المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة المجادلة (58) : آية 2] - التحرير والتنوير - جـ ٢٨

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌58- سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ

- ‌أغراض هَذِه السُّورَة

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 2]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 3]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 4]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 8]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 9]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 10]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 11]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 12]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 13]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : الْآيَات 14 إِلَى 15]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 17]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 18]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 19]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : الْآيَات 20 إِلَى 21]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 22]

- ‌59- سُورَةُ الْحَشْرِ

- ‌أغراض هَذِه السُّورَة

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 2]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 3]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 4]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 8]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 9]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 10]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 11]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 12]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 13]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 14]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 15]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : الْآيَات 16 إِلَى 17]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 18]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 19]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 20]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 21]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 22]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 23]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 24]

- ‌60- سُورَةُ الْمُمْتَحِنَةِ

- ‌أغراض هَذِه السُّورَة

- ‌[سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 2]

- ‌[سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 3]

- ‌[سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 4]

- ‌[سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 8]

- ‌[سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 9]

- ‌[سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 10]

- ‌[سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 11]

- ‌[سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 12]

- ‌[سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 13]

- ‌61- سُورَةُ الصَّفِّ

- ‌أغراضها

- ‌[سُورَة الصَّفّ (61) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة الصَّفّ (61) : الْآيَات 2 إِلَى 3]

- ‌[سُورَة الصَّفّ (61) : آيَة 4]

- ‌[سُورَة الصَّفّ (61) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة الصَّفّ (61) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة الصَّفّ (61) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة الصَّفّ (61) : آيَة 8]

- ‌[سُورَة الصَّفّ (61) : آيَة 9]

- ‌[سُورَة الصَّفّ (61) : الْآيَات 10 إِلَى 12]

- ‌[سُورَة الصَّفّ (61) : آيَة 13]

- ‌[سُورَة الصَّفّ (61) : آيَة 14]

- ‌62- سُورَةُ الْجُمُعَةِ

- ‌أغراضها

- ‌[سُورَة الْجُمُعَة (62) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة الْجُمُعَة (62) : آيَة 2]

- ‌[سُورَة الْجُمُعَة (62) : آيَة 3]

- ‌[سُورَة الْجُمُعَة (62) : آيَة 4]

- ‌[سُورَة الْجُمُعَة (62) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة الْجُمُعَة (62) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة الْجُمُعَة (62) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة الْجُمُعَة (62) : آيَة 8]

- ‌[سُورَة الْجُمُعَة (62) : الْآيَات 9 إِلَى 10]

- ‌[سُورَة الْجُمُعَة (62) : آيَة 11]

- ‌63- سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ

- ‌أغراضها

- ‌[سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 2]

- ‌[سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 3]

- ‌[سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 4]

- ‌[سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 8]

- ‌[سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 9]

- ‌[سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 10]

- ‌[سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 11]

- ‌64- سُورَةُ التَّغَابُنِ

- ‌أَغْرَاضُهَا

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 2]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 3]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 4]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 8]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 9]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 10]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 11]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 12]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 13]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 14]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 15]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 16]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : الْآيَات 17 الى 18]

- ‌65- سُورَةُ الطَّلَاقِ

- ‌أغراضها

- ‌[سُورَة الطَّلَاق (65) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة الطَّلَاق (65) : الْآيَات 2 الى 3]

- ‌[سُورَة الطَّلَاق (65) : الْآيَات 4 الى 5]

- ‌[سُورَة الطَّلَاق (65) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة الطَّلَاق (65) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة الطَّلَاق (65) : الْآيَات 8 الى 11]

- ‌[سُورَة الطَّلَاق (65) : آيَة 12]

- ‌66- سُورَةُ التَّحْرِيمِ

- ‌أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ

- ‌[سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 2]

- ‌[سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 3]

- ‌[سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 4]

- ‌[سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 8]

- ‌[سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 9]

- ‌[سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 10]

- ‌[سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 11]

- ‌[سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 12]

الفصل: ‌[سورة المجادلة (58) : آية 2]

وَالْاشْتِكَاءُ: مُبَالَغَةٌ فِي الشَّكْوَى وَهِيَ ذِكْرُ مَا آذَاهُ، يُقَالُ: شَكَا وَتَشَكَّى وَاشْتَكَى وَأَكْثَرُهَا مُبَالَغَةً. اشْتَكَى، وَالْأَكْثَرُ أَنْ تَكُونَ الشِّكَايَةُ لِقَصْدِ طَلَبِ إِزَالَةِ الضُّرِّ الَّذِي يَشْتَكِي مِنْهُ بِحُكْمٍ أَوْ نَصْرٍ أَوْ إِشَارَةٍ بِحِيلَةِ خَلَاصٍ.

وَتَعَلُّقِ فِعْلِ التَّجَادُلِ بِالْكَوْنِ فِي زَوْجِهَا عَلَى نِيَّةِ مُضَافٍ مَعْلُومٍ مِنَ الْمَقَامِ فِي مثل هَذَا بِكَثْرَة: أَيْ فِي شَأْنِ زَوْجِهَا وَقَضِيَّتِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ [هود: 74]، وَقَوْلِهِ: وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا [الْمُؤْمِنُونَ: 27] وَهُوَ مِنَ الْمَسْأَلَةِ الْمُلَقَّبَةِ فِي «أُصُولِ الْفِقْهِ» بِإِضَافَةِ التَّحْلِيلِ وَالتَّحْرِيمِ إِلَى الْأَعْيَانِ فِي نَحْوِ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ [الْمَائِدَة: 3] .

وَالتَّحَاوُرُ تَفَاعُلُ مِنْ حَارَ إِذَا أَجَابَ. فَالتَّحَاوُرُ حُصُولُ الْجَوَابِ مِنْ جَانِبَيْنِ، فَاقْتَضَتْ مُرَاجَعَةً بَيْنَ شَخْصَيْنِ.

وَالسَّمَاعُ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ الْمُنَاسِبِ لِصِفَاتِ اللَّهِ إِذْ لَا صَارِفَ يَصْرِفُ عَنِ الْحَقِيقَةِ. وَكَوْنُ اللَّهِ تَعَالَى عَالِمًا بِمَا جَرَى مِنَ الْمُحَاوَرَةِ مَعْلُومٌ لَا يُرَادُ مِنَ الْإِخْبَارِ بِهِ إِفَادَةُ الْحُكْمِ، فَتَعَيَّنَ صَرْفُ الْخَبَرِ إِلَى إِرَادَةِ الِاعْتِنَاءِ بِذَلِكَ التَّحَاوُرِ وَالتَّنْوِيهِ بِهِ وَبِعَظِيمِ مَنْزِلَتِهِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى ترقّب النبيء صلى الله عليه وسلم مَا يُنْزِلُهُ عَلَيْهِ مِنْ وَحْيٍ، وَتَرَقُّبُ الْمَرْأَةِ الرَّحْمَةَ، وَإِلَّا فَإِنَّ الْمُسْلِمِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِتَحَاوُرِهِمَا.

وَجُمْلَةُ: وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما فِي مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ ضَمِيرِ تُجادِلُكَ. وَجِيءَ بِصِيغَةِ الْمُضَارع لاستحضار حَالَة مُقَارَنَةِ عِلْمِ اللَّهِ لِتَحَاوُرِهِمَا زِيَادَةً فِي التَّنْوِيهِ بِشَأْنِ ذَلِكَ التَّحَاوُرِ.

وَجُمْلَةُ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ تَذْيِيلٌ لِجُمْلَةِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما أَيْ: أَنَّ اللَّهَ عَالِمٌ بِكُلِّ صَوْتٍ وَبِكُلِّ مَرْئِيٍّ. وَمِنْ ذَلِكَ مُحَاوَرَةُ الْمُجَادِلَةِ وَوُقُوعُهَا عِنْد النبيء صلى الله عليه وسلم. وَتَكْرِيرُ اسْمِ الْجَلَالَةِ فِي مَوْضِعِ إِضْمَارِهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ لِتَرْبِيَةِ الْمَهَابَةِ وَإِثَارَةِ تَعْظِيمِ مِنَّتِهِ تَعَالَى ودواعي شكره.

[2]

[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 2]

الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَاّ اللَاّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ

ص: 9

(2)

تَتَنَزَّلُ جُمْلَةُ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ وَمَا يُتِمُّ أَحْكَامَهَا مَنْزِلَةَ الْبَيَانِ لِجُمْلَةِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها [المجادلة: 1] الْآيَةَ لِأَنَّ فِيهَا مَخْرَجًا مِمَّا لَحِقَ بِالْمُجَادِلَةِ مِنْ ضُرٍّ بِظِهَارِ زَوْجِهَا، وَإِبْطَالًا لَهُ، وَلَهَا أَيْضًا مَوْقِعُ الِاسْتِئْنَافِ الْبَيَانِيِّ لِجُمْلَةِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ يُثِيرُ سُؤَالًا فِي النَّفْسِ أَنْ تَقُولَ: فَمَاذَا نَشَأَ عَنِ اسْتِجَابَةِ اللَّهِ لِشَكْوَى الْمُجَادِلَةِ فَيُجَابُ بِمَا فِيهِ الْمَخْرَجُ لَهَا مِنْهُ.

وَقَرَأَ نَافِعٌ وَابْنُ كَثِيرٍ وَأَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ يَظَّهَّرُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الظَّاءِ وَالْهَاءِ مَفْتُوحَتَيْنِ بِدُونِ أَلِفٍ بَعْدَ الظَّاءِ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ: يَتَظَهَّرُونَ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ فِي الظَّاءِ لِقُرْبِ مَخْرَجَيْهِمَا، وَقَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَأَبُو جَعْفَرٍ وَخَلَفٌ يُظاهِرُونَ بِفَتْحِ الْيَاءِ وَتَشْديد الظَّاء وَألف بَعْدَهَا عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ: يَتَظَاهَرُونَ، فَأُدْغِمَتِ التَّاءُ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَرَأَ عَاصِمٌ يُظاهِرُونَ بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَخْفِيفِ الظَّاءِ وَأَلِفٍ وَكَسْرِ الْهَاءِ عَلَى أَنَّهُ مُضَارِعُ ظَاهَرَ.

وَلَمْ يَأْتِ مَصْدَرُهُ إِلَّا عَلَى وَزْنِ الْفِعَالِ وَوَزْنِ الْمُفَاعَلَةِ. يُقَالُ: صَدَرَ مِنْهُ ظِهَارٌ

وَمُظَاهَرَةٌ، وَلَمْ يَقُولُوا فِي مَصْدَرِهِ بِوَزْنِ التَّظَهُّرِ، فَقِرَاءَةُ نَافِعٍ قَدِ اسْتُغْنِيَ فِيهَا عَنْ مَصْدَرِهِ بِمَصْدَرِ مُرَادِفِهِ.

وَمَعْنَاهُ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلَ لِزَوْجِهِ: أَنْتَ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. وَكَانَ هَذَا قَوْلًا يَقُولُونَهُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُرِيدُونَ بِهِ تَأْبِيدَ تَحْرِيمِ نِكَاحِهَا وَبَتِّ عِصْمَتِهِ. وَهُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الظَّهْرِ ضِدِّ الْبَطْنِ لِأَنَّ الَّذِي يَقُولُ لْامْرَأَتِهِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، يُرِيد بذلك أَنَّهُ حَرَّمَهَا عَلَى نَفْسِهِ. كَمَا أَنَّ أُمَّهُ حَرَامٌ عَلَيْهِ، فَإِسْنَادُ تَرْكِيبِ التَّشْبِيهِ إِلَى ضَمِيرِ الْمَرْأَةِ عَلَى تَقْدِيرِ حَالَةٍ مِنْ حَالَاتِهَا، وَهِيَ حَالَةُ الِاسْتِمْتَاعِ الْمَعْرُوفِ، سَلَكُوا فِي هَذَا التَّحْرِيمِ مَسْلَكَ الِاسْتِعَارَةِ الْمَكْنِيَّةِ بِتَشْبِيهِ الزَّوْجَةِ حِينَ يَقْرَبُهَا زَوْجُهَا بِالرَّاحِلَةِ، وَإِثْبَاتُ الظَّهْرِ لَهَا تَخَيُّلٌ لِلِاسْتِعَارَةِ، ثُمَّ تَشْبِيهِ ظَهْرِ زَوْجَتِهِ بِظَهْرِ أُمِّهِ، أَيْ فِي حَالَةٍ مِنْ أَحْوَالِهِ، وَهِيَ حَالَةُ الِاسْتِمْتَاعِ الْمَعْرُوفِ. وَجُعِلَ الْمُشَبَّهُ ذَاتُ الزَّوْجَةِ. وَالْمَقْصُودُ أَخَصُّ أَحْوَالِ الزَّوْجَةِ وَهُوَ حَالُ قُرْبَانِهَا فَآلَ إِلَى إِضَافَةِ الْأَحْكَامِ إِلَى الْأَعْيَانِ.

فَالتَّقْدِيرُ: قُرْبَانُكِ كَقُرْبَانِ ظَهْرِ أُمِّي، أَيِ اعْتِلَائِهَا الْخَاصِّ. فَفِي هَذِهِ الصِّيغَةِ حَذْفٌ وَمَجِيءُ حُرُوفِ لَفْظِ ظَهْرٍ فِي صِيغَةِ ظِهَارٍ أَوْ مُظَاهَرَةٍ يُشِيرُ إِلَى صِيغَةِ التَّحْرِيمِ الَّتِي هِيَ «أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي» إِيمَاءٌ إِلَى تِلْكَ الصِّيغَةِ عَلَى نَحْوِ

ص: 10

مَا يُسْتَعْمَلُ فِي النَّحْتِ وَلَيْسَ هُوَ من التحت لِأَنَّ النَّحْتَ يَشْتَمِلُ عَلَى حُرُوفٍ مِنْ عِدَّةِ كَلِمَاتٍ.

قَالَ الْمُفَسِّرُونَ وَأَهْلُ اللُّغَةِ: كَانَ الظِّهَارُ طَلَاقًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَقْتَضِي تَأْبِيدَ التَّحْرِيمِ.

وَأَحْسَبُ أَنَّهُ كَانَ طَلَاقًا عِنْدَ أَهْلِ يَثْرِبَ وَمَا حَوْلَهَا لِكَثْرَةِ مُخَالَطَتِهِمُ الْيَهُودَ وَلَا أَحْسَبُ أَنَّهُ كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ فِي مَكَّةَ وَتِهَامَةَ وَنَجْدٍ وَغَيْرِهَا وَلَمْ أَقِفْ عَلَى ذَلِكَ فِي كَلَامِهِمْ. وَحَسْبُكَ أَنْ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا فِي الْمَدَنِيِّ هُنَا وَفِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ.

وَالَّذِي يَلُوحُ لِي أَنَّ أَهْلَ يَثْرِبَ ابْتَدَعُوا هَذِهِ الصِّيغَةَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي التَّحْرِيمِ، فَإِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ الْإِسْلَامِ مُمْتَزِجِينَ بِالْيَهُودِ مُتَخَلِّقِينَ بِعَوَائِدِهِمْ، وَكَانَ الْيَهُودُ يَمْنَعُونَ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلَ امْرَأَتَهُ مِنْ جِهَةِ خَلْفِهَا كَمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [223] . فَلِذَلِكَ جَاءَ فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ لَفْظُ الظَّهْرِ، فَجَمَعُوا فِي هَذِهِ الصِّيغَةِ تَغْلِيظًا مِنَ التَّحْرِيمِ وَهِيَ أَنَّهَا كَأُمِّهِ، بَلْ كَظَهْرِ أُمِّهِ. فَجَاءَتْ صِيغَةً شَنِيعَةً فَظِيعَةً.

وَأَخَذُوا مِنْ صِيغَةِ «أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي» أَصْرَحَ أَلْفَاظِهَا وَأَخَصَّهَا بِغَرَضِهَا وَهُوَ لَفْظُ «ظَهْرٍ» فَاشْتَقُّوا مِنْهُ الْفِعْلَ بزنات مُتعَدِّدَة، يَقُولُونَ: ظَاهَرَ مِنِ امْرَأَتِهِ، وَظَهَّرَ مِثْلَ ضَاعَفَ وَضَعَّفَ، وَيُدْخِلُونَ عَلَيْهِمَا تَاءَ الْمُطَاوَعَةِ، فَيَقُولُونَ: تَظَاهَرَ مِنْهَا وَتَظَهَّرَ، وَلَيْسَ هَذَا مِنْ

قَبِيلِ النَّحْتِ نَحْوَ: بَسْمَلَ، وَهَلَّلَ، لِعَدَمِ وُجُودِ حَرْفٍ مِنَ الْكَلِمَاتِ الْمَوْجُودَةِ فِي الْجُمْلَةِ كُلِّهَا.

وَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: مِنْكُمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لِلْمُسْلِمِينَ، فَيَكُونُ ذِكْرُ هَذَا الْوَصْفِ لِلتَّعْمِيمِ بَيَانًا لِمَدْلُولِ الصِّلَةِ مِنْ قَوْلِهِ: الَّذِينَ يُظاهِرُونَ لِئَلَّا يُتَوَهَّمَ إِرَادَة معيّن بالصلة.

وَمن بَيَانِيَّةٌ كَشَأْنِهَا بَعْدَ الْأَسْمَاءِ الْمُبْهَمَةِ فَعَلِمَ أَنَّ هَذَا الْحُكْمَ تَشْرِيعٌ عَامٌّ لِكُلِّ مُظَاهِرٍ. وَلَيْسَ خُصُوصِيَّةً لِخَوْلَةَ وَلَا لِأَمْثَالِهَا مِنَ النِّسَاءِ ذَوَاتِ الْخَصَاصَةِ وَكَثْرَةِ الْأَوْلَادِ.

وَأَمَّا مِنْ فِي قَوْلِهِ: مِنْ نِسائِهِمْ فَابْتِدَائِيَّةٌ مُتَعَلِّقَةٌ بِ يُظاهِرُونَ لِتَضَمُّنِهِ

ص: 11

مَعْنَى الْبُعْدِ إِذْ هُوَ قَدْ كَانَ طَلَاقًا وَالطَّلَاقُ يُبْعِدُ أَحَدَ الزَّوْجَيْنِ من الْآخَرِ، فَاجْتَلَبَ لَهُ حَرْفَ الِابْتِدَاءِ. كَمَا يُقَالُ: خَرَجَ مِنَ الْبَلَدِ.

وَقَدْ تَبَيَّنَ أَنَّ الْمُتَعَارَفَ فِي صِيغَةِ الظِّهَارِ أَنْ تَشْتَمِلَ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَى الزَّوْجَةِ وَالظَّهْرِ وَالْأُمِّ دُونَ الْتِفَاتٍ إِلَى مَا يَرْبِطُ هَذِه الْكَلِمَات الثَّلَاث من أدوات الرَّبْطِ مِنْ أَفْعَالٍ وَحُرُوفٍ نَحْوِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، وَأَنْتِ مِنِّي مِثْلَ ظَهْرِ أُمِّي، أَوْ كُونِي لِي كَظَهْرِ أُمِّي، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ.

فَأَمَّا إِذَا فُقِدَ بَعْضُ الْأَلْفَاظِ الثَّلَاثَةِ أَوْ جَمِيعُهَا. نَحْوُ: وَجْهُكِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. أَوْ كَجَنْبِ أُمِّي، أَوْ كَظَهْرِ جَدَّتِي، أَوِ ابْنَتِي، مِنْ كُلِّ كَلَامٍ يُفِيدُ تَشْبِيهَ الزَّوْجَةِ، أَوْ إِلْحَاقَهَا بِإِحْدَى النِّسَاءِ مِنْ مَحَارِمِهِ بِقَصْدِ تَحْرِيمِ قُرْبَانِهَا، فَذَلِكَ كُلُّهُ مِنَ الظِّهَارِ فِي أَشْهَرِ أَقْوَالِ مَالِكٍ وَأَقْوَالِ أَصْحَابِهِ وَجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ، وَلَا يَنْتَقِلُ إِلَى صِيغَةِ الطَّلَاقِ أَوِ التَّحْرِيمِ لِأَنَّ اللَّهَ أَرَادَ التَّوْسِعَةَ عَلَى النَّاسِ وَعَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ.

وَلَمْ يُشِرِ الْقُرْآنُ إِلَى اسْمِ الظَّهْرِ وَلَا إِلَى اسْمِ الْأُمِّ إِلَّا مُرَاعَاةً لِلصِّيغَةِ الْمُتَعَارَفَةِ بَيْنَ النَّاسِ يَوْمَئِذٍ بِحَيْثُ لَا يَنْتَقِلُ الْحُكْمُ مِنَ الظِّهَارِ إِلَى صِيغَةِ الطَّلَاقِ إِلَّا إِذَا تَجَرَّدَ عَنْ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ الثَّلَاثِ تَجَرُّدًا وَاضِحًا.

وَالصُّوَرُ عَدِيدَةٌ وَلَيْسَتِ الْإِحَاطَةُ بِهَا مُفِيدَةً، وَذَلِكَ مِنْ مَجَالِ الْفَتْوَى وَلَيْسَ مِنْ مَهْيَعِ التَّفْسِيرِ.

وَجُمْلَةُ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ خَبَرٌ عَنِ الَّذِينَ، أَيْ لَيْسَ أَزْوَاجُهُمْ أُمَّهَاتٌ لَهُمْ بِقَوْلِ أَحَدِهِمْ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، أَيْ لَا تَصِيرُ الزَّوْجُ بِذَلِكَ أُمَّا لِقَائِلِ تِلْكَ الْمَقَالَةِ.

وَهَذَا تَمْهِيدٌ لِإِبْطَالِ أَثَرِ صِيغَةِ الظِّهَارِ فِي تَحْرِيمِ الزَّوْجَةِ، بِمَا يُشِيرُ إِلَى أَن الأمومة حَقِيقَة ثَابِتَةٌ لَا تُصْنَعُ بِالْقَوْلِ إِذِ الْقَوْلُ لَا يُبَدِّلُ حَقَائِقَ الْأَشْيَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [4] : ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَلِذَلِكَ أَعْقَبَ هُنَا بِقَوْلِهِ: إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ أَيْ فَلَيْسَتِ الزَّوْجَاتُ الْمُظَاهَرُ مِنْهُنَّ بِصَائِرَاتٍ أُمَّهَاتٍ بِذَلِكَ الظِّهَارِ لْانْعِدَامِ حَقِيقَةِ الْأُمُومَةِ مِنْهُنَّ إِذْ هُنَّ لَمْ يَلِدْنَ الْقَائِلِينَ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي، فَلَا يَحْرُمْنَ عَلَيْهِمْ، فَالْقَصْرُ فِي الْآيَةِ حَقِيقِيٌّ، أَيْ فَالتَّحْرِيمُ بِالظِّهَارِ أَمْرٌ بَاطِلٌ لَا يَقْتَضِيهِ سَبَبٌ يُؤَثِّرُ إِيجَادَهُ.

ص: 12

وَجُمْلَةُ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَخْ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِجُمْلَةِ مَا هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ، وَهُوَ تَعْلِيلٌ لِلْمَقْصُودِ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ. أَعْنِي إِبْطَالَ التَّحْرِيمِ بِلَفْظِ الظِّهَارِ، إِذْ كَوْنُهُنَّ غَيْرَ أُمَّهَاتِهِمْ ضَرُورِيٌّ لَا يَحْتَاجُ إِلَى التَّعْلِيلِ.

وَزِيدَ صَنِيعُهُمْ ذَمَّا بِقَوْلِهِ: وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً تَوْبِيخًا لَهُمْ عَلَى صَنِيعِهِمْ، أَيْ هُوَ مَعَ كَوْنِهِ لَا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْمَرْأَةِ هُوَ قَوْلٌ مُنْكَرٌ، أَيْ قَبِيحٌ لِمَا فِيهِ مِنْ تَعْرِيضِ حُرْمَةِ الْأُمِّ لِتَخَيُّلَاتٍ شَنِيعَةٍ تَخْطُرُ بمخيلة السَّامع عِنْد مَا يَسْمَعُ قَوْلَ الْمُظَاهِرِ: أَنْتِ عَلَيَّ كَظَهْرِ أُمِّي. وَهِيَ حَالَةٌ يَسْتَلْزِمُهَا ذِكْرُ الظَّهْرِ فِي قَوْلِهِ: «كَظَهْرِ أُمِّي» .

وَأَحْسَبُ أَنَّ الْفِكْرَ الَّذِي أَمْلَى صِيغَةَ الظِّهَارِ عَلَى أَوَّلِ مَنْ نَطَقَ بِهَا كَانَ مَلِيئًا بِالْغَضَبِ الَّذِي يَبْعَثُ عَلَى بَذِيءِ الْكَلَامِ مِثْلِ قَوْلِهِمْ: امْصُصْ بَظْرَ أُمِّكَ فِي الْمُشَاتَمَةِ، وَهُوَ أَيْضًا قَوْلٌ زُورٌ لِأَنَّهُ كَذِبٌ إِذْ لَمْ يُحَرِّمْهَا اللَّهُ. وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [4] : وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ.

وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ بِ إِنْ وَاللَّامِ، لِلِاهْتِمَامِ بِإِيقَاظِ النَّاسِ لِشَنَاعَتِهِ إِذْ كَانُوا قَدِ اعْتَادُوهُ فَنُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يَتَرَدَّدُ فِي كَوْنِهِ مُنْكَرًا أَوْ زُورًا، وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ لَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا فِي شَرْعٍ قَدِيمٍ وَلَا فِي شَرِيعَةِ الْإِسْلَامِ، وَأَنَّهُ شَيْءٌ وَضَعَهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ كَمَا نَبَّهَ عَلَيْهِ عَدُّهُ مَعَ تَكَاذِيبِ الْجَاهِلِيَّةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [4] .

وَبَعْدَ هَذَا التَّوْبِيخِ عَطَفَ عَلَيْهِ جُمْلَةَ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ كِنَايَةً عَن عدم مواخذتهم بِمَا صَدَرَ مِنْهُمْ مِنَ الظِّهَارِ قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ، إِذْ كَانَ عُذْرُهُمْ أَنَّ ذَلِكَ قَوْلٌ تَابَعُوا فِيهِ أَسْلَافَهُمْ وَجَرَى عَلَى أَلْسِنَتِهِمْ دُونَ تَفَكُّرٍ فِي مَدْلُولَاتِهِ. وَأَمَّا بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَمَذْهَبُ الْمَالِكِيَّةِ:

أَنَّ حُكْمَ إِيقَاعِهِ الْحُرْمَةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ ابْنُ رَاشِدٍ الْقَفَصِيُّ فِي «اللُّبَابِ» لِقَوْلِهِ بَعْدَهُ:

وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ [المجادلة: 4] أَنَّ إِيقَاعَ الظِّهَارِ مَعْصِيَةٌ، وَلِكَوْنِهِ مَعْصِيَةً فَسَّرَ ابْنُ عَطِيَّةَ قَوْلَهُ تَعَالَى:

وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً. وَبِذَلِكَ أَيْضًا فَسَّرَ الْقُرْطُبِيُّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ. وَقَالَ ابْنُ الْفَرَسِ: هُوَ حَرَامٌ لَا يَحِلُّ إِيقَاعُهُ. وَدَلَّ عَلَى تَحْرِيمِهِ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ:

أَحَدُهَا: تَكْذِيبُ اللَّهِ تَعَالَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ.

الثَّانِي: أَنَّهُ سَمَّاهُ مُنْكَرًا وَزُورًا، وَالزُّورُ الْكَذِبُ وَهُوَ مُحَرَّمٌ بِإِجْمَاعٍ.

ص: 13

الثَّالِثُ: إِخْبَارُهُ تَعَالَى عَنْهُ بِأَنَّهُ يَعْفُو عَنْهُ وَيَغْفِرُ وَلَا يُعْفَى وَيُغْفَرُ إِلَّا عَلَى الْمُذْنِبِينَ.

وَأَقْوَالُ فُقَهَاءِ الْحَنَفِيَّةِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الظِّهَارَ مَعْصِيَةٌ وَلَمْ يَصِفْهُ أَحَدٌ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَلَا الْحَنَفِيَّةِ بِأَنَّهُ كَبِيرَةٌ. وَلَا حُجَّةَ فِي وَصْفِهِ فِي الْآيَةِ بِزُورٍ، لِأَنَّ الْكَذِبَ لَا يَكُونُ كَبِيرَةً إِلَّا إِذَا أَفْضَى إِلَى مَضَرَّةٍ.

وَعَدَّ السُّبْكِيُّ فِي «جَمْعِ الْجَوَامِعِ» الظِّهَارَ مِنْ جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ وَسَلَّمَهُ الْمَحَلِّيُّ. والكاتبون قَالُوا: لِأَن اللَّهَ سَمَّاهُ زُورًا وَالزُّورُ كَبِيرَةٌ فَكَوْنُ الظِّهَارِ كَبِيرَةً قَوْلُ الشَّافِعِيَّةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ فَإِنَّهُمْ لَمْ يَعُدُّوا الْكَذِبَ عَلَى الْإِطْلَاقِ كَبِيرَةً. وَإِنَّمَا عَدُّوا شَهَادَةَ الزُّورِ كَبِيرَةً.

وَأَعْقَبَ لَعَفُوٌّ بِقَوْلِهِ: غَفُورٌ فَقَوْلُهُ: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ فِي مَعْنَى: إِنَّ الله عَفا عَنْهُم وَغَفَرَ لَهُمْ لِأَنَّهُ عَفُوٌّ غَفُورٌ، يَغْفِرُ هَذَا وَمَا هُوَ أَشَدُّ.

وَالْعَفُوٌّ: الْكَثِيرُ الْعَفْوِ، وَالْعَفْوُ عَدَمَ الْمُؤَاخَذَةِ بِالْفِعْلِ أَيْ عَفْوٌ عَنْ قَوْلِهِمْ: الَّذِي هُوَ مُنْكَرٌ وَزُورٌ.

وَالْغَفُورُ: الْكَثِيرُ الْغُفْرَانِ، وَالْغُفْرَانُ الصَّفْحُ عَنْ فَاعِلِ فِعْلٍ مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يُعَاقِبَهُ عَلَيْهِ، فَذِكْرُ وَصْفِ غَفُورٌ بَعْدَ وَصْفِ (عَفُوٌ) تَتْمِيمٌ لِتَمْجِيدِ اللَّهِ إِذْ لَا ذَنْبَ فِي الْمُظَاهَرَةِ حَيْثُ لَمْ يَسْبِقُ فِيهَا نَهْيٌ، وَمَعَ مَا فِيهِ مِنْ مُقَابَلَةِ شَيْئَيْنِ وَهُمَا مُنْكَراً وزُوراً، بِشَيْئَيْنِ هُمَا (عَفُوُّ غَفُورٌ) .

وَتَأْكِيدُ الْخَبَرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ لِمُشَاكَلَةِ تَأْكِيدِ مُقَابِلِهِ فِي قَوْلِهِ:

وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً.

وَقَوْلُهُ: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُظَاهَرَةَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ مَنْهِيٌّ عَنْهَا وَسَنَذْكُرُ ذَلِكَ.

وَقَدْ أَوْمَأَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ إِلَى أَنَّ مُرَاد الله من هَذَا الْحُكْمِ

التَّوْسِعَةُ عَلَى النَّاسِ، فَعَلِمْنَا أَنَّ مَقْصِدَ الشَّرِيعَةِ الْإِسْلَامِيَّةِ أَنْ تَدُورَ أَحْكَامُ الظِّهَارِ عَلَى مِحْوَرِ التَّخْفِيفِ وَالتَّوْسِعَةِ، فَعَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ يَجِبُ أَنْ يَجْرِيَ الْفُقَهَاءُ فِيمَا يُفْتُونَ. وَلِذَلِكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ تُلَاحَظَ فِيهِ قَاعِدَةُ الْأَخْذِ بِالْأَحْوَطِ وَلَا قَاعِدَةُ سَدِّ

ص: 14