الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[سُورَة التغابن (64) : الْآيَات 17 الى 18]
إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
اسْتِئْنَاف بياني ناشىء عَنْ قَوْلِهِ: وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ [التغابن: 16] ، فَإِنَّ مُضَاعَفَةَ الْجَزَاءِ عَلَى الْإِنْفَاقِ مَعَ الْمَغْفِرَةِ خَيْرٌ عَظِيمٌ، وَبِهَذَا الْمَوْقِعِ يَعْلَمُ السَّامِعُ أَنَّ الْقَرْضَ أُطْلِقَ عَلَى الْإِنْفَاقِ الْمَأْمُورِ بِهِ إِطْلَاقًا بِالِاسْتِعَارَةِ، وَالْمَقْصُودُ الِاعْتِنَاءُ بِفَضْلِ الْإِنْفَاقِ الْمَأْمُورِ بِهِ اهْتِمَامًا مُكَرَّرًا فَبَعْدَ أَنْ جُعَلَ خَيْرًا جُعِلَ سَبَبَ الْفَلَاحِ وَعُرِّفَ بِأَنَّهُ قَرْضٌ مِنَ الْعَبْدِ لِرَبِّهِ وَكَفَى بِهَذَا تَرْغِيبًا وَتَلَطُّفًا فِي الطَّلَبِ إِذْ جُعِلَ الْمُنْفِقُ كَأَنَّهُ يُعْطِي اللَّهَ تَعَالَى مَالًا وَذَلِكَ مِنْ مَعْنَى الْإِحْسَانِ فِي مُعَامَلَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ وَقَدْ بَينه النبيء صلى الله عليه وسلم
فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ إِذْ قَالَ جِبْرِيلُ لِلنَّبِيءِ عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِحْسَانِ فَقَالَ النبيء صلى الله عليه وسلم: «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنَّ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»
فَمِمَّا يَنْضَوِي تَحْتَ مَعْنَى عِبَادَةِ اللَّهِ عِبَادَةُ مَنْ يَرَاهُ أَنْ يَسْتَشْعِرَ الْعَبْدُ أَنَّ امْتِثَالَ أَمْرِ رَبِّهِ بِالْإِنْفَاقِ الْمَأْمُورِ بِهِ مِنْهُ كَأَنَّهُ مُعَامَلَةٌ بَيْنَ مُقْرِضٍ وَمُسْتَقْرِضٍ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ ذَلِكَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [245] .
وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ يُضاعِفْهُ بِأَلِفٍ بَعْدَ الضَّادِ وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَابْنُ عَامِرٍ وَيَعْقُوبُ يُضَعِّفَهُ بِتَشْدِيدِ الْعَيْنِ مُضَارِعُ ضَعَّفَ، وَهُمَا بِمَعْنًى وَاحِدٍ وَهُوَ لَفْظِيُّ الضِّعْفِ.
وَالْمُضَاعَفَةُ: إِعْطَاءُ الضِّعْفِ بِكَسْرِ الضَّادِ وَهُوَ مِثْلُ الشَّيْءِ فِي الذَّاتِ أَوِ الصِّفَةِ.
وَتَصَدُقُ بِمِثْلٍ وَبَعْدَهُ أَمْثَالٌ كَمَا قَالَ تَعَالَى: أَضْعافاً كَثِيرَةً [الْبَقَرَة: 245] .
وَجعل الْإِنْفَاق سَبَب لِلْغُفْرَانَ كَمَا
قَالَ النبيء صلى الله عليه وسلم «الصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطَايَا كَمَا يطفىء الْمَاءُ النَّارَ»
. وَالشَّكُورُ: فَعُولُ بِمَعْنَى فَاعِلٍ مُبَالَغَةً، أَيْ كَثِيرِ الشُّكْرِ وَأُطْلِقَ الشُّكْرُ فِيهِ عَلَى الْجَزَاءِ
بِالْخَيْرِ عَلَى فِعْلِ الصَّالِحَاتِ تَشْبِيهًا لِفِعْلِ الْمُتَفَضِّلِ بِالْجَزَاءِ بِشُكْرِ الْمُنْعَمِ عَلَيْهِ عَلَى نِعْمَةٍ وَلَا نِعْمَةَ عَلَى اللَّهِ فِيمَا يَفْعَلُهُ عِبَادُهُ مِنَ الصَّالِحَاتِ. فَإِنَّمَا نَفْعُهَا لِأَنْفُسِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ تَفَضَّلَ بِذَلِكَ حَثًّا عَلَى صَلَاحِهِمْ فَرَتَّبَ لَهُمُ الثَّوَابَ بِالنَّعِيمِ عَلَى تَزْكِيَةِ أَنْفُسِهِمْ، وَتَلَطَّفَ لَهُمْ فَسُمِّيَ ذَلِكَ الثَّوَابُ شُكْرًا وَجَعَلَ نَفْسَهُ شَاكِرًا.
وَقَدْ أَوْمَأَ إِلَى هَذَا الْمَقْصِدِ إِتْبَاعُ صِفَةِ شَكُورٌ بِصِفَةِ حَلِيمٌ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ ذَلِك من حمله بِعِبَادِهِ دُونَ حَقٍّ لَهُمْ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ.
وَأَمَّا وَصْفُ بِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فَتَتْمِيمٌ لِلتَّذْكِيرِ بِعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَعَ مُنَاسَبَتِهَا للترغيب والترهيب اللَّذين اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِمَا الْآيَاتُ السَّابِقَةُ كُلُّهَا لِأَنَّ الْعَالِمَ بِالْأَفْعَالِ ظَاهِرِهَا وَخَفِيِّهَا لَا يُفِيتُ شَيْئًا مِنَ الْجَزَاءِ عَلَيْهَا بِمَا رَتَّبَ لَهَا، وَلِأَنَّ الْعَزِيزَ لَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ.
والْحَكِيمُ: الْمَوْصُوفُ بِالْحِكْمَةِ لَا يَدَعُ مُعَامَلَةَ النَّاسِ بِمَا تَقْتَضِيهِ الْحِكْمَةُ مِنْ وَضْعِ الْأَشْيَاءِ مَوَاضِعَهَا وَنَوْطِ الْأُمُورِ بِمَا يُنَاسِبُ حَقَائِقَهَا.
وَالْحَكِيمُ فَعِيلُ بِمَعْنَى: الْمُحْكِمُ، أَيِ الْمُتْقِنُ فِي صُنْعِهِ وَمُعَامَلَتِهِ وَهُمَا مَعًا مِنْ صِفَاتِهِ تَعَالَى فَهُوَ وَصْفٌ جَامِعٌ لِلْمَعْنَيَيْنِ.