الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسالة السادسة والعشرون: إلى الشيخ حمد بن عتيق
…
(الرسالة السادسة والعشرون)
قال جامع الرسائل
وله أيضاً رحمه الله رحمة الأبرار، وأسكنه جنات تجري من تحتها الأنهار- رسالة إلى الشيخ حمد بن عتيق2رحمه الله، وقد راسله –أعني الشيخ حمد- برسالة، كأنه أساء فيها الأدب،/ولم يراع/3حق من يتزاحم العلماء عنده بالركب، بل جرى على عادته في المراسلات والمكاتبة، ولم يمعن النظر فيما /أوعر/4 به من المخاطبة، وكأنه في رسالته يحرص على التغليظ في الدعوة إلى الله، من غير نظر إلى جلب المصالح ودرء المفاسد.
فبين له الشيخ رحمه الله الخلق العظيم، والرأي/الرشيد/5الحليم الذي كان لسيد المرسلين، وإمام المتقين، أنه /بدأ/6 أولاً بالتلطف واللين، ثم آخراً بالغلظة. وذلك مع قوة الإسلام والمسلمين، وأن الغلظة ليست ديدانا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا لأتباعه في الدعوة إلى الله.
ويا لله! كم في هذه الرسالة من الأصول، والمباحث المفيدة الجليلة، التي تطلع منها على بلاغة مبديها، وجلالة منشيها؛ وأن له في الميراث النبوي الحظ الوافر، وأن ينابيع علومه تنفجر من ذلك البحر الزاخر. وهذا نص الرسالة:
1 جاءت هذه الرسالة في المطبوع في ص 186- 188، وهي الرسالة رقم (32) . وجاءت في (ب) في 231- 233.
2 تقدمت ترجمته ضمن تلاميذ الشيخ في ص 92.
3 في (ب) و (ج) و (د) : لم يراعي.
4 كذا في جميع النسخ. وفي المطبوع: (أوعز) .
ومعنى أوعر: من وعر، وهو المكان الحزن ذو وعورة، ضد السهل. يقال: أوعر به الطريق: أي وعر عليه، أو أفضى به إلى وعر من الأرض. لسان العرب 5/ 285، مادة (وعر) .
5 في (ب) و (ج) و (د) : الراشد.
6 كذا في المطبوع، ساقط في جميع النسخ.
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الشيخ المكرم حمد بن عتيق، سلك الله بي وبه أهدى /منهج/1وطريق، ومنحنا بمنه حسن الدعوة إليه بالتحقيق.
سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فأني أحمد إليك الله /الذي لا إله إلا هو/2سبحانه على نعمه. والخط وصل- وصلك الله بما يقربك إليه. وما أشرت إليه صار لدينا معلوماً، لا سيما الإشارة الخفية والنكت الأدبية التي منها تشبيه أخيك بالطير المبرقع3؛ وإيراد /الوعظ/4وأنت بمكان علو أرفع. وكنت حال وصوله قد قرأته بمرأى من أهل الأدب ومسمع؛ فمن قائل عند سماعه: هل الرجل طبعه الغلظة والجمود؟ وآخر يقول: كأنه لا يحسن الدعوة على ربنا المعبود! فقلت: كلا، غنه ابن جلا5، وله السبق في مضمار الديانة والعلا، ولكن من عادته أنه يتجاسر على أحبابه، ويزدري رتب أخدانه وأتربه، والمحب له الدلال، والمرء يشرق بالزلال.
فاعلم -هديت الطريق، وفزت بحظ من النظر والتحقيق-، أن الله لما ابتعث نبيه صلى الله عليه وسلم بهذا الدين الحنيفي، /لم/ 6يكن /أحد/7 من أهل الأرض
1 في (ب) و (ج) و (د) والمطبوع: نهج.
2 تقدمت ترجمته ضمن تلاميذ الشيخ في ص 92.
3 الذي لف رأسه وغطيت عيناه وجهه بالبرقع حتى لا يرى.
4 في المطبوع: المواعظ.
5 جاء في حاشية المخطوط (د) : (ابن جلا، يقال للرجل المشهور الواضح الأمر، ومن يكون عالى الشرف، لا يخفى مكانه، هو ابن جلا.
قال سحيم بن وثيل: أنا ابن جلا وطلاع الثنايا* متى أضع العمامة تعرفوني.
*وهذا الكلام نقله المعلق من: لسان العرب 14/ 152، مادة (جلا) .
6 في جميع النسخ: ولم. والظاهر أن الواو زائدة من النساخ. إذ إن الجملة من هنا جواب (لما) المتقدم، فلا يصلح معها واو.
7 في (د) : أحداً.
عربيهم وعجميهم، قرويهم وبدويهم، يعرف الحق ويعمل به، إلا بقايا من أهل الكتاب. وأما الأكثرون، فقد اجتالتهم الضلالات والعادات عن فطرة الله التي فطر الناس عليها1.فأيد الله نبيه مع غربة هذا الدين، ومخالفته لما عليه الأكثرون، بأعظم حجة وآية، كانت لأكثر من أسلم /سبباً/2ووقاية. وتلك هي الخلق العظيم، والرأي الراشد الحليم. فمكث على ذلك يدعو ويذكر ويعظ وينذر مع غاية في اللطف واللين، فتارة يكنى المخاطبين 3، وطوراً يأتي نادي المتقدمين والمترأسين، وحيناً يقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون. وناهيك بخلق مدحه القرآن4، وأثنى عليه حلمه في الدعوة والبيان، ولا يرد على هذا المعني قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} الآية5. كما ظنه بعض المتطوعة، ديداناً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن هذا يصار إليه إذا تعينت الغلظة، /ولم يجد6، اللين كما هو ظاهر مستبين، كما قيل: آخر الطب الكي7. وهو أيضاً مع القدرة.
1 وهذه الفطرة هي: دين الله الحنيف، الذي خلق الناس له، كما يفيده قوله تعالى:{فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30] .
انظر جامع البيان للطبري 21/ 40، والجامع لأحكام القرآن للقرطبي 14/ 17.
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه". صحيح البخاري مع الفتح 3/ 260، الجنائز، باب اللحد والشق في القبر.
صحيح مسلم بشرح النووي 16/ 446، القدر باب معنى كل مولود يولد على الفطرة.
2 في (د) : سبب.
3 فكان يقول أحياناً: ما بال أقوام يقولون كذا وكذا
…
4 وقد مدحه القرآن بقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] .
5 سورة التوبة الآية (73) .
6 في (ب) و (ج) و (د) : ولم يجدي.
7 مثل عربي، ذكره ابن منظور في اللسان. والكي: إحراق الجلد بحديدة، وهو من علاج المعروف في كثير من الأمراض. لسان العرب 15/ 235، مادة (كوي) .
وفي حديث، عن جابر، (أن النبي صلى الله عليه وسلم كوى سعد بن معاد من رميته) .
ويشترط أن لا يكون عليه مفسدة، كما قال تعالى:{وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} 1. وقد أخذ بعض الناس من هذا أن "درء المفاسد يقدم على جلب المصالح"2كما هو مقرر في علم الأصول.
ثم إن الآية -آية الغلظة- مدنية3، بعد تمكن الرسول وأصحابه من الجهاد باليد، وظهور الاستمرار على الكفر من أعدائهم. فوقعت الغلظة في مركزها حيث لم ينفع اللين، وأسعد الناس بوراثة الرسول /صلى الله عليه وسلم/4 في دعوة الخلق، أكملهم متابعة له في هذا.
وكان الصديق /رضي الله عنه/5 أكمل الناس، ولذلك أسلم على يديه وانتفع به أمم كثيرة، بخلاف غيره؛ فقد قيل لبعضهم "إن منكم منفرين"6.
والقصد من التشريع والأمر، تحصيل المصالح ودرء المفاسد حسب الإمكان، وقد
1 سورة الأنعام الآية (108) .
2 تقدم تخريج هذه القاعد الأصولية في ص 241.
3 هي مدينة كبقية الآيات في سورة التوبة، فكلها مدنية، سوى الآيتين الأخيرتين.
انظر الجامع لأحكام القرآن 8/ 40، وفتح القدير للشوكاني 2/ 331.
4 ساقط في (ب) و (ج) و (د) .
5 ساقط في (ب) و (ج) و (د) .
6 هذا جزء من حديث أبي مسعود قال: قال رجل يا رسول الله، إني لأتأخر عن الصلاة في الفجر مما يطيل بنا فلان فيها. فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ما رأيته غضب في موضع كان أشد غضباً منه يومئد. ثم قال:" يا أيها الناس، إن منكم منفرين، فمن أم الناس فليتجوز، فإن خلفه الضعيف والكبير وذا الحاجة".
صحيح البخاري مع الفتح 2/ 234، الأذان، باب من شكا إمامه إذا طول. صحيح مسلم بشرح النووي 4/ 428- 429، الصلاة، باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام. سنن ابن ماجة 1/ 177، إقامة الصلاة، باب من أم قوماً فليخفف.
لا يمكن إلا مع ارتكاب أخف الضررين1، أو تفويت أدنى المصلحتين. واعتبار الأشخاص والأزمان والأحوال أصل كبير، فمن أهمله وضيعه، على الشرع وعلى الناس، أعظم جناية، وقد قرر العلماء هذه الكليات والجزئيات، وفصلوا الآداب الشرعيات. فمن أراد أن ينصب نفسه في مقام الدعوة، فليتعلم أولاً وليزاحم ركب العلماء قبل أن يرأس، فيدعو بحجة ودليل، ويدري كيف السير في ذلك السبيل، فإن الصناعة لا يعرفها إلى من يعاينها، والعلوم لا يدريها إلا من أخذها عن أهلها، وصحب راويها.
ما كل من طلب المعالي نافذا
…
فيها ولا كل الرجال فحولاً2
هذا وقد كنت أظن أنكم تحبون من هاجر إليكم، وتراعون حق أسلافه في المشيخة عليكم، وكأن العلم وتعليمه، وحق الشيخ وتكريمه، غير معتبر لدى الجمهور. بل قصدهم المناصب والظهور. /و/3 قال الشيخ، وحدثنا، وجلس الأستاذ وأنبأنا، هو غاية قصد الأكثرين، إلا عباد الله المخلصين.
والسلام عليكم وعلى من حضر من المسلمين، وما بسطت لك الكلام إلى محبة /وإعلاماً/4. وصلى الله على محمد وآله وصحبه /وسلم/5.
1 تقدمت ذكر هذه القاعدة في ص218.
2 البيت للمتنبي في ديوانه 3/245.
3 ساقط في (ب) و (ج) و (د) والمطبوع.
4 في المطبوع: وإعلام.
5 في (أ (: أجمعين. والمثبت أولى إذ به يكمل الصلاة والتسليم على محمد صلى الله عليه وسلم.