الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ الْمُعْتَرِضَةِ فَلَهَا حُكْمُ الِاعْتِرَاضِ.
وَجِيءَ بِالْوَعْدِ مِنَ الشَّرْطِ لِتَحْقِيقِ تَعْلِيقِ الْجَوَابِ عَلَى شَرْطِهِ.
[6]
[سُورَة الطَّلَاق (65) : آيَة 6]
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ.
هَذِهِ الْجُمْلَةُ وَمَا أُلْحِقَ بِهَا مِنَ الْجُمَلِ إِلَى قَوْلِهِ: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ [الطَّلَاق: 8] إِلَخْ تَشْرِيعٌ مُسْتَأْنَفٌ فِيهِ بَيَانٌ لِمَا أُجْمِلَ فِي الْآيَاتِ السَّابِقَةِ مِنْ قَوْلِهِ: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ [الطَّلَاق: 1] وَقَوْلِهِ: أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ [الطَّلَاق: 2]، وَقَوْلِهِ: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ [الطَّلَاق: 4] فَتَتَنَزَّلُ هَذِهِ الْجُمَلُ مِنَ اللَّاتِي قَبْلَهَا مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ لِبَعْضٍ، وَيَدُلُّ الِاشْتِمَالُ لِبَعْضٍ وَكُلُّ ذَلِكَ مُقْتَضًى لِلْفَصْلِ. وَابْتُدِئَ بِبَيَانِ مَا فِي لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ [الطَّلَاق: 1] مِنْ إِجْمَالٍ.
وَالضَّمِيرُ الْمَنْصُوبُ فِي أَسْكِنُوهُنَّ عَائِدٌ إِلَى النِّسَاءِ الْمُطَلَّقَاتِ فِي قَوْلِهِ: إِذا طَلَّقْتُمُ [الطَّلَاق: 1] . وَلَيْسَ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْكَلَامِ مَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَعُودَ عَلَيْهِ هَذَا الضَّمِيرُ إِلَّا لَفْظُ النِّسَاءِ وَإِلَّا لَفْظُ أُولاتُ الْأَحْمالِ [الطَّلَاق: 4] ، وَلَكِنَّ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ بِأَنَّ الْإِسْكَانَ
خَاصٌّ بِالْمُعْتَدَّاتِ الْحَوَامِلِ فَإِنَّهُ يُنَافِي قَوْلَهُ تَعَالَى: لَا تُخْرِجُوهُنَّ [الطَّلَاق: 1] فَتَعَيَّنَ عَوْدُ الضَّمِيرِ إِلَى النِّسَاءِ الْمُطَلَّقَاتِ كُلِّهِنَّ، وَبِذَلِكَ يَشْمَلُ الْمُطَلَّقَةَ الرَّجْعِيَّةَ وَالْبَائِنَةَ وَالْحَامِلَ، لِمَا عَلِمْتَهُ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ مِنْ إِرَادَةِ الرَّجْعِيَّةِ وَالْبَائِنَةِ مِنْ لَفْظِ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطَّلَاق: 1] .
وَجُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَائِلُونَ بِوُجُوبِ السُّكْنَى لَهُنَّ جَمِيعًا. قَالَ أَشْهَبُ: قَالَ مَالِكٌ:
يَخْرُجُ عَنْهَا إِذَا طَلَّقَهَا وَتَبْقَى هِيَ فِي الْمَنْزِلِ. وَرَوَى ابْنُ نَافِعٍ قَالَ مَالِكٌ: فَأَمَّا الَّتِي لَمْ تَبِنْ فَإِنَّهَا زَوْجَةٌ يَتَوَارَثَانِ وَالسُّكْنَى لَهُنَّ لَازِمَةٌ لِأَزْوَاجِهِنَّ اه. يُرِيدُ أَنَّهَا مُسْتَغْنًى عَنْ أَخْذِ حُكْمِ سُكْنَاهَا مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ. وَلَا يُرِيدُ أَنَّهَا مُسْتَثْنَاةٌ مِنْ حُكْمِ الْآيَةِ.
وَقَالَ قَتَادَةُ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: لَا سُكْنَى لِلْمُطَلَّقَةِ طَلَاقًا بَائِنًا. وَمُتَمَسَّكُهُمْ فِي ذَلِكَ مَا رَوَتْهُ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ: أَنَّ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا ثَلَاثًا وَأَنَّ أَخَا زَوْجِهَا مَنَعَهَا مِنَ السُّكْنَى وَالنَّفَقَةِ، وَأَنَّهَا رَفَعَتْ أَمْرَهَا إِلَى
رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهَا: «إِنَّمَا السُّكْنَى وَالنَّفَقَةُ عَلَى مَنْ لَهُ عَلَيْهَا الرَّجْعَةُ»
. وَهُوَ حَدِيثٌ غَرِيبٌ لَمْ يَعْرِفْهُ أَحَدٌ إِلَّا مِنْ رِوَايَةِ فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ. وَلَمْ يَقْبَلْهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ فَقَالَ: لَا نَتْرُكُ كِتَابَ الله وَسنة نبيئنا لِقَوْلِ امْرَأَةٍ لَا نَدْرِي لَعَلَّهَا نَسِيَتْ أَوْ شُبِّهَ عَلَيْهَا. وَأَنْكَرَتْهُ عَائِشَةُ عَلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ فِيمَا ذَكَرَتْهُ مِنْ أَنَّهُ أَذِنَ لَهَا فِي الِانْتِقَالِ إِلَى مَكَانٍ غَيْرِ الَّذِي طُلِّقَتْ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ «روى عَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم أَنَّ لِلْمُطَلَّقَةِ الْبَائِنَةِ سُكْنَى»
(1)
. وَرَوَوْا أَنَّ قَتَادَةَ وَابْنَ أَبِي لَيْلَى أَخَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً [الطَّلَاق: 1] إِذِ الْأَمْرُ هُوَ الْمُرَاجَعَةُ، فَقَصَرَا الطَّلَاقَ فِي قَوْلِهِ: إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ [الطَّلَاق: 1] ، عَلَى الطَّلَاقِ الرَّجْعِيِّ لِأَنَّ الْبَائِنَ لَا تَتَرَقَّبُ بَعْدَهُ مُرَاجَعَةً وَسَبَقَهَا إِلَى هَذَا الْمَأْخَذِ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ الْمَذْكُورَةُ.
رَوَى مُسْلِمٌ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ أَرْسَلَ إِلَى فَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ يَسْأَلُهَا عَنِ الْحَدِيثِ فَحَدَّثَتْهُ فَقَالَ مَرْوَانُ: لَمْ نَسْمَعْ هَذَا الْحَدِيثَ إِلَّا مِنَ الْمَرْأَةِ سَنَأْخُذُ بِالْعِصْمَةِ الَّتِي وَجَدْنَا عَلَيْهَا النَّاسَ فَبَلَغَ قَوْلُ مَرْوَانَ فَاطِمَةَ بِنْتَ قَيْسٍ فَقَالَتْ: «بَيْنِي وَبَيْنَكُمُ الْقُرْآنُ، قَالَ اللَّهُ عز وجل: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ، إِلَى قَوْلِهِ: لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً [الطَّلَاق: 1] قَالَتْ: هَذَا لِمَنْ كَانَتْ لَهُ رَجْعَةٌ فَأَيُّ أَمْرٍ يَحْدُثُ بَعْدَ الثَّلَاثِ» اه.
وَيَرُدُّ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ إِحْدَاثَ الْأَمْرِ لَيْسَ قَاصِرًا عَلَى الْمُرَاجَعَةِ فَإِنَّ مِنَ الْأَمْرِ الَّذِي يُحْدِثُهُ اللَّهُ أَنْ يُرَقِّقَ قُلُوبَهُمَا فَيَرْغَبَا مَعًا فِي إِعَادَةِ الْمُعَاشَرَةِ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ. وَعَلَى تَسْلِيمِ اقْتِصَارِ
ذَلِكَ عَلَى إِحْدَاثِ أَمْرِ الْمُرَاجَعَةِ فَذِكْرُ هَذِهِ الْحِكْمَةِ لَا يَقْتَضِي تَخْصِيصَ عُمُومِ اللَّفْظِ الَّذِي قَبْلَهَا إِذْ يَكْفِي أَنْ تَكُونَ حِكْمَةً لِبَعْضِ أَحْوَالِ الْعَامِّ. فَالصَّوَابُ أَنَّ حَقَّ السُّكْنَى لِلْمُطَلَّقَاتِ كُلِّهِنَّ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ، أَيْ فِي الْبُيُوتِ الَّتِي تَسْكُنُونَهَا، أَيْ لَا يُكَلَّفُ الْمُطَلِّقُ بِمَكَانٍ لِلْمُطَلَّقَةِ غَيْرَ بَيْتِهِ وَلَا يَمْنَعُهَا السُّكْنَى بِبَيْتِهِ. وَهَذَا تَأْكِيدٌ لِقَوْلِهِ: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ [الطَّلَاق: 1] .
(1) هَكَذَا يروي الْمُفَسِّرُونَ عَن عمر: أَنه سمع من النبيء صلى الله عليه وسلم ذَلِك وَلم أَقف عَلَيْهِ مُسْندًا.
فَإِذَا كَانَ الْمَسْكَنُ لَا يَسَعُ مُبَيِّتَيْنِ مُتَفَرِّقَيْنِ خَرَجَ الْمُطَلِّقُ مِنْهُ وَبَقِيَتِ الْمُطَلَّقَةُ، كَمَا تَقَدَّمَ فِيمَا رَوَاهُ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ.
ومَنْ الْوَاقِعَةُ فِي قَوْلِهِ: مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ لِلتَّبْعِيضِ، أَيْ فِي بَعْضِ مَا سَكَنْتُمْ وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّ الْمَسْكَنَ صَالِحٌ لِلتَّبْعِيضِ بِحَسَبِ عُرْفِ السُّكْنَى مَعَ تَجَنُّبِ التَّقَارُبِ فِي الْمَبِيتِ إِنْ كَانَتْ غَيْرَ رَجْعِيَّةٍ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَسَعْهُمَا خَرَجَ الزَّوْجُ الْمُطَلِّقُ.
ومِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ وُجْدِكُمْ بَدَلٌ مُطَابِقٌ، وَهُوَ بَيَانٌ لِقَوْلِهِ: مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ فَإِنَّ مَسْكَنَ الْمَرْءِ هُوَ وُجْدُهُ الَّذِي وَجَدَهُ غَالِبًا لِمَنْ لَمْ يَكُنْ مُقَتِّرًا عَلَى نَفْسِهِ.
وَالْوُجْدُ: مُثَلَّثُ الْوَاوِ هُوَ الْوِسْعُ وَالطَّاقَةُ. وَقَرَأَهُ الْجُمْهُورُ بِضَمِّ الْوَاوِ. وَقَرَأَهُ رَوْحٌ عَنْ يَعْقُوبَ بِكَسْرِهَا.
وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ.
أُتْبِعَ الْأَمْرُ بِإِسْكَانِ الْمُطَلَّقَاتِ بِنَهْيٍ عَنِ الْإِضْرَارِ بِهِنَّ فِي شَيْءٍ مُدَّةَ الْعِدَّةِ مِنْ ضِيقِ مَحَلٍّ أَوْ تَقْتِيرٍ فِي الْإِنْفَاقِ أَوْ مُرَاجَعَةٍ يَعْقُبُهَا تَطْلِيقٌ لِتَطْوُيْلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهِنَّ قصدا للكناية وَالتَّشَفِّي كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [231] . أَوْ لِلْإِلْجَاءِ إِلَى افْتِدَائِهَا مِنْ مُرَاجَعَتِهِ بِخُلْعٍ.
وَالضَّارَّةُ: الْإِضْرَارُ الْقَوِيُّ فَكَأَنَّ الْمُبَالَغَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى النَّهْيِ لَا إِلَى الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، أَيْ هُوَ نَهْيٌ شَدِيدٌ كَالْمُبَالَغَةِ فِي قَوْلِهِ: وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت: 46] فِي أَنَّهَا مُبَالَغَةٌ فِي النَّفْيِ وَمَثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْقُرْآنِ.
وَالْمُرَادُ بِالتَّضْيِيقِ: التَّضْيِيقُ الْمَجَازِيُّ وَهُوَ الْحَرَجُ وَالْأَذَى.
وَاللَّامُ فِي لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ لِتَعْلِيلِ الْإِضْرَارِ وَهُوَ قَيْدٌ جَرَى عَلَى غَالِبِ مَا يَعْرِضُ
لِلْمُطَلَّقِينَ مِنْ مَقَاصِدِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا [الْبَقَرَة: 231] وَإِلَّا فَإِنَّ الْإِضْرَارَ بِالْمُطَلَّقَاتِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِقَصْدِ التَّضْيِيقِ عَلَيْهِنَّ.
وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ.
ضَمِيرُ كُنَّ يَعُودُ إِلَى مَا عَادَ إِلَيْهِ ضَمِيرُ أَسْكِنُوهُنَّ كَمَا هُوَ شَأْنُ تَرْتِيبِ الضَّمَائِرِ، وَكَمَا هُوَ مُقْتَضَى عَطْفِ الْجُمَلِ، وَلَيْسَ عَائِدًا عَلَى خُصُوصِ النِّسَاءِ السَّاكِنَاتِ لِأَنَّ الضَّمِيرَ لَا يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ مُعَادًا لِضَمِيرٍ آخَرَ.
وَظَاهِرُ نَظْمِ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّ الْحَوَامِلَ مُسْتَحِقَّاتُ الْإِنْفَاقِ دُونَ بَعْضِ الْمُطَلَّقَاتِ أَخْذًا بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ، وَقَدْ أَخَذَ بِذَلِكَ الشَّافِعِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَابْنُ أَبِي لَيْلَى.
وَلَكِنَّ الْمَفْهُومَ مُعَطَّلٌ فِي الْمُطَلَّقَاتِ الرَّجْعِيَّاتِ لِأَنَّ إِنْفَاقَهُنَّ ثَابِتٌ بِأَنَّهُنَّ زَوْجَاتٌ.
وَلِذَلِكَ قَالَ مَالِكٌ: إِنَّ ضَمِيرَ أَسْكِنُوهُنَّ لِلْمُطَلَّقَاتِ الْبَوَائِنِ كَمَا تَقَدَّمَ.
وَمَنْ لَمْ يَأْخُذْ بِالْمَفْهُومِ قَالُوا: الْآيَةَ تَعَرَّضَتْ لِلْحَوَامِلِ تَأْكِيدًا لِلنَّفَقَةِ عَلَيْهِنَّ لِأَنَّ مُدَّةَ الْحَمْلِ طَوِيلَةٌ فَرُبَّمَا سَئِمَ الْمُطَلِّقُ الْإِنْفَاقَ، فَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْجُمْلَةِ هُوَ الْغَايَةُ الَّتِي بِقَوْلِهِ:
حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَجَعَلُوا لِلْمُطَلَّقَةِ غَيْرِ ذَاتِ الْحَمْلِ الْإِنْفَاقَ. وَبِهِ أَخْذَ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ. وَنُسِبَ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنهما.
وَهَذَا الَّذِي يرجح هُوَ هَذَا الْقَوْلُ وَلَيْسَ لِلشَّرْطِ مَفْهُومٌ وَإِنَّمَا الشَّرْطُ مَسُوقٌ لِاسْتِيعَابِ الْإِنْفَاقِ جَمِيعَ أَمَدِ الْحَمْلِ.
فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى.
لَمَّا كَانَ الْحَمْلُ يَنْتَهِي بِالْوَضْعِ انْتَقَلَ إِلَى بَيَانِ مَا يَجِبُ لَهُنَّ بَعْدَ الْوَضْعِ فَإِنَّهُنَّ بِالْوَضْعِ يَصِرْنَ بَائِنَاتٍ فَتَنْقَطِعُ أَحْكَامُ الزَّوْجِيَّةِ فَكَانَ السَّامِعُ بِحَيْثُ لَا يَدْرِي هَلْ يَكُونُ إِرْضَاعُهَا وَلَدَهَا حَقًّا عَلَيْهَا كَمَا كَانَ فِي زَمَنِ الْعِصْمَةِ أَوْ حَقًّا عَلَى أَبِيهِ فَيُعْطِيهَا أَجْرَ إِرْضَاعِهَا كَمَا كَانَ يُعْطِيهَا النَّفَقَةَ لِأَجْلِ ذَلِكَ الْوَلَدِ حِينَ كَانَ حَمْلًا. وَهَذِهِ
الْآيَةُ مُخَصِّصَةٌ لِقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [233] وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ الْآيَةَ.
وَأَفْهَمَ قَوْلُهُ: لَكُمْ أَنَّ إِرْضَاعَ الْوَلَدِ بَعْدَ الْفِرَاقِ حَقٌّ عَلَى الْأَبِ وَحْدَهُ لِأَنَّهُ كَالْإِنْفَاقِ وَالْأُمُّ تُرْضِعُ وَلَدَهَا فِي الْعِصْمَةِ تَبَعًا لِإِنْفَاقِ أَبِيهِ عَلَيْهَا عِنْدَ مَالِكٍ خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ
وَالشَّافِعِيِّ، إِذْ قَالَا: لَا يَجِبُ الْإِرْضَاعُ عَلَى الْأُمِّ حَتَّى فِي الْعِصْمَةِ فَلَمَّا انْقَطَعَ إِنْفَاقُ الْأَبِ عَلَيْهَا بِالْبَيْنُونَةِ تَمَحَّضَتْ إِقَامَةُ غِذَاءِ ابْنِهِ عَلَيْهِ فَإِنْ أَرَادَتْ أَنْ تُرْضِعَهُ فَهِيَ أَحَقُّ بذلك، وَلها أجل الْإِرْضَاعِ وَإِنْ أَبَتْ فَعَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَ ظِئْرًا لِابْنِهِ فَإِنْ كَانَ الطِّفْلُ غَيْرَ قَابِلٍ ثَدْيَ غَيْرِ أُمِّهِ وَجَبَ عَلَيْهَا إِرْضَاعُهُ وَوَجَبَ عَلَى أَبِيهِ دَفْعُ أُجْرَةِ رِضَاعِهِ.
وَقَالَ أَبُو ثَوْرٍ: يَجِبُ إِرْضَاعُ الِابْنِ عَلَى أُمِّهِ وَلَوْ بَعْدَ الْبَيْنُونَة. نَقله عِنْد أَبُو بَكْرِ ابْن الْعَرَبِيِّ فِي «الْأَحْكَامِ» وَهُوَ عَجِيبٌ. وَهَذِهِ الْآيَةُ أَمَامَهُ.
وَالِائْتِمَارُ: التَّشَاوُرُ وَالتَّدَاوُلُ فِي النَّظَرِ. وَأَصْلُهُ مُطَاوِعُ أَمَرَهُ لِأَنَّ الْمُتَشَاوِرِينَ يَأْمُرُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ فَيَأْتَمِرُ الْآخَرُ بِمَا أَمَرَهُ. وَمِنْهُ تَسْمِيَةُ مَجَامِعِ أَصْحَابِ الدَّعْوَةِ أَوِ النِّحْلَةِ أَوِ الْقَصْدِ الْمُوَحَّدِ مُؤْتَمِرًا لِأَنَّهُ يَقَعُ الِاسْتِئْمَارُ فِيهِ، أَيِ التَّشَاوُرِ وَتَدَاوُلِ الْآرَاءِ.
وَقَوْلُهُ: وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ خِطَابٌ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ الْوَاقِعِ بَيْنَهُمُ الطَّلَاقُ لِيَتَشَاوَرُوا فِي أَمْرِ إِرْضَاعِ الْأُمِّ وَلَدَهَا. وَمَا يَبْذُلُهُ الْأَبُ لَهَا مِنَ الْأُجْرَةِ عَلَى ذَلِكَ.
وَقُيِّدَ الِائْتِمَارُ بِالْمَعْرُوفِ، أَيِ ائْتَمِارًا مُلَابِسًا لِمَا هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي مِثْلِ حَالِهِمْ وَقَوْمِهِمْ، أَيْ مُعْتَادٍ مَقْبُولٍ، فَلَا يَشْتَطُّ الْأَبُ فِي الشُّحِّ وَلَا تَشْتَطُّ الْأُمُّ فِي الْحِرْصِ.
وَقَوْلُهُ: وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى عِتَابٌ وَمَوْعِظَةٌ لِلْأَبِ وَالْأُمِّ بِأَنْ يُنَزِّلَ كُلٌّ مِنْهُمَا نَفْسَهُ مَنْزِلَةَ مَا لَوِ اجْتُلِبَتْ لِلطِّفْلِ ظِئْرٌ، فَلَا تَسْأَلُ الْأُمُّ أَكْثَرَ مِنْ أَجْرِ أَمْثَالِهَا، وَلَا يَشِحُّ الْأَبُ عَمَّا يَبْلُغُ أَجْرَ أَمْثَالِ أُمِّ الطِّفْلِ، وَلَا يَسْقُطُ حَقُّ الْأُمِّ إِذَا وَجَدَ الْأَبُ مَنْ يُرْضِعُ لَهُ مَجَّانًا لِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى وَإِنَّمَا يُقَالُ: أَرْضَعَتْ لَهُ، إِذَا اسْتُؤْجِرَتْ لِذَلِكَ، كَمَا يُقَالُ: اسْتَرْضَعَ أَيْضًا، إِذَا آجَرَ مَنْ يُرْضِعُ لَهُ وَلَدَهُ. وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ [233] الْآيَةَ.