الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَوْلُهُ: وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ، دَلِيلٌ عَلَى قَوْلِ عُلَمَاءِ أُصُولِ الْفِقْهِ «النَّهْيُ اقْتِضَاءُ كَفٍّ عَنْ فعل» .
وَالْإِشَارَة ب ذلِكَ إِلَى اللَّهْوِ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِسَبَبِ الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ، أَيْ وَمَنْ يُلْهَ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ، أَيْ يَتْرُكُ ذِكْرَ اللَّهِ الَّذِي أُوجَبَهُ مِثْلَ الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ وَيَتْرُكُ تَذَكُّرَ اللَّهِ، أَيْ مُرَاعَاةَ أَوَامِرِهِ وَنَوَاهِيهِ.
وَمَتَى كَانَ اللَّهْوُ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِالِاشْتِغَالِ بِغَيْرِ الْأَمْوَالِ وَغَيْرِ الْأَوْلَادِ كَانَ أَوْلَى بِحُكْمِ النَّهْيِ وَالْوَعِيدِ عَلَيْهِ.
وَأَفَادَ ضَمِيرُ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ: فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ قَصْرَ صِفَةِ الْخَاسِرِ عَلَى الَّذِينَ يَفْعَلُونَ الَّذِي نُهُوا عَنْهُ، وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ فِي اتِّصَافِهِمْ بِالْخُسْرَانِ كَأَنَّ خُسْرَانَ غَيْرِهِمْ لَا يُعَدُّ خُسْرَانًا بِالنِّسْبَةِ إِلَى خُسْرَانِهِمْ.
وَالْإِشَارَةُ إِلَيْهِم ب فَأُولئِكَ لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَنَّهُمُ اسْتَحَقُّوا مَا بَعْدَ اسْمِ الْإِشَارَةِ بِسَبَبِ مَا ذُكِرَ قَبْلَ اسْمِ الْإِشَارَةِ، أَعْنِي اللَّهْوَ عَنْ ذكر الله.
[10]
[سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 10]
وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10)
هَذَا إِبْطَالٌ وَنَقْضٌ لِكَيْدِ الْمُنَافِقِينَ حِينَ قَالُوا: لَا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ [المُنَافِقُونَ: 7] ، وَهُوَ يَعُمُّ الْإِنْفَاقَ عَلَى الْمُلْتَفِّينَ حَوْلَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَالْإِنْفَاقَ عَلَى غَيْرِهِمْ فَكَانَتِ الْجُمْلَةُ كَالتَّذْيِيلِ.
وَفَعَلُ أَنْفِقُوا مُسْتَعْمَلٌ فِي الطَّلَبِ الشَّامِلِ لِلْوَاجِبِ وَالْمُسْتَحَبِّ فَإِنَّ مَدْلُولَ صِيغَةِ:
افْعَلْ، مُطْلَقُ الطَّلَبِ، وَهُوَ الْقَدْرُ الْمُشْتَرَكُ بَيْنَ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ.
وَفِي قَوْله: مِنْ مَا رَزَقْناكُمْ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ الْإِنْفَاقَ الْمَأْمُورَ بِهِ شكر لله عَلَى مَا رَزَقَ الْمُنْفِقُ فَإِنَّ الشُّكْرَ صَرْفُ الْعَبْدِ مَا أَنْعَمَ اللَّهُ بِهِ عَلَيْهِ فِيمَا خُلِقَ لِأَجْلِهِ، وَيُعْرَفُ ذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ الشَّرِيعَةِ.
وَ (مِنْ) لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ بَعْضَ مَا رَزَقْنَاكُمْ، وَهَذِهِ تَوْسِعَةٌ مِنَ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ، وَهَذَا الْبَعْضُ مِنْهُ هُوَ مُعَيَّنُ الْمِقْدَارِ مِثْلَ مَقَادِيرِ الزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ. وَمِنْهُ مَا يَتَعَيَّنُ بِسَدِّ الْخَلَّةِ الْوَاجِبِ سَدَّهَا مَعَ طَاقَةِ الْمُنْفِقِ كَنَفَقَاتِ الْحَجِّ وَالْجِهَادِ وَالرِّبَاطِ وَنَفَقَاتِ الْعِيَالِ الْوَاجِبَةِ وَنَفَقَاتِ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الضَّرُورِيَّةِ وَالْحَاجِيَّةِ، وَمِنْهُ مَا يَتَعَيَّنُ بِتَعَيُّنِ سَبَبِهِ كَالْكَفَّارَاتِ، وَمِنْهُ مَا وَكَّلَ لِلنَّاسِ تَعْيِينَهُ مِمَّا لَيْسَ بِوَاجِبٍ من الْإِنْفَاق فَذَلِك مَوْكُولٌ إِلَى رَغَبَاتِ النَّاسِ فِي نَوَالِ الثَّوَابِ فَإِنَّ ذَلِكَ بَابٌ عَظِيمٌ مِنَ الْقُرْبَى مِنْ رِضَى اللَّهِ تَعَالَى،
وَفِي الْحَدِيثِ «الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطَايَا كَمَا يطفىء الْمَاءُ النَّارَ»
. وَقَدْ ذَكَّرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِمَا فِي الْإِنْفَاقِ مِنَ الْخَيْرِ بِأَنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُكْثِرُوا مِنْهُ مَا دَامُوا مُقْتَدِرِينَ قَبْلَ الْفَوْتِ، أَيْ قَبْلَ تَعَذُّرِ الْإِنْفَاقِ وَالْإِتْيَانِ بِالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَذَلِكَ حِينَ يَحِسُّ الْمَرْءُ بِحَالَةٍ تُؤْذِنُ بِقُرْبِ الْمَوْتِ وَيُغْلَبُ عَلَى قُوَاهُ فَيَسْأَلُ اللَّهَ أَنْ يُؤَخِّرَ مَوْتَهُ وَيَشْفِيَهُ لِيَأْتِيَ بِكَثِيرٍ مِمَّا فَرَّطَ فِيهِ مِنَ الْحَسَنَاتِ طَمَعًا أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ فَإِنْ كَانَ فِي أَجَلِهِ تَأْخِيرٌ فَلَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَسْتَجِيبَ لَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَجَلِ تَأْخِيرٌ أَوْ لَمْ يُقَدِّرِ اللَّهُ لَهُ الِاسْتِجَابَةَ فَإِنَّهُ خَيْرٌ كَثِيرٌ.
ولَوْلا حَرْفُ تَحْضِيضٍ، وَالتَّحْضِيضُ الطَّلَبُ الْحَثِيثُ الْمُضْطَرُّ إِلَيْهِ، وَيُسْتَعْمَلُ
لَوْلا لِلْعَرْضِ أَيْضًا وَالتَّوْبِيخِ وَالتَّنْدِيمِ وَالتَّمَنِّي عَلَى الْمَجَازِ أَوِ الْكِنَايَةِ، وَتَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فِي سُورَةِ يُونُسَ [98] .
وَحَقُّ الْفِعْلِ بَعْدَهَا أَنْ يَكُونَ مُضَارِعًا وَإِنَّمَا جَاءَ مَاضِيًا هُنَا لِتَأْكِيدِ إِيقَاعِهِ فِي دُعَاءِ الدَّاعِي حَتَّى كَأَنَّهُ قَدْ تَحَقَّقَ مِثْلَ أَتى أَمْرُ اللَّهِ [النَّحْل: 1] وَقَرِينَةُ ذَلِكَ تَرْتِيبُ فِعْلَيْ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ عَلَيْهِ.
وَالْمَعْنَى: فَيَسْأَلُ الْمُؤْمِنُ رَبَّهُ سُؤَالًا حَثِيثًا أَنْ يُحَقِّقَ تَأْخِيرَ مَوْتِهِ إِلَى أَجَلٍ يَسْتَدْرِكُ فِيهِ مَا اشْتَغَلَ عَنْهُ مِنْ إِنْفَاقٍ وَعَمَلٍ صَالِحٍ.
وَوَصْفُ الْأَجَلِ بِ قَرِيبٍ تَمْهِيدٌ لِتَحْصِيلِ الِاسْتِجَابَةِ بِنَاءً عَلَى مُتَعَارَفِ النَّاسِ أَنَّ الْأَمْرَ الْيَسِيرَ أَرْجَى لِأَنْ يَسْتَجِيبَهُ الْمَسْئُولُ فَيَغْلِبُ ذَلِكَ عَلَى شُعُورِهِمْ حِينَ يَسْأَلُونَ اللَّهَ تَنْسَاقُ بِذَلِكَ نُفُوسُهُمْ إِلَى مَا عَرَفُوا، وَلِذَلِكَ
وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ «لَا يَقُولُنَّ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ وَلِيَعْزِمَ الْمَسْأَلَةَ فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ»
. تَنْبِيهًا عَلَى هَذَا التَّوَهُّمِ فَالْقُرْآنُ حَكَى عَنِ النَّاسِ مَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى أَقْوَالِهِمْ.
وَانْتَصَبَ فِعْلُ فَأَصَّدَّقَ عَلَى إِضْمَارِ (أَنَّ) الْمَصْدَرِيَّةِ إِضْمَارًا وَاجِبًا فِي جَوَابِ الطَّلَبِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَكُنْ فَقَدِ اخْتَلَفَ فِيهِ الْقُرَّاءُ.
فَأَمَّا الْجُمْهُورُ فَقَرَأُوهُ مَجْزُومًا بِسُكُونِ آخِرِهِ عَلَى اعْتِبَارِهِ جَوَابًا لِلطَّلَبِ مُبَاشَرَةً لِعَدَمِ وُجُودِ فَاءِ السَّبَبِيَّةِ فِيهِ، وَاعْتِبَارِ الْوَاوِ عَاطِفَةً جُمْلَةً عَلَى جُمْلَةٍ وَلَيْسَتْ عَاطِفَةً مُفْرَدًا عَلَى مُفْرَدٍ. وَذَلِكَ لِقَصْدِ تَضْمِينِ الْكَلَامِ مَعْنَى الشَّرْطِ زِيَادَةً عَلَى مَعْنَى التَّسَبُّبِ فَيُغْنِي الْجَزْمُ عَنْ فِعْلِ شَرْطِ. فَتَقْدِيرُهُ: إِنْ تُؤَخِّرْنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ، جَمْعًا بَيْنَ التَّسَبُّبِ الْمُفَادِ بِالْفَاءِ، وَالتَّعْلِيقِ الشُّرْطِيِّ الْمُفَادِ بِجَزْمِ الْفِعْلِ.
وَإِذَا قَدْ كَانَ الْفِعْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْمُؤَثِّرُ فِي الْفِعْلَيْنِ الْوَاقِعِ أَحَدُهُمَا بَعْدَ فَاءِ السَّبَبِيَّةِ وَالْآخَرُ بَعْدَ الْوَاوِ الْعَاطِفَةِ عَلَيْهِ. فَقَدْ أَفَادَ الْكَلَامُ التَّسَبُّبَ وَالتَّعْلِيقَ فِي كِلَا الْفِعْلَيْنِ وَذَلِكَ يَرْجِعُ إِلَى مُحَسِّنِ الِاحْتِبَاكِ. فَكَأَنَّهُ قِيلَ: لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُونَ مِنَ الصَّالِحِينَ. إِنْ تُؤَخِّرْنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ أَصَّدَّقْ وَأُكِنْ مِنَ الصَّالِحِينَ.
وَمِنْ لَطَائِفِ هَذَا الِاسْتِعْمَالِ أَنَّ هَذَا السَّائِلَ بَعْدَ أَنْ حَثَّ سُؤَالَهُ أَعْقَبَهُ بِأَنَّ الْأَمْرَ مُمْكِنٌ فَقَالَ: إِنْ تُؤَخِّرْنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ أَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ. وَهُوَ مِنْ بَدَائِعِ
الِاسْتِعْمَالِ الْقُرْآنِيِّ لِقَصْدِ الْإِيجَازِ وَتَوْفِيرِ الْمَعَانِي.
وَوَجَّهَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيِّ وَالزُّجَاجُ قِرَاءَةَ الْجُمْهُورِ بِجَعْلِ وَأَكُنْ مَعْطُوفًا عَلَى مَحَلِّ فَأَصَّدَّقَ. وَقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَحْدَهُ مِنْ بَيْنِ الْعَشَرَةِ وَأَكُونَ بَالنَّصْبِ وَالْقِرَاءَةُ رِوَايَةٌ مُتَوَاتِرَةٌ وَإِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِرَسْمِ الْمَصَاحِفِ الْمُتَوَاتِرَةِ. وَقِيلَ: إِنَّهَا يُوَافِقُهَا رَسْمُ مُصْحَفِ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَمُصْحَفِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وَقَرَأَ بِذَلِكَ الْحَسَنُ وَالْأَعْمَشُ وَابْنُ مَحِيضٍ مِنَ الْقِرَاءَاتِ غَيْرِ الْمَشْهُورَةِ، وَرُوِيَتْ عَنْ مَالِكِ بْنِ دِينَارٍ وَابْنُ جُبَيْرٍ وَأَبِي رَجَاءٍ. وَتلك أَقَلُّ شُهْرَةٍ.
وَاعْتَذَرَ أَبُو عَمْرٍو عَنْ مُخَالَفَةِ قِرَاءَتِهِ لِلْمَصَحِفِ بِأَنَّ الْوَاوَ حُذِفَتْ فِي الْخَطِّ اخْتِصَارًا يُرِيدُ أَنَّهُمْ حَذَفُوا صُورَةَ إِشْبَاعِ الضَّمَّةِ وَهُوَ الْوَاوُ اعْتِمَادًا عَلَى نُطْقِ الْقَارِئِ