الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تَقَدَّمَ هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [التغابن: 2] فَإِنَّ لِكُفْرِ الْكَافِرِينَ وَإِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ آثَارًا ظَاهِرَةً مَحْسُوسَةً فَعُلِّقَتْ بِالْوُصْفِ الدَّالِّ عَلَى تَعَلُّقِ الْعِلْمِ الْإِلَهِيِّ بِالْمَحْسُوسَاتِ.
[سُورَة التغابن (64) : آيَة 9]
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ.
مُتَعَلِّقٌ بِفِعْلِ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ [التغابن: 7] الَّذِي هُوَ كِنَايَةٌ عَنْ «تُجَازَوْنَ» عَلَى
تَكْذِيبِكُمْ بِالْبَعْثِ فَيَكُونُ مِنْ تَمَامِ مَا أَمر النبيء صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يَقُولَهُ لَهُمُ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن: 7] .
وَالضَّمِيرُ الْمُسْتَتِرُ فِي يَجْمَعُكُمْ عَائِدٌ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [التغابن: 8] .
وَمَعْنَى يَجْمَعُكُمْ يَجْمَعُ الْمُخَاطَبِينَ وَالْأُمَمَ مِنَ النَّاسِ كُلِّهِمْ، قَالَ تَعَالَى: هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ [المرسلات: 38] .
وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ الْجَمْعُ الَّذِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ [الْقِيَامَة: 3] ، وَهَذَا زِيَادَةُ تَحْقِيقٍ لِلْبَعْثِ الَّذِي أَنْكَرُوهُ.
وَاللَّامُ فِي لِيَوْمِ الْجَمْعِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلتَّعْلِيلِ، أَيْ يَجْمَعُكُمْ لِأَجْلِ الْيَوْمِ الْمَعْرُوفِ بِالْجَمْعِ الْمَخْصُوصِ. وَهُوَ الَّذِي لِأَجْلِ جَمْعِ النَّاسِ، أَيْ يَبْعَثُكُمْ لِأَجْلِ أَنْ يَجْمَعَ النَّاسَ كُلَّهُمْ لِلْحِسَابِ، فَمَعْنَى الْجَمْعِ هَذَا غَيْرُ مَعْنَى الَّذِي فِي يَجْمَعُكُمْ. فَلَيْسَ هَذَا مِنْ تَعْلِيلِ الشَّيْءِ بِنَفْسِهِ بَلْ هُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّجْنِيسِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اللَّامُ بِمَعْنَى (فِي) عَلَى نَحْوِ مَا قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [الْأَعْرَاف: 187]، وَقَوْلِهِ: يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي [الْفجْر: 24] وَقَوْلِ الْعَرَبِ:
مَضَى لِسَبِيلِهِ، أَيْ فِي طَرِيقِهِ وَهُوَ طَرِيقُ الْمَوْتِ.
وَالْأَحْسَنُ عِنْدِي أَنْ يَكُونَ اللَّامُ لِلتَّوْقِيتِ، وَهِيَ الَّتِي بِمَعْنَى (عِنْدَ) كَالَّتِي فِي قَوْلِهِمْ:
كُتِبَ لِكَذَا مَضَيْنَ مَثَلًا، وَقَوْلِهِ تَعَالَى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ [الْإِسْرَاء: 78] .
وَهُوَ اسْتِعْمَالٌ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ الِاقْتِرَابِ وَلِذَلِكَ فَسَّرُوهُ بِمَعْنَى (عِنْدَ)، وَيُفِيدُ هُنَا: أَنَّهُمْ مَجْمُوعُونَ فِي الْأَجَلِ الْمُعَيَّنِ دُونَ تَأْخِيرٍ رَدًّا عَلَى قَوْلِهِمْ: لَنْ يُبْعَثُوا [التغابن: 7]، فَيَتَعَلَّقُ قَوْلُهُ:
لِيَوْمِ الْجَمْعِ بِفِعْلِ يَجْمَعُكُمْ.
فِ «يَوْمَ الْجَمْعِ» هُوَ يَوْمُ الْحَشْرِ.
وَفِي الْحَدِيثِ «يَجْمَعُ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ»
إِلَخْ.
جُعِلَ هَذَا الْمُرَكَّبُ الْإِضَافِيُّ لَقَبًا لِيَوْمِ الْحَشْرِ، قَالَ تَعَالَى: وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [الشورى: 7] .
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَجْمَعُكُمْ بياء الْغَائِب. وقرأه يَعْقُوبُ بِنُونِ الْعَظَمَةِ.
ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ.
اعْتِرَاضٌ بَيْنَ جُمْلَةِ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ [التغابن: 7] بِمُتَعَلِّقِهَا وَبَيْنَ جُمْلَةِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ اعْتِرَاضًا يُفِيدُ تَهْوِيلَ هَذَا الْيَوْمَ تَعْرِيضًا بِوَعِيدِ الْمُشْرِكِينَ بِالْخَسَارَةِ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: أَيْ بِسُوءِ الْمُنْقَلَبِ.
وَالْإِتْيَانُ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ فِي مَقَامِ الضَّمِيرِ لقصد الاهتمام بِهَذَا الْيَوْم بِتَمْيِيزِهِ أَكْمَلَ تَمْيِيزٍ مَعَ مَا يفِيدهُ اسْمُ إِشَارَةِ الْبَعِيدِ مِنْ عُلُوِّ الْمَرْتَبَةِ عَلَى نَحْوِ مَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ: ذلِكَ الْكِتابُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
والتَّغابُنِ: مَصْدَرُ غَابَنَهُ مِنْ بَابِ الْمُفَاعَلَةِ الدَّالَّةِ عَلَى حُصُولِ الْفِعْلِ مِنْ جَانِبَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ.
وَحَقِيقَةُ صِيغَةِ الْمُفَاعَلَةِ أَنْ تَدُلَّ عَلَى حُصُولِ الْفِعْلِ الْوَاحِدِ مِنْ فَاعِلَيْنِ فَأَكْثَرَ عَلَى وَجْهِ الْمُشَارَكَةِ فِي ذَلِكَ الْفِعْلِ.
وَالْغَبْنُ أَنْ يُعْطَى البَائِع ثمنا لمبيعه دُونَ حَقِّ قِيمَتِهِ الَّتِي يُعَوِّضُ بِهَا مثله.
فالغبن يؤول إِلَى خَسَارَةِ الْبَائِعِ فِي بَيْعِهِ، فَلِذَلِكَ يُطْلَقُ الْغَبْنُ عَلَى مُطْلَقِ الْخُسْرَانِ مَجَازًا مُرْسَلًا كَمَا فِي قَوْلِ الْأَعْشَى:
لَا يَقْبَلُ الرِّشْوَةَ فِي حُكْمِهِ
…
وَلَا يُبَالِي غَبْنَ الْخَاسِرِ
فَلَيْسَتْ مَادَّةُ التَّغَابُنِ فِي قَوْلِهِ: يَوْمُ التَّغابُنِ مُسْتَعْمَلَةً فِي حَقِيقَتِهَا إِذْ لَا تَعَارُضَ حَتَّى يَكُونَ فِيهِ غِبْنٌ بَلْ هُوَ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى الْخُسْرَانِ عَلَى وَجْهِ الْمَجَازِ الْمُرْسَلِ.
وَأَمَّا صِيغَةُ التَّفَاعُلِ فَحَمَلَهَا جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى حَقِيقَتِهَا مِنْ حُصُولِ الْفِعْلِ مِنْ جَانِبَيْنِ فَفَسَّرُوهَا بِأَنَّ أَهْلَ الْجَنَّةِ غَبَنُوا أَهْلَ النَّارِ إِذْ أَهْلُ الْجَنَّةِ أَخَذُوا الْجَنَّةَ وَأَهْلُ جَهَنَّمَ أَخَذُوا جَهَنَّمَ قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالْحَسَنُ. فَحَمَلَ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ كَلَام هَؤُلَاءِ الْأَئِمَّة عَلَى أَنَّ التَّغَابُنَ تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْفَرِيقَيْنِ بِحَالِ مُتَبَايِعَيْنِ أَخَذَ أَحَدُهُمَا الثَّمَنَ الْوَافِي، وَأَخَذَ الْآخَرُ الثَّمَنَ الْمَغْبُونَ، يَعْنِي وَقَوْلُهُ عَقِبَهُ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ، إِلَى قَوْلِهِ: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ قَرِينَةٌ عَلَى الْمُرَادِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ وَعَلَى كِلَا الْمَعْنَيَيْنِ يَكُونُ قَوْلُهُ:
وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً إِلَى قَوْلِهِ: وَبِئْسَ الْمَصِيرُ تَفْصِيلًا لِلْفَرِيقَيْنِ، فَيَكُونُ فِي الْآيَةِ مَجَازٌ وَتَشْبِيهٌ وَتَمْثِيلٌ، فَالْمَجَازُ فِي مَادَّةِ الْغَبْنِ، وَالتَّمْثِيلُ فِي صِيغَةِ التَّغَابُنِ، وَهُوَ تَشْبِيهٌ مُرَكَّبٌ بِمَنْزِلَةِ التَّشْبِيهِ الْبَلِيغِ إِذِ التَّقْدِيرُ: ذَلِكَ يَوْمٌ مِثْلُ التَّغَابُنِ.
وَحَمَلَ قَلِيلٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ (وَهُوَ مَا فُسِّرَ إِلَيْهِ كَلَامُ الرَّاغِبِ فِي مُفْرَدَاتِهِ) وَصَرَّحَ ابْنُ
عَطِيَّةَ صِيغَةَ التَّفَاعُلِ عَلَى مَعْنَى الْكَثْرَةِ وَشَدَّةِ الْفِعْلِ (كَمَا فِي قَوْلِنَا: عَافَاكَ اللَّهُ وَتَبَارَكَ اللَّهُ) فَتَكُونُ اسْتِعَارَةً، أَيْ خَسَارَةٌ لِلْكَافِرِينَ إِذْ هُمْ مَنَاطُ الْإِنْذَارِ. وَهَذَا فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [16]، وَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ الْآيَةُ فِي سُورَةِ الصَّفِّ [10] .
فَصِيغَةُ التَّفَاعُلِ مُسْتَعْمَلَةٌ مَجَازًا فِي كَثْرَةِ حُصُول الْغبن تَشْبِيها لِلْكَثْرَةِ بِفِعْلِ مَنْ يَحْصُلُ مِنْ مُتَعَدِّدٍ.
وَالْكَلَامُ تَهْدِيدٌ لِلْمُشْرِكِينَ بِسُوءِ حَالَتِهِمْ فِي يَوْمِ الْجَمْعِ، إِذِ الْمَعْنَى: ذَلِكَ يَوْمُ غَبْنِكُمُ الْكَثِيرِ الشَّدِيدِ بِقَرِينَةِ قَوْلِهِ قَبْلَهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا [التغابن: 8] . وَالْغَابِنُ لَهُمْ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَلَوْلَا قَصْدُ ذَلِكَ لَمَا اقْتَصَرَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَوْمُ تَغَابُنٍ فَإِنَّ فِيهِ رِبْحًا عَظِيمًا لِلْمُؤْمِنِينَ