الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَالتَّعَاسُرُ صُدُورُ الْعُسْرِ مِنَ الْجَانِبَيْنِ. وَهُوَ تَفَاعُلٌ مِنْ قَوْلِكُمْ: عَسَرْتُ فُلَانًا، إِذَا أَخَذْتَهُ عَلَى عُسْرِهِ، وَيُقَالُ: تَعَاسَرَ الْبَيِّعَانِ إِذَا لَمْ يَتَّفِقَا.
فَمَعْنَى تَعاسَرْتُمْ اشْتَدَّ الْخِلَافُ بَيْنَكُمْ وَلَمْ تَرْجِعُوا إِلَى وِفَاقٍ، أَيْ فَلَا يُبْقَى الْوَلَدُ بِدُونَ رَضَاعَةٍ.
وَسِينُ الِاسْتِقْبَالِ مُسْتَعْمَلٌ فِي مَعْنَى التَّأْكِيدِ، كَقَوْلِهِ: قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي فِي سُورَةِ يُوسُفَ [98] . وَهَذَا الْمَعْنى ناشىء عَنْ جَعْلِ عَلَامَةِ الِاسْتِقْبَالِ كِنَايَةً عَنْ تَجَدُّدِ ذَلِكَ الْفِعْلِ فِي أَزْمِنَةِ الْمُسْتَقْبَلِ تَحْقِيقًا لِتَحْصِيلِهِ.
وَهَذَا الْخَبَرُ مُسْتَعْمَلٌ كِنَايَةً أَيْضًا عَنْ أَمْرِ الْأَبِ بِاسْتِئْجَارِ ظِئْرٍ لِلطِّفْلِ بِقَرِينَةِ تَعْلِيقِ لَهُ بِقَوْلِهِ: فَسَتُرْضِعُ.
فَاجْتَمَعَ فِيهِ ثَلَاثُ كِنَايَاتٍ: كِنَايَةٌ عَنْ مَوْعِظَةِ الْأَبِ، وَكِنَايَةٌ عَنْ مَوْعِظَةِ الْأُمِّ، وَكِنَايَةٌ عَنْ أَمْرِ الْأَبِ بالاسترضاع لوَلَده.
[7]
[سُورَة الطَّلَاق (65) : آيَة 7]
لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَاّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)
تَذْيِيلٌ لِمَا سَبَقَ مِنْ أَحْكَامِ الْإِنْفَاقِ عَلَى الْمُعْتَدَّاتِ وَالْمُرْضِعَاتِ بِمَا يَعُمُّ ذَلِكَ. وَيَعُمُّ كُلَّ إِنْفَاقٍ يُطَالَبُ بِهِ الْمُسْلِمُ مِنْ مَفْرُوضٍ وَمَنْدُوبٍ، أَيْ الْإِنْفَاقُ عَلَى قَدْرِ السَّعَةِ.
وَالسَّعَةُ: هِيَ الْجِدَّةُ مِنَ الْمَالِ أَوِ الرِّزْقِ.
والإنفاق: كِفَايَة مؤونة الْحَيَاةِ مِنْ طَعَامٍ وَلِبَاسٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ.
ومِنْ هُنَا ابْتِدَائِيَّةٌ لِأَنَّ الْإِنْفَاقَ يَصْدُرُ عَنِ السَّعَةِ فِي الِاعْتِبَارِ، وَلَيْسَتْ مِنْ هَذِهِ كَ (مِنْ) الَّتِي فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [الْأَنْفَال: 3] لِأَنَّ النَّفَقَةَ هُنَا لَيْسَتْ بَعْضًا مِنَ السَّعَةِ، وَهِيَ هُنَاكَ بَعْضُ الرِّزْقِ فَلِذَلِكَ تَكُونُ (مِنْ) مِنْ قَوْلِهِ: فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ تَبْعِيضِيَّةٌ.
وَمَعْنَى قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ جُعِلَ رِزْقُهُ مَقْدُورًا، أَيْ مَحْدُودًا بِقَدْرٍ مُعَيَّنٍ وَذَلِكَ كِنَايَةٌ عَنِ التَّضْيِيقِ. وَضِدُّهُ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ [غَافِر: 40] ، يُقَالُ: قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، إِذَا قَتَّرَهُ، قَالَ تَعَالَى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَتَقَدَّمَ فِي سُورَةِ الرَّعْدِ [26] أَيْ مِنْ كَانَ فِي ضِيقٍ مِنَ الْمَالِ فَلْيُنْفِقْ بِمَا يَسْمَحُ بِهِ رِزْقُهُ بِالنَّظَرِ إِلَى الْوَفَاءِ بِالْإِنْفَاقِ وَمَرَاتِبِهِ فِي التَّقْدِيمِ.
وَهَذَا مُجْمَلٌ هُنَا تَفْصِيلُهُ فِي أَدِلَّةٍ أُخْرَى مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالِاسْتِنْبَاطِ،
قَالَ النبيء صلى الله عليه وسلم لِهِنْدِ بِنْتِ عُتْبَةَ زَوْجِ أَبِي سُفْيَانَ: «خُذِي مِنْ مَالِهِ مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ»
. وَالْمَعْرُوفُ: هُوَ مَا تَعَارَفَهُ النَّاسُ فِي مُعْتَادِ تَصَرُّفَاتِهِمْ مَا لَمْ تُبْطِلْهُ الشَّرِيعَةُ.
وَالرِّزْقُ: اسْمٌ لِمَا يَنْتَفِعُ بِهِ الْإِنْسَانُ فِي حَاجَاتِهِ مِنْ طَعَامٍ وَلِبَاسٍ وَمَتَاعٍ وَمَنْزِلٍ. سَوَاءٌ كَانَ أَعْيَانًا أَوْ أَثْمَانًا. وَيُطْلَقُ الرِّزْقُ كَثِيرًا عَلَى الطَّعَامِ كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً [آل عمرَان: 37] .
وَلَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ النَّفَقَاتِ لَا تَتَحَدَّدُ بِمَقَادِيرَ مُعَيَّنَةٍ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ
وَالْأَزْمَانِ وَالْبِلَادِ. وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي التَّوَسُّعِ فِي الْإِنْفَاقِ فِي مَالِ الْمُؤْسِرِ هَلْ يَقْضِي عَلَيْهِ بِالتَّوْسِعَةِ عَلَى مَنْ يُنْفِقُ هُوَ عَلَيْهِ وَلَا أَحْسَبُ الْخِلَافَ فِي ذَلِكَ إِلَّا اخْتِلَافًا فِي أَحْوَالِ النَّاسِ وَعَوَائِدِهِمْ وَلَا بُدَّ مِنِ اعْتِبَارِ حَالِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ وَمُعْتَادِهِ، كَالزَّوْجَةِ الْعَالِيَةِ الْقَدْرِ. وَكُلُّ ذَلِكَ دَاخِلٌ تَحْتَ
قَول النبيء صلى الله عليه وسلم لِهِنْدٍ: «مَا يَكْفِيكِ وَوَلَدَكِ بِالْمَعْرُوفِ»
. وَجُمْلَةُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ: وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ. لِأَنَّ مَضْمُونَ هَذِهِ الْجُمْلَةِ قَدْ تَقَرَّرَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [286] ، وَهِيَ قَبْلَ سُورَةِ الطَّلَاقِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إِقْنَاعُ الْمُنْفَقِ عَلَيْهِ بِأَنْ لَا يَطْلُبَ مِنَ الْمُنْفِقِ أَكْثَرَ مِنْ مَقْدِرَتِهِ. وَلِهَذَا قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَا يُطْلَقُ عَلَى الْمُعْسِرِ إِذَا كَانَ يَقْدِرُ عَلَى إِشْبَاعِ الْمُنْفَقِ عَلَيْهَا وَإِكْسَائِهَا بِالْمَعْرُوفِ وَلَوْ بِشَظَفٍ، أَيْ دُونَ ضُرٍّ.
ومِمَّا آتاهُ اللَّهُ يَشْمَلُ الْمَقْدِرَةَ عَلَى الِاكْتِسَابِ فَإِذَا كَانَ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ
الْإِنْفَاقُ قَادِرًا عَلَى الِاكْتِسَابِ لِيُنْفِقْ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِنْفَاقُهُ أَوْ لِيُكَمِّلْ لَهُ مَا ضَاقَ عَنْهُ مَالُهُ، يُجْبَرُ عَلَى الِاكْتِسَابِ. وَأَمَّا مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى الِاكْتِسَابِ وَلَيْسَ لَهُ مَا يُنْفِقُ مِنْهُ فَنَفَقَتُهُ أَوْ نَفَقَةُ مَنْ يَجِبُ عَلَيْهِ إِنْفَاقُهُ عَلَى مَرَاتِبِهَا تَكُونُ عَلَى بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ:
«وَأَنَّ رَبَّ الصُّرَيْمَةِ وَرَبَّ الْغُنَيْمَةِ إِنْ تهْلك ماشيتهما يأتيني بِبَيِّنَةٍ يَقُولُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، أَفَتَارِكُهُمْ أَيُّنَا» ، رَوَاهُ مَالِكٌ فِي «الْمُوَطَّأِ» .
وَفِي عَجْزِ الزَّوْجِ عَنْ إِنْفَاقِ زَوْجِهِ إِذَا طَلَبَتِ الْفِرَاقَ لِعَدَمِ النَّفَقَةِ خِلَافٌ. فَمِنَ الْفُقَهَاءِ مَنْ رَأَى ذَلِكَ مُوجِبًا بَيْنَهُمَا بَعْدَ أَجَلِ رَجَاءٍ يَسُرُّ الزَّوْجُ وَقُدِّرَ بِشَهْرَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ.
وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يَرَ التَّفْرِيقَ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ بِذَلِكَ وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ، أَيْ وَتُنْفِقُ مِنْ بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ.
وَالَّذِي يَقْتَضِيهُ النَّظَرُ أَنَّهُ إِنْ كَانَ بَيْتُ الْمَالِ قَائِمًا فَإِنَّ مِنْ وَاجِبِهِ نَفَقَةَ الزَّوْجَيْنِ الْمُعْسِرَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَتَوَصَّلْ إِلَى الْإِنْفَاقِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كَانَ حَقًّا أَنْ يُفَرِّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا وَلَا يَتْرُكَ الْمَرْأَةَ وَزَوْجَهَا فِي احْتِيَاجٍ. وَمَحَلٌّ بَسْطِ ذَلِكَ فِي مَسَائِلِ الْفِقْهِ.
وَجُمْلَةُ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً تَكْمِلَةٌ لِلتَّذْيِيلِ فَإِنَّ قَوْلَهُ: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتَاهَا يُنَاسِبُ مَضْمُونَ جُمْلَةِ لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ.
وَقَوْلَهُ: سَيَجْعَلُ اللَّهُ إِلَخْ تُنَاسِبُ مَضْمُونَ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ إِلَخْ. وَهَذَا
الْكَلَامُ خَبَرٌ مُسْتَعْمَلٌ فِي بَعْثِ التَّرَجِّي وَطَرْحِ الْيَأْسِ عَنِ الْمُعْسِرِ مِنْ ذَوِي الْعِيَالِ. وَمَعْنَاهُ:
عَسَى أَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرِكُمْ يُسْرًا لَكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا. وَهَذَا الْخَبَرُ لَا يَقْتَضِي إِلَّا أَنَّ مِنْ تَصَرُّفَاتِ اللَّهِ أَنْ يَجْعَلَ بَعْدَ عُسْرِ قَوْمٍ يُسْرًا لَهُمْ، فَمَنْ كَانَ فِي عُسْرٍ رَجَا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَشْمَلُهُ فَضْلُ اللَّهِ، فَيُبَدِّلُ عُسْرَهُ بِالْيُسْرِ.
وَلَيْسَ فِي هَذَا الْخَبَرِ وَعْدٌ لِكُلِّ مُعْسِرٍ بِأَنْ يَصِيرَ عُسْرُهُ يُسْرًا. وَقَدْ يَكُونُ فِي الْمُشَاهَدَةِ مَا يُخَالِفُ ذَلِكَ فَلَا فَائِدَةَ فِي التَّكَلُّفِ بِأَنَّ هَذَا وَعْدٌ مِنَ اللَّهِ لِلْمُسْلِمِينَ الْمُوَحِّدِينَ يَوْمَئِذٍ بِأَنَّ اللَّهَ سَيُبَدِّلُ عُسْرَهُمْ بِالْيُسْرِ، أَوْ وَعْدٌ لِلْمُنْفِقِينَ الَّذِينَ يَمْتَثِلُونَ لِأَمْرِ اللَّهِ وَلَا يَشِحُّونَ بِشَيْءٍ مِمَّا يَسَعُهُ مَالُهُمْ. وَانْظُرْ قَوْلَهُ تَعَالَى: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [الشَّرْح: 5] .