلى الإمام فيصل

- ‌الرسالة العشرون: إلى زيد بن محمد آل سليمان

- ‌الرسالة الحادية والعشرون: إلى زيد بن محمد آل سليمان

- ‌الرسالة الثانية والعشرون: إلى محمد بن علي آل موسى، وإبراهيم بن راشد، وإبراهيم بن مرشد

- ‌الرسالة الثالثة والعشرون: إلى الإخوان محمد بن علي وإبراهيم بن راشد

- ‌الرسالة الرابعة والعشرون: إلى حمد بن على وإبراهيم بن مرشد

- ‌الرسالة الخامسة والعشرون: إلى أبراهيم بن راشد وإبراهيم بن مرشد

- ‌الرسالة السادسة والعشرون: إلى الشيخ حمد بن عتيق

- ‌الرسالة السابعة والعشرون: إلى من وصل من المسلمين

- ‌الرسالة الثامنة والعشرون: إلى عبد الله بن نصير

الفصل: ‌الرسالة السادسة عشر: إلى محمد بن راشد الجابري

‌الرسالة السادسة عشر: إلى محمد بن راشد الجابري

(الرِّسَالَةُ السَادِِسَةُ عَشَرَةِ)

قال جامع الرسائل:

وله أيضاً /-قدس الله روحه ونوّر ضريحه-/2 رسالة، جواباً لمسائل وردت عليه من محمد بن راشد الجابري.

الأولى: فيمن آمن بلفظ الاستواء ولكن نازع في المعنى، وزعم أنه /هو/3 الاستيلاء.

الثانية: عن رفع اليدين بالدعاء في الصلاة.

الثالثة: عن الفطرة عن صوم رمضان.

الرابعة: عن الابتداء بفاتحة الكتاب كلَّما أراد تلاوة القرآن.

الخامسة: عن الرجل الذي يخالط أهل بلدته ومحلته، ويرجو بمخالطتهم أن يجيبوا إلى الإسلام وإلى السنة، ويتركوا ما هم عليه من شرك أو بدعة أو فواحش.

السادسة: البداءة بالسلام على الكافر.

فأجاب /رحمه الله/4 بما نصه:

بسم الله الرحمن الرحيم

من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المكرم محمد بن راشد الجابري –سلّمه الله تعالى- سلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛ وبعد:

1 في (ب) جاءت هذه الرسالة في ص 184-191. وررد هذه الرسالة في الدرر السنية 3/327-332.

2 في (د) : رحمه الله تعالى وعفى عنه.

3 ضمير الغائب ساقط في (ب) و (د) .

4 ساقط في (ب) و (ج) و (د) والمطبوع.

ص: 371

فنحمد إليكم الله، الذي لا إله إلاّ هو، وهو للحمد أهلٌ، وهو على كل شيء قدير. والسؤالات وصلت.

فأما السؤال الأول: فيمن آمن بلفظ الاستواء الوارد في كتاب الله، لكن نازع في المعنى، وزعم أنه الاستيلاء:

فهذا جهميّ1 معطّلٌ، ضالٌ، مخالفٌ لنصوص الكتاب والسنة، وإجماع سلف الأمة؛ وهذا القول هو المعروف عند السلف، عن جهم وشيعته الجهمية؛ فإنهم لم يصرحوا بردّ ألفاظ القرآن، كالاستواء، وغيره، من الصفات؛ وإنما خالفوا السلف في المعنى المراد.

وقولهم هذا، لا يعرف في المسلمين، إلاّ عن الجهم بن صفوان، تلميذ الجعد بن درهم؛ وكان الجعد قد سكن حرّان، مخالط الصابئة واليهود، وأخذ عنهم من المقالات والمذاهب المكفِّرة، ما أنكره عليه كافة أهل الإِسلام، وكفَّروه بذلك، حتى إنّ خالد

1 هذا هو قول الجهمية والأشاعرة والماتريدية في الاستواء، يفسّرونه بالاستيلاء والملك والقهر والغلبة.

ويستشهدون على هذا المعنى، بقول الشاعر:

قد استوى بشر على العراق

من غير سيف ولا دم مهراق

وقد أبطل العلماء هذا التأويل، ورد شيخ الإسلام بن تيمية –رحمه الله تعالى- على استدلالهم بهذا البيت، فنفى كون الاستواء بمعنى الاستيلاء، وقال:(لم يثبت نقل صحيح أنه شعر عربي، وكان غير واحد من أئمة اللغة أنكروه وقالوا: إنه بيت مصنوع، لا يعرف في اللغة، وقد علم لو أنه احتج بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحتاج إلى صحته، فكيف ببيت من الشعر لا يعرف إسناده، وقد طعن فيه أئمة اللغة) . مجموع الفتاوى 5/146.

وانظر في الرد على هذا التأويل: الرد على الجهمية للدارمي ص14، الرد على الجهمية لابن مندة ص19، الرد على الجهمية للإمام أحمد بن حنبل ص15، كتاب الأسماء والصفات لشيخ الإسلام ابن تيمية (728هـ) ، تحقيق عبد القادر عطا دار الكتب العلمية بيروت، ط/1، 1408هـ -1988م، 2/76. الكافية الشافية 1/442، اجتماع الجيوش الإسلامية لابن القيم 1/88.

وقد أبطل الإمام ابن القيم هذا التأويل في مواضع كثيرة. وفي كتابه (الصواعق المرسلة) بيّن بطلانه من (42) وجها.

ص: 372

ابن عبد الله القسري -أمير واسط في خلافة بني أمية- قتل الجعد، وضحى به يوم العيد الأكبر، فقال وهو على المنبر:(أيُّها الناس، ضحوا تقبل الله ضحاياكم، فإنِّي مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يكلّم موسى تكليماً، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً) ثم نزل فذبحه1، وشكره على هذا الفعل، وصوّبه أهل السنة.

وإنما قال الجعد هذه المقالة، لاعتقاده أن الخلّة، والتكليم، والاستواء، ونحو ذلك، من الصفات، لا تكون إلاّ من صفات المخلوقات، وخصائص المحدثات، وهذا المذهب نشأ من سوء اعتقادهم، وعدم فهمهم لما يراد، وما يليق من المعنى المختص بالله تعالى، فظنوا ظن السوء بالله وصفاته، ثم أخذوا في نفيها، وتعطيلها، وتحريف الكلم عن مواضعه، والإِلحاد في أسمائه، ولو عرفوا أنّ ما يثبت لله من الصفات، لا يشبه صفات المخلوقات، بل هو بحسب عظمة الذات، وكل شيء صفاته بحسب ذاته، فكما أننا نثبت لله تعالى ذاتاً لا تشبه الذوات، فكذلك نثبت له صفات، لا تشبه صفات المخلوقات2؛ لو عرفوا هذا، لسلموا من التعطيل.

وعلى قولهم، ومذهبهم الخبيث: لا يعبدون رباً موصوفاً بصفات الكمال، وصفات العظمة والجلال؛ وإنما يعبدون ذاتاً موصوفاً مجرّدة عن الصفات، فهم -كما قال بعض العلماء: لا يعبدون واحداً، أحداً، فرداً صمداً، وإنما يعبدون خيالاً عدمًا3.

وهذا المذهب اشتهر بعد الجعد بن درهم، عن تلميذه جهم بن صفوان؛ ولذلك يسمى أهل هذا المذهب، عند السلف، وأئمة الأمة: جهميّة، نسبة إلى جهم.

1 تقدم قصته في ص 300.

2 وهذا ما رد به الإمام ابن القيم –رحمه الله على الجهمية، في كتابه: الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة، لابن قيم الجوزية، تحقيق علي محمد دخيل الله، دار العاصمة، الرياض، النشرة الأولى 1408هـ 1/222، وانظر الصفات الإلهية للجامي ص 130.

3 وقال بعض العلماء: 0المعطل يعبد عدماً، والممثل يعبد صنماً، والممثل أعشى) . مجموع الفتاوى 5/196،261.

ص: 373

ثمّ أعلن به وأظهره بشر المريسي1، وأصحابه، في أوائل المائة الثالثة، لأنهم تمكّنوا من بعض ملوك بني العباس2، وصار لهم عنده جاه ومنزله، فقويت بذلك شوكة الجهمية، وكثر شرُّهم، وعظم على الإِسلام وأهله كيدهم، وضررهم، حتى امتحنوا من لم يوافقهم على بدعتهم وضلالتهم، فشرّدوا بعض أهل السنة عن أوطانهم، وحبسوا وضربوا، وقتلوا على هذا المذهب3.

وجرى على إمام السنة، الإِمام المبجّل أحمد بن حنبل من ذلك أشدّ امتحان وأعظم بليّة، وضُرب حتى أغشي عليه من الضرب، فإذا جادله منهم مجادل، قال: ائتوني بشيء من كلام الله، وكلام رسوله، حتى أجيبكم إليه4، فيأبون ويرجعون إلى شبه الفلاسفة، واليونان، وهو مع ذلك يكشف لهم الشبه، ويبّين بطلانها، بأدلّة الكتاب،

1 هو بشر بن غياث بن أبي كريمة البغدادي المريسي، أبو عبد الرحمن، من موالي آل زيد بن الخطاب –رضي الله عنه متكلم مناظر أخذ عن القاضي أبي يوسف وسفيان بن عيينة وغيرهما، نظر في الكلام فغلب عليه، وانسلخ من الورع والتقوى، وجرّد القول بخلق القرآن ودعا إليه، (ت218هـ) . انظر تاريخ بغداد 7/56،سير الأعلام10/199.

*وقد ناظره الإمام عبد العزيز بن يحيى الكناني المكي (ت240هـ) ، في مسألة خلق القرآن، فألزمه الحجة، وتغلب عليه، حتى أن بشر كان يحيد عن أسئلة الإمام عبد العزيز في المناظرة، وقد ذكر قصة مناظرته بشراً في كتابه (الحيدة) ، وهو مطبوع متداول.

2 المأمون والمعتصم والواثق، انظر البداية والنهاية لابن كثير 10/345.

3 ومن الذين امتحنوا وثبتوا أمام الفتنة ولم يجيبوا إلى القول بخلق القرآن:

*الإمام أحمد بن حنبل *محمد بن نوح ابن ميمون

*نعيم بن حماد الخزاعي، وقد مات في السجن *أحمد بن نصر الخزاعي، وقد قتل.

*أبو يعقوب البويطي، وقد مات هو أيضاً في السجن. انظر البداية والنهاية 10/249.

وكان ممن شرّد عن أوطانهم: فضل الأنماطي، وأبي صالح، اللّذين فرِّق بينهما وبين زوجتيهما. سير الأعلام 11/263.

4 انظر البداية والنهاية 10/347، وسير الأعلام 11/426-427؛ وأحمد بن حنبل بين محنة الدين ومحنة الدنيا، لأحمد عبد الجواد الرومي، المكتبة العصرية، صيدا- بيروت، ص133.

ص: 374

والسنة، وإجماع الأمة، والأدلة العقلية الصريحة1.

وصنّف في ذلك كتابه المعروف، في الرد على الزناقة، والجهمية2، وهو كتاب جليل، لا يستغنى عنه طالب العلم.

والمقصود أن علماء الأمة، أنكروا مذهب الجهمية، أشدّ الإِنكار، وصرحوا بأنه من مذاهب الضلاّل والكفار، ولم يخالف في ذلك أحد منهم، وقد جمع الإِمام اللالكائي3، جملة من كلام السلف في تكفيرهم، وتضليلهم؛ في كتابه الذي سماه:"كاشف الغمة، عن معتقد أهل السنة"4 ومختصر كتابه، موجود عندكم في الساحل، قدم به: عبد الله بن معيذر5، عام اثنين وسبعين، وهو وقف على طلبة العلم الشريف.

إذا عرف هذا، فأهل السنّة متفقون، في كل مصر، وعصر، على أن الله موصوف بصفات الكمال، ونعوت الجلال، التي جاء بها الكتاب، والسنة؛ يثبتون لله، ما أثبته

1 انظر محنته في: البداية والنهاية لابن كثير 10/345-349، سير الأعلام 11/232-265؛ كتاب ذكر محنة الإمام أحمد، جمع إبي عبد الله حنبل بن إسحاق بن حنبل، تحقيق محمد نغش، ط/1، 1397هـ- 1977 م. أحمد بن حنبل إمام أهل السنة، للأستاذ عبد الحليم الجندي، إصدار محمد توفيق عويضة، 1390هـ- 1970م. ص 373، 379، 400؛ الصفات الإلهية في الكتاب والسنة، لمحمد أمان الجامي ص 99-102.

2 وهو كتاب مطبوع باسم: (الرد على الجهمية والزنادقة)، وقد تقدم النقل منه ص 303 وانظر ردّه عليهم في: مناقب الإمام أحمد بن حنبل، لابن الجوزي، مكتبة الخانجي بمصر، ط/1، 308-319.

3 تقدم في ص 362.

4 هذا الكتاب هو اختصار لكتاب شرح أصول أهل السنة والجماعة للالكائي، ومختصره مجهول، ويوجد له نسختان مخطوطتان الأولى في مكتبة جامعة أم القرى، والثانية بالمكتبة العلمية ببريدة، ذكر ذلك فضلية الشيخ الدكتور أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي في تحقيقه لشرح أصول الإعتقاد في (1/128-129) . وقد نقل اللالكائي كلام السلف في تكفير الجهمية، في كتابه: شرح أصول اعتقاد أهلال سنة والجماعة 2/313-322.

5 تقدم ضمن تلاميذ الشيخ ص 95.

ص: 375

لنفسه المقدّسة، وما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، من غير تمثيل، ولا تعطيل، ومن غير تكييف، ولا تشبيه؛ لا يبتدعون لله وصفاً، لم يرد به كتاب ولا سنة1، فإن الله تعالى: أعظم، وأجل، وأكبر في صدور أوليائه المؤمنين، من أن يتجاسروا على وصفه، ونعته، بمجرد عقولهم، وآرائهم، وخيالات أوهامهم؛ بل هم منتهون في ذلك إلى حيث انتهى بهم الكتاب والسنة، لا يتجاوزون ذلك بزيادة، على ما وصف الرب به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا يعطلون ما ورد /في/2 الكتاب والسنة، من صفات الكمال، ونعوت الجلال، وينكرون تعطيل معنى الإِستواء، وتفسيره بالاستيلاء؛ ويتبرؤون من مذهب من قال ذلك، وعطّل الصفات، من الجهمية وأتباعهم؛ وقد وقع في هذا كثير ممن ينتسب إلى أبي الحسن الأشعري3؛ وظنّه بعض الناس من مذهب أهل السنة والجماعة؛ وسبب ذلك: هو الجهل بالمقالات، والمذاهب، وما كان عليه السلف.

1 انظر عقيدة أهل السنة في صفات الله: الحجة في بيان المحجة1/91-92-174؛ والصفات الإلهية في الكتاب والسنة للجامي ص 57 وما بعدها.

2 في (د) :به.

3 هو علي ابن اسماعيلبن أبي بشر اسحاق بن سالم، أبو الحسن الأشعري، اليماني البصري، إمام المتكلمين، ولد سنة (260هـ) ، برع في معرفة الاعتزال، ثم تبرّأ منه إلى الأشعرية، ثم تركه وصار من جماعة أهل السنة، وألّف مقالات الإسلاميين، والإبانة عن أصول الديانة وغيرهما. (ت 324هـ) .

انظر: تاريخ بغداد 11/346، طبقات الشافعية 3/347، سير الأعلام 15/85.

*ويلاحظ أن مذهب أبي الحسن هو مذهب أهل السنة والجماعة وقد مر في أطوار ثلاثة:

الطور الأول: الإعتزال الذي رجع عنه.

الطور الثاني: طور الأشعرية، في إثبات-ما يسمونه- الصفات العقلية السبعة: الحياة والعلم والقدرة والإرادة والسمع والبصر والكلام. وكذلك تأويل الصفات الخبرية كالوجه واليدين والقدم والساق ونحوها.

الطور الثالث: إثبات ذلك كله من غير تكييف ولا تمثيل، ولا تشبيه ولا تعطيل جرياً على طريقة أهل السنة وهي طريقته في الإبانة، الذي صنفه آخراً.

انظر: مجموع الفتاوى 4/72، 5/556؛ الخطط للمقريزي 2/358، غاية الأماني في الرد على النبهاني 1/480.

ص: 376

قال حذيفة رضي الله عنه: (كان الناس يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخير، /وكنت/1 أسأله عن الشر، مخافة الوقوع فيه)2.

فالواجب على من له نهمة في الخير، وطلب العلم أن يبحث عن مذاهب السلف، وأقوالهم في هذا الأصل العظيم، الذي قد يكفر الإِنسان بالغلط فيه، ويعرف مذاهب الناس في مثل ذلك؛ وأن يطلب العلم من معدنه ومشكاته، وهو ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب والحكمة، وما كان عليه سلف الأمة قال الله تعالى:{آلمص كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ} 3 وقال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} 4.فإذا وفق العبد لهذا، وبحث عن تفاسير السلف، وأئمة الهدى، ورزق مع ذلك معلّماً، من أهل السنة، فقد احتضنته السعادة، ونزلت به أسباب التوفيق والسيادة. وإن كان نظر العبد وميله، إلى كلام اليونان، وأهل المنطق، والكلام، ومشائخه من أهل البدعة والجدل، فقد احتوشته أسباب الشقاوة، ونزلت/به/5 وحلت قريباً من داره موجبات الطرد عن مائدة الرب وكتابه.

ومن عدم العلم، فليبتهل إلى معلّم إبراهيم، في أن يهديه إلى صراطه المستقيم، وليتفطّن لهذا الدعاء إذا دعا به في صلاته، ويعرف شدة فقره إليه وحاجته.

وأما من جحد لفظ الاستواء، ولم يؤمن به، فهو أيضاً كافر؛ وكفره أغلظ وأفحش

1 في (د) : وأنا.

2 أخرجه البخاري في صحيحه 6/712، المناقب، باب علامات النبوة في الإسلام، وفي آخره بلفظ: (

مخافة أن يدركني) . وكذا عند مسلم في صحيحه بشرح النووي 12/478-479، الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين عند ظهور الفتن، وفي كل حال.

3 سورة الأعراف الآية (1-3)

4 سورة الأنعام الآية (155) .

5 زيادة في (د) .

ص: 377

من كفر من قبله،1 وهو كمن كفر بالقرآن كله؛ ولا نعلم أحداً قال هذا القول، ممن يدعي الإِسلام، ويؤمن برسالة محمد صلى الله عليه وسلم؛ والجهمي يوافق على كفر هذا، ولا يُشكِلُ كفر هذا على من عرف شيئاً من الإِسلام. قال الله تعالى:{وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ} 2 أي: بالقرآن3.

وأما قول الرجل: استوى، من غير مماسة للعرش4؛ فقد قدّمنا أن مذهب السلف، وأئمة الإِسلام، عدم الزيادة، والمجاوزة، لما في الكتاب والسنة، وأنهم يقفون وينتهون، حيث وقف الكتاب، والسنة، وحيث انتهيا.

قال الإِمام أحمد -رحمة الله عليه-: (لا يوصف الله تعالى، إلاّ بما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله) 5 انتهى. وذلك لعلمهم بالله وعظمته في صدورهم، وشدّة هيبتهم له، وعظيم إجلاله.

ولفظ المماسة لفظ مخترع، مبتدع، لم يقله أحدٌ ممن يقتدى به، ويتّبع، وإن أريد به نفي ما دلّت عليه النصوص من الاستواء، والعلوّ، أو الارتفاع، والفوقيّة، فهو قول باطل، ضالٌ، قائله مخالف للكتاب والسنة، ولإجماع سلف الأمة، مكابر للعقول الصحيحة، والنصوص الصريحة، وهو جهمي لا ريب، من جنس من قبله؛ وإن لم يرد هذا المعنى، بل أثبت العلو والفوقية، والارتفاع الذي دلَّ عليه لفظ الاستواء، فيقال فيه هو مبتدع ضالٌ، قال في الصفات قولاً مشتبهاً موهماً، فهذا اللفظ لا يجوز نفيه، ولا إثباته6.

1 من أوَّله بالاستيلاء.

2 سورة هود الآية (17) .

3 جامع البيان للطبري 12/18.

4 انظر: الملل والنحل للشهرستاني 1/112؛ وأورده الذهبي في سير الأعلام 19/344؛ عند ذكره لعقيدة أبي حامد الغزالي.

5 أحمد بن حنبل إمام أهل السنة، لعبد الغني الدقر، دار القلم، دمشق، بيروت، ط/1، 1399هـ -1979م، ص126، 128.

6 أي قول القائل: (استوى من غير مماسة العرش) ؛ لا يجوز نفيه ولا إثباته، لأن نفيه قد يستلزم نفي ما هو ثابت بالنصوص القطعية، وذلك لو قصد به قائله إثبات العلو والفوقية الذي دل عليه لفظ الاستواء، وكذلك إثباته باطل لفظاً، إذ إنه لم يرد في السنة المطهرة، ولا في أقول السلف الصالح، فهو لفظ مبتدع.

ص: 378

والواجب في هذا الباب: متابعة الكتاب والسنة، والتعبير بالعبارات السلفية السنيَّة الإيمانية، وترك المتشابه.

وأما من يقول: إذا قلتم إنّ الله على العرش استوى، فأخبروني قبل أن يخلق العرش، كيف كان، وأين كان، وفي أي مكان؟!

وجوابه: أن يقال، أما كيف كان فقد أجاب عنه إمام دار الهجرة، الذي تضرب إليه أكباد الإِبل، في طلب العلم النبوي، والميراث المحمدي، قال له السائل، يا أبا عبد الله1:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} 2 كيف استوى؟ فقال مالك: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والسؤال عنه بدعة؛ وأمر بالسائل فأخرج عنه3، فأخبر رحمه الله أن الكيف غير معلوم، لأنه لا يعلم إلاّ بعلم كيفية الذات، وقد حجب العباد عن معرفة ذلك، لكمال عظمته، وعظيم جلاله، وعقول العباد، لا يمكنها إدراك ذلك، ولا تحمله، وإنما أمروا بالنظر، والتفكُّر، فيما خلق وقدر؛ وإنما يقال:"كيف /هو/"4 لمن لم يكن ثم كان؛ فأمَّا الذي لا يحول ولا يزول، ولم يزل، وليس له /نظير ولا/5 مثل، فإنه لا يعلم كيف هو، وكيف يعرف قدر من لم يبد، ولم يمت، ولا يبلى. "وكيف" يكون لصفة شيء منه حد ومنتهى، يعرفه عارف، أو يحدّ قدره

1 في (أ) و (ب) و (ج) والمطبوع: يا أبا عبد الرحمن، والمشهور من كنيته ما أثبته.

2 سورة طه الآية (5) .

3 ذكره ابن مندة في ردّه على الجهمية ص 14، واللالكائي في شرح أصول الاعتقاد 3/398 رقم (664) وشيخ الاسلام ابن تيمية في المجموع 5/144، 365. وقال:(ومثل هذا الجواب ثابت عن ربيعة بن عبد الرحمن شيخ مالك، وقد روي هذا الجواب عن أم سلمة رضي الله عنها موقوفاً ومرفوعاً، ولكن ليس إسناده مما يعتمد عليه) . وقد ذكر اللالكائي قول ربيعة في شرح أصول الاعتقاد برقم (665) .

4ساقط في (ب) و (ج) و (د) .

5 ساقط في (ب) و (ج) و (د) .

ص: 379

واصف لأنّه الحق المبين، لا حق أحق منه، ولا شيء أبين منه؛ والعقول عاجزة قاصرة عن تحقيق صفة أصغر خلقه، كالبعوضة، وهو لا يكاد يرى، ومع ذلك يحول ويزول، ولا يرى له سمع ولا بصر، فما يتقلب به، ويحتال من عقله أخفى وأعضل مما ظهر من سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} 1.

وقال بعضهم2 مخاطباً للزمخشري3، منكراً عليه نفي الصفات: شعر:

قل لمن يفهم عني ما أقول

قصر القول فذا شرح يطول

أنت لا تفهم إياك لا

من أنت ولا كيف الوصول

لا ولا تدري خفايا رُكَّبت

بك حارت في خباياها العقول

أنت آكل الخبز لا تعرفه

كيف يجري منك أم كيف تبول تبولتبول

أين منك الروح في جوهرها

كيف تسري فيك أم كيف تحول

فإذا كانت طواياك التي

بين جنبيك /كذا فيها ضلول/4

كيف تدري من على العرش استوى

لا تقل كيف استوى كيف النزول5

وبالجملة: فهذا السؤال، سؤال مبتدع، جاهل بربه؛ وكيف يقول: إذا قلتم، إنّ الله على العرش استوى، وهو يسمع: إثبات الاِستواء، في سبعة مواضع من القرآن6.

1 سورة الشورى الآية (11)

2 في هامش المطبوع: (المشهور أنه أبو حامد الغزالي رحمه الله .

3 هو محمود بن عمرو بن محمد الزمخشري، أبو القاسم جار الله الخوارزمي، كبير المعتزلة، صاحب الكشاف في التفسير والمفصّل في النحو والفائق في غريب الحديث وغيرها. (ت538هـ) .انظر ترجمته: سير الأعلام 20/150، والنجوم الزاهرة 5/274.

4 في هامش المطبوع: الرواية التي نحفظها: (بها أنت جهول) .

5 لم أعرف مصدر الأبيات.

6 المواضع السبعة التي ورد فيها ذكر الاستواء هي:

1-

قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف: 54] .

2-

قوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس:3] .

3-

قوله تعلى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الرعد:2] .

4-

قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:5] .

5-

قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الفرقان: 59] .

6-

قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [السجدة:4] .

7-

قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الحديد:4] .

ص: 380

وأما قوله: أين كان قبل أن يخلق العرش؟

فهذه المسألة ليس فيها تكييف، ولا ابتداع، وقد خرج الترمذي جوابها، مرفوعاً، من حديث: أبي رزين العقيلي1، أنه قال: يا رسول الله، أين كان ربنا، قيل أن يخلق الخلق؟ قال:(/كان/2 في عماءٍ، ما فوقه هواء، وما تحته هواء) 3 انتهى الحديث4.

فهذا جواب، مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد قبله الحفاظ، وصحّحوه.

والعماء: هو السحاب الكثيف5.

1 هو لقيط بن عامر، أبو رزين العقيلي، صحابي جليل، ويقال: لقيط بن صبرة بن عبد الله بن المنتفق، ويقال إنهما اثنان. انظر: الاستيعاب 3/1340، وأسد 4/523-525.

2 ساقط في جميع النسخ.

3 في رواية الترمذي وابن ماجة وأحمد، تقديم وتأخير هكذا:(ما تحته هواء وما فوقه هواء) .

4 سنن الترمذي 5/269، التفسير، باب من سورة هود، سنن ابن ماجة 1/35، المقدمة، باب فيما أنكرت الجهمية، قال الترمذي: وهذا حديث حسن. وأخرجه الإمام أحمد في مسنده 4/11، من طريق يزيد بن هارون.

5 العماء بالمد: هو السحاب الرقيق، وقيل الكثيف والمطبق. ويروه بعض المحدثين:"في عمى" بالقصر، قال الخطابي: معناه أنه كان في عمى عن الخلق. وقال ابن الأثير: معناه ليس معه شيء، ورجّح الخطابي كونه ممدوداً.

غريب الحديث للخطابي (ت388هـ) ، تحيق عبد الكريم العزباوي، ط 1403هـ-1983م 3/243؛ النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير 3/304؛ الفائق للزمخشري 3/26.

ص: 381

قال يزيد بن هارون1، إمام أهل اليمن، من أكابر الطبقة الثالثة، من طبقات التابعين، ومن ساداتهم، معناه: ليس معه شيء2.

وأما قول السائل: [وفي أي مكان؟] 3، وفي زعم هذا القائل: إنه بذلك ينبغي حاجة الرب إلى العرش.

فيقال: ليس في إثبات الاِستواء على العرش، ما يوجب الحاجة إليه، أو فقر الرب تعالى وتقدس، إلى شيء من خلقه؛ فإنه سبحانه هو الغني بذاته عما سواه4، وغناه من لوازم ذاته، والمخلوقات بأسرها – العرش فما دونه – فقيرة محتاجة إليه تعالى، في إيجادها، وفي قيامها، لأنه لا قيام لها إلاّ بأمره، قال تعالى:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ} 5 والسماء: اسم لما علا وارتفع؛ فهو اسم جنس، يقع على العرش، قال تعالى:{ءَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} 6 الآية؛ وبحوله وقوّته حمل العرش، و/حمل/7 حملة العرش؛ وهو الذي {يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ} 8 الآية؛ وجميع المخلوقات: مشتركون في الفقر، والحاجة، إلى بارئهم، وفاطرهم. وقد قرّر

1 هو يزيد بن هارون بن وادي، ويقال زاذان بن ثابت السلمي، أحد الأعلام الحفاظ المشاهير، ثقة، توفي في خلافة المأمون سنة (206هـ) . انظر: سير الأعلام 9/358، وتهذيب التهذيب 11/366،368.

2 وهو ما ذكره ابن الأثير.

3 ما بين المعقوفين ساقط في جميع النسخ، وهو مقول قول السائل، أسقطه الناسخ، إذ تتمة الأسئلة التي تقدمت في ص 363. وقد انتهى الشيخ من الجواب على السؤالين (كيف كان؟ وأين كان قبل أن يخلق خلقه؟) والذي يأتي هنا هو جواب بهذا القول المُسقَط هنا.

4 فهو سبحانه وتعالى مستغن عن العرش وما دونه، وهذا مجمل معتقد أهل السنة والجماعة. انظر: شرح العقيدة الطحاوية ص253.

5 سورة الروم الآية (25) .

6 سورة الملك الآية (16) .

7 في (أ) و (ب) و (ج) : (وحملت) . وفي (د) : (وحملته العرش) .

8 سورة فاطر الآية (41) .. وتمامها: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} .

ص: 382

سبحانه كمال غناه، وفقر عباده إليه، في مواضع من كتابه1، واستدّل بكمال غناه، المستلزم لأحديّته، في الردّ على النصارى، وإبطال ما قالوه من الإِفك العظيم، والشرك الوخيم، قال تعالى:{قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} 2 الآية؛ وكمال غناه يستلزم نفي الصحبة، والولد3، ونفي الحاجة إلى جميع المخلوقات، ولا يظنّ أحدٌ يعرف ربّه، أو شيئاً من عظمته وغناه ومجده، أنه محتاج إلى العرش، أو غيره؛ وإنّما يتوّهم هذا من هو في غاية الجهالة والضلالة، ومن لم يعرف شيئاً من آثار النبوة والرسالة؛ ومن فسدت فطرته، ومسخ عقله، بنظره في كلام الجهمية، وأشباههم، حتى اجتالته الشياطين، فلم يبق معه أثارة من علم، ولا نصيب من فهم.

بل استواؤه على عرشه، صفة كمال، وعز، وسلطان4؛ وهو من معنى اسمه (الظاهر) ومعناه: الذي ليس فوقه شيء؛ والعلو، علو الذات، وعلوّ القهر، وعلوّ السلطان، كلّها ثابتة لله، وهي صفات كمال، تدلّ على غناه، وعلى فقر المخلوقات إليه. والذي ينبغي لأمثالنا: ترك الخوض مع هؤلاء المبتدعة الضلال، وترك مجالستهم.

قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} 5، وأكثر المعطلة، يزعمون أن تعطيلهم، تنزيه للربّ عما لا يليق به، فساء ظنّهم، وغلظ حجابهم، حتى توهّموا: أنّ إثبات ما في الكتاب والسنّة، على ما فهمه سلف الأمة مما ينزّه الرّب، تبارك وتعالى عنه.

1 من تلك المواضع التي ذكر فيها كمال غناه وفقر عباده:

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} [فاطر:15] وقوله تعالى: {وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ} [محمد:38] .

2 سورة يونس الآية (68) .

3 ومما ورد من الآيات في نفيه تعالى ذلك عن نفسه، قوله تعالى:{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلا وَلَداً} [الجن:3] .

4 وهي صفة فعليّة للربّ سبحانه وتعالى، تتعلّق بمشيئته وقدرته.

5 سورة الأنعام الآية (68) .

ص: 383

المسألة الثانية:

وأما مسألة رفع اليدين /بالدعاء/1 في الصلاة، فالذي /يثبت/2 عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يرقع يديه إذا اجتهد في الدعاء3 وليس ذلك من السنن المتعلّقة

1 في (د) : في الدعاء.

2 في المطبوع: ثبت.

3 هذا كما كان يفعل في الاستسقاء، فكان يرفعها حتى يرى بياض أبطيه، فقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه، قال:(كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يرفع يديه في شيء من دعائه إلاّ في الاستسقاء، وإنه يرفع حتى يرى بياض إبطيه) . [البخاري مع الفتح 2/601، الاستسقاء، باب رفع الإمام يده في الاستسقاء] .

قال الإمام ابن حجر –رحمه الله عند شرحه لهذا الحديث: (ظاهره نفي الرفع في كل دعاء غير الاستسقاء، وهو معارض بالأحاديث الثابتة بالرفع في غير الاستسقاء) . [فتح الباري 2/601] .

*ومن تلك الأحاديث المثبتة لرفع اليدين في الدعاء غير الاستسقاء، ما يلي:

1-

ما أخرجه البخاري في صحيحيه من حديث أبي موسى الأشعري، في قصة مقتل عمه أبي عامر الأشعري في أوطاس، قال ابو موسى:

وبعثني مع أبي عامر، فرُمِيَ أبو عامر في ركبته،

قال: فانزع هذا السهم، فنزعته، فنزل منه الماء، قال: يا ابن أخي، أقرئ النبي صلى الله عليه وسلم السلام، وقل له: استغفر لي. واستخلفني أبا عامر على الناس، فمكث يسيراً ثم مات، فرجعت فدخلت على النبي صلى الله عليه وسلم في بيته،

فأخبرته بخبرنا وخبر أبي عامر، وقال: قال له استغفر لي، فدعا بماء فتوضأ، ثم رفع يديه فقال: اللهم اغفر لعبيد أبي عامر،. ورأيت بياض أبطيه، ثم قال: اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك من الناس) الحديث [صحيح البخاري مع الفتح 7/637، المغازي، باب غزوة أوطاس] .

2-

أخرج البخاري عن سالم عن أبيه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذِيمة، فدعاهم إلى الإسلام، فلم يحسنوا أن يقولا: أسلمنا، فجعلوا يقولون صبأنا صبأنا، فجعل خالد يقتل منهم ويأسر

حتى قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم فذكرناه، فرفع النبي صلى الله عليه وسلم يديه فقال:(اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد مرتين) . [صحيح البخاري مع الفتح 7/654، المغازي، باب بعث النبي صلى الله عليه وسلم خالد إلى بني جذيمة] . قال ابن حجر –رحمه الله: (في الحديثين ردٌّ على من قال: لا يرفع اليدين في الدعاء غير الاستسقاء. [فتح الباري 11/146] .

ص: 384

بالصلاة كما يظنّه بعض من لم يعرف السنّة، فإنّه لم ينقل عنه صلى الله عليه وسلم

= 3- وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنّ ربكم تبارك وتعالى حييّ كريم، يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردّهما صفراً، أو قال خائبتين. [سنن أبي داود 2/165، الصلاة باب الدعاء، سنن الترمذي 5/520، الدعوات، سنن ابن ماجة 2/349، الدعاء، باب رفع اليدين في الدعاء] .

قال الترمذي: حديث حسن غريب، وقال ابن حجر في الفتح 11/147:(وسنده جيّد) وصححه الألباني في صحيح أبي داود حديث رقم (1337) ، وصحيح ابن ماجة رقم (3117) وفي المشكاة –التصحيح الثاني_ برقم (2244) . وفي شرح العقيدة الطحاوية ص260، وفي مختصر العلو ص97.

فكل هذه الأحاديث تثبت مشروعية رفع اليدين في الدعاء عامة، وتعارض حديث أنس الذي يفيد تخصيص الرفع في الاستسقاء، وهو حديث صحيح.

لذا فقد عمد العلماء إلى الجمع بينه وبين الأحاديث المثبتة للرفع في غير الاستسقاء، كالآتي:

-ذهب بعضهم على تأويل حديث أنس: أن النفي واقع على صفة خاصة في الرفع، لا أصل الرفع، كما يدل عليه قوله:(حتى يرى بياض أبطيه) .

قال ابن حجر: (ويؤيده أن غالب الأحاديث التي وردت في رفع اليدين في الدعاء، إنما المراد به: مدّ اليدين وبسطهما عند الدعاء، إنما المراد به: مدّ اليدين وبسطهما عند الدعاء. وكأنه عند الاستسقاء مع ذلك زاد فرفعهما إلى جهة وجهة حتى حادتاه)[فتح الباري 2/601] .

-وذهب آخرون إلى حمل حديث أنس على نفي رؤيته وهو غير الاستسقاء، وأن ذلك لا يستلزم نفي رؤيته غيره، وعليه فالعمل بأحاديث الرفع أولى. [فتح الباري 2/601] .

-وقال الإمام النووي –رحمه الله: (قال جماعة من أصحابنا وغيرهم: السنة في كل دعاء لرفع بلاء كالقحط ونحوه، أن يرفع يديه ويجعل ظهر كفيه إلى السماء، وإذا دعا لسؤال شيء وتحصيله، جعل بطن كفيه إلى السماء، واحتجوا بهذا الحديث) . يعني حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم استسقى فأشار بظهر كفيه إلى السماء) .

[صحيح مسلم بشرح النووي 6/441-442، الاستسقاء، باب رفع اليدين بالدعاء] .

مواقف لا بشرع فيها رفع اليدين في الدعاء: وقد ذكر العلماء من تلك المواقف ما يلي:

1-

عقب الصلوات المفروضة، وقد أشار إلى ذلك الشيخ عبد اللطيف هنا.

2-

في حال جلوس الإمام بين الخطبتين.

3-

لا يشرع للخطيب على المنبر حال الخطبة، وتبعه في ذلك المستمعون للخطبة. (والسنة للخطيب رفع إصبع) .

انظر فتح الباري 11/147، ومجموع الرسائل والمسائل النجدية 2/164.

ص: 385

ولا عن أصحابه ملازمة ذلك وفعله عقب كل صلاة.

المسألة الثالثة:

وأما الفطرة عن صوم رمضان، فجمهور العلماء يرون أنه لا يجزي /إلا صاع كاملٌ/1 من أي صنف من الأصناف المذكورة في حديث أبي سعيد2 وابن عمر وغيرهما3، وهي الطعام والشعير والتمر والأقط والزبيب.4

وذهب جمع إلى جواز الإخراج من غالب قوت البلد5، أي قوتٍ كان، كالذرة والأرز ونحوها.

وذهب بعضهم إلى أن نصف الصاع من سمراء الشام (وهو البر) يجزي عن صاع من غيره. وهذا القول قاله معاوية ورآه رأياً له، وليس بمرفوع6، وقد خالفه أبو

1 في (د) : إلاّ صاعاً كاملاً.

2 هو سعد بن مالك بن سنان بن ثعلبة، أبو سعيد الخدري، من مشاهير الصحابة. (ت74هـ) .

انظر الاستيعاب 2/602؛ وأسد الغابة 2/289، و5/211؛ وسير الأعلام 3/168.

3 حديث أبي سعيد الخدري هو ما أخرجه البخاري وغيره عن أبي سعيد قال: كنا نخرج زكاة الفطر صاعاً من طعام، أو صاعاً من شعير أو صاعاً من تمر أو صاعاً من أقط أو صاعاً من زبيب) . صحيح البخاري مع الفتح 3/434، الزكاة، باب صدقة الفطر صاعاً من طعام؛ صحيح مسلم بشرح النووي 7/65، الزكاة، باب زكاة الفطر على المسلمين من التمر والشعير.

4 ذهب الحنابلة إلى أن الواجب: الإخراج من هذه اللأصناف المنصوص عليها في الحديث. المغني مع الشرح الكبير 2/658-659، والمبدع في شرح المقنع، لابن مفلح 2/392-394.

5 هذا مذهب المالكية والشافعية، انظر: المدوّنة الكبرى، للإمام مالك، دار صادر، بيروت لبنان، 1/357. الشرح الصغير للدردير 1/675. الخرشي على مختصر سيدي الخليل، بهامشه حاشية العدوي، دار صادر، بيروت 2/228. الأم، للإمام محمد بن إدريس الشافعي (ت204هـ) ، خرّج أحاديثه وعلق عليه محمود مطرجي، طبعة دار الكتب العلمية بيروت لبنان، ط/1، 1431هـ -1993م، توزيع مكتبة دار الباز 2/88-89. مختصر المزني على الأم، (مطبوع مع الأم) الطبعة السابقة 9/62. روضة الطالبين 2/301-302.

6 وقد أخرج ذلك البخاري من حديث أبي سعيد قال: (كنا نعطيها في زمان النبي صلى الله

ص: 386

سعيد الخدري، ولم يوافقه عليه1، وبعض العلماء وافق معاوية على ذلك وقليل ما هم2.

المسألة الرابعة:

وأما الابتداء بفاتحة الكتاب /كلّما/3 أراد تلاوة القرآن؛ فلا أرى الإنكار على من فعل ذلك، لما ثبت في الحديث الصحيح، من قصة الأنصاري الذي كان يقرأ سورة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} 4، في كل ركعة، يكررها إذا أراد القراءة بغيرها، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم وقال:"سلوه لم فعل ذلك" فقال: إنِّي أحبها، لأن فيها صفة الرحمن، قال النبي صلى الله عليه وسلم:"أخبروه أن الله يحبه"5.

= عليه وسلم صاعاً من طعام أو صاعاً من تمر أو صاعاً من شعير أو صاعاً من زبيب. فلما جاء معاوية وجاءت السمراء قال: أرى مدّا من هذا يعدل مدّين) . البخاري مع الفتح 3/436، الزكاة، باب صاع من زبيب، وذكر ذلك الحميدي في مسنده عن سفيان بن عيينة، حدثنا أيوب عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "صدقة الفطر صاع من شعير أو صاع من تمر، قال ابن عمر: فلما كان معاوية عدل الناس نصف صاع بر، بصاع من شعير". المسند للحميدي (ت219هـ)، تحقيق: حبيب الرحمن الأعظمي، عالم الكتب، بيروت، مكتبة المتنبي القاهرة 2/307.

1 انظر فتح الباري 3/438.

2 وقد وافقه على ذلك الحنفية، انظر: فتح القدير لابن الهمام 2/290؛ وبدائع الصنائع 2/967؛ وتبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيلعي، دار المعرفة بيروت، ط/2، 1/308.

3 في (أ) : كل من.

4 سورة الإخلاص.

5 وتمام الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً على سرية، وكان يقرأ لأصحابه في صلاته فيختم بقل هو الله أحد، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:"سلوه لأي شيء يصنع ذلك"، فسألوه، فقال: لأنها صفة الرحمن، وأنا أحب أن أقرأ بها. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"أخبره أن الله يحبه".

البخاري مع الفتح 13/360؛ التوحيد، باب ما جاء في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى توحيد الله؛ صحيح مسلم بشرح النووي 6/343، المسافرون، باب فضل قراءة

ص: 387

فمن قرأ فاتحة الكتاب أو غيرها بقصد يضاهي هذا ويشابهه، فلا حرج عليه، وأما إن قرأها قبل كل قراءة معتقداً أن الله أمر بذلك، أو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سنَّه، فهذا يعرّف بالسنة ويُخْبر بها، وأنها إنما يبتدأ بها القراءة في الصلاة1 لا في سائر أحوال التلاوة.

(المسألة الخامسة) :

وأما الرجل الذي يخالط أهل بلده ومحلته، ويرجو بمخالطتهم أن يجيبوه إلى الإسلام وإلى السنة، ويتركوا2 ما هم عليه من شرك أو بدعة أو فواحش.

فهذا يلزمه خلطتهم ودعوتهم إن أمن الفتنة، لما في ذلك من المصلحة الراجحة، على مصلحة الهجر والاعتزال. ورؤية المنكر إذا رجا بها إزالته وتغييره، وأمن الفتنة به، ولم يكن تحصيل المصالح الدينية إلاّ بذلك، فلا حرج عليه، بل ربما تأكد واستحب3.

وبلغني أن شيخ الإسلام ابن تيمية -قدّس الله روحه- كان يخرج إلى عسكر التتار لما نزلوا الشام المرة الأولى حول دمشق، ويجتمع بأميرهم ويأمره وينهاه4. ويرى في

= {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ؛ سنن النسائي 2/170، الافتتاح، باب فضل قراءة {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} .

1 كما ورد بذلك الأحاديث، ومنها: حديث أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله عنهما، يستفتحون القراءة بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . سنن النسائي 2/133، الافتتاح، باب البداءة بفاتحة الكتاب قبل السورة؛ مسن أحمد 3/203. وعنه رضي الله عنه قال: صليت خلف النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان فكانوا يستفتحون بـ {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . صحيح مسلم بشرح النووي 4/354، الصلاة، باب حجة من قال لا يجهر بالبسملة.

2 في (ب) و (ج) و (د) : ويترك.

3 وهذا هو حال العلماء والدعاة المتواجدون في دول الأقليات الإسلامية.

4 انظر: الدرر الكامنة 1/164، والبداية والنهاية 14/8-13، 56. والإمام ابن تيمية لعبد السلام هاشم حافظ الحلبي، ط/1، 1389هـ-1969م، ص 24-25.

ص: 388

خروجه عندهم شيئاً من المنكرات. وقد أراد بعض الأفاضل ممن صحبه في /إحدى/1 تلك المرات أن ينكر على جماعة منهم، ما رآه يدور بينهم من كاسات الخمر، فقال له الشيخ: لا تفعل، إنهم لو تركوا هذا زاد شرهم على أموال المسلمين وحرمهم2.

(المسألة السادسة) :

وأما البداءة بالسلام، فلا ينبغي أن يُبدأ الكافر بالسلام3، بل هو تحية أهل البداءة بالسلام على الكافر الإسلام، لكن إن خاف مفسدة راجحة أو فوات مصلحة

1 في (أ) و (ج) : أحد.

2 لم أجد مكان ورود هذا القصة.

*لا شك أن في هذا من الحكمة البالغة في الدعوة، والتي يجب أن يتصف بها الدعاة، كما يستفاد من فعل شيخ الإسلام هذا، وجوب مراعاة الأحوال والظروف لدى المدعوِّين، وتقديم الأهم فالأهم في الدعوة، والأخذ بقاعدة: مراعاة أعظم الضررين بارتكاب أخفهما.

[انظر القاعدة في الأشباه والنظائر لابن نجيم ص89] .

3 مسألة: السلام على الكفار والرد عليهم:

إنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهانا عن ابتداء الكفار بالسلام، وذلك في حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"لا تبدأوا اليهود ولا النصارى بالسلام". صحيح مسلم بشرح النووي14/397، السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب بالسلام؛ سنن الترمذي 4/132، السير، باب ما جاء في التسليم على أهل الكتاب.

*والنهي عن ابتدائهم بالسلام يفيد جواز الردّ عليهم فيما إذا هم ابتدؤوها.

وقد ذهب بعض العلماء إلى جواز ابتدائنا لهم بالسلام، روي ذلك عن ابن عباس وأبي أمامة وابن أبي محيرز وبهذا قال سفيان بن عيينة وعمر بن عبد العزيز، نقل الإمام ابن حجر –رحمه الله في [الفتح 11/42] ما أخرجه الطبري من طريق ابن عيينة قال: (يجوز ابتداء الكفار بالسلام لقوله تعالى: {لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ} [الممتحنة:8] . وقيد جماعة جواز ابتدائهم به بالضرورة والحاجة أو سبب، وهو قول علقمة والنخعي. وهو ما ذهب إليه الشيخ عبد اللطيف هنا عند رجحان المصلحة في ذلك، والخوف من فواتها، حيث قال: (

لكن إن خاف مفسدة راجحة أو فوات مصلحة كذلك، فلا بأس بالبداءة) . [وانظر: شرح صحيح مسلم للنووي 14/396] .

ومعتمد هذا الوجه: هو ما سيورده قريباً من فعل الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه البخاري ومسلم وهو: عن عروة بن الزبير قال: أخبرني أسامة بن زيد أن النبي صلى الله

ص: 389

...........................................................................

= عليه وسلم ركب حمارً عليه إكافٌ تحته قطيفة فدكيّة، وأردف وراءه أسامة بن زيد، وهو يعود سعد بن عبادة في بني الحارث من الخزرج –وذلك قبل وقعة بدر- حتى مرّ في مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان واليهود، وفيهم عبد الله بن أبي بن سلول، وفي المجلس عبد الله بن رواحة، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة، خمّر عبد الله بن أبي أنفه بردائه، وقال: لا تغبّروا علينا. فسلّم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم وقف فنزل فدعاهم إلى الله، وقرأ عليهم القرآن

) الحديث. [صحيح البخاري مع الفتح 11/41، الاستئذان، باب التسليم في مجلس فيه أخلاط. صحيح مسلم بشرح النووي 12/399-400، الجهاد، باب في دعاء النبي صلى الله عليه وسلم وصبره على أذى المنافقين، وأخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/203] .

قال النووي: (إذا مرَّ على جماعة فيهم مسلمون أو مسلم وكفار، فالسنّة أن يسلم عليهم (بلفظ التعميم) ويقصد المسلمين أو المسلم) مستدلاً بهذا الحديث. [الأذكار للنووي، لأبي زكريا يحيى بن شرف النووي (ت676هـ، تحقيق سبيع حمزة حاكمي، دار القبلة للثقافة الإسلامية، جدة، ومؤسسة علوم القرآن، دمشق، ط/1، 1412هـ- 1991م. ص353. وانظر فتح الباري 11/41-42] .

وقد نقل ابن حجر ما جمع به الطبري بين القولين، قال:(وقال الطبري: لا مخالفة بين حديث أسامة في سلام النبي صلى الله عليه وسلم على الكفار حيث كانوا مع المسلمين، وبين حديث أبي هريرة في النهي عن السلام على الكفار، لأن حديث أبي هريرة عام، وحديث أسامة خاص. فيختص من حديث أبي هريرة ما إذا كان الابتداء لغير سبب ولا حاجة، من حق صحبة أو مجاورة أو مكافأة أو نحو ذلك) . [فتح الباري 11/42] . وهذا جمع حسن يرجح به بين القولين.

*أما إذا سلَموا علينا ابتداءً: فإننا نرد عليهم بمثل ما سلّموا علينا به، لقوله تعالى:{وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] .

فإن قالوا السلام عليكم فلنا أن نقول: عليكم السلام أو وعليكم.

وإن قالوا السام عليكم بحذف اللام، قلنا: وعليكم وذلك أن اليهود كانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلِّمون عليه بقولهم: "السام عليكم" يريدون بذلك الدعاء عليه بالموت، وكان صلى الله عليه وسلم يردُّ عليهم بقوله "وعليكم" وبه أمر النبي صلى الله عليه وسلم أمته أن يقولوا؛ كما جاء ذلك في السنة المطهّرة. منها:

حديث أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا سلَّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم". وعن عائشة رضي الله عنها قالت: استأذن رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: "السام عليكم" فقالت عائشة: بل عليكم السام واللعنة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عائشة إن الله يحب الرفق في كل أمر. قالت: ألم تسمع ما قالوا؟ قال: قد قلت وعليكم " أخرجهما الإمام مسلم في صحيحه 14/393،395 السلام، باب النهي عن ابتداء أهل الكتاب السلام.

ص: 390

كذلك، فلا بأس بالبداءة1 لا سيما من ينتسب إلى الإسلام، ولكن يخفى عليه شيءٌ من أصوله وحقوه.

وقد كان صلى الله عليه وسلم يأتي المشركين من العرب في منازلهم أيام الموسم2، ويدعوهم إلى توحيد الله وترك عبادة ما سواه، وأن يقولوا لا إله إلا الله، ويتلوا عليهم القرآن، ويبلِّغهم ما أُمر بتبليغه؛ مع ما هم عليه من الشرك والكفر والردّ القبيح، لما في ذلك من المصلحة الراجحة على مصلحة الهجر والتباعد، والهجر إنما شرع لما فيه من المصلحة وردع المبطل، فإذا انتفى ذلك وصار فيه مفسدة راجحة فلا يشرع. ومن تأمّل السيرة النبوية والآثار السلفيّة يعرف ذلك ويتحققه.

وقد أمر الله بالدعوة إليه على بصيرة، قال تعالى:{قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} الآية3، وقال:{وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 4.

والجهاد بالحجة والبيان يقدم على الجهاد بالسيف والسنان.

وقد مرَّ صلى الله عليه وسلم على مجلس فيه أخلاط من المسلمين والمنافقين واليهود، وفيه عبد الله ابن أُبيّ5 رأس المنافقين، فسلّم صلى الله عليه وسلم ونزل

1 زاد المعاد، لابن القيم 2/425.

2 انظر: السيرة النبوية لابن هشام 1/422-423.

3 سورة يوسف الآية (108) .

4 سورة الحج الآية (78) .

5 هو عبد الله بن أُبيّ بن سلول العوفي، رأس المنافقين، ورئيس الخزرج والأوسي. وهو القائل: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعز منها الأذل. فنزلت سورة المنافقين بأسرها. (ت9هـ) . انظر البداية والنهاية 3/238؛ والسيرة النبوية لابن هشام 2/526-584.

ص: 391

عن دابته ودعاهم إلى الإسلام، وذلك حين ذهب إلى سعد بن عبادة1 يعوده في منزله2، والقصّة مشهورة. وكثير من العلماء يبتلى بخلطة هذا الضرب من الناس، لكنَّه يكون مباركاً أينما كان، داعياً إلى الله، مذكراً به، هادياً إليه، كما قال /تعالى/3 عن المسيح عليه السلام {وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ} 4، أي داعياً إلى الله مذكراً به معلماً بحقوقه، فهذه هي البركة المشار إليها، ومن عدمها محقت بركة عمره، وساعاته وخلطته ومجالسته.

نسأل الله العظيم لنا ولكم علماً نافعاً، يكون لنا يوم القيامة شافعاً.

وبلِّغ سلامنا من لديك من الإخوان في الدين من أهل السنة، وإن أشكل عليكم شيء مما كتبته فراجعوني فيه، ولا تنسوني من صالح الدعاء5.

أسأل الله العظيم أن يغفر زلّتي، ويقبل توبتي، ويقيل عثرتي. /والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته/6. /وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً كثيراً/7.

1 هو سعد بن عبادة بن دليم الأنصاري الخزرجي، صحابي مشهور (ت16هـ) . الاستيعاب 4/152، أسد الغابة 2/356، سير الأعلام 1/270.

2 والحديث تقدم تخريجه بنصه في هامش ص389.

3 ساقط في (ب) و (ج) و (د) والمطبوع.

4 سورة مريم الآية (31) .

5 هذا من باب طلب الدعاء من الصالحين، وهو أمر جائز، كما يرشد إليه فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين طلب من عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك. قال رضي الله عنه: استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في العمرة، فأذن وقال:"لا تنسانا يا أخيَّ من دعائك". سنن أبي داود 2/169، الصلاة باب الدعاء، سنن الترمذي 5/523، الدعوات باب 110، بلفظ:"أي أَخِي أشركنا في دعائك ولا تنْسنَا" وقال: (حديث حسن صحيح) . سنن ابن ماجة 2/155، الحج، باب فضل دعاء الحاج، بلفظ:"يا أُخيَّ أشركنا في شيءٍ من دعائك، ولا تَنْسَنا".

6 ساقط في المطبوع.

7 ساقط في (ب) و (ج) و (د) . وفي المطبوع سقط قوله (وسلم تسليماً كثيراً كثيراً) .

ص: 392