الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَمِنْ بَدِيعِ تَفَنُّنِ الْقُرْآنِ تَوْزِيعُ مُعَادِ الضَّمَائِرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ تَمَاثُلِهَا فِي اللَّفْظِ وَهَذَا يَتَدَرَّجُ فِي مُحَسِّنِ الْجَمْعِ مَعَ التَّفْرِيق وأدق.
[7]
[سُورَة الْأَحْقَاف (46) : آيَة 7]
وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ [الْأَحْقَاف:
5] ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ هَذَا مَسُوقٌ مَسَاقَ الْعَدِّ لِوُجُوهِ فَرْطِ ضَلَالِهِمْ فَإِنَّ آيَاتِ الْقُرْآنِ تُتْلَى عَلَيْهِمْ صَبَاحَ مَسَاءَ تُبَيِّنُ لَهُمْ دَلَائِلَ خُلُوِّ الْأَصْنَامِ عَنْ مُقَوِّمَاتِ الْإِلَهِيَّةِ فَلَا يَتَدَبَّرُونَهَا وَتَحْدُو بِهِمْ إِلَى الْحَقِّ فَيُغَالِطُونَ أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّ مَا فَهِمُوهُ مِنْهَا تَأَثُّرٌ سِحْرِيٌّ، وَأَنَّهَا سِحْرٌ، وَلَمْ يَكْتَفُوا بِذَلِكَ بَلْ زَادُوا بُهْتَانًا فَزَعَمُوا أَنَّهُ مُبِينٌ، أَيْ وَاضِحٌ كَوْنُهُ سِحْرَاً. وَهَذَا انْتِقَالٌ إِلَى إِبْطَالِ ضَلَالٍ آخَرَ مِنْ ضَلَالِهِمْ وَهُوَ ضَلَالُ التَّكْذِيبِ بِالْقُرْآنِ فَهُوَ مُرْتَبِطٌ بِقَوْلِهِ: حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ [الْأَحْقَاف: 1، 2] إِلَخْ.
وَقَوْلُهُ: الَّذِينَ كَفَرُوا إِظْهَارٌ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِالْكُفْرِ وَبِأَنَّهُ سَبَبُ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ.
وَاللَّامُ فِي قَوْلِهِ: لِلْحَقِّ لَامُ الْعِلَّةِ وَلَيْسَتْ لَامَ تَعْدِيَةِ فِعْلِ الْقَوْلِ إِلَى الْمَقُولِ لَهُ أَيْ قَالَ بَعْضُ الْكَافِرِينَ لِبَعْضٍ فِي شَأْنِ الَّذِينَ آمَنُوا وَمَنْ أُجِّلَ إِيمَانُهُمْ. وَالْحَقُّ: هُوَ الْآيَاتُ، فَعَدَلَ عَنْ ضَمِيرِ الْآيَاتِ إِلَى إِظْهَارِ لَفْظِ الْحَقِّ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهَا حَقٌّ وَأَنَّ رَمْيَهَا بِالسِّحْرِ بُهْتَانٌ عَظِيمٌ. ولَمَّا جاءَهُمْ تَوْقِيتٌ لِمَقَالَتِهِمْ، أَيْ يَقُولُونَ ذَلِكَ بِفَوْرِ سَمَاعِ الْآيَاتِ وَكُلَّمَا جَاءَتْهُمْ، أَيْ دُونَ تَدَبُّرٍ وَلَا إجالة فكر.
[8]
[سُورَة الْأَحْقَاف (46) : آيَة 8]
أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)
إِضْرَابُ انْتِقَالٍ إِلَى نَوْعٍ آخَرَ مِنْ ضَلَالِ أَقْوَالِهِمْ.
وَسَلَكَ فِي الِانْتِقَالِ مَسْلَكَ الْإِضْرَابِ دُونَ أَنْ يَكُونَ بِالْعَطْفِ بِالْوَاوِ لِأَنَّ الْإِضْرَابَ يُفِيدُ أَنَّ الْغَرَضَ الَّذِي سَيَنْتَقِلُ إِلَيْهِ لَهُ مَزِيدُ اتِّصَالٍ بِمَا قَبْلَهُ، وَأَنَّ الْمَعْنَى: دَعْ قَوْلَهُمْ: هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [الْأَحْقَاف: 7]، وَاسْتَمِعْ لِمَا هُوَ أَعْجَبُ وَهُوَ قَوْلُهُمُ: افْتَراهُ، أَيِ افْتَرَى نِسْبَتَهُ إِلَى اللَّهِ وَلَمْ يُرِدْ بِهِ السِّحْرَ.
وَالِاسْتِفْهَامُ الَّذِي يُقَدَّرُ بَعْدَ أَمْ لِلْإِنْكَارِ عَلَى مَقَالَتِهِمْ. وَالنَّفْيُ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الِاسْتِفْهَامُ الْإِنْكَارِيُّ يَتَسَلَّطُ عَلَى سَبَبِ الْإِنْكَارِ، أَيْ كَوْنُ الْقُرْآنِ مُفْتَرًى وَلَيْسَ مُتَسَلِّطًا عَلَى نِسْبَةِ الْقَوْلِ إِلَيْهِمْ لِأَنَّهُ صَادِرٌ مِنْهُمْ وَإِنَّمَا الْمَنْفِيُّ الِافْتِرَاءُ الْمَزْعُومُ.
وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي افْتَراهُ عَائِدٌ إِلَى الْحَقِّ فِي قَوْلِهِ: قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ [الْأَحْقَاف: 7] ، أَوْ إِلَى الْقُرْآنِ لِعِلْمِهِ مِنَ الْمَقَامِ، أَيِ افْتَرَى الْقُرْآنَ فَزَعَمَ أَنَّهُ وَحْيٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ.
وَقَدْ أَمر الرَّسُول صلى الله عليه وسلم بِجَوَابِ مَقَالَتِهِمْ بِمَا يَقْلَعُهَا مِنْ جَذْرِهَا، فَكَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
قُلْ جُمْلَةً جَارِيَةً مَجْرَى جَوَابِ الْمُقَاوَلَةِ لِوُقُوعِهَا فِي مُقَابَلَةِ حِكَايَةِ قَوْلِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] .
وَجُعِلَ الِافْتِرَاءُ مَفْرُوضًا بِحَرْفِ إِنِ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ يَكُونَ شَرْطُهُ نَادِرَ الْوُقُوعِ إِشَارَةً إِلَى أَنَّهُ مَفْرُوضٌ فِي مَقَامٍ مُشْتَمِلٍ عَلَى دَلَائِلَ تَقْلَعُ الشَّرْطَ مِنْ أَصْلِهِ.
وَانْتَصَبَ شَيْئاً عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ لِفِعْلِ تَمْلِكُونَ، أَيْ شَيْئًا يُمْلَكُ، أَيْ يُسْتَطَاعُ، وَالْمُرَادُ: شَيْءٌ مِنَ الدَّفْعِ فَلَا تَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ تَرُدُّوا عَنِّي شَيْئًا يَرِدُ عَلَيَّ مِنَ اللَّهِ. وَتَقَدَّمَ مَعْنَى (لَا أَمْلِكُ شَيْئًا) عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ
الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ فِي سُورَةِ الْعُقُودِ [17] .
وَالتَّقْدِيرُ: إِنِ افْتَرَيْتُهُ عَاقَبَنِي اللَّهُ مُعَاقَبَةً لَا تَمْلِكُونَ رَدَّهَا. فَقَوْلُهُ: فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً دَلِيلٌ عَلَى الْجَوَابِ الْمُقَدَّرِ فِي الْكَلَامِ بِطَرِيقِ الِالْتِزَامِ، لِأَن معنى فَلا تَمْلِكُونَ لِي لَا تَقْدِرُونَ عَلَى دَفْعِ ضُرِّ اللَّهِ عَنِّي، فَاقْتَضَى أَنَّ الْمَعْنَى: إِنِ افْتَرَيْتُهُ عَاقَبَنِي اللَّهُ وَلَا تَسْتَطِيعُونَ دَفْعَ عِقَابِهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الشَّائِعَ فِي اسْتِعْمَالِ (لَا أملك لَك شَيْئًا) وَنَحْوِهِ أَنْ يُسْنِدَ فِعْلُ
الْمِلْكِ إِلَى الَّذِي هُوَ مَظِنَّةٌ لِلدَّفْعِ عَنْ مَدْخُولِ اللَّامِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِفِعْلِ الْمِلْكِ كَقَوْلِه تَعَالَى: قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا [الْأَعْرَاف: 188] وَقَوْلِهِ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [الممتحنة: 4] ، أَوْ أَنْ يُسْنَدَ إِلَى عَامٍّ نَحْوُ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِسْنَادُ فَعْلِ الْمِلْكِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ إِلَى الْمُخَاطِبِينَ وَهُمْ أَعدَاء النبيء صلى الله عليه وسلم وَلَيْسُوا بِمَظِنَّةِ أَنْ يَدْفَعُوا عَنْهُ، لِأَنَّهُمْ نَصَّبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي مَنْصِبِ الْحَكَمِ على النبيء صلى الله عليه وسلم فَجَزَمُوا بِأَنَّهُ افْتَرَى الْقُرْآنَ فَحَالُهُمْ حَالُ مَنْ يزْعم أَن يَسْتَطِيعُ أَنْ يَرُدَّ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى طَرِيقَةِ التَّهَكُّمِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ وَجْهَ الْمُلَازِمَةِ بَيْنَ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ فِي قَوْلِهِ: إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أَنَّ اللَّهَ لَا يُقِرُّ أَحَدًا عَلَى أَنْ يُبَلِّغَ إِلَى النَّاسِ شَيْئًا عَنِ اللَّهِ لَمْ يَأْمُرْهُ بِتَبْلِيغِهِ، وَقَدْ دَلَّ الْقُرْآنُ عَلَى هَذَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [الحاقة: 44- 47] . وَلَعَلَّ حِكْمَةَ ذَلِكَ أَنَّ التَّقَوُّلَ عَلَى اللَّهِ يُفْضِي إِلَى فَسَادٍ عَظِيمٍ يَخْتَلُّ بِهِ نِظَامُ الْخَلْقِ، وَاللَّهُ يَغَارُ عَلَى مَخْلُوقَاتِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ كَغَيْرِهِ مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تَجْلِبُهَا الْمَظَالِمُ وَالْعَبَثُ فِي الْأَرْضِ لِأَنَّ ذَلِكَ إِقْدَامٌ عَلَى مَا هُوَ مَعْلُومُ الْفَسَادِ لَا يَخْفَى عَلَى النَّاسِ فَهُمْ يَدْفَعُونَهُ بِمَا يَسْتَطِيعُونَ مِنْ حَوْلٍ وَقُوَّةٍ، أَوْ حِيلَةٍ وَمُصَانَعَةٍ. وَأَمَّا التَّقَوُّلُ عَلَى اللَّهِ فَيُوقِعُ النَّاسَ فِي حَيْرَةٍ بِمَاذَا يَتَلَقَّوْنَهُ فَلِذَلِكَ لَا يُقِرُّهُ اللَّهُ وَيُزِيلُهُ.
وَجُمْلَةُ هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ بَدَلُ اشْتِمَالٍ مِنْ جُمْلَةِ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً لِأَنَّ جُمْلَةَ فَلا تَمْلِكُونَ لِي تَشْتَمِلُ عَلَى مَعْنَى أَنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى أَنْ يَفْتَرِيَ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّهُ أَعْلَمُ مِنْهُمْ بِحَالِ مَنْ يُخْبِرُ عَنِ اللَّهِ بِأَنَّهُ أَرْسَلَهُ وَمَا يُبَلِّغُهُ عَنِ اللَّهِ.
وَذَلِكَ هُوَ مَا يَخُوضُونَ فِيهِ مِنَ الطَّعْنِ وَالْقَدْحِ وَالْوَصْفِ بِالسِّحْرِ أَوْ بِالِافْتِرَاءِ أَو بالجنون، فَمَا صدق (مَا) الْمَوْصُولَةِ الْقُرْآنُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ الظَّاهِرُ فِي افْتَراهُ أَو الرَّسُول صلى الله عليه وسلم الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي افْتَراهُ أَوْ مَجْمُوعُ أَحْوَال الرَّسُول صلى الله عليه وسلم الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا
مُخْتَلَفُ خَوْضِهِمْ. وَمُتَعَلِّقُ اسْمِ التَّفْضِيلِ مَحْذُوفٌ، أَيْ هُوَ أَعْلَمُ مِنْكُمْ. وَالْإِفَاضَةُ فِي الْحَدِيثِ: الْخَوْضُ فِيهِ وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ وَهِيَ مَنْقُولَةٌ مِنْ: فَاضَ الْمَاءُ إِذَا سَالَ. وَمِنْهُ حَدِيثٌ مُسْتَفِيضٌ مُشْتَهِرٌ شَائِعٌ، وَالْمَعْنَى: هُوَ أَعْلَمُ بِحَالِ مَا تُفِيضُونَ فِيهِ.