الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَجُمْلَةُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا فَأَغْنَتْ أَنَّ غناء فَاء السبية كَقَوْلِ بَشَّارٍ:
إِنْ ذَاكَ النَّجَاحَ فِي التَّبْكِيرِ وَتَأْكِيدُ الْجُمْلَةِ بِ أَنَّ لِلِاهْتِمَامِ بِهِ وَإِلَّا فَإِنَّ الْمُخَاطَبَ لَا يَتَرَدَّدُ فِي ذَلِكَ. وَهَذَا التَّعْرِيضُ بِالْوَعِيدِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّنَاجِي كَانَ سَابِقًا عَلَى نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ وَالْآيَاتِ بَعْدَهَا.
[8]
[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 8]
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ.
إِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَالْآيَتَانِ اللَّتَانِ بَعْدَهَا نَزَلَتْ مَعَ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا حَسْبَمَا يَقْتَضِيهِ ظَاهِرُ تَرْتِيبِ التِّلَاوَةِ كَانَ قَوْلُهُ تَعَالَى: نُهُوا عَنِ النَّجْوى مُؤْذِنًا بِأَنَّهُ سَبَقَ نَهْيٌ عَنِ النَّجْوَى قَبْلَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ: نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنَ الْيَهُودِ وَالْمُنَافِقِينَ نَهَاهُمْ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَنِ التَّنَاجِي بِحَضْرَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَلَمْ يَنْتَهُوا، فَنَزَلَتْ، فَتَكُونُ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ نَزَلَتْ لِتَوْبِيخِهِمْ وَهُوَ مَا اعْتَمَدْنَاهُ آنِفًا.
وَإِنْ كَانَتْ نَزَلَتْ بَعْدَ الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا بِفَتْرَةٍ كَانَ الْمُرَادُ النَّهْيُ الَّذِي أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ [المجادلة: 7] كَمَا تَقَدَّمَ، بِأَنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَنِ النَّجْوَى بَعْدَ أَنْ سَمِعُوا الْوَعِيدَ عَلَيْهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ، فَالْمُرَادُ بِ الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى هُمُ الَّذِينَ عُنُوا بِقَوْلِهِ: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ [المجادلة: 7] الْآيَةَ.
وثُمَّ فِي قَوْلِهِ: ثُمَّ يَعُودُونَ لِلتَّرَاخِي الرُّتَبِيِّ لِأَنَّ عَوْدَتَهُمْ إِلَى النَّجْوَى بَعْدَ أَن نهوا عَنْهَا أَعْظَمُ مِنِ ابْتِدَاءِ النَّجْوَى لِأَنَّ ابْتِدَاءَهَا كَانَ إِثْمًا لِمَا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ نَجْوَاهُمْ مِنْ نَوَايَا سَيِّئَةٍ نَحْو النبيء صلى الله عليه وسلم وَالْمُسْلِمِينَ، فَأَمَّا عَوْدَتُهُمْ إِلَى النَّجْوَى بَعْدَ أَنْ نُهُوا عَنْهَا فَقَدْ زَادُوا بِهِ تَمَرُّدًا على النبيء صلى الله عليه وسلم وَمَشَاقَّةً لِلْمُسْلِمِينَ.
فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا اقْتَضَاهُ اسْتِمْرَارُ الْمُنَافِقِينَ عَلَى نَجْوَاهُمْ.
وَالِاسْتِفْهَامُ فِي قَوْلِهِ: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى تَعْجِيبِيٌّ مُرَادٌ بِهِ تَوْبِيخُهُمْ حِينَ يَسْمَعُونَهُ.
وَالرُّؤْيَةُ بَصَرِيَّةٌ بِقَرِينَةِ تَعْدِيَتِهَا بِحَرْفِ إِلَى.
وَالتَّعْرِيفُ فِي النَّجْوى تَعْرِيفُ الْعَهْدِ لِأَنَّ سِيَاق الْكَلَام فِي نَوْعٍ خَاصٍّ مِنَ النَّجْوَى. وَهِيَ النَّجْوَى الَّتِي تُحْزِنُ الَّذِينَ آمنُوا كَمَا ينبىء عَنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا [المجادلة: 10] .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْ جِنْسِ النَّجْوَى فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ يَعُمُّ كُلَّ نَجْوَى بِمَرْأًى مِنَ النَّاسِ سَدًّا لِلذَّرِيعَةِ، قَالَ الْبَاجِيُّ فِي «الْمُنْتَقَى» : رُوِيَ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ تَنَاجِي اثْنَيْنِ أَوْ أَكْثَرَ دُونَ وَاحِدٍ أَنَّهُ كَانَ فِي بَدْءِ الْإِسْلَامِ، فَلَمَّا فَشَا الْإِسْلَامُ وَآمَنَ النَّاسُ زَالَ هَذَا الْحُكْمُ لِزَوَالِ سَبَبِهِ.
قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «أَحْكَامِ الْقُرْآنِ» عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ الْآيَةَ [114] فِي سُورَةِ النِّسَاءِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ عِبَادَهُ بِأَمْرَيْنِ عَظِيمَيْنِ: أَحَدُهُمَا:
الْإِخْلَاصُ وَهُوَ أَنْ يَسْتَوِيَ ظَاهِرُ الْمَرْءِ وَبَاطِنُهُ، وَالثَّانِي: النَّصِيحَةُ لِكِتَابِ اللَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ، فَالنَّجْوَى خِلَافُ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ وَبَعْدَ هَذَا فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ لِلْخَلْقِ مِنْ أَمْرٍ يَخْتَصُّونَ بِهِ فِي أَنْفُسِهِمْ وَيَخُصُّ بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فَرخص فِي ذَلِكَ بِصَفَةِ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالصَّدَقَةِ وَإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ اه.
وَفِي «الْمُوَطَّأِ» حَدِيثٌ أَنَّ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِذَا كَانَ ثَلَاثَةٌ فَلَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ وَاحِدٍ» . زَادَ فِي رِوَايَةِ مُسْلِمٍ «إِلَّا بِإِذْنِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ يُحْزِنُهُ»
. وَاخْتَلَفَ فِي مَحْمَلِ هَذَا النَّهْيِ عَلَى التَّحْرِيمِ أَوْ عَلَى الْكَرَاهَةِ، وَجُمْهُورُ الْمَالِكِيَّةِ عَلَى أَنَّهُ لِلتَّحْرِيمِ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْقَبَسِ» : فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ مَخَافَةَ أَنْ يُحْزِنَهُ مِنْ قَول النبيء صلى الله عليه وسلم فَقَدِ انْحَسَمَ التَّأْوِيلُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْلِ الرَّاوِي فَهُوَ أَوْلَى مِنْ تَأْوِيلِ غَيْرِهِ. وَقَالَ ابْن الْقَاسِم: سَمِعْتُ مَالِكًا يَقُولُ: لَا يَتَنَاجَى أَرْبَعَةٌ دُونَ وَاحِدٍ. وَأما تناجي الْجَمَاعَة دُونَ جَمَاعَةٍ فَإِنَّهُ أَيْضًا مَكْرُوهٌ أَوْ مُحَرَّمٌ اه. وَحَكَى النَّوَوِيُّ الْإِجْمَاعَ عَلَى جَوَازِ تَنَاجِي جَمَاعَةٍ دُونَ جَمَاعَةٍ وَاحْتَجَّ لَهُ ابْنُ التِّينِ بِحَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: فَأَتَيْتُهُ (يَعْنِي النبيء صلى الله عليه وسلم وَهُوَ فِي مَلَأٍ فَسَارَرْتُهُ. وَحَدِيثُ عَائِشَةَ فِي قِصَّةِ فَاطِمَةَ دَالٌّ عَلَى الْجَوَازِ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى الْمُتَنَاجِيَيْنِ فِي حَالِ تَنَاجِيهِمَا.
وَأُلْحِقَ بِالتَّنَاجِي أَنْ يَتَكَلَّمَ رَجُلَانِ بِلُغَةٍ لَا يَعْرِفُهَا ثَالِثٌ مَعَهُمَا.
وَالْقَوْلُ فِي اسْتِعْمَالِ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ فِي مَعْنَاهُ الْمَجَازِيِّ وَتَعْدِيَتِهِ بِاللَّامِ نَظِيرُ الْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا [المجادلة: 3] .
وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي مَوْقِعِ ثُمَّ عَاطِفَةِ الْجُمْلَةِ.
وَصِيغَةُ الْمُضَارِعِ فِي يَعُودُونَ دَالَّةٌ عَلَى التَّجَدُّدِ، أَيْ يُكَرِّرُونَ الْعَدَدَ بِحَيْثُ يُرِيدُونَ بِذَلِكَ الْعِصْيَانَ وَقِلَّةَ الِاكْتِرَاثِ بِالنَّهْيِ فَإِنَّهُمْ لَوْ عَادُوا إِلَى النَّجْوَى مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ لَاحْتَمَلَ حَالُهُمْ أَنَّهُمْ نَسُوا.
وَ «لِما نُهُوا عَنْهُ» هُوَ النَّجْوَى، فَعَدَلَ عَنِ الْإِتْيَانِ بِضَمِيرِ النَّجْوَى إِلَى الْمَوْصُولِ وَصِلَتِهِ لِمَا تُؤْذِنُ بِهِ الصِّلَةُ مِنَ التَّعْلِيلِ لِمَا بَعْدَهَا مِنَ الْوَعِيدِ بِقَوْلِهِ: حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ عَلَى مَا فِي الصِّلَةِ مِنَ التَّسْجِيلِ عَلَى سَفَهِهِمْ.
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يَتَناجَوْنَ بِصِيغَةِ التَّفَاعُلِ مِنْ نَاجَى الْمَزِيدِ. وَقَرَأَهُ حَمْزَةُ وَرُوَيْسٌ وَيَعْقُوبُ وَيَنْتَجُونَ بِصِيغَةِ الِافْتِعَالِ مِنْ نَجَا الثُّلَاثِيِّ الْمُجَرَّدِ أَيْ سَارَّ غَيْرَهُ، وَالِافْتِعَالُ يَرِدُ بِمَعْنَى الْمُفَاعَلَةِ مِثْلِ اخْتَصَمُوا وَاقْتَتَلُوا.
وَالْإِثْمُ: الْمَعْصِيَةُ وَهُوَ مَا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ تَنَاجِيهِمْ مِنْ كَلَامِ الْكُفْرِ وَذَمِّ الْمُسْلِمِينَ.
والْعُدْوانِ بِضَمِّ الْعَيْنِ: الظُّلْمُ وَهُوَ مَا يُدَبِّرُونَهُ مِنَ الْكَيْدِ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَمَعْصِيَةُ الرَّسُولِ مُخَالَفَةُ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ أَنَّهُ نَهَاهُمْ عَنِ النَّجْوَى وَهُمْ يعودون لَهَا.
وَالْيَاء لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ يَتَنَاجَوْنَ مُلَابِسِينَ الْإِثْمَ وَالْعُدْوَانَ وَمَعْصِيَةَ الرَّسُولِ وَهَذِهِ الْمُلَابَسَةُ مُتَفَاوِتَةٌ. فَمُلَابَسَةُ الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ مُلَابَسَةُ الْمُتَنَاجِي فِي شَأْنِهِ لِفِعْلِ الْمُنَاجِينَ.
وَمُلَابَسَةُ مَعْصِيّة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم مُلَابَسَةُ الْمُقَارَنَةِ لِلْفِعْلِ، لِأَنَّ نَجْوَاهُمْ بَعْدَ أَنْ نَهَاهُم النبيء صلى الله عليه وسلم عَنْهَا مَعْصِيَةٌ وَفِي قَوْلِهِ: نُهُوا عَنِ النَّجْوى وَقَوْلِهِ: وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُمْ مُنَافِقُونَ لَا يَهُودُ لِأَن النبيء صلى الله عليه وسلم مَا كَانَ
يَنْهَى الْيَهُودَ عَنْ أَحْوَالِهِمْ. وَهَذَا يَرُدُّ قَوْلَ مَنْ تَأَوَّلَ الْآيَةَ عَلَى الْيَهُودِ وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَقَتَادَةَ، بَلِ الْحَقُّ مَا فِي ابْنِ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقين.
وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ.
بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ حَالَهُمْ فِي اخْتِلَاءِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ ذَكَرَ حَالَ نِيَّاتِهِمُ الْخَبِيثَةِ عِنْدَ الْحُضُورِ فِي مجْلِس النبيء صلى الله عليه وسلم فَإِنَّهُمْ يَتَتَبَّعُونَ سُوءَ نِيَّاتِهِمْ مِنْ كَلِمَاتٍ يَتَبَادَرُ مِنْهَا لِلسَّامِعِينَ أَنَّهَا صَالِحَةٌ فَكَانُوا إِذَا دَخَلُوا على النبيء صلى الله عليه وسلم يَخْفِتُونَ لَفْظَ «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ» لِأَنَّهُ شِعَارُ الْإِسْلَامِ وَلِمَا فِيهِ من جمع مَعْنَى السَّلَامَةِ يَعْدِلُونَ عَنْ ذَلِكَ وَيَقُولُونَ: أَنْعِمْ صَبَاحًا، وَهِيَ تَحِيَّةُ الْعَرَبِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لِأَنَّهُمْ لَا يُحِبُّونَ أَنْ يَتْرُكُوا عَوَائِدَ الْجَاهِلِيَّةِ. نَقَلَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
فَمَعْنَى بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ، بِغَيْرِ لَفْظِ السَّلَامِ، فَإِنَّ اللَّهَ حَيَّاهُ بِذَلِكَ بِخُصُوصِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الْأَحْزَاب: 56] . وَحَيَّاهُ بِهِ فِي عُمُومِ الْأَنْبِيَاءِ بِقَوْلِهِ: قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى [النَّمْل: 59] وَتَحِيَّةُ اللَّهِ هِيَ التَّحِيَّةُ الْكَامِلَةُ.
وَلَيْسَ الْمُرَادُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا
وَرَدَ فِي حَدِيثِ: أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا إِذَا حيّوا النبيء صلى الله عليه وسلم قَالُوا: السَّامُ عَلَيْكَ، وَأَن النبيء صلى الله عليه وسلم كَانَ يَرُدُّ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ:«وَعَلَيْكُمْ»
. فَإِنَّ ذَلِكَ وَارِدٌ فِي قَوْمٍ مَعْرُوفٌ أَنَّهُمْ مِنَ الْيَهُودِ. وَمَا ذُكِرَ أَوَّلَ هَذِهِ الْآيَةِ لَا يَلِيقُ حَمْلُهُ عَلَى أَحْوَالِ الْيَهُودِ كَمَا عَلِمْتَ آنِفًا وَلَوْ حمل ضمير جاؤُكَ عَلَى الْيَهُودِ لَزِمَ عَلَيْهِ تَشْتِيتُ الضَّمَائِرِ.
أَمَّا هَذِهِ الْآيَةُ فَفِي أَحْوَالِ الْمُنَافِقِينَ، وَهَذَا مِثْلُ مَا كَانَ بَعضهم يَقُول للنَّبِي صلى الله عليه وسلم:
راعِنا [الْبَقَرَة: 104] تَعَلَّمُوهَا مِنَ الْيَهُودِ وَهُمْ يُرِيدُونَ التَّوْجِيهَ بِالرُّعُونَةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ [الْبَقَرَة:
104] وَلَمْ يُرِدْ مِنْهُ نَهْيَ الْيَهُودِ.
وَمَعْنَى يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ يَقُولُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَلَى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعَالَى: