الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ [الصَّفّ: 10] عَلَى احْتِمَالِ أَنَّ مَا قَبْلَهَا كَلَامٌ صَادِرٌ مِنْ جَانِبِ اللَّهِ تَعَالَى، عَطْفُ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ فَيَكُونُ الْأَمْرُ من الله لنبيئه صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَلَا يَتَأَتَّى فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ فَرْضُ عَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْإِخْبَارِ إِذْ لَيْسَ عَطْفُ جُمْلَةٍ بَلْ جملَة على جُمْلَةٍ عَلَى مَجْمُوعِ جُمَلٍ عَلَى نَحْوِ مَا اخْتَارَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى:
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ الْآيَةُ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [25] وَمَا بَيَّنَهُ مِنْ كَلَامِ السَّيِّدِ الشَّرِيفِ فِي حَاشِيَةِ «الْكَشَّافِ» .
وَأَمَّا عَلَى احْتِمَالِ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ إِلَى آخِرِهِ مَسُوقًا لِأَمْرِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم بِأَنْ يَقُولَ: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ بِتَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ، أَيْ قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ، إِلَى آخِرِهِ، فَيَكُونُ الْأَمْرُ فِي وَبَشِّرِ الْتِفَاتًا مِنْ قَبِيلِ التَّجْرِيدِ. وَالْمَعْنَى: وَأُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي عَطْفِ الْإِنْشَاءِ عَلَى الْإِخْبَارِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [25] .
وَالَّذِي اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ رَأْيِي الْآنَ أَنَّ الْاخْتِلَافَ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ بِالْخَبَرِيَّةِ وَالْإِنْشَائِيَّةِ اخْتِلَافٌ لَفْظِيٌّ لَا يُؤَثِّرُ بَيْنَ الْجُمْلَتَيْنِ اتِّصَالًا وَلَا انْقِطَاعًا لِأَنَّ الِاتِّصَالَ وَالِانْقِطَاعَ أَمْرَانِ مَعْنَوِيَّانِ وَتَابِعَانِ لِلْأَغْرَاضِ فَالْعِبْرَةُ بِالْمُنَاسَبَةِ الْمَعْنَوِيَّةِ دُونَ الصِّيغَةِ اللَّفْظِيَّةِ وَفِي هَذَا مَقْنَعٌ حَيْثُ فَاتَنِي التَّعَرُّضُ لِهَذَا الْوَجْهِ عِنْدَ تَفْسِيرِ آيَةِ سُورَة الْبَقَرَة (1) .
[14]
[سُورَة الصَّفّ (61) : آيَة 14]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)
(1) فِي قَوْله تَعَالَى: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا إِلَى قَوْله: وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ.
فِي «الْكَشَّاف» (فَإِن قلت: علام عطف هَذَا الْأَمر- أَي وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا- وَلم يسْبق أَمر أَو نهي يَصح عطفه عَلَيْهِ؟ قلت: لَيْسَ الَّذِي اعْتمد بالْعَطْف هُوَ الْأَمر حَتَّى يطْلب لَهُ مشاكل من أَمر أَو نهي- أَي مشاكل إنشائي- يعْطف عَلَيْهِ إِنَّمَا الْمُعْتَمد بالْعَطْف هُوَ جملَة وصف ثَوَاب الْمُؤمنِينَ فَهِيَ معطوفة على جملَة وصف عِقَاب الْكَافرين) اهـ.
قَالَ السَّيِّد فِي «حَاشِيَة الْكَشَّاف» : (الْعَطف قد يكون بَين الْمُفْردَات وَمَا فِي حكمهَا من الْجمل الَّتِي لَهَا محلّ من الْإِعْرَاب. وَقد يكون بَين الْجمل الَّتِي لَا محلّ لَهَا، وَقد يكون بَين قصتين بِأَن يعْطف مَجْمُوع جمل مُتعَدِّدَة مسوقة لمقصود، على مَجْمُوع جمل أُخْرَى مسوقة لمقصود آخر، فَيعْتَبر حِينَئِذٍ التناسب بَين الْقصَّتَيْنِ دون آحَاد الْجمل الْوَاقِعَة فيهمَا.
هَذَا خِطَابٌ آخَرُ لِلْمُؤْمِنِينَ تَكْمِلَةً لِمَا تَضَمَّنَهُ الْخِطَابُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ إِلَى قَوْلِهِ: وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ [الصَّفّ: 10، 11] الْآيَةَ الَّذِي هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ الْخِطَابِ، فَجَاءَ هَذَا الْخِطَابُ الثَّانِي تَذْكِيرًا بِأُسْوَةٍ عَظِيمَةٍ مِنْ أَحْوَالِ الْمُخْلِصِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ السَّابِقِينَ وَهُمْ أَصْحَابُ عِيسَى عليه السلام مَعَ قِلَّةِ عَدَدِهِمْ وَضَعْفِهِمْ.
فَأَمَرَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِنَصْرِ الدِّينِ وَهُوَ نَصْرٌ غَيْرُ النَّصْرِ الَّذِي بِالْجِهَادِ لِأَنَّ ذَلِكَ تَقَدَّمَ التَّحْرِيضُ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ: وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ [الصَّفّ: 11] الْآيَةَ وَوَعْدُهُمْ عَلَيْهِ بِأَنْ يَنْصُرَهُمُ اللَّهُ، فَهَذَا النَّصْرُ الْمَأْمُورُ بِهِ هُنَا نَصْرُ دِينِ اللَّهِ الَّذِي آمَنُوا بِهِ بِأَنْ يَبُثُّوهُ وَيَثْبُتُوا عَلَى الْأَخْذِ بِهِ دُونَ اكْتِرَاثٍ بِمَا يُلَاقُونَهُ مِنْ أَذًى مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ، قَالَ تَعَالَى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ
الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ [آل عمرَان: 186] .
وَهَذَا هُوَ الَّذِي شَبَّهَ بِنَصْرِ الْحَوَارِيِّينَ دِينَ اللَّهِ الَّذِي جَاءَ بِهِ عِيسَى عليه السلام، فَإِنَّ عِيسَى لَمْ يُجَاهِدْ مَنْ عَانَدُوهُ، وَلَا كَانَ الْحَوَارِيُّونَ مِمَّنْ
جَاهَدُوا وَلَكِنَّهُ صَبَرَ وَصَبَرُوا حَتَّى أَظْهَرَ اللَّهُ دِينَ النَّصْرَانِيَّةِ وَانْتَشَرَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ دَبَّ إِلَيْهِ التَّغْيِيرُ حَتَّى جَاءَ الْإِسْلَامُ فَنَسَخَهُ مِنْ أَصْلِهِ.
وَالْأَنْصَارُ: جَمْعُ نَصِيرٍ، وَهُوَ النَّاصِرُ الشَّدِيدُ النَّصْرِ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَأَبُو جَعْفَر كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ بِتَنْوِينِ أَنْصَارًا وَقَرَنَ اسْمَ الْجَلَالَةِ بِاللَّامِ الْجَارَّةِ فَيَكُونُ أَنْصَارًا مُرَادًا بِهِ دَلَالَةُ اسْمِ الْفَاعِلِ الْمُفِيدِ لِلْإِحْدَاثِ، أَيْ مُحْدِثِينَ النَّصْرَ، وَاللَّامُ لِلْأَجْلِ، أَيْ لِأَجْلِ اللَّهِ، أَيْ نَاصِرِينَ لَهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَلا ناصِرَ لَهُمْ [مُحَمَّد: 13] .
وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِإِضَافَةِ أَنْصارَ إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ بِدُونِ لَامٍ عَلَى اعْتِبَارِ أَنْصَارٍ كَاللَّقَبِ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ: مَنْ أَنْصارِي.
وَالتَّشْبِيهُ بِدَعْوَةِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ وَجَوَابُ الْحَوَارِيِّينَ تَشْبِيهُ تَمْثِيلٍ، أَي كونُوا عِنْد مَا يدعوكم مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم إِلَى نَصْرِ اللَّهِ كَحَالَةِ قَوْلِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ وَاسْتِجَابَتِهِمْ لَهُ.
وَالتَّشْبِيهُ لِقَصْدِ التَّنْظِيرِ وَالتَّأَسِّي فَقَدْ صَدَقَ الْحَوَارِيُّونَ وَعْدَهُمْ وَثَبَتُوا عَلَى الدِّينِ وَلَمْ تُزَعْزِعْهُمُ الْفِتَنُ وَالتَّعْذِيبُ.
وَ (مَا) مَصْدَرِيَّةٌ، أَيْ كَقَوْلِ عِيسَى وَقَوْلِ الْحَوَارِيِّينَ. وَفِيهِ حَذْفُ مُضَافٍ تَقْدِيرُهُ:
لِكَوْنِ قَوْلِ عِيسَى وَقَوْلِ الْحَوَارِيِّينَ. فَالتَّشْبِيهُ بِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ قَوْلُ عِيسَى وَجَوَابُ الْحَوَارِيِّينَ لِأَنَّ جَوَابَ الْحَوَارِيِّينَ بِمَنْزِلَةِ الْكَلَامِ الْمُفَرَّعِ عَلَى دَعْوَةِ عِيسَى وَإِنَّمَا تُحْذَفُ الْفَاءُ فِي مِثْلِهِ مِنَ الْمُقَاوَلَاتِ وَالْمُحَاوَرَاتِ لِلِاخْتِصَارِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [30] .
وَقَوْلُ عِيسَى مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ اسْتِفْهَامٌ لِاخْتِبَارِ انْتِدَابِهِمْ إِلَى نَصْرِ دِينِ اللَّهِ مَعَهُ نَظِيرَ قَول طرفَة:
إِن الْقَوْمُ قَالُوا مَنْ فَتًى خِلْتُ إِنَّنِي
…
عُنِيتُ فَلَمْ أَكْسَلْ وَلَمْ أَتَبَلَّدِ
وَإِضَافَةُ أَنْصارَ إِلَى يَاءِ الْمُتَكَلِّمِ وَهُوَ عِيسَى بِاعْتِبَارِهِمْ أَنْصَارَ دَعْوَتِهِ.
وإِلَى اللَّهِ مُتَعَلِّقٌ بِ أَنْصارِي. وَمَعْنَى إِلَى الِانْتِهَاءُ الْمَجَازِيِّ، أَيْ
مُتَوَجِّهِينَ إِلَى اللَّهِ، شُبِّهَ دُعَاؤُهُمْ إِلَى الدِّينِ وَتَعْلِيمُهُمُ النَّاسَ مَا يَرْضَاهُ اللَّهُ لَهُمْ بِسَعْيِ سَاعِينَ إِلَى اللَّهِ لِيَنْصُرُوهُ كَمَا يَسْعَى الْمُسْتَنْجِدُ بِهِمْ إِلَى مَكَانِ مُسْتَنْجِدِهِمْ لِيَنْصُرُوهُ عَلَى مَنْ غَلَبَهُ.
فَفِي حَرْفِ إِلَى اسْتِعَارَةٌ تَبَعِيَّةٌ، وَلِذَلِكَ كَانَ الْجَوَابُ الْمَحْكِيُّ عَنِ الْحَوَارِيِّينَ مُطَابِقًا لِلِاسْتِفْهَامِ إِذْ قَالُوا: نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ، أَيْ نَحْنُ نَنْصُرُ اللَّهَ عَلَى مَنْ حَادَّهُ وَشَاقَّهُ، أَيْ نَنْصُرُ دِينَهُ.
والْحَوارِيُّونَ: جَمْعُ حَوَارِيٍّ بِفَتْحِ الْحَاءِ وَتَخْفِيفِ الْوَاوِ وَهِيَ كَلِمَةٌ مُعَرَّبَةٌ عَنِ الْحَبَشِيَّةِ (حَوَارِيَّا) وَهُوَ الصَّاحِبُ الصَّفِيُّ، وَلَيْسَتْ عَرَبِيَّةَ الْأَصْلِ وَلَا مُشْتَقَّةً مِنْ مَادَّةٍ عَرَبِيَّةٍ، وَقَدْ عَدَّهَا الضَّحَّاكُ فِي جُمْلَةِ الْأَلْفَاظِ الْمُعَرَّبَةِ لَكِنَّهُ قَالَ: إِنَّهَا نَبَطِيَّةٌ. وَمَعْنَى الْحَوَارِيِّ:
الْغَسَّالُ، كَذَا فِي «الْإِتْقَانِ» .
والْحَوارِيُّونَ: اسْمٌ أَطْلَقَهُ الْقُرْآنُ عَلَى أَصْحَابِ عِيسَى الِاثْنَيْ عَشَرَ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ نَصَارَى الْعَرَبِ أَخَذُوهُ مِنْ نَصَارَى الْحَبَشَةِ. وَلَا يُعْرَفُ هَذَا الِاسْمُ
فِي الْأَنَاجِيلِ.
وَقَدْ سمى النبيء صلى الله عليه وسلم الزُّبَيْرَ بْنَ الْعَوَّامِ حَوَارِيَّهُ عَلَى التَّشْبِيهِ بِأَحَدِ الْحَوَارِيِّينَ
فَقَالَ: «لكل نبيء حَوَارِيٌّ وَحَوَارِيَّ الزُّبَيْرُ»
. وَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ الْحَوَارِيِّينَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [52] .
وَاعْلَمْ أَنَّ مَقَالَةَ عِيسَى عليه السلام الْمَحْكِيَّةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ مَقَالَتِهِ الْمَحْكِيَّةِ فِي آيَةِ آلِ عِمْرَانَ فَإِنَّ تِلْكَ مُوَجَّهَةٌ إِلَى جَمَاعَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ أَحَسَّ مِنْهُمُ الْكُفْرَ لَمَّا دَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ بِهِ. أَمَّا مَقَالَتُهُ الْمَحْكِيَّةُ هُنَا فَهِيَ مُوَجَّهَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِهِ طَالِبًا مِنْهُمْ نُصَرْتَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ الْآيَةَ، فَلِذَلِكَ تَعَيَّنَ اخْتِلَافُ مُقْتَضَى الْكَلَامَيْنِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ.
وَعَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَقَامَيْنِ يُجْرَى اخْتِلَافُ اعْتِبَارِ الْخُصُوصِيَّاتِ فِي الْكَلَامَيْنِ وَإِنْ كَانَا مُتَشَابِهَيْنِ فَقَدْ جَعَلْنَا هُنَالِكَ إِضَافَةُ أَنْصارُ اللَّهِ [آل عمرَان: 52] إِضَافَةً لَفْظِيَّةً وَبِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ قَوْلُهُمْ: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ مُفِيدًا لِلْقَصْرِ لِانْعِدَامِ تَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ. فَأَمَّا هُنَا فَالْأَظْهَرُ أَنَّ كَلِمَةَ أَنْصارَ اللَّهِ اعْتُبِرَتْ لَقَبًا لِلْحَوَارِيِّينَ عَرَّفُوا أَنْفُسَهُمْ بِهِ وَخَلَعُوهُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فَلِذَلِكَ أَرَادُوا الِاسْتِدْلَالَ بِهِ عَلَى أَنَّهُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِتَحْقِيقِ مَعْنَاهُ، وَلِذَلِكَ تَكُونُ إِضَافَةُ أَنْصارَ
إِلَى اسْمِ الْجَلَالَةِ هُنَا إِضَافَةً مَعْنَوِيَّةً مُفِيدَةً تَعْرِيفًا فَصَارَتْ جُمْلَةً نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ هُنَا مُشْتَمِلَةً عَلَى صِيغَةِ قَصْرٍ عَلَى خِلَافِ نَظِيرَتِهَا الَّتِي فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ.
فَفِي حِكَايَةِ جَوَابِ الْحَوَارِيِّينَ هُنَا خُصُوصِيَّةُ صِيغَةِ الْقَصْرِ بِتَعْرِيفِ الْمُسْنَدِ إِلَيْهِ وَالْمُسْنَدِ. وَخُصُوصِيَّةُ التَّعْرِيفِ بِالْإِضَافَةِ. فَكَانَ إِيجَازًا فِي حِكَايَةِ جَوَابِهِمْ بِأَنَّهُمْ أَجَابُوا بِالِانْتِدَابِ إِلَى نَصْرِ الرَّسُولِ وَبِجَعْلِ أَنْفُسِهِمْ مَحْقُوقِينَ بِهَذَا النَّصْرِ لِأَنَّهُمْ مَحَّضُوا أَنْفُسَهُمْ لِنَصْرِ الدِّينِ وَعُرِفُوا بِذَلِكَ وَبِحَصْرِ نَصْرِ الدِّينِ فِيهِمْ حَصْرًا يُفِيدُ الْمُبَالَغَةَ فِي تَمَحُّضِهِمْ لَهُ حَتَّى كَأَنَّهُ لَا نَاصِرَ لِلدِّينِ غَيْرُهُمْ مَعَ قِلَّتِهِمْ وَإِفَادَتَهُ التَّعْرِيضَ بِكُفْرِ بَقِيَّةِ قَوْمِهِمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَفُرِّعَ عَلَى قَوْلِ الْحَوَارِيِّينَ نَحْنُ أَنْصارُ الْإِخْبَارُ بِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقُوا طَائِفَتَيْنِ طَائِفَةٌ آمَنَتْ بِعِيسَى وَمَا جَاءَ بِهِ، وَطَائِفَةٌ كفرت بذلك وَهَذَا التَّفْرِيعُ يَقْتَضِي كَلَامًا مُقَدَّرًا وَهُوَ فَنَصَرُوا اللَّهَ بِالدَّعْوَةِ وَالْمُصَابَرَةِ عَلَيْهَا فَاسْتَجَابَ بَعْضُ بَنِي
إِسْرَائِيلَ وَكَفْرَ بَعْضُ وَإِنَّمَا اسْتَجَابَ لَهُمْ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَدَدٌ قَلِيلٌ فَقَدْ جَاءَ فِي إِنْجِيلِ (لُوقَا) أَنَّ أَتْبَاعَ عِيسَى كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ قَوْلِهِ: فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ التَّوْطِئَةُ لِقَوْلِهِ:
فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ وَالتَّأْيِيدُ النَّصْر وَالتَّقْوِيَةُ، أَيَّدَ اللَّهُ أَهْلَ النَّصْرَانِيَّةِ بِكَثِيرٍ مِمَّنِ اتَّبَعَ النَّصْرَانِيَّةَ بِدَعْوَةِ الْحَوَارِيِّينَ وَأَتْبَاعِهِمْ مِثْلَ بُولِسَ.
وَإِنَّمَا قَالَ: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَقُلْ: فَأَيَّدْنَاهُمْ لِأَنَّ التَّأْيِيدَ كَانَ لِمَجْمُوعِ الْمُؤْمِنِينَ بِعِيسَى لَا لِكُلِّ فَرْدٍ مِنْهُمْ إِذْ قَدْ قُتِلَ مِنْ أَتْبَاعِهِ خَلْقٌ كَثِيرٌ وَمُثِّلَ بِهِمْ وَأُلْقُوا إِلَى السِّبَاعِ فِي الْمَشَاهِدِ الْعَامَّةِ تَفْتَرِسُهُمْ، وَكَانَ مِمَّنْ قُتِلَ مِنَ الْحَوَارِيِّينِ الْحَوَارِيُّ الْأَكْبَرُ الَّذِي سَمَّاهُ عِيسَى بُطْرُسَ، أَيِ الصَّخْرَةَ فِي ثَبَاتِهِ فِي اللَّهِ.
وَيَزْعُمُونَ أَنَّ جُثَّتَهُ فِي الْكَنِيسَةِ الْعُظْمَى فِي رُومَةَ الْمَعْرُوفَةُ بِكَنِيسَةِ الْقِدِّيسِ بُطْرُسَ وَالْحُكْمُ عَلَى الْمَجْمُوعِ فِي مِثْلِ هَذَا شَائِعٌ كَمَا تَقُولُ: نَصَرَ اللَّهُ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ مَعَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ قُتِلَ. وَالْمَقْصُودُ نَصْرُ الدِّينِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْخَبَرِ وَعْدُ الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ أُمِرُوا أَن يَكُونُوا أنصارا لله بِأَنَّ اللَّهَ مُؤَيِّدُهُمْ عَلَى عَدُوِّهِمْ.
وَالْعَدُوُّ يُطْلَقُ عَلَى الْوَاحِدِ وَالْجَمْعِ، قَالَ تَعَالَى: وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ [الْكَهْف: 50] وَتَقَدَّمَ
عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ [1] .
وَالظَّاهِرُ: هُوَ الْغَالِبُ، يُقَالُ: ظَهَرَ عَلَيْهِ، أَيْ غَلَبَهُ، وَظَهَرَ بِهِ أَيْ غَلَبَ بِسَبَبِهِ، أَيْ بِإِعَانَتِهِ وَأَصْلُ فِعْلِهِ مُشْتَقٌّ مِنَ الِاسْمِ الْجَامِدِ. وَهُوَ الظَّهْرُ الَّذِي هُوَ الْعَمُودُ الْوَسَطُ مِنْ جَسَدِ الْإِنْسَانِ وَالدَّوَابِّ لِأَنَّ بِالظَّهْرِ قُوَّةَ الْحَيَوَانِ. وَهَذَا مِثْلُ فِعْلِ (عَضَدَ) مُشْتَقًّا مِنَ الْعَضُدِ. وَ (أَيَّدَ) مُشْتَقًّا مِنَ الْيَدِ وَمِنْ تَصَارِيفِهِ ظَاهَرَ عَلَيْهِ وَاسْتَظْهَرَ وَظَهِيرٌ لَهُ قَالَ تَعَالَى: وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ [التَّحْرِيم: 4] . فَمَعْنَى ظاهِرِينَ أَنَّهُمْ مَنْصُورُونَ لِأَنَّ عَاقِبَةَ النَّصْرِ كَانَتْ لَهُمْ فَتَمَكَّنُوا مِنَ الْحُكْمِ فِي الْيَهُودِ الْكَافِرِينَ بِعِيسَى وَمَزَّقُوهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ.