الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عُمَرَ طَلَّقَ زَوْجَتَيْهِ قُرَيْبَةَ وَأُمَّ جَرْوَلٍ، فَلَمْ تَكُونَا مِمَّنْ لَحِقْنَ بِالْمُشْرِكِينَ، وَإِنَّمَا بَقِيَتَا بِمَكَّةَ إِلَى أَنْ طَلَّقَهُمَا عُمَرُ. وَأَحْسَبُ أَنَّ جَمِيعَهُنَّ إِنَّمَا طَلَّقَهُنَّ أَزْوَاجُهُنَّ عِنْدَ نُزُولِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ [الممتحنة: 10] .
وَالتَّذْيِيلُ بِقَوْلِهِ: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ تَحْرِيضٌ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَى الْوَفَاءِ بِمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ وَأَنْ لَا يَصُدَّهُمْ عَنِ الْوَفَاءِ بِبَعْضِهِ مُعَامَلَةُ الْمُشْرِكِينَ لَهُمْ بِالْجَوْرِ وَقِلَّةِ النُّصْفَةِ، فَأَمَرَ بِأَنْ يُؤَدِّيَ الْمُسْلِمُونَ لِإِخْوَانِهِمْ مُهُور النِّسَاء اللاء فَارَقُوهُنَّ وَلَمْ يَرْضَ الْمُشْرِكُونَ بِإِعْطَائِهِمْ مُهُورَهُنَّ وَلِذَلِكَ أُتْبِعَ اسْمُ الْجَلَالَةِ بِوَصْفِ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ لِأَنَّ الْإِيمَانَ يَبْعَثُ عَلَى التَّقْوَى وَالْمُشْرِكُونَ لَمَّا لَمْ يُؤْمِنُوا بِمَا أَمَرَ اللَّهُ انْتَفَى مِنْهُمْ وَازِعُ الْإِنْصَافِ، أَيْ فَلَا تَكُونُوا مِثْلَهُمْ.
وَالْجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ فِي الصِّلَةِ لِلدِّلَالَةِ عَلَى ثبات إِيمَانهم.
[12]
[سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 12]
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
هَذِهِ تَكْمِلَةٌ لِامْتِحَانِ النِّسَاءِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ الْآيَة [الممتحنة: 10] . وَبَيَانٌ لِتَفْصِيلِ آثَارِهِ. فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ وَبَيِّنُوا لَهُنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ. وَآيَةُ الِامْتِحَانِ عَقِبَ صُلْحِ الْحُدَيْبِيَةِ فِي شَأْنِ مَنْ هَاجَرْنَ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ بَعْدَ الصُّلْحِ وَهُنَّ:
أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَسُبَيْعَةُ الْأَسْلَمِيَّةُ، وَأُمَيْمَةُ بِنْتُ بِشْرٍ، وَزَيْنَبُ بِنْتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَلَا صِحَّةَ لِلْأَخْبَارِ الَّتِي تَقُولُ: إِنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي فَتْحِ مَكَّةَ وَمَنْشَؤُهَا التَّخْلِيطُ فِي الْحَوَادِثِ وَاشْتِبَاهُ الْمُكَرَّرِ بِالْأُنُفِ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم كَانَ يَمْتَحِنُ مَنْ هَاجَرَ
مِنَ
الْمُؤْمِنَاتِ بِهَذِهِ الْآيَةِ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ إِلَى قَوْلِهِ: غَفُورٌ رَحِيمٌ فَمَنْ أَقَرَّ بِهَذَا الشَّرْطِ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ قَالَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ: قَدْ بَايَعْتُكِ
. وَالْمُقْتَضَى لِهَذِهِ الْبَيْعَةِ بَعْدَ الِامْتِحَانِ أَنَّهُنَّ دَخَلْنَ فِي الْإِسْلَامِ بَعْدَ أَنِ اسْتَقَرَّتْ أَحْكَامُ الدِّينِ فِي مُدَّةِ سِنِينَ لَمْ يَشْهَدْنَ فِيهَا مَا شَهِدَهُ الرِّجَالُ مِنِ اتِّسَاعِ التَّشْرِيعِ آنًا فَآنًا، وَلِهَذَا ابْتُدِئَتْ هَذِهِ الْبَيْعَةُ بِالنِّسَاءِ الْمُهَاجِرَاتِ كَمَا يُؤْذِنُ بِهِ قَوْلُهُ: إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ، أَيْ قَدِمْنَ عَلَيْكَ مِنْ مَكَّةَ فَهِيَ عَلَى وِزَانِ قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ [الممتحنة: 10] . قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: كَانَتْ هَذِهِ الْبَيْعَةُ ثَانِيَ يَوْمِ الْفَتْحِ عَلَى جَبَلِ الصَّفَا.
وأجرى النبيء صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْبَيْعَةَ عَلَى نِسَاءِ الْأَنْصَارِ أَيْضًا.
رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: بَايَعْنَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَرَأَ عَلَيْنَا أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً
الْحَدِيثَ.
وَفِيهِ
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: شَهِدْتُ الصَّلَاةَ يَوْمَ الْفِطْرِ مَعَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَبْلَ الْخطْبَة فَنزل نبيء اللَّهِ فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ حِينَ يُجَلِّسُ الرِّجَالَ بِيَدِهِ ثُمَّ أَقْبَلَ يَشُقُّهُمْ حَتَّى أَتَى النِّسَاءَ مَعَ بِلَالٍ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ حَتَّى فَرَغَ مِنَ الْآيَةِ كُلِّهَا. ثُمَّ قَالَ حِينَ فَرَغَ: أَنْتُنَّ عَلَى ذَلِكَ فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنْهُنَّ وَاحِدَةٌ لَمْ يُجِبْهُ غَيْرُهَا:
نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «فَتَصَدَّقْنَ»
. وَأَجْرَى هَذِهِ الْمُبَايَعَةَ عَلَى الرِّجَالِ أَيْضًا.
فَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: «كُنَّا عِنْد النبيء صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: أَتُبَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا تَزْنُوا وَلَا تَسْرِقُوا، وَقَرَأَ آيَةَ النِّسَاءِ (أَيِ النَّازِلَةَ بِخِطَابِ النِّسَاءِ فِي سُورَةِ الْمُمْتَحِنَةِ) فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ. وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ. وَمَنْ أَصَابَ مِنْهَا شَيْئًا فَسَتَرَهُ اللَّهُ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ»
. وَاسْتَمَرَّ الْعَمَلُ بِهَذِهِ الْمُبَايَعَةِ إِلَى يَوْمِ فَتْحِ مَكَّةَ وَقَدْ أَسْلَمَ أَهْلُهَا رِجَالًا وَنِسَاءً فَجَلَسَ ثَانِي يَوْمِ الْفَتْحِ عَلَى الصَّفَا يَأْخُذُ الْبَيْعَةَ مِنَ الرِّجَالِ عَلَى مَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ،
وَجَلَسَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ يَأْخُذُ الْبَيْعَةَ مِنَ النِّسَاءِ عَلَى ذَلِكَ، وَمِمَّنْ بَايَعَتْهُ مِنَ النِّسَاءِ يَوْمَئِذٍ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ زَوْجُ أَبِي سُفْيَانَ وَكَبْشَةُ بِنْتُ رَافِعٍ.
وَجُمْلَةُ يُبايِعْنَكَ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَالًا مِنَ الْمُؤْمِناتُ عَلَى مَعْنَى: يُرِدْنَ الْمُبَايَعَةَ وَهِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَجَوَابُ إِذا فَبايِعْهُنَّ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ جُمْلَةُ يُبايِعْنَكَ جَوَابَ إِذا.
وَمَعْنَى إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ، أَيِ الدَّاخِلَاتُ فِي جَمَاعَةِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالْإِجْمَالِ، لَا يَعْلَمْنَ أُصُولَ الْإِسْلَامِ وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: يُبايِعْنَكَ فَهُوَ خَبَرٌ مُرَادٌ بِهِ الْأَمْرُ، أَيْ فَلْيُبَايِعْنَكَ وَتَكُونُ جُمْلَةُ فَبايِعْهُنَّ تَفْرِيعًا لِجُمْلَةِ يُبايِعْنَكَ وَلِيُبْنَى عَلَيْهَا قَوْلُهُ: وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ.
وَقَدْ شَمَلَتِ الْآيَةُ التَّخَلِّيَ عَنْ خِصَالٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَتِ السَّرِقَةُ فِيهِنَّ أَكْثَرَ مِنْهَا فِي الرِّجَالِ. قَالَ الْأَعْرَابِيُّ لَمَّا وَلَدَتْ زَوْجُهُ بِنْتًا: وَاللَّهِ مَا هِيَ بِنِعْمَ الْوَلَدُ بَزُّهَا بُكَاءٌ وَنَصْرُهَا سَرِقَةٌ.
وَالْمُرَادُ بِقَتْلِ الْأَوْلَادِ أَمْرَانِ: أَحَدُهُمَا الْوَأْدُ الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ بِبَنَاتِهِمْ، وَثَانِيهِمَا إِسْقَاطُ الْأَجِنَّةِ وَهُوَ الْإِجْهَاضُ.
وَأُسْنِدَ الْقَتْلُ إِلَى النِّسَاءِ وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ يَفْعَلُهُ الرِّجَالُ لِأَنَّ النِّسَاءَ كُنَّ يَرْضَيْنَ بِهِ أَوْ يَسْكُتْنَ عَلَيْهِ.
وَالْبُهْتَانُ: الْخَبَرُ الْمَكْذُوبُ الَّذِي لَا شُبْهَةَ لِكَاذِبِهِ فِيهِ لِأَنَّهُ يَبْهَتُ مَنْ يَنْقُلُ عَنْهُ.
وَالِافْتِرَاءُ: اخْتِلَاقُ الْكَذِبِ، أَيْ لَا يَخْتَلِقْنَ أَخْبَارًا بِأَشْيَاءَ لَمْ تَقَعْ.
وَقَوْلُهُ: بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ يَتَعَلَّقُ بِ يَأْتِينَ، وَهَذَا مِنَ الْكَلَامِ الْجَامِعِ لِمَعَانٍ كَثِيرَةٍ بِاخْتِلَافِ مَحَامِلِهِ مِنْ حَقِيقَةٍ وَمَجَازٍ وَكِنَايَةٍ، فَالْبُهْتَانُ حَقِيقَتُهُ: الْإِخْبَارُ بِالْكَذِبِ وَهُوَ مَصْدَرٌ. وَيُطْلَقُ الْمَصْدَرُ عَلَى اسْمِ الْمَفْعُولِ كَالْخَلْقِ بِمَعْنَى الْمَخْلُوقِ.
وَحَقِيقَةُ بَيْنَ الْأَيْدِي وَالْأَرْجُلِ: أَنْ يَكُونَ الْكَذِبُ حَاصِلًا فِي مَكَانٍ يَتَوَسَّطُ الْأَيْدِيَ وَالْأَرْجُلَ فَإِنْ كَانَ الْبُهْتَانُ عَلَى حَقِيقَتِهِ وَهُوَ الْخَبَرُ الْكَاذِبُ كَانَ افْتِرَاؤُهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ أَنَّهُ كَذَبَ مُوَاجَهَةً فِي وَجْهِ الْمَكْذُوبِ عَلَيْهِ كَقَوْلِهَا: يَا فُلَانَةُ زَنَيْتِ
مَعَ فُلَانٍ، أَوْ سَرَقْتِ حَلْيَ فُلَانَةٍ. لِتَبْهَتَهَا فِي مَلَأٍ مِنَ النَّاسِ، أَوْ أَنْت بنت زنا، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.
وَإِنْ كَانَ الْبُهْتَانُ بِمَعْنَى الْمَكْذُوبِ كَانَ مَعْنَى افْتِرَائِهِ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ كِنَايَةً عَنِ ادِّعَاءِ الْحَمْلِ بِأَنْ تَشْرَبَ مَا يَنْفُخُ بَطْنَهَا فَتُوهِمَ زَوْجَهَا أَنَّهَا حَامِلٌ ثُمَّ تُظْهِرَ الطَّلْقَ وَتَأْتِيَ بِوَلَدٍ تَلْتَقِطُهُ وَتَنْسِبُهُ إِلَى زَوْجِهَا لِئَلَّا يُطَلِّقَهَا، أَوْ لِئَلَّا يَرِثَهُ عُصْبَتُهُ، فَهِيَ تُعَظِّمُ بَطْنَهَا وَهُوَ بَيْنَ يَدَيْهَا، ثُمَّ إِذَا وَصَلَ إِبَّانَ إِظْهَارِ الطَّلْقِ وَضَعَتِ الطِّفْلَ بَيْنَ رِجْلَيْهَا وَتَحَدَّثَتْ وَتَحَدَّثَ النَّاسُ بِذَلِكَ فَهُوَ مَبْهُوتٌ عَلَيْهِ. فَالِافْتِرَاءُ هُوَ ادِّعَاؤُهَا ذَلِكَ تَأْكِيدًا لِمَعْنَى الْبُهْتَانِ.
وَإِنْ كَانَ الْبُهْتَانُ مُسْتَعَارًا لِلْبَاطِلِ الشَّبِيهِ بِالْخَبَرِ الْبُهْتَانِ، كَانَ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ مُحْتَمِلًا لِلْكِنَايَةِ عَنْ تَمْكِينِ الْمَرْأَةِ نَفْسَهَا مِنْ غَيْرِ زَوْجِهَا يقبلهَا أَو يحبسها، فَذَلِكَ بَيْنَ يَدَيْهَا أَوْ يَزْنِي بِهَا، وَذَلِكَ بَيْنَ أَرْجُلِهَا.
وَفَسَّرَهُ أَبُو مُسْلِمٍ الْأَصْفَهَانِيُّ بِالسِّحْرِ إِذْ تُعَالِجُ أُمُورَهُ بِيَدَيْهَا، وَهِيَ جَالِسَةٌ تَضَعُ أَشْيَاءَ السِّحْرِ بَيْنَ رِجْلَيْهَا.
وَلَا يَمْنَعُ مِنْ هَذِهِ الْمَحَامِلِ أَن النبيء صلى الله عليه وسلم بَايَعَ الرِّجَالَ بِمِثْلِهَا. وَبَعْضُ هَذِهِ الْمَحَامِلِ لَا يُتَصَوَّرُ فِي الرِّجَالِ إِذْ يُؤْخَذُ لِكُلِّ صِنْفٍ مَا يَصْلُحُ لَهُ مِنْهَا.
وَبَعْدَ تَخْصِيصِ هَذِهِ الْمَنْهِيَّاتِ بِالذِّكْرِ لِخَطَرِ شَأْنِهَا عَمَّمَ النَّهْيَ بِقَوْلِهِ: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ وَالْمَعْرُوفُ هُوَ مَا لَا تُنْكِرُهُ النُّفُوسُ. وَالْمُرَادُ هُنَا الْمَعْرُوفُ فِي الدِّينِ، فَالتَّقْيِيدُ بِهِ إِمَّا لِمُجَرَّدِ الْكَشْفِ فَإِن النبيء صلى الله عليه وسلم لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِالْمَعْرُوفِ، وَإِمَّا لِقَصْدِ التَّوْسِعَةِ عَلَيْهِنَّ فِي أَمْرٍ لَا يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ كَمَا فَعَلَتْ بَرِيرَةُ إِذْ لَمْ تَقْبَلْ شَفَاعَة النبيء صلى الله عليه وسلم فِي إِرْجَاعِهَا زَوْجَهَا مُغِيثًا إِذْ بَانَتْ مِنْهُ بِسَبَبِ عِتْقِهَا وَهُوَ رَقِيقٌ.
وَقَدْ
رُوِيَ فِي «الصَّحِيحِ» عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ أَن النبيء صلى الله عليه وسلم نَهَاهُنَّ فِي هَذِهِ الْمُبَايَعَةِ عَنِ النِّيَاحَةِ فَقَبَضَتِ امْرَأَةٌ يَدَهَا وَقَالَتْ: أَسْعَدَتْنِي فُلَانَةُ أُرِيدُ أَنْ أَجْزِيَهَا. فَمَا قَالَ لَهَا النبيء صلى الله عليه وسلم شَيْئًا فَانْطَلَقَتْ وَرَجَعَتْ فَبَايَعَهَا
. وَإِنَّمَا هَذَا مِثَالٌ لِبَعْضِ الْمَعْرُوفِ الَّذِي يَأْمُرُهُنَّ بِهِ النبيء صلى الله عليه وسلم تَرْكُهُ فَاشٍ فِيهِنَّ.
وَوَرَدَ فِي أَخْبَارٍ أَنَّهُ نَهَاهُنَّ عَنْ تَبَرُّجِ الْجَاهِلِيَّةِ وَعَنْ أَنْ يُحَدِّثْنَ الرِّجَالَ الَّذِينَ
لَيْسُوا بِمَحْرَمٍ فَقَالَ عبد الرحمان بْنُ عَوْف: يَا نبيء اللَّهِ إِنَّ لَنَا أَضْيَافًا وَإِنَّا نَغِيبُ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ:
لَيْسَ أُولَئِكَ عَنَيْتُ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَهَاهُنَّ عَنْ تَمْزِيقِ الثِّيَابِ وَخَدْشِ الْوُجُوهِ وَتَقْطِيعِ الشُّعُورِ وَالدُّعَاءِ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ
، أَي من شؤون النِّيَاحَةِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَرَوَى الطَّبَرِيُّ بِسَنَدِهِ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ لَمَّا أَخَذَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم الْبَيْعَةَ عَلَى النِّسَاءِ كَانَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَةَ زَوْجُ أَبِي سُفْيَانَ جَالِسَةً مَعَ النِّسَاءِ مُتَنَكِّرَةً خَوْفًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ أَنْ يَقْتَصَّ مِنْهَا عَلَى شَقِّهَا بَطْنَ حَمْزَةَ وَإِخْرَاجِهَا كَبِدَهُ يَوْمَ أُحُدٍ. فَلَمَّا قَالَ: عَلى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً، قَالَتْ هِنْدُ: وَكَيْفَ نَطْمَعُ أَنْ يَقْبَلَ مِنَّا شَيْئًا لَمْ يَقْبَلْهُ مِنَ الرِّجَالِ. فَلَمَّا قَالَ: وَلا يَسْرِقْنَ. قَالَتْ هِنْدُ: وَاللَّهِ إِنِّي لَأُصِيبُ مِنْ مَالِ أَبِي سُفْيَانَ هَنَاتٍ فَمَا أَدْرِي أَتَحِلُّ لِي أَمْ لَا؟ فَقَالَ: أَبُو سُفْيَانَ: مَا أَصَبْتِ مِنْ شَيْءٍ فِيمَا مَضَى وَفِيمَا غَبَرَ فَهُوَ لَكِ حَلَالٌ. فَضَحِكَ
رَسُول الله صلى الله عليه وسلم وَعَرَفَهَا فَدَعَاهَا فَأَتَتْهُ فَعَاذَتْ بِهِ، وَقَالَتْ: فَاعْفُ عَمَّا سَلَفَ يَا نَبِيءَ اللَّهِ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ. فَقَالَ: وَلا يَزْنِينَ. فَقَالَت: أَو تَزني الْحُرَّةُ. قَالَ: وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ.
فَقَالَتْ هِنْدُ: رَبَّيْنَاهُمْ صِغَارًا وَقَتَلْتَهُمْ كِبَارًا فَأَنْتُمْ وَهُمْ أَعْلَمُ. تُرِيدُ أَنَّ الْمُسْلِمِينَ قَتَلُوا ابْنَهَا حَنْظَلَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ يَوْمَ بَدْرٍ. فَتَبَسَّمَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. فَقَالَ: وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ.
فَقَالَتْ: وَاللَّهِ إِنَّ الْبُهْتَانَ لَأَمْرٌ قَبِيحٌ وَمَا تَأْمُرُنَا إِلَّا بِالرُّشْدِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ. فَقَالَ: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ. فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا جَلَسْنَا مَجْلِسَنَا هَذَا وَفِي أَنْفُسِنَا أَنْ نَعْصِيَكَ فِي شَيْءٍ
. فَقَوْلُهُ: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ. جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُخْبِرُ بِهِ النبيء صلى الله عليه وسلم وَيَأْمُرُ بِهِ مِمَّا يَرْجِعُ إِلَى وَاجِبَاتِ الْإِسْلَامِ.
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْ أُمِّ عَطِيَّةَ قَالَتْ: كَانَ مِنْ ذَلِكَ: أَنْ لَا نَنُوحَ. قَالَتْ: فَقَلَتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِلَّا آلَ فُلَانٍ فَإِنَّهُمْ كَانُوا أَسْعَدُونِي فِي الْجَاهِلِيَّةِ فَلَا بُدَّ أَنْ أُسْعِدَهُمْ. فَقَالَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم: إِلَّا آلَ فُلَانٍ
، وَهَذِهِ رُخْصَةٌ خَاصَّةٌ بِأُمِّ عَطِيَّةَ وَبِمَنْ سَمَّتْهُمْ.
وَفِي يَوْمٍ مُعَيَّنٍ.
وَقَوْلُهُ: فَبايِعْهُنَّ جَوَابُ إِذا تَفْرِيعٌ عَلَى يُبايِعْنَكَ، أَيْ فَاقْبَلْ مِنْهُنَّ مَا بَايَعْنَكَ عَلَيْهِ لِأَنَّ الْبَيْعَةَ عِنْدَهُ مِنْ جَانِبَيْنِ وَلِذَلِكَ صِيغَتْ لَهَا صِيغَةُ الْمُفَاعَلَةِ.
وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ، أَيْ فِيمَا فُرِّطَ مِنْهُنَّ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِمَّا خُصَّ بِالنَّهِي فِي شُرُوطِ الْبَيْعَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَلِذَلِكَ حُذِفَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لفعل اسْتَغْفِرْ.