الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَأَمَّا الْخَرْصُ فِي الْمُعَامَلَاتِ بَيْنَ النَّاسِ فَلَا يُذَمُّ هَذَا الذَّمَّ وَبَعْضُهُ مَذْمُومٌ إِذَا أَدَّى إِلَى الْمُخَاطَرَةِ وَالْمُقَامَرَةِ. وَقَدْ أُذِنَ فِي بَعْضِ الْخَرْصِ لِلْحَاجَةِ.
فَفِي «الْمُوَطَّأِ» عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ وَأَبِي هُرَيْرَةَ «أَنَّ النَّبِيءَ صلى الله عليه وسلم رَخَّصَ فِي بَيْعِ الْعَرَايَا بِخَرْصِهَا»
يَعْنِي فِي بَيْعِ ثَمَرَةِ النَّخَلَاتِ الْمُعْطَاةِ عَلَى وُجْهَةِ الْعَرِيَّةِ وَهِيَ هِبَةُ مَالِكِ النَّخْلِ ثَمَرَ بَعْضِ نَخْلِهِ لِشَخْصٍ لِسَنَةٍ مُعَيَّنَةٍ فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَقْبِضَ ثَمَرَتَهَا عِنْدَ جِذَاذِ النَّخْلِ فَإِذَا بَدَا لِصَاحِبِ الْحَائِطِ شِرَاءُ تِلْكَ الثَّمَرَةِ قَبْلَ طِيبِهَا رُخِّصَ أَنْ يَبِيعَهَا الْمُعْرَى (بِالْفَتْحِ) لِلْمُعْرِي بِالْكَسْرِ إِذَا أَرَادَ الْمُعْرِي ذَلِكَ فَيَخْرُصُ مَا تَحْمِلُهُ النَّخَلَاتُ مِنَ الثَّمَرِ عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ عِنْدَ الْجِذَاذِ مَا يُسَاوِي ذَلِكَ الْمَخْرُوصَ إِذَا لَمْ يَكُنْ كَثِيرًا وَحُدِّدَ بِخَمْسَةِ أَوْسُقٍ فَأَقَلَّ لِيَدْفَعَ صَاحِبُ النَّخْلِ عَنْ نَفْسِهِ تَطَرُّقَ غَيْرِهِ لِحَائِطِهِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَصْلَهَا عَطِيَّةٌ فَلَمْ يَدْخُلْ إِضْرَارٌ عَلَى الْمُعْرِي مِنْ ذَلِكَ.
وَالْغَمْرَةُ: الْمَرَّةُ مِنَ الْغمر، وَهُوَ الإحاء وَيُفَسِّرُهَا مَا تُضَافُ إِلَيْهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ
تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ
[الْأَنْعَام: 93] فَإِذَا لَمْ تُقَيَّدْ بِإِضَافَةٍ فَإِنَّ تَعْيِينَهَا بِحَسَبِ الْمَقَامِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ [54] . وَالْمُرَادُ:
فِي شُغُلٍ، أَيْ مَا يَشْغَلُهُمْ مِنْ مُعَادَاةِ الْإِسْلَامِ شَغْلًا لَا يَسْتَطِيعُونَ مَعَهُ أَنْ يَتَدَبَّرُوا فِي دَعْوَةِ النَّبِيءِ صلى الله عليه وسلم.
وَالسَّهْوُ: الْغَفْلَةُ. وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ مُعْرِضُونَ إِعْرَاضًا كَإِعْرَاضِ الْغَافِلِ وَمَا هُمْ بِغَافِلِينَ فَإِنَّ دَعْوَةَ الْقُرْآنِ تَقْرَعُ أَسْمَاعَهَمْ كُلَّ حِينٍ وَاسْتِعْمَالُ مَادَّةِ السَّهْوِ فِيِ هَذَا الْمَعْنَى نَظِيرُ اسْتِعْمَالِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ [الماعون: 5] .
[12- 14]
[سُورَة الذاريات (51) : الْآيَات 12 إِلَى 14]
يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
هَذِهِ الْجُمْلَةُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنْ ضمير الْخَرَّاصُونَ [الذاريات: 10] وَأَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا نَاشِئًا عَنْ جُمْلَةِ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ [الذاريات: 10] لِأَنَّ جُمْلَةَ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ أَفَادَتْ تَعْجِيبًا مِنْ سُوءِ عُقُولِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ فَهُوَ مَثَارُ سُؤَالٍ فِي نَفْسِ السَّامِعِ يَتَطَلَّبُ الْبَيَانَ، فَأُجِيبَ بِأَنَّهُمْ يَسْأَلُونَ عَنْ يَوْمِ الدِّينِ سُؤَالَ مُتَهَكِّمِينَ، يَعْنُونَ أَنَّهُ لَا وُقُوعَ لِيَوْمِ الدِّينِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: عَمَّ يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ [النبأ: 1- 3] .
وَ (أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ) مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دلّ عَلَيْهِ يَسْئَلُونَ لِأَنَّ فِي فِعْلِ السُّؤَالِ مَعْنَى الْقَوْلِ. فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: يَقُولُونَ: أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ. وَلَكَ أَنْ تَجْعَلَ جُمْلَةَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ بَدَلًا من جملَة يَسْئَلُونَ لِتَفْصِيلِ إِجْمَالِهِ وَهُوَ مِنْ نَوْعِ الْبَدَلِ الْمُطَابِقِ. وأَيَّانَ اسْمُ اسْتِفْهَامٍ عَنْ زَمَانِ فِعْلٍ وَهُوَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ مَبْنِيٍّ عَلَى الْفَتْحِ، أَيْ مَتَى يَوْمُ الدِّينِ، وَيَوْمُ الدِّينِ زَمَانٌ فَالسُّؤَالُ عَنْ زَمَانِهِ آيِلٌ إِلَى السُّؤَالِ بِاعْتِبَارِ وُقُوعِهِ، فَالتَّقْدِيرُ: أَيَّانَ وُقُوعُ يَوْمِ الدِّينِ، أَوْ حُلُولُهُ، كَمَا تَقُولُ: مَتَى يَوْمُ رَمَضَانَ أَيْ مَتَى ثُبُوتُهُ لِأَنَّ أَسْمَاءَ الزَّمَانِ حَقُّهَا أَنْ تَقَعَ ظُرُوفًا لِلْأَحْدَاثِ لَا لِلْأَزْمِنَةِ.
وَجُمْلَةُ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ جَوَابٌ لِسُؤَالِهِمْ جَرَى عَلَى الْأُسْلُوبِ الْحَكِيمِ مِنْ تَلَقِّي السَّائِلِ بِغَيْرِ مَا يَتَطَلَّبُ إِذْ هُمْ حِينَ قَالُوا: أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ، أَرَادُوا التَّهَكُّمَ وَالْإِحَالَةَ فَتَلَقِّي كَلَامِهِمْ بِغَيْرِ مُرَادِهِمْ لِأَنَّ فِي الْجَوَابِ مَا يَشْفِي وَقْعَ تَهَكُّمِهِمْ عَلَى طَرِيقَةِ قَوْله تَعَالَى:
يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [الْبَقَرَة: 189] . وَالْمَعْنَى: يَوْمُ الدِّينِ يَقَعُ يَوْمَ تَصْلَوْنَ النَّارَ وَيُقَالُ لَكُمْ: ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ.
وَانْتَصَبَ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ وَهُوَ خَبَرٌ عَنْ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ السُّؤَال عَنهُ بقَوْلهمْ: أَيَّام يَوْمُ الدِّينِ. وَالتَّقْدِيرُ: يَوْمُ الدِّينِ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ.
وَالْفَتْنُ: التَّعْذِيبُ وَالتَّحْرِيقُ، أَيْ يَوْمَ هُمْ يُعَذَّبُونَ عَلَى نَارِ جَهَنَّمَ وَأَصْلُ الْفَتْنِ الِاخْتِيَارُ. وَشَاعَ إِطْلَاقُهُ عَلَى مَعَانٍ مِنْهَا إِذَابَةُ الذَّهَبِ عَلَى النَّارِ فِي الْبَوْتَقَةِ لِاخْتِيَارِ مَا فِيهِ مِنْ مَعْدِنٍ غَيْرِ ذَهَبٍ، وَلَا يُذَابُ إِلَّا بِحَرَارَةِ نَارٍ شَدِيدَةٍ فَهُوَ هُنَا كِنَايَةٌ عَنِ الْإِحْرَاقِ الشَّدِيدِ.
وَجُمْلَةُ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ مَقُولُ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ الْخِطَابُ، أَيْ يُقَالُ لَهُمْ حِينَئِذٍ، أَوْ مَقُولًا لَهُمْ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ، أَيْ عَذَابَكُمْ. وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: ذُوقُوا مُسْتَعْمَلٌ فِي التَّنْكِيلِ.
وَالذَّوْقُ: مُسْتَعَارٌ لِلْإِحْسَاسِ الْقَوِيِّ لِأَنَّ اللِّسَانَ أَشَدُّ الْأَعْضَاءِ إِحْسَاسًا.
وَإِضَافَةُ فِتْنَةٍ إِلَى ضَمِيرِ الْمُخَاطَبِينَ يَوْمَئِذٍ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى مَفْعُولِهِ. وَفِي الْإِضَافَةِ دَلَالَةٌ عَلَى اخْتِصَاصِهَا لَهُمْ لِأَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوهَا بِكُفْرِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْإِضَافَةُ مِنْ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى فَاعِلِهِ. وَالْمَعْنَى: ذُوقُوا جَزَاءَ فِتْنَتِكُمْ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَيْ تَكْذِيبِكُمْ.
وَيَقُومُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ أَنْ يُجْعَلَ الْكَلَامُ مُوَجَّهًا بِتَذْكِيرِ الْمُخَاطَبِينَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ مَا كَانُوا يَفْتِنُونَ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ التَّعْذِيبِ مِثْلَ مَا فَتَنُوا بِلَالًا وَخَبَّابًا وَعَمَّارًا وَشُمَيْسَةَ وَغَيْرَهُمْ، أَيْ هَذَا جَزَاءُ فِتْنَتِكُمْ. وَجَعَلَ الْمَذُوقَ فِتْنَتَهُمْ إِظْهَارًا لِكَوْنِهِ جَزَاءً عَنْ فِتْنَتِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا نَدَامَةً قَالَ تَعَالَى مُوعِدًا إِيَّاهُمْ إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ [البروج: 10] .
وَإِطْلَاقُ اسْمِ الْعَمَلِ عَلَى جَزَائِهِ وَارِدٌ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ [الْوَاقِعَة: 82] أَيْ تَجْعَلُونَ جَزَاءَ رِزْقِ اللَّهِ إِيَّاكُمْ أَنكُمْ تكذّبون وحدانية.
وَالْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ إِلَى الشَّيْءِ الْحَاضِرِ نُصْبَ أَعْيُنِهِمْ، وَهَكَذَا الشَّأْنُ فِي مِثْلِهِ تَذْكِيرُ اسْمِ الْإِشَارَةِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّها بَقَرَةٌ لَا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [68] .
وَمَعْنَى كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ كُنْتُمْ تَطْلُبُونَ تَعْجِيلَهُ فَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلطَّلَبِ، أَيْ كُنْتُمْ فِي الدُّنْيَا تَسْأَلُونَ تَعْجِيلَهُ وَهُوَ طَلَبٌ يُرِيدُونَ بِهِ أَنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ غَيْرُ وَاقِعٍ. وَأَقْوَالُهُمْ فِي هَذَا كَثِيرَةٌ حَكَاهَا الْقُرْآنُ كَقَوْلِهِ: وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ [الْملك: 25] .
وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ فِي مَقَامِ التَّوْبِيخِ وَتَعْدِيدِ الْمَجَارِمِ، كَمَا يُقَالُ لِلْمُجْرِمِ: فَعَلْتَ كَذَا،
وَهِيَ مِنْ مقول القَوْل.