الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالدَّرَجَاتُ مُسْتَعَارَةٌ لِلْكَرَامَةِ فَإِنَّ الرَّفْعِ فِي الْآيَةِ رَفْعًا مَجَازِيًّا، وَهُوَ التَّفْضِيلُ وَالْكَرَامَةُ وَجِيءَ لِلِاسْتِعَارَةِ بِتَرْشِيحِهَا بِكَوْنِ الرَّفْعِ دَرَجَاتٍ. وَهَذَا التَّرْشِيحُ هُوَ أَيْضًا اسْتِعَارَةٌ مِثْلُ التَّرْشِيحِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ [الرَّعْد: 25] وَهَذَا أَحْسَنُ التَّرْشِيحِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ [83] نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ.
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ التَّفْسِيرِ: إِنَّ قَوْلَهُ: وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ كَلَامٌ مُسْتَأْنَفٌ وَتَمَّ الْكَلَامُ عِنْدَ قَوْلِهِ: مِنْكُمْ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَنُصِبَ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ وَلَعَلَّهُ يَعْنِي: نَصْبَ دَرَجاتٍ بِفِعْلٍ هُوَ الْخَبَرُ عَنِ الْمُبْتَدَأِ، وَالتَّقْدِيرُ: جَعَلَهُمْ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ تَذْيِيلٌ، أَيِ اللَّهُ عَلِيمٌ بِأَعْمَالِكُمْ وَمُخْتَلِفِ نِيَّاتِكُمْ مِنْ الِامْتِثَالِ
كَقَوْل النبيء صلى الله عليه وسلم «لَا يُكْلَمُ أَحَدٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَنْ يُكْلَمُ فِي سَبيله»
الحَدِيث.
[12]
[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 12]
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ عَادَ بِهِ إِلَى ذِكْرِ بَعْضِ أَحْوَالِ النَّجْوَى وَهُوَ مِنْ أَحْوَالِهَا الْمَحْمُودَةِ.
وَالْمُنَاسَبَةُ هِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى [المجادلة: 9] . فَهَذِهِ الصَّدَقَةُ شَرَعَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَجَعَلَ سَبَبَهَا مُنَاجَاة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، فَذُكِرَتْ عَقِبَ آيِ النَّجْوَى لِاسْتِيفَاءِ أَنْوَاعِ النَّجْوَى مِنْ مَحْمُودٍ وَمَذْمُومٍ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْمُتَقَدِّمُونَ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ، وَحِكْمَةِ مَشْرُوعِيَّةِ صَدَقَةِ الْمُنَاجَاةِ. فَنُقِلَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَجَابِر بن زِيَاد وَزيد بْنِ أَسْلَمَ وَمُقَاتِلٍ أَقْوَالٌ فِي سَبَبِ نُزُولِهَا مُتَخَالِفَةٌ، وَلَا أَحْسَبُهُمْ يُرِيدُونَ مِنْهَا إِلَّا حِكَايَةَ أَحْوَالٍ لِلنَّجْوَى كَانَتْ شَائِعَةً، فَلَمَّا نَزَلَ حُكْمُ صَدَقَةِ النَّجْوَى أَقَلَّ النَّاسُ مِنَ النَّجْوَى. وَكَانَتْ عِبَارَاتُ الْأَقْدَمِينَ
تَجْرِي عَلَى التَّسَامُحِ فَيُطْلِقُونَ عَلَى أَمْثِلَةِ الْأَحْكَامِ وَجُزْئِيَّاتِ الْكُلِّيَّاتِ اسْمَ أَسْبَابِ النُّزُولِ، كَمَا ذَكَرْنَاهَا فِي الْمُقَدِّمَةِ الْخَامِسَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَأَمْسَكَ مُجَاهِدٌ فَلَمْ يَذْكُرْ لِهَذِهِ الْآيَةِ سَبَبًا وَاقْتَصَرَ عَلَى قَوْلِهِ: نُهُوا عَنْ مُنَاجَاةِ الرَّسُولِ حَتَّى يَتَصَدَّقُوا.
وَالَّذِي يَظْهَرُ لِي: أَنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ شَرْعَهَا اللَّهُ وَفَرْضَهَا عَلَى مَنْ يَجِدُ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ قَبْلَ مُنَاجَاة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم وَأَسْقَطَهَا عَنِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يَتَصَدَّقُونَ بِهِ، وَجَعَلَ سَبَبَهَا وَوَقْتَهَا هُوَ وَقْتَ تُوَجُّهِهِمْ إِلَى مُنَاجَاة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم، وَكَانَ الْمُسْلِمُونَ حَرِيصِينَ عَلَى سُؤَالِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ أُمُورِ الدِّينِ كُلَّ يَوْمٍ فَشَرَعَ اللَّهُ لَهُمْ هَذِهِ الصَّدَقَةَ كُلَّ يَوْمٍ لِنَفْعِ الْفُقَرَاءِ نَفْعًا يَوْمِيًّا، وَكَانَ الْفُقَرَاءُ أَيَّامَئِذٍ كَثِيرِينَ بِالْمَدِينَةِ مِنْهُمْ أَهْلُ الصُّفَّةِ وَمُعْظَمُ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ شُرِعَتْ بَعْدَ الزَّكَاةِ فَتَكُونُ لِحِكْمَةِ إِغْنَاءِ الْفُقَرَاءِ يَوْمًا فَيَوْمًا لِأَنَّ الزَّكَاةَ تُدْفَعُ فِي رُؤُوسِ السِّنِينَ وَفِي مُعَيَّنِ الْفُصُولِ، فَلَعَلَّ مَا يَصِلُ إِلَى الْفُقَرَاءِ مِنْهَا يَسْتَنْفِدُونَهُ قَبْلَ حُلُولِ وَقْتِ الزَّكَاةِ الْقَابِلَةِ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ صَدَقَةَ الْمُنَاجَاةِ شُرِعَتْ قَبْلَ شَرْعِ الزَّكَاةِ وَنُسِخَتْ بِوُجُوبِ الزَّكَاةِ، وَظَاهِرُ قَوْلِهِ فِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ [المجادلة: 13] أَنَّ الزَّكَاةَ حِينَئِذٍ شَرْعٌ مُفْرَدٌ مَعْلُومٌ، وَلَعَلَّ مَا نُقِلَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ إِنْ صَحَّ عَنْهُ أَرَادَ أَنَّهَا نُسِخَتْ بِالِاكْتِفَاءِ بِالزَّكَاةِ.
وَقَدْ تَعَدَّدَتْ أَخْبَارٌ مُخْتَلِفَةُ الْأَسَانِيدِ تَتَضَمَّنُ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَمْ يَدُمِ الْعَمَلُ بِهَا إِلَّا زَمَنًا قَلِيلًا، قِيلَ: إِنَّهُ عَشَرَةُ أَيَّامٍ. وَعَنِ الْكَلْبِيِّ قَالَ: كَانَ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، أَيْ أَنَّهَا لَمْ يَدُمِ الْعَمَلُ بِهَا طَوِيلًا إِنْ كَانَ الْأَمْرُ مُرَادًا بِهِ الْوُجُوبُ وَإِلَّا فَإِنَّ نَدْبَ ذَلِكَ لَمْ يَنْقَطِعْ فِي حَيَاة النبيء صلى الله عليه وسلم لِتَكُونَ نَفْسُ الْمُؤْمِنِ أَزْكَى عِنْدَ مُلَاقَاةِ النَّبِيءِ مِثْلَ اسْتِحْبَابِ تَجْدِيدِ الْوُضُوءِ لكل صَلَاة.
وتضافرت كَلِمَاتُ الْمُتَقَدِّمِينَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْأَمْرِ فِي قَوْلِهِ: فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً قَدْ نَسَخَهُ قَوْلُهُ: فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ [المجادلة: 13] الْآيَةَ.
وَهَذَا مُؤَذِّنٌ بِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهَا لِلْوُجُوبِ. وَفِي تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ وَأَحْكَامِ ابْنِ الْفَرَسِ حِكَايَةُ أَقْوَالٍ فِي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ تَحُومُ حَوْلَ كَوْنِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ شُرِعَتْ لِصَرْفِ أَصْنَافٍ مِنَ النَّاسِ عَنْ مُنَاجَاة النبيء صلى الله عليه وسلم إِذْ كَانُوا قَدْ أَلْحَفُوا فِي مُنَاجَاتِهِ دُونَ دَاعٍ يَدْعُوهُمْ فَلَا يَنْثَلِجُ لَهَا صَدْرُ الْعَالِمِ لِضَعْفِهَا سَنَدًا وَمَعْنًى، وَمُنَافَاتِهَا مَقْصِدَ الشَّرِيعَةِ. وَأَقْرَبُ مَا رُوِيَ عَنْ خَبَرِ تَقْرِيرِ هَذِهِ الصَّدَقَةِ مَا
فِي «جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ» عَنْ عَلِىِّ بْنِ عَلْقَمَةَ الْأَنْمَارِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ قَالَ:
لَمَّا نَزَلَتْ
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً قَالَ لي النبيء صلى الله عليه وسلم «مَا تَرَى دِينَارًا؟ قُلْتُ: لَا يُطِيقُونَهُ، قَالَ فَنِصْفُ دِينَارٍ؟ قُلْتُ: لَا يُطِيقُونَهُ. قَالَ:
فَكَمْ؟ قُلْتُ: شَعِيرَةٌ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ: أَيْ وَزْنُ شَعِيرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ: إِنَّكَ لَزَهِيدٌ فَنَزَلَتْ:
أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ [المجادلة: 13] الْآيَةَ. قَالَ: «فَبِيَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ»
. قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ غَرِيبٌ، إِنَّمَا نَعْرِفُهُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ اه.
قُلْتُ: عَلِيُّ بْنُ عَلْقَمَةَ الْأَنْمَارِيُّ قَالَ الْبُخَارِيُّ: فِي حَدِيثِهِ نَظَرٌ، وَوَثَّقَهُ ابْنُ حِبَّانَ.
وَقَالَ ابْنُ الْفَرَسِ: صَحَّحُوا عَنْ عَلِيٍّ أَنَّهُ قَالَ: «مَا عَمِلَ بِهَا أَحَدٌ غَيْرِي» . وَسَاقَ حَدِيثًا.
وَمَحْمَلُ
قَوْلِ عَلِيٍّ «فَبِي خَفَّفَ اللَّهُ عَنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ»
، أَنَّهُ أَرَادَ التَّخْفِيفَ فِي مِقْدَارِ الصَّدَقَةِ مِنْ دِينَارٍ إِلَى زِنَةِ شَعِيرَةٍ مِنْ ذَهَبٍ وَهِيَ جُزْءٌ مِنَ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ جُزْءا من أَجزَاء الدِّينَارِ.
وَفَعْلُ ناجَيْتُمُ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى إِرَادَةِ الْفِعْلِ كَقَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ [الْمَائِدَة: 6] الْآيَةَ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ [النَّحْل: 98] .
وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ: فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ.
وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ فِي قَوْلِهِ: فَقَدِّمُوا لِلْوُجُوبِ، وَاخْتَارَهُ الْفَخْرُ وَرَجَّحَهُ بِأَنَّهُ الْأَصْلُ فِي صِيغَةِ الْأَمْرِ، وَبِقَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُقَالُ إِلَّا فِيمَا بِفَقْدِهِ يَزُولُ الْوُجُوبُ. وَيُنَاسِبُ أَنْ يَكُونَ هَذَا هُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ هَذِهِ الصَّدَقَةَ نُسِخَتْ بِفَرْضِ الزَّكَاةِ، وَهُوَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَالَ فَرِيقٌ: الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ وَهُوَ يُنَاسِبُ قَوْلَ مَنْ قَالَ: إِنْ فَرَضَ الزَّكَاةِ كَانَ سَابِقًا عَلَى نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ فَإِنَّ شَرْعَ الزَّكَاةِ أَبْطَلَ كُلَّ حَقٍّ كَانَ وَاجِبًا فِي الْمَالِ.
وبَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ مَعْنَاهُ: قَبْلَ نَجْوَاكُمْ بِقَلِيلٍ، وَهِيَ اسْتِعَارَةٌ تَمْثِيلِيَّةٌ جَرَتْ مَجْرَى الْمِثْلِ لِلْقُرْبِ مِنَ الشَّيْءِ قُبَيْلَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ. شَبَّهَتْ هَيْئَةَ قُرْبِ الشَّيْءِ مِنْ آخَرٍ بِهَيْئَةِ وُصُولِ الشَّخْصِ بَيْنَ يَدَيْ مَنْ يَرِدُ هُوَ عَلَيْهِ تَشْبِيهَ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ.
وَيُسْتَعْمَلُ فِي قُرْبِ الزَّمَانِ بِتَشْبِيهِ الزَّمَانِ بِالْمَكَانِ كَمَا هُنَا وَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [255] .
وَالْإِشَارَةُ بِ ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ إِلَى التَّقْدِيمِ الْمَفْهُومِ مِنْ «قَدَّمُوا» عَلَى طَرِيقَةِ قَوْلِهِ:
اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [الْمَائِدَة: 8] .
وَقَوْلُهُ: ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ تَعْرِيفٌ بِحِكْمَةِ الْأَمْرِ بِالصَّدَقَةِ قَبْلَ نجوى الرَّسُول صلى الله عليه وسلم لِيَرْغَبَ فِيهَا الرَّاغِبُونَ.
وخَيْرٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمَ تَفْضِيلٍ، أَصْلُهُ: أَخْيَرُ وَهُوَ الْمُزَاوِجُ لِقَوْلِهِ: وَأَطْهَرُ أَيْ ذَلِكَ أَشَدُّ خَيْرِيَّةً لَكُمْ مِنْ أَنْ تناجوا الرَّسُول صلى الله عليه وسلم بِدُونِ تَقْدِيمِ صَدَقَةٍ، وَإِنْ كَانَ فِي كُلٍّ خَيْرٌ. كَقَوْلِهِ: وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [الْبَقَرَة: 271] .
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ اسْمًا عَلَى وَزْنِ فَعْلٍ وَهُوَ مُقَابِلُ الشَّرِّ، أَيْ تَقْدِيمُ الصَّدَقَةِ قَبْلَ النَّجْوَى فِيهِ خَيْرٌ لَكُمْ وَهُوَ تَحْصِيلُ رِضَى اللَّهِ تَعَالَى فِي حِينِ إِقْبَالِهِمْ على رَسُوله صلى الله عليه وسلم فَيَحْصُلُ مِنْ الِانْتِفَاعِ بِالْمُنَاجَاةِ مَا لَا يَحْصُلُ مِثْلُهُ بِدُونِ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ.
وَأَمَّا أَطْهَرُ فَهُوَ اسْمُ تَفْضِيلٍ لَا مَحَالَةَ، أَيْ أَطْهَرُ لَكُمْ بِمَعْنَى: أَشَدُّ طُهْرًا، وَالطُّهْرُ هُنَا مَعْنَوِيٌّ، وَهُوَ طُهْرُ النَّفْسِ وَزَكَاؤُهَا لِأَنَّ الْمُتَصَدِّقَ تَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ أَنْوَارٌ رَبَّانِيَّةٌ مِنْ رِضَى اللَّهِ عَنْهُ فَتَكُونُ نَفْسُهُ زَكِيَّةً كَمَا قَالَ تَعَالَى: تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها [التَّوْبَة: 103] . وَمِنْهُ سُمِّيَتِ الصَّدَقَةُ زَكَاةً.
وَصِفَةُ هَذِهِ الصَّدَقَةِ أَنَّهَا كَانَتْ تُعْطَى لِلْفَقِيرِ حِينَ يَعْمِدُ الْمُسْلِمُ إِلَى الذَّهَابِ إِلَى النبيء صلى الله عليه وسلم لِيُنَاجِيَهُ.
وَعَذَرَ اللَّهُ الْعَاجِزِينَ عَنْ تَقْدِيمِ الصَّدَقَةِ بِقَوْلِهِ: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَيْ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا مَا تَتَصَدَّقُونَ بِهِ قَبْلَ النَّجْوَى غَفَرَ اللَّهُ لَكُمُ الْمَغْفِرَةَ الَّتِي كَانَتْ تَحْصُلُ لَكُمْ لَوْ تَصَدَّقْتُمْ لِأَنَّ مَنْ نَوَى أَنْ يَفْعَلَ الْخَيْرَ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ كَانَ لَهُ أَجْرٌ عَلَى نِيَّتِهِ.
وَأَمَّا اسْتِفَادَةُ أَنَّ غَيْرَ الْوَاجِدِ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي النَّجْوَى بِدُونِ صَدَقَةٍ فَحَاصِلَةٌ