الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الرسالة الثامنة والعشرون: إلى عبد الله بن نصير
…
(الرسالة الثامنة والعشرون)
قال جامع الرسائل
وله أيضاً -قدس روحه ونور ضريحه- رسالة إلى الشيخ عبد الله بن نصير2 وقد ذكر له الشيخ عبد الله في رسالته، كلام أبي بكر بن العربي المالكي3 في معنى قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 4.
فأجابه رحمه الله بهذا الجواب الباهر الفائق، وأرخى عنان قلمه بميدان المعارف والحقائق، وكشف له القناع عن مدارك أحكام أهل التحقيق، ورفع له الأعلام إلى ذلك المهيع والطريق، وبين له –رحمه الله غلط أبي بكر بن العربي، فيما زعمه وقرره من أن معناه لبعض أهل السنة، وليس كما زعمه وحرره، بل إن ما اعتمده وعول عليه في معنى هذه الآية، هو كلام القدرية المجبرة5. فأما أن يكون جهلاً منه، بأنه
1 جاءت هذه الرسالة في المطبوع في ص 199- 206. وهي الرسالة رقم (35) . وجاءت في (ب) متقدمة، في ص 42- 48. وهي الرسالة رقم (10) فيها.
2 هو عبد الله بن نصير المطرفي، من المطارفة، أحد بطون قبيلة عنزة الشهيرة، رحل إلى الرياض، وأخذ عن الشيخ عبد الرحمن بن حسن، وعينه الإمام تركي بن عبد الله قاضياً على مدينة الرياض، ثم ضرما. وكان كفيف البصر. توفي في أيام الإمام تركي. علماء نجد خلال ستة قرون 2/ 646.
3 تقدمت ترجمته في ص 396.
4 سورة الذاريات الآية (56) .
5 القدرية المجبرة: ويسمون ب "الجبرية" وهم الذين ينفون الفعل حقيقة عن العبد، ويضيفونه إلى الرب تبارك وتعالى. أي أن العبد ليس له أدنى اختيار فيما يعمله من عمل.
ومذهبهم هذا قائم على أن العبد مجبور على أفعاله، وأنه لا فعل له البتة، وليس بقادر أصلاً، فليس له قدرة ولا اختيار، وإنما هو كالريشة في الهواء، فالله وحده هو الفاعل القادر.
انظر: الملل والنحل 1/ 85، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/ 460، 13/ 37، 16/ 235. وهذا القول يقابله قول "القدرية النفاة" فهما متقابلان تقابل التضاد، وعلى طرفي نقيض من إرادة الإنسان. فبينما ينفي الجبري القدرة والاختيار عن العبد، يأتي القدري فيثبتهما له، وأنه ليس لله فيما يعمله العبد دخل.
مخالف لقول أهل السنة، أو تقليداً منه لمن كان يحسن فيه ظنه، هذا إن لم يكن موافقاً لهم في أصل الجبر، والقول به؛ فقد يدخل عليه كلامهم وكلام نظرائهم، فلا ينكره، بل يقرره ويأخذ به.
وهذا نص الرسالة:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد اللطيف بن عبد الرحمن، إلى الأخ المحب الشيخ عبد الله بن نصير، سلمه الله تعالى، سلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:
فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو على نعمه. والخط الذي ذكرت /فيه/1 كلام أبي بكر بن العربي المالكي، في معنى قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 2 قد وصل. وتأملته فوجدته قد اعتمد وعول في معنى هذه الآية، على القدرية المجبرة، وغلط في زعمه أن معناه لبعض أهل السنة.
وابن العربي إن لم يكن موافقاً لهم في أصل الجبر والقول به، فقد يدخل عليه كلامهم وكلام نظرائهم، ولا ينكره، بل يأخذ به ويقرره؛ إما جهلاً منه بأنه مخالف لقول أهل السنة، أو تقليداً لمن يحسن به الظن، أو لأسباب أخرى، وليس هذا خاصاً به، بل قد وقع فيه كثير من أتباع الأئمة المنتسبين إلى أهل السنة.
فإن قوله في تفسير قوله تعالى: {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 3 أي إلا لتجري أفعالهم على
= انظر: الملل والنحل 1/ 43، والفرق بين الفرق ص [116] .
أما أهل السنة، فهم وسط بين الفريقين، يقولون: إن للإنسان إرادة واستطاعة واختيار لما يقوم به من عمل، لكنها لا تتم إلا بتوفيق الله تعالى للطائعين، والخذلان للعاصين. فهو سبحانه وتعالى خالق لأفعالهم وهم الفاعلون باختيارهم.
[انظر: الفصل في الملل والأهواء والنحل 3/ 20] .
1 في (د) : في.
2 سورة الذاريات الآية (56) .
3 سورة الذاريات الآية (56) .
مقتضى قضائي، فيكون فعل العبد على مقتضى حكم المولى، وإنما يخرج فعل العبد عن حكم المولى إذا كان مغلوباً، والغالب لا يخرج شيء عن فعله، وهو الله وحده1 انتهى.
وهذا الكلام بعينه هو كلام القدرية المجبرة فيما حكاه عنهم غير واحد2؛ وهذا التعليل هو تعليلهم بعينه. وهذا القول يقتضي أنه سبحانه خلق الشاكر ليشكر، وليفجر ليفجر والكافر ليكفر، فما خرج أحد عما خلق له على هذا القول، لأن القدر جار بذلك كله، والقدرية المجبرة، دعاهم لهذا -فيما يزعمون- إبطال قول القدرية النفاة3، ومصادمتهم في قولهم: أن الإرادة هي الأمر، يأمر بها الطائفتين، [فهؤلاء عبدوه بأن أحدثوا إرادتهم وطاعتهم، وهؤلاء /عصوه/4 بأن أحدثوا إرادتهم ومعصيتهم]5. .......................
1 لم أجد محل ذكر ابن العربي لهذا الكلام.
2 انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام 13/ 37، والملل والنحل 1/ 87.
3 القدرية النفاة: هم الذين نفوا القضاء والقدر السابق من الله تعالى، وأن الإنسان حر بفعل ما يشاء، فالأمر أنف لم يقدر الله من عمله شيئاً، فليس لله في كفر العباد ومعاص العباد صنع. وأنه لم يخلق شيئاً من أفعال العباد.
انظر الحجة في بيان المحجة 2/ 479؛ ومجموع فتاوى شيخ الإسلام 13/ 37، و 17/ 173، 8/ 340 450.
ومن استدلالهم على مذهبهم، يقولون:(قد علم بالكتاب والسنة وإجماع السلف، أن الله يحب الإيمان والعمل الصالح؛ ولا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر؛ ويكره الفسوق والعصيان. فيلزم من ذلك أن يكون كل ما في الوجود من المعاصي، واقعاً بدون مشيئته وإرادته، كما هو واقع على خلاف أمره، وخلاف محبته ورضاه. وقالوا: إن محبته ورضاه لأعمال عباده، هو بمعنى أمره بها، فكذلك إرادته لها بمعنى أمره بها)
[انظر استدلالهم هذا: مجموع الفتاوى 8/340] .
وأهل السنة يقولون: (إن الله يحب الإيمان والعمل الصالح ويرضى به؛ كما لا يأمر ولا يرضى بالكفر والفسوق والعصيان ولا يحبه؛ كما لا يأمر به وإن كان قد شاءه) .
[مجموع الفتاوى 8/475] .
4 في (أ) : عصوا.
5 ما بين المعقوفتين نص مطابق لما في مجمع فتاوى شيخ الإسلام 8/43.
وحاصل قولهم إنكار القدر، وأن الأمر أنف1 فقابلهم أولئك بالقول بالجبر، وأنهم لا يخرجون عن قدره وقضائه، نظراً منهم إلى أن الأمر كائن بمشيئة الله وقدره [وأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وأنه تعالى خالق كل شيء وريه ومليكه، ولا يكون في مليكه شيء إلا بقدرته وخلقه ومشيئته]2. كما قلا تعالى: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} 3، و {مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 4، و {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ} 5، {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} 6؛ ونحو ذلك من الآيات.
ولا ريب أن هذا أصل عظيم من أصول الإيمان، لا بد منه في حصول الإيمان. وبإنكاره ضلت القدرية النفاة، وخالفوا جميع الصحابة وأئمة الإسلام، لكن لابد معه من الإيمان بالإرادة الشرعية الدينية7 التي نزلت بها الكتب السماوية، ودلت عليها النصوص النبوية.
1 أنف: بضم الهمزة والنون: أي أن كل شيء يخلقه الله، فهو مستأنف جديد، لم يكن مقدراً ولا مكتوباً.
2 ما بين المعقوفتين، نص موافق تماماً لما في مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/43، 99.
وهذا مذهب أهلالسنة. فلا يخرج شيء من الكائنات عن قدرته ومشيئته وخلقه. وعليه فجميع أفعال العباد مخلوقة له سبحانه وتعالى، فالعبد فاعل لفعله حقيقة، والله هو الخالق لهذا الفاعل ولفعله. وهو الذي جعله فاعلاً حقيقة.
انظر: مجوع فتاوى شيخ الإسلام 16/237، 8/466، 468 وخلق أفعال العباد للبخاري ص18، 48 وفتح الباري 13/537، 538.
3 سورة القمر الآية (49) .
4 سورة الأنعام الآية (111) .
5 سورة الأنعام الآية (112) .
6 سورة الإنسان الآية (30) .
7 الإرادة الشرعية الدينية: هي المتضمنة للمحبة والرضى.
أما الإرادة الكونية القدرية: فهي المشيئةالشاملة لجميع الحوادث، وعليه قول المسلمين: ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. شرح العقيدة الطحاوية ص79.
ومما ورد في كتاب اللهمن الإرادة الشرعية:
قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185] .
وأئمة المسلمين قد أثبتوا هذه وهذه، وذكروا الجمع بينهما1، وآمنوا بكل الأصلين، وفرقوا بين لام العلة الباعثة الفاعلة، وبين لام الغاية والصيرورة والعاقبة؛ والقرآن قد جاء ببيان اللامين، فالأولى في قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} 2 {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 3 {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} 4
والثانية: في قوله تعالى: {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} 5
=وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النساء: 26] .
وقوله تعالى: {مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 6] .
ومما ورد في كتاب الله من الإرادة الكونية:
قوله تعالى: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً} [الأنعام: 125] .
وقوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253] .
وقوله تعالى: {وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} [هود: 34] .
1 أثبت المسلمون أهل السنة، الإرادتين الكونية والشرعية. فيقول: إن الله يريد الكفر من الكافر ويشاؤه، ويريد المعاصي من العاصي ويشاؤه كوناً وقدراً. لكنه تعالى لا يحبها ولا يرضاها ولا يأمر بها، بل ويبغضها ويسخطها ويكرهها وينهى عنها. وقد أراد العبادة كوناً وأرادها شرعاً، وأحبها وأمر بها، ورضي أن يفعلوها. وإذا لم يفعلوها، لم يكن قد شاء أن تكون، إذ لو شاء وأ {ادها كوناً لكان.
انظر شرح العقيدة الطحاوية ص80-81، 324؛ ومجموع الفتاوى 8/55.
2 سورة الذاريات الآية (56) . واللام في (ليعبدون) للتعليل. انظر: إعراب القرآن الكريم وبيانه، لمحي الدين درويش، طبعة اليمامة، ودار ابن كثير، بيوت، نشر دار الإرشاد، حمص، سوريا، 1408هـ 1988م، 9/323.
3 سورة النساء الآية (64) .
4 سورة البقرة الآية (185) . واللام في (لتكملوا) و (لتكبروا) للتعليل، انظر: الكشاف للزمخشري 1/337، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/55- 56.
5 سورةالقصص الآية (8) . واللام في (ليكون)، للعاقبة والصيرورة. انظر: جامع البيان
{وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} 1 {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} 2، على أحد القولين.
فمن نفى الإرادة الشرعية الأمرية، فهو جبري ضال مبتدع. ومن نفى الإرادة الكونية القدرية، فهو قدري ضال مبتدع؛ ومن قال: إن العبادة في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 3 بمعنى: إلا لتجري أفعالهم على مقتضى إرادتي الكونية4 فقد أدخل جميع الخلق مؤمنهم وكافرهم، وبرهم وفاجرهم، في هذه العبادة، وجعل /عابد/5 الأصنام والشيطان والأوثان /عابداً/6 للرحمن قائماً بما خلق الله له الإنس والجان، لكن بمعنى جريان الإرادة القدرية الكونية عليهم، لا بمعنى الاتحاد والحلول7.......
1 سورة هود الآية (179) .
إن القول في اللام هنا بأنه للعاقبة، لا يتوجه، لأن ذلك يكون بمعنى: أن عاقبة هؤلاء، جهنم؛ وعاقبة المؤمنين العبادة؛ من غير أن يكون الخالق قصد أن يخلقهم لا لهذا ولا لهذا، ولكن أراد خلق كل ما خلقه لا لشيء آخر. وهذا قول نفاة الحكمة، كالأشاعرة وأتباعهم.
انظر: ومجموع فتاوي شيخ الإسلام 8/44.
2 سورة هود الآية (119) .
3 سورة الذاريات الآية (56) .
4 أي كما قال ابم العربي في القول المنقول عنه سابقاً ص486.
5 ساقط في (أ) .
6 في (د) : عابد. بدون نصب.
7 الحلول والاتحاد: يريد أصحاب هذا القول، حلول الخالق في المخلوق أو اتحادهما فيكونا كالشيء الواحد. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
وقد حصرهما شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في أربعة أقسام:
الأول: الحلول الخاص: وهو قول النسطورية من النصارى: إن اللاهوت حل في الناسوت، وتدرع به كحلول الماء في الإناء. ونحوه قول غلاة الرافضة، أنه تعالى حل بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه.
الثاني: الاتحاد الخاص: وهو قول يعقوبية النصارى: أن اللاهوت والناسوت احتلطا وامتزجا، كاختلاط اللبن بالماء.
الثالث: الحلول العام: وهو ما ذكر لطائفة الجهمية المتقدين: أن الله بذاته في كل مكان.
الرابع: الاتحاد العام: وهو قول الملاحدة الذين يزعمون أنمه تعالى عين وجود الكائنات، كابن عربي وابين سبعين وابن الفارض والتلمساني وأتباعهم. وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى.
[مجموع فتاوى شيخ الإسلام 12/171، 172، 112، 115، 124؛] .
والمقصود هنا هو القسم الرابع (الاتحاد العام) أي أن من فسر الآية بمعنى لتجري أفعالهم على مقتضى إرادتي، إنما أدخل البر والفاجر ضمن عباد الرحمن على معنى جريان الإرادة الكونية القدرية، لا على معنى الاتحاد العام الذي لا يفرق أصحابه بين وجود الخالق ووجود المخلوق، فيكون الخالق عين المخلوقات، بحيث أن من عبد الأصنام والأشجار فقد عبد الله على قولهم الفاسد. ويريد المصنف: أن من فسر الآية يبمعنى (لتجري أفعالهم على مقتضى إرادتي) فقد جعل عابد الأصنام والشيطان عباداً للرحمن. وإنما أدخلهم ضمن عباد الرحمن على معنى جريان الإرادة الكونية القدرية، لا بمعنى أن الله بذاته في كل مكان.
الذي قاله صاحب الفصوص1وطائفة الاتحاد الكفار2.
وقال قائلون بالجبر: لا شك أن الخلق معبدون بجريان الأقدار عليهم. يريدون أن ذلك هو المقصود بالآية، كما سيأتي حكاية هذا من غيرهم.
والعبادة- /وإن كانت/3 أقصى غاية الذل والخضوع مطلقاً4كما في كقوله:
= الثالث: الحلول العام: وهو ما ذكر لطائفة الجهمية المتقدين: أن الله بذاته في كل مكان.
الرابع: الاتحاد العام: وهو قول الملاحدة الذين يزعمون أنمه تعالى عين وجود الكائنات، كابن عربي وابين سبعين وابن الفارض والتلمساني وأتباعهم. وهؤلاء أكفر من اليهود والنصارى.
[مجموع فتاوى شيخ الإسلام 12/171، 172، 112، 115، 124؛] .
والمقصود هنا هو القسم الرابع (الاتحاد العام) أي أن من فسر الآية بمعنى لتجري أفعالهم على مقتضى إرادتي، إنما أدخل البر والفاجر ضمن عباد الرحمن على معنى جريان الإرادة الكونية القدرية، لا على معنى الاتحاد العام الذي لا يفرق أصحابه بين وجود الخالق ووجود المخلوق، فيكون الخالق عين المخلوقات، بحيث أن من عبد الأصنام والأشجار فقد عبد الله على قولهم الفاسد. ويريد المصنف: أن من فسر الآية يبمعنى (لتجري أفعالهم على مقتضى إرادتي) فقد جعل عابد الأصنام والشيطان عباداً للرحمن. وإنما أدخلهم ضمن عباد الرحمن على معنى جريان الإرادة الكونية القدرية، لا بمعنى أن الله بذاته في كل مكان.
1 الفصوص: هو كتاب "فصوص الحكم" لمحي الدين، أبي بكر محمد بن علي بن محمد، بن عربي الصوفي. وقد تقدم ذكر نوع الحلول والاتحاد الذي أورده في هذا الكتاب. ومما قاله في ذلك:
فأنت عبد وأنت رب
…
لمن له فيه أنت عبد
وقال أيضاً:
فلم يبق إلا الحق لم يبق كائن
…
فما ثم موصول وما ثم بائن
انظر: شرح الشيخ عبد الرزاق التلمساني على "فصوص الحكم" لمحيي الدين أبو بكر ابن عربي الصوفي، ط/2، 1386هـ - 1966م، شركة ومطبعة البابي الحلبي وأولاده بمصر. ص118، 119. وانظر أبياته في الحلول أيضاً الصفحات: 11، 14، 33، 114، 122.
2 انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام 2/123- 124.
3 في المطبوع (وإن كانت لغة: أقصى) .
4 الصحاح للجوهري 2/503، تهذيب اللغة للأزهري 2/234، لسان العرب 3/272، مادة (عبد) .
تبارى عتاقاً ناجيات وأتبعت
…
وظيفاً وظيفاً فوق مور معبد1
فهي في الشرع، أخص من ذلك، لأنها اسم للطاعة والانقياد للأوامر الشرعية الدينية، التي دعت إليها الرسل، ودلت عليها الكتب السماوية. كما فسر ابن عباس رضي الله عنه قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ} 2بتوحيده وإخلاص العبادة له3نظراً منه إلى الحقيقة الشرعية، لا إلى أصل الأوضاع اللغوية.
وقد اعترض ابن جرير هنا بأصل الوضع واللغة4. والحق ما قاله ابن عباس، خلافاً لابن جرير، بدليل قوله تعالى: {وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ} 5وتعليلهم ما قالوه بأن العبد لا يخرج عن فعل المولى مغلوباً، والله تعالى هو الغالب وحده، أو نحو هذا التعليل. فهذا قد احتجوا به على القدرية النفاة، وهو احتجاج صحيح على من نفى القدر، وزعم أن العبد يخلق أفعال نفسه؛ لأن الله تعالى لا يعصى عنوة، بل علمه وقدرته وعزته وحكمته وربوبيته العامة، وكلماته التامة التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر6، مانعة ومبطلة لقول القدرية النفاة. فإن الصحابة قاطبة وسائر أهل السنة والجماعة، متفقون على أنه ما شاء الله كان، وما لم يكن،
1 تقدم تخريجه في ص311.
2 سورة البقرة الآية (21) .
3 ذكره الطبري في تفسيره 1/160.
4 المرجع السابق نفس الصفحة.
5 سورة الكافرون الآية (3) .
6 هذه إشارة إلى حديث يحيى بن سعيد، أنه قال: اسري برسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى عفريتاً من الجن يطلبه بشعلة من نار، كلما التفت رسول الله صلى الله عليه وسلم رآه، فقال له جبريل: أفلا أعلمك كلمات تقولهن، إذ قتلهن طفئت شعلته وخر لفيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بلى، فقال جبريل: فقل: أعوذ بوجه الله الكريم، وبكلمات الله التامات، التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر، من شر ما ينزل من السماء ومن شر ما يعرج فيها
…
) الحديث. أخرجه الإمام مالك في الموطأ 2/950- 951، باب ما يؤمر به من التعوذ.
ويؤمنون بأن الله تبارك وتعالى عالم بجميع الكائنات قبل أن تكون، كيف تكون1. وغلاة منكري القدر قد أنكروا هذا العلم2فكفرهم بذلك الأئمة، أحمد وغيره3وأما من قال بإثبات القدر خيره وشره، /حلوه/4 ومره، فلا يلزمه، ولا يرد عليه ما ورد على القدرية النفاة، من لزوم خروج العبد على فعل المولى.
وإن قال: أن العبد قد يخرج عن الإرادة الدينية الشرعية، إلى ما يضادها من المعاصي والكفر والفسوق، فيكون بذلك مخالفاً للأوامر الشرعية، وإن كان داخلاً تحت المشيئة الكونية القدرية؛ فالخروج عن القدر والمشيئة نوع آخر.
فالأول غير ممكن لجميع المخلوقات، لجريان الأقدار عليهم طوعاً وكرهاً. وأما الثاني فيقع من الأكثر، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} 5. ولله سبحانه وتعالى في خروج الأكثر عن أمره حكمة يحبها ويرضاها، لائقة بعلمه وحكمته، وعدله وربوبيته، يستحق أن يحمد عليها.
وقد رأيت لشيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى- كلاماً حسناً في معنى قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 6ذكر فيه ستة أقوال7:
أحدها: قول نفاة الحكم، كالأشاعرة8.............................................................
1 انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/440، 459؛ وشرح العقيدة الطحاوية ص125- 126، 1333.
2 تذهب غلاة القدرية إلى أن الله لا يعلم الأشياء قبل وقوعها.
انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/440، 459؛ وشرح العقيدة الطحاوية ص126.
3 انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام 12/485.
4 في (د) : وحلوه. بزيادة واو في الأول.
5 سورة يوسف الآية (103) .
6 سورة الذاريات الآية (56) .
7 وردت هذه الأقوال الستة في مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/37- 55.
8 تقدم التعريف بهم في ص57.
ومن وافقهم كالقاضي أبي يعلى1، وابن الزاغوني2 والجويني3 والباجي4 وهو وقول جهم بن صفوان5 ومن اتبعه من المجبرة، /القائلين/6 بنفي الحكمة، وأنها تفضي إلى الحاجة. فنفوا أن يكون في القرآن لام كي، وقالوا: يفعل ما يشاء لا لحكمة، فأثبتوا القدرة والمشيئة، وهذا تعظيم، ونفوا الحكمة لظنهم أنها تستلزم الحاجة7.
الثاني: قول المعتزلة8 ومن وافقهم: وهو أنه تعالى يخلق ويأمر، لحكمة تعود إلى العبادة وهي نفعهم، والإحسان إليهم، فلم بخلق ولم يأمر إلا لذلك، لكن قالوا بأنه يخلق من يتضرر بالخلق، فتناقضوا بذلك. ثم افترقوا على قولين:
1 هو محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد، القاضي أبو يعلى، شيخ الحنابلة، البغدادي، صاحب التعليقة الكبرى، وأحكام القرآن، والعدة في أصول الفقه وغيرها. (ت458هـ) .
انظر: تاريخ بغداد 2/ 256، وسير الأعلام 18/ 89.
2 هو على بن عبيد الله بن نصر بن عبيد الله، بن الحسن بن الزاغوني، البغدادي، صاحب التصانيف. (ت 458هـ) .
سير الأعلام 19/ 605، وشذرات الذهب 4/ 80.
3 هو عبد الملك بن عبد الله بن يوسف بن عبد الله، إمام الحرمين، أبو المعالي الجويني، الشافعي، صاحب التصانيف. كان فيه اعتزال. قال الذهبي: إنه جاور مكة وتعبد وتاب منها. وأنه في الآخر رجح مذهب السلف في الصفات. (ت 478هـ) .
المستفاد من ذيل تاريخ بغداد 19/ 174، سير الأعلام 18/ 468، طبقات السبكي 5/ 165.
4 هو أحمد بن سليمان أبو القاسم الباجي، روى عن أبيه، وحدث عن حاتم بن محمد، ومحمد ابن عتاب وغيرهم. وأجاز للقاضي عياض، اتفق موته بجدة بعد الحج (493هـ) .
سير الأعلام 18/ 545، والديباج المذهب في معرفة أعيان علماء المذهب، لإبراهيم بن على بن فرحون المالكي، وبهامشه نيل الابتهاج، لأحمد بن أحمد التنبكتي، ط/ 1، 1351،الفحامين، بمصر، 1/ 183.
5 تقدمت ترجمته في ص 299.
6 في (ج) و (د) : قائلين.
7 مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/ 37- 38.
8 تقدم التعريف بهم في ص 225.
منهم من أنكر القدر، ووضع لربه شرعاً بالتجوير والتعديل، وهذا هو قول القدرية.
ومنهم من أقر بالقدر، وقال: حكمته خفيت علينا. وهذا قول ابن عقيل وغيره من المثبتين للقدر. فهم يوافقون المعتزلة على إثبات الحكم، وأنها ترجع إلى المخلوق، ويقرون بالقدر1.
الثالث: قول من أثبت حكمة تعود إلى الرب، لكن بحسب علمه، فقال: خلقهم ليعبدوه ويحمدوه، فمن وجد منه ذلك فهو مخلوق له، وهم المؤمنون. ومن لم يوجد منه ذلك، فليس بمخلوق له، قالوا: وهذه /حكمة/2 مقصودة، وهي واقعة، بخلاف الحكمة التي أثبتها المعتزلة، فإنهم أثبتوا حكمة هي: نفع العباد. ثم قالوا: خلق من علم أنه لا ينتفع بالخلق، بل يتضرر، فتناقضوا كما تقدم؛ ونحن أثبتنا حكمة /علم/3 أنها تقع فوقعت4. وقد يخلق من يتضرر بالخلق لنفع الآخرين، وفعل الشر القليل لأجل الخير الكثير حكمة، كإنزال المطر لنفع العباد، وإن تضررالبعض.
قالوا: وفي خلق الكفار وتعذيبهم اعتبار للمؤمنين، وجهادهم ومصالحهم. وهذا اختيار القاضي أبي خازم5 ابن القاضي أبي يعلى6، قالوا: فقوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} 7 وهو مخصوص بمن وقعت منه العبادة. وهذا قول طائفة من السلف والخلف8. وهو قول الكرامية.
1 مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/ 38- 39.
2 في (أ) : الحكمة.
3 في (أ) على.
4 أي وقعت تلك الحكمة بمعرفة عباده المؤمنين، وحمدهم له، وثناؤهم عليه وتمجيدهم له.
5 هو محمد بن محمد بن الحسين بن محمد، أبو يعلى الصغير، القاضي أبي خازم، ابن القاضي الكبير أبي يعلى ابن الفراء البغدادي، شيخ الحنابلة، تفقه بأبيه وبعمه أبي الحسين محمد (ت560هـ) . سير الأعلام 20/ 353، والنجوم الزاهرة 5/ 370، وشذرات الذهب 4/ 190.
6 تقدمت ترجمته ص 494.
7 سورة الذاريات الآية (56) .
8 أي القول بالتخصيص في الآية، قال به الكلبي والضحاك وسفيان الثوري.
وعن سعيد بن المسيب1 في معنى الآية قال: (ما خلقت من يعبدني إلا ليعبدني، كذلك قال الضحاك2 والفراء3 وابن قتيبة4 هذا خاص بأهل طاعته5. قال الضحاك: هي للمؤمنين، وهذا اختيار أبي بكر بن الطيب وأبي يعلى –هذا بمعنى الخصوص لا العموم، لأن البله والأطفال والمجانين، لا يدخلون تحت الخطاب، وإن كانوا من الإنس، وكذلك الكفار6....................................
انظر: تفسير البغوي 7/ 380، والجامع لأحكام القرآن 17/ 37.
1 هو سعيد بن المسيب بن حزن، أبو محمد القرشي، عالم أهل المدينة، وسيد التابعين في زمانه، سمع من عثمان وعلي وغيرهما من الصحابة، (ت 93هـ) .
انظر: سير الأعلام 4/ 217- 246؛ تهذيب التهذيب 4/ 84.
2 تقدمت ترجمته في ص 353.
3 هو يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور، أبو زكريا الكوفي النحوي، له: معاني القرآن. (ت 207هـ) . تاريخ بغداد 14/ 146، سير الأعلام 10/ 118.
4 تقدمت ترجمته في ص 353.
5 انظر زاد المسير لابن الجوزي 8/ 42. وتفسير البغوي 7/ 380.
6 مسألة: هل الكفار مخاطبون بالشرع هذه مسألة مختلف فيها عند الأصوليين، هل الكفار مخاطبون بأصول الشريعة وفروعه.
فأجمعوا على تكليف الكفار بأصول الشريعة، كالإيمان وتصديق الرسل.
[انظر: التلويح على التوضيح لمتن التنقيح في أصول الفقه، للتفتزاني (792هـ) وبهامشه شرح التوضيح، مكتبة محمد على الصبيح وأولاده بمصر، 1 213- 214] .
واختلفوا في توجه الخطاب الشرعي إلى الكفار في تكليفهم بفروع الشريعة (كجميع أنواع العبادات) إلى أقوال عدة، أوصلها البعض إلى تسعة، أهمها ما يلي:
القول الأول: أنهم مخاطبون بالفروع مطلقاً، بشرط تقدم الإيمان. بدليل قوله تعالى:{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (المدثر:42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (المدثر:43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ}
(المدثر الآيات: 42، 43، 44) . فدل على أن مؤاخذاتهم على هذه الأعمال، ولولا تكليفهم بها، لما عوقبوا عليها. وهذا مذهب المالكية والشافعية.
انظر: بيان المختصر شرح مختصر ابن حاجب، لشمس الدين محمود بن عبد الرحمن الأصفهاني (ت 749هـ) تحقيق د. محمد مظهر بقا، ط/ 1، 51406- 1986م، دار المنار جدة 1/ 424] . فواتح الرحموت، بهامش المستصفى 1/ 128. التلويح على التوضيح.
بدليل قوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ} 1 الآية، فمن خلق للشقاء ولجهنم، لم يخلق للعبادة) 2.
قلت: قوله: وهذا قول طائفة من السلف والخلف، يعني /القول/3 بالتخصيص في الآية، لا أصل القول الثالث.
ثم قال شيخ الإسلام: قلت: (قول الكرامية ومن وافقهم، وإن كان أرجح من قول المعتزلة -لما أثبتوه من حكمة الله، وقولهم في تفسير الآية، وإن وافقوا فيه بعض السلف- فهو قول ضعيف مخالف لقول الجمهور4.
والقول الرابع: أنه على العموم، لكن المراد بالعبادة تعبيده لهم وقهرهم ونفوذ قدرته
= 1/213- 214، إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول، للشوكاني (ت 1255هـ) ، دار المعرفة بيروت ص 10.
القول الثاني: أنهم غير مخاطبين بالفروع مطلقاً. لأن العبادة لنيل الثواب، والكافر ليس أهلاً له، فلا يؤمر بها. وهذا قول جمهور الحنيفة. [التلويح على التوضيح 1/ 213، فواتح الرحموت 1/ 130، بيان المختصر 1/ 425] .
القول الثالث: أنهم مكلفون بالنواهي دون الأوامر. [فواتح الرحموت 1/ 128، وإرشاد الفحول ص 10] .
وذكر غير ذلك من الأقوال.
وقد رجح العلماء القول الأول، بأنهم مخاطبون ومكلفون بالفروع مطلقاً، إلا أن الآداء لا يصح منهم حال كفرهم. انظر هذا الترجيح: مقاصد المكلفين فيما يتعبد به لرب العالمين، د. التكليفي في الشريعة الإسلامية، د. محمد أبو الفتح البيانوني، دار القلم، دمشق، ط/ 1، 1409هـ- 1988م، ص 283. وقد استوفي هذه المسألة من ص 278- 285.
1 سورة الأعراف الآية (179) .
2 إلى هنا نقل نصاً من (زاد المسير) لابن الجوزي، 8/42 ابتداءً من قول سعيد بن المسيب.
وهو مجموع الفتاوى 8/40، والجامع لأحكام القرآن 17/37.
3 في جميع النسخ: بالقول. بزيادة باء في الأول. والكلمة ساقطة في المطبوع.
4 من بداية القول الثالث، إلى هنا، انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/39- 40.
ومشيئته فيهم، وأنه أصارهم إلى ما خلقوا له من السعادة والشقاوة1.
وفسروا العبادة بالتعبيد القدري. وهذا يشبه قول من يقول من المتأخرين: أنا كافر برب يعصى2 فإنه جعل كل ما يقع من العباد طاعة، كما قال قائلهم:
أصبحت منفعلاً لما يختاره
…
مني ففعلى كله طاعات3
وأما هؤلاء فجعلوا عباد الله، كون العباد تحت المشيئة.
وكان بعض شيوخهم يقول عن إبليس: إن كان قد عصى الأمر، فقد أطاع القدر والمشيئة4.
وما رواه ابن حاتم5 عن زيد بن أسلم6 في قوله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} 7 قال: جبلهم على الشقاوة والسعادة8.
وقال وهب9: جبلهم على الطاعة، وجبلهم على معصية10، وقد روي أيضاً
1 من بداية القول الرابع إلى هنا: مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/45.
2 مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/47.
3 لم أعرف مصدره ولا قائله.
4 مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/47.
5 تقدمت ترجمته في ص343.
6 هو زيد بن أسلم أبو عبد الله العدوي، العمري المدني الفقيه، حدث عن والده أسلم مولى عمر، وعن ابن عمر وجابر بن عبد الله وعدد من الصحابة. (ت136هـ) .
7 سورة الذاريات الآية (56) .
8 انظر: جامع البيان للطبري 27/11، وتفسير البغوي 7/380، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/45.
9 هو وهب بن منبه بن كامل بن سيج بن ذي كبار، العلامة الأخباري القصصي، أبو عبد الله الأبناوي اليماني الصنعاني. ولد في زمن عثمان (34هـ) ، وأخذ عن ابن عباس وابن عمر وغيرهما من الصحابة. (ت110هـ) وقيل (114هـ) .
سير الأعلام 4/544، تهذيب التهذيب 11/166.
10 مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/45.
عن طائفة نحوه1.
وهؤلاء وإن وافقوه من قبلهم في معنى الآية، فهم –أعني زيد بن أسلم ووهب بن منبه- من أعظم الناس تعظيماً للأمر والنهي والوعد والوعيد2.
وأما من قبلهم، فهم إباحية، يسقطون الأمر والنهي.
والقول الخامس: قول من يقول: إلا ليخضعوا لي، ويذلوا لي. قالوا: ومعنى العبادة في اللغة: الذل والانقياد، وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله، ومتذلل لمشيئته، لا يملك أحد لنفسه خروجاً عما خلق له3.
وقد ذكر أبو الفرج4 عن ابن عباس: إلا لتقروا بالعبادة طوعاً وكرهاً. قال5: وبيان هذا قوله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 6، وهذه الآية توافق قول من قال: إلا ليعرفوني، كما سيأتي.
وهؤلاء الذين أقروا بأن الله خالقهم، لم يقروا بذلك كرهاً، بخلاف إسلامهم وخضوعهم له، فإنه يكون كرهاً، وأما نفس الإقرار، فهو فطري فطروا عليه، وبذلوه طوعاً7.
1 روي نحو ذلك عن ابن المبارك، وأحمد بن حنبل في إحدى الروايتين عنه، وذلك في تفسير قول النبي صلى الله عليه وسلم:"كل مولود يولد علة الفطرة". أي: على ما كتب له من سعادة وشقاوة. انظر: فتاوى شيخ الإسلام 8/45.
*وقصد هؤلاء الرد على المكذبين بالقدر، القائلين بأنه يشاء ما لا يكون، ويكون ما لا يشاء.
انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/45.
2 المرجع السابق نفس الصفحة.
3 زاد المسير لابن الجوزي 8/43، وتفسير البغوي 7/381. مجموع فتاوى شيخ الإسلام، 8/49.
4 هو عبد الرحمن بن علي بن الجوزي. تقدم ترجمته في ص344.
5 زاد المسير لابن الجوزي 8/42.
6 سورة لقمان الآية (25) .
7 زاد المسير 8/42، ومجموع فتاوى شيخ الإسلام 8/49.
وقال السدي1: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} 2 قال: خلقهم للعبادة، ولكن من العبادة عبادة لا تنفع؛ {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} 3، هذا منهم عبادة، وليس ينفعهم مع شركهم4.
وهذا المعنى صحيح، ولكن المشرك يعبد الشيطان، وما عدل به الله، وهذا ليس مراد الآية، فإن مجرد الإقرار بالصانع، لا يسمى عبادة لله مع الشرك به، ولكن يقال: كما قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَاّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 5 6.
هذا آخر ما وجت من هذه الرسالة7. والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم.
1 تقدمت ترجمته في ص 251.
2 سورة الذاريات الآية (56) .
3 سورة لقمان الآية (25) . والزمر الآية (38) .
4 إلى هنا انتهى قول السدي. انظر: تفسير ابن كثير 4/255.
5 سورة يوسف الآية (106) .
6 مجمع فتاوى شيخ الإسلام 8/50.
7 وقد تقدم للمصنف في ص493 قوله: إنه رأى لشيخ الإسلام ابن تيمية ستة أقوال، في معنى قوله تعالى:{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] . وقد وجد منها في هذه الرسالة خمسة.
أما السادس: فقد ذكره شيخ الإسلام في مجموع فتاواه 8/51- 52، وهو قول جمهور المسلمين: أن الله خلقهم لعبادته، وهو فعل ما أمروا به. قالوا: يؤيده قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5]، وقوله تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً} [التوبة: 31] .