الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
أَيْ هَذَا حُكْمُ اللَّهِ، وَهُوَ عَدْلٌ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ إِذْ لَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَأْخُذَ بِأحد جانبيه وَيتْرك الْآخَرِ. قَالَ الزُّهْرِيُّ: لَوْلَا الْعَهْدُ لَأُمْسِكَ النِّسَاءُ وَلَمْ يُرَدُّ إِلَى أَزْوَاجِهِمْ صَدَاقٌ. وَجُمْلَةُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَجُوزُ كَوْنُهَا حَالًا مِنَ اسْمِ الْجَلَالَةِ أَوْ حَالًا مِنْ حُكْمُ اللَّهِ مَعَ تَقْدِيرِ ضَمِيرٍ يَرْبِطُ الْجُمْلَةَ بِصَاحِبِ الْحَالِ تَقْدِيرُهُ: يَحْكُمُهُ بَيْنَكُمْ، وَأَنْ تَكُونَ اسْتِئْنَافًا.
وَقَوْلُهُ: وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ تَذْيِيلٌ يُشِيرُ إِلَى أَنَّ هَذَا حُكْمٌ يَقْتَضِيهِ عِلْمُ اللَّهِ بِحَاجَاتِ عِبَادِهِ وَتَقْتَضِيهِ حِكْمَتُهُ إِذْ أَعْطَى كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ.
وَقَدْ كَانَتْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ الَّتِي فِي هَذِهِ الْآيَاتِ مِنَ التَّرَادِّ فِي الْمُهُورِ شَرْعًا فِي أَحْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ اقْتَضَاهَا اخْتِلَاطُ الْأَمْرِ بَيْنَ أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ مِنْ عَهْدِ الْمُهَادِنَةِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فِي أَوَائِلِ أَمْرِ الْإِسْلَامِ خَاصًّا بِذَلِكَ الزَّمَانِ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ الْعِلْمِ، قَالَهُ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ وَالْقُرْطُبِيُّ وَأَبُو بكر الْجَصَّاص.
[11]
[سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 11]
وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
عَطْفٌ على جملَة وَسْئَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ [الممتحنة: 10] فَإِنَّهَا لَمَّا تَرَتَّبَ عَلَى نُزُولِهَا إِبَاءُ الْمُشْرِكِينَ مِنْ أَنْ يَرُدُّوا إِلَى أَزوَاج النِّسَاء اللاء بَقَيْنَ عَلَى الْكفْر بِمَكَّة واللاء فَرَرْنَ مِنْ الْمَدِينَةِ وَالْتَحَقْنَ بِأَهْلِ الْكفْر بِمَكَّة مهورهن الَّتِي كَانُوا أَعْطَوْهَا نِسَاءَهُمْ، عُقِّبَتْ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِتَشْرِيعِ رَدِّ تِلْكَ الْمُهُورِ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ فِيمَا بَيْنَهُمْ.
رُوِيَ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ كَتَبُوا إِلَى الْمُشْرِكِينَ يُعْلِمُونَهُمْ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ مِنَ التَّرَادِّ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ فِي قَوْله تَعَالَى: وَسْئَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا [الممتحنة: 10] .
فَامْتَنَعَ الْمُشْرِكُونَ مِنْ دَفْعِ مُهُورِ النِّسَاءِ اللَّاتِي ذَهَبَتْ إِلَيْهِمْ فَنَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ الْآيَةَ.
وَأَصْلُ الْفَوْتِ: الْمُفَارَقَةُ وَالْمُبَاعَدَةُ، وَالتَّفَاوُتُ: الْمُتَبَاعَدُ. وَالْفَوْتُ هُنَا مُسْتَعَارٌ لِضَيَاعِ الْحَقِّ كَقَوْلِ رُوَيْشِدِ بْنِ كَثِيرٍ الطَّائِيِّ أَوْ عَمْرِو بْنِ مَعْدِ يكَرِبَ:
إِنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ تَأْتِينِي بَقِيَّتُكُمْ
…
فَمَا عَلَيَّ بِذَنْبٍ مِنْكُمْ فَوْتُ
أَيْ فَلَا ضَيَاعَ عَلَيَّ بِمَا أَذْنَبْتُمْ، أَيْ فَإِنَّا كَمَنْ لَمْ يَضِعْ لَهُ حَقٌّ.
وَالْمَعْنَى: إِنْ فَرَّتْ بَعْضُ أَزْوَاجِكُمْ وَلَحِقَتْ بِالْكُفَّارِ وَحَصَلَ التَّعَاقُبُ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الْكُفَّارِ فَعَقَّبْتُمْ عَلَى أَزْوَاجِ الْكُفَّارِ وَعَقَّبَ الْكُفَّارُ عَلَى أَزْوَاجِكُمْ وَأَبَى الْكُفَّارُ مِنْ دَفَعِ مُهُورِ بعض النِّسَاء اللاء ذَهَبْنَ إِلَيْهِمْ، فَادْفَعُوا أَنْتُمْ لِمَنْ حَرَمُهُ الْكُفَّارُ مَهْرَ امْرَأَتَهُ، أَيْ مَا هُوَ حَقُّهُ، واحجزوا ذَلِك عَن الْكُفَّارِ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهُ إِنْ أُعْطِيَ جَمِيعُ الْمُؤْمِنِينَ مُهُورَ مَنْ فَاتَهُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ وَبَقِيَ لِلْمُشْرِكِينَ فَضْلٌ يَرُدُّهُ الْمُسْلِمُونَ إِلَى الْكُفَّارِ. هَذَا تَفْسِيرُ الزُّهْرِيُّ فِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْهُ وَهُوَ أَظْهَرُ مَا فُسِّرَتْ بِهِ الْآيَةُ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْجُمْهُورِ: الَّذِينَ فَاتَهُمْ أَزْوَاجُهُمْ إِلَى الْكُفَّارِ يُعْطَوْنَ مُهُورَ نِسَائِهِمْ مِنْ مَغَانِمِ الْمُسْلِمِينَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ مَنْسُوخَةً بِآيَةِ سُورَةِ بَرَاءَةَ [7] كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ.
وَالْوَجْهُ أَنْ لَا يُصَارَ إِلَى الْإِعْطَاءِ مِنَ الْغَنَائِمِ إِلَّا إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي ذِمَمِ الْمُسْلِمِينَ شَيْءٌ
مِنْ مُهُورِ نسَاء الْمُشْركين اللاء أَتَيْنَ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ وَصِرْنَ أَزْوَاجًا لِلْمُسْلِمِينَ.
وَالْكَلَامُ إِيجَازُ حَذْفٍ شَدِيدٍ دَلَّ عَلَيْهِ مَجْمُوعُ الْأَلْفَاظِ وَمَوْضِعُ الْكَلَامِ عَقِبَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ.
وَلَفَظُ شَيْءٌ هَنَا مُرَادٌ بِهِ: بَعْضُ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَيَانٌ لِ شَيْءٌ، وَأُرِيدَ بِ شَيْءٌ تحقير الزَّوْجَات اللاء أَبَيْنَ الْإِسْلَامَ، فَإِنَّ الْمُرَادَ قَدْ فَاتَتْ ذَاتُهَا عَنْ زَوْجِهَا فَلَا انْتِفَاعَ لَهُ بِهَا.
وَضُمِّنَ فِعْلُ فاتَكُمْ مَعْنَى الْفِرَارِ فَعُدِّيَ بِحَرْفِ إِلَى أَيْ فَرَرْنَ إِلَى الْكُفَّارِ.
وَ «عَاقَبْتُمْ» صِيغَةُ تَفَاعُلٍ مِنَ الْعُقْبَةِ بِضَمِّ الْعَيْنِ وَسُكُونِ الْقَافِ وَهِيَ النَّوْبَةُ، أَيْ مَصِيرُ أَحَدٍ إِلَى حَالٍ كَانَ فِيهَا غَيْرُهُ. وَأَصْلُهَا فِي رُكُوبِ الرَّوَاحِلِ وَالدَّوَابِّ أَنْ يَرْكَبَ أَحَدٌ عُقْبَةً وَآخَرُ عُقْبَةً شَبَّهَ مَا حُكِمَ بِهِ عَلَى الْفَرِيقَيْنِ مِنْ أَدَاءِ هَؤُلَاءِ مُهُورَ نِسَاءِ أُولَئِكَ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَمِنْ أَدَاءِ أُولَئِكَ مُهُورَ نِسَاءِ هَؤُلَاءِ فِي أَحْوَالٍ أُخْرَى مُمَاثِلَةٍ بِمَرْكُوبٍ يَتَعَاقَبُونَ فِيهِ.
فَفِعْلُ ذَهَبَتْ مَجَازٌ مِثْلُ فِعْلِ فاتَكُمْ فِي مَعْنَى عَدَمِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِنَّ.
وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَفِي قَوْلِهِ: فَآتُوا خِطَابٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ هُمْ أَيْضًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.
وَالْمَعْنَى: فَلْيُعْطِ الْمُؤْمِنُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مَا يُمَاثِلُ مَا كَانُوا أَعْطَوْهُ مِنَ الْمُهُورِ لِزَوْجَاتِهِمْ.
وَالَّذِي يَتَوَلَّى الْإِعْطَاءَ هُنَا هُوَ كَمَا قَرَّرَنَا فِي قَوْلِهِ: آتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا [الممتحنة: 10] أَيْ يُدْفَعُ ذَلِكَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ كَالْغَنَائِمِ وَالْأَخْمَاسِ وَنَحْوِهَا كَمَا بَيَّنَتْهُ السُّنَّةُ: أعْطى النبيء صلى الله عليه وسلم عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ، وَعِيَاضَ بْنَ أَبِي شَدَّادٍ الْفِهْرِيَّ، وَشَمَّاسَ بْنَ عُثْمَانَ، وَهِشَامَ بْنَ الْعَاصِ، مُهُورَ نِسَائِهِمُ اللَّاحِقَاتِ بِالْمُشِرِكِينَ مِنَ الْغَنَائِمِ.
وَأَفَادَ لَفْظُ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ الْمَهْرُ الْمُعْطَى مُسَاوِيًا لِمَا كَانَ أُعْطَاهُ زَوْجُ الْمَرْأَةِ مِنْ قَبْلُ لَا نَقْصَ فِيهِ.
وَأَشَارَتِ الْآيَةُ إِلَى نِسْوَةٍ مِنْ نِسَاءٍ الْمُهَاجِرِينَ لَمْ يُسْلِمْنَ وَهُنَّ ثَمَانُ نِسَاءٍ: أَمُّ الْحَكَمِ بِنْتُ أَبِي سُفْيَانَ كَانَتْ تَحْتَ عِيَاضِ بْنِ شَدَّادٍ، وَفَاطِمَةُ بِنْتُ أَبِي أُمَيَّةَ وَيُقَالُ: قُرَيْبَةُ وَهِيَ أُخْتُ أَمِّ سَلَمَةَ كَانَتْ تَحْتَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، وَأُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ جَرْوَلٍ كَانَتْ تَحْتَ عُمَرَ،
وَبَرَوْعُ (بِفَتْحِ الْبَاءِ عَلَى الْأَصَحِّ وَالْمُحَدِّثُونَ يَكْسِرُونَهَا) بِنْتُ عُقْبَةَ كَانَتْ تَحْتَ شَمَّاسِ بْنِ عُثْمَانَ وَشَهْبَةُ بِنْتُ غَيْلَانَ وَعَبْدَةُ بِنْتُ عَبْدِ الْعُزَّى كَانَتْ تَحْتَ هِشَامِ بْنِ الْعَاصِ، وَقِيلَ تَحْتَ عَمْرِو بْنِ عَبْدٍ وَهِنْدُ بِنْتُ أَبِي جَهْلٍ كَانَتْ تَحْتَ هِشَامِ بْنِ الْعَاصِ، وَأَرْوَى بْنِتُ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ كَانَتْ تَحْتَ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَكَانَ قَدْ هَاجَرَ وَبَقِيَتْ زَوْجُهُ مُشْرِكَةً بِمَكَّةَ فَلَمَّا نَزَلَتِ الْآيَةُ طَلَّقَهَا طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ.