الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أَكْدَارِهَا لِتَخْلُصَ إِلَى عَالَمِ الْخُلُودِ طَاهِرَةً، فَإِنْ هِيَ سَلَكَتْ مَسْلَكَ التَّزْكِيَةِ تَخَلَّصَتْ إِلَى عَالَمِ الْخُلُودِ زَكِيَّةً وَيَزِيدُهَا اللَّهُ زَكَاءً وَارْتِيَاضًا يَوْمَ الْبَعْثِ. وَإِنِ انْغَمَسَتْ مُدَّةَ الْحَيَاةِ فِي حَمْأَةِ النَّقَائِصِ وَصَلْصَالِ الرَّذَائِلِ جَاءَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ تَشْوِيهًا لِحَالِهَا لِتَكُونَ مَهْزَلَةً لِأَهْلِ الْمَحْشَرِ.
وَقَدْ تَبْقَى فِي النُّفُوسِ الزَّكِيَّةِ خَلَائِقُ لَا تُنَافِي الْفَضِيلَةَ وَلَا تُنَاقِضُ عَالَمَ الْحَقِيقَةِ مِثْلُ الشَّهَوَاتِ الْمُبَاحَةِ وَلِقَاءِ الْأَحِبَّةِ قَالَ تَعَالَى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ يَا عِبادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ [الزخرف: 67- 70] .
وَفِي الحَدِيث: أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ رَجُلًا
مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يَسْتَأْذِنُ رَبَّهُ أَنْ يَزْرَعَ، فَيَقُول الله: أَو لست فِيمَا شِئْتَ قَالَ: بَلَى وَلَكِنْ أُحِبُّ أَنْ أَزْرَعَ، فَأَسْرَعَ وَبَذَرَ فَيُبَادِرُ الطَّرْفَ نَبَاتُهُ وَاسْتِوَاؤُهُ وَاسْتِحْصَادُهُ وَتَكْوِيرُهُ أَمْثَالَ الْجِبَالِ.
وَكَانَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ عِنْد النبيء صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَا نَجْدُ هَذَا إِلَّا قُرَشِيًّا أَوْ أَنْصَارِيًّا فَإِنَّهُمْ أَصْحَابُ زَرْعٍ فَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا بِأَصْحَابِ زرع، فَضَحِك النَّبِي صلى الله عليه وسلم إِقْرَارًا لِمَا فَهِمَهُ الْأَعْرَابِيُّ» .
وَفِي حَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مُسلم أَن النَّبِي صلى الله عليه وسلم قَالَ: «يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ»
. قَالَ عِيَاضٌ فِي «الْإِكْمَالِ» : هُوَ عَامٌّ فِي كُلِّ حَالَةٍ مَاتَ عَلَيْهَا الْمَرْءُ. قَالَ السُّيُوطِيُّ: يُبْعَثُ الزَّمَّارُ بِمِزْمَارِهِ. وَشَارِبُ الْخَمْرِ بِقَدَحِهِ اهـ. قُلْتُ: ثُمَّ تَتَجَلَّى لَهُمُ الْحَقَائِقُ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ إِذْ تَصِيرُ الْعُلُومُ عَلَى الْحَقِيقَةِ.
وَخَتَمَ هَذَا الْكَلَامَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ وَهُوَ تَذْيِيلٌ جَامِعٌ لِحَالِ كَذِبِهِمُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ بِقَوْلِهِ: وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ [المجادلة: 14] . فَالْمُرَادُ أَنَّ كَذِبَهُمْ عَلَيْكُمْ لَا يُمَاثِلُهُ كَذِبٌ، حَتَّى قُصِرَتْ صِفَةُ الْكَاذِبِ عَلَيْهِمْ بِضَمِيرِ الْفَصْلِ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لِلْمُبَالَغَةِ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِكَذِبِ غَيْرِهِمْ. وَأَكَّدَ ذَلِكَ بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ تَوْكِيدًا لِمُفَادِ الْحَصْرِ الِادِّعَائِيِّ، وَهُوَ أَنَّ كَذِبَ غَيْرِهِمْ كَلَا كَذِبٍ فِي جَانِبِ كَذِبِهِمْ، وَبِأَدَاةِ الِاسْتِفْتَاحِ الْمُقْتَضِيَةِ اسْتِمَالَةَ السَّمْعِ لِخَبَرِهِمْ لِتَحْقِيقِ تَمَكُّنِ صِفَةِ الْكَذِبِ مِنْهُم حَتَّى أَنهم يُلَازِمُهُمْ يَوْم الْبَعْث.
[19]
[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 19]
اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ
(19)
اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ لِأَنَّ مَا سِيقَ مِنْ وَصْفِهِمْ بِانْحِصَارِ صِفَةِ الْكَذِبِ فِيهِمْ يُثِيرُ سُؤَالَ السَّامِعِ أَنْ يَطْلُبَ السَّبَبَ الَّذِي بَلَغَ بهم إِلَى هَذَا الْحَالِ الْفَظِيعِ فَيُجَابُ بِأَنَّهُ اسْتِحْوَاذُ الشَّيْطَانِ عَلَيْهِمْ وَامْتِلَاكُهُ زِمَامَ أَنْفُسِهِمْ يُصَرِّفُهَا كَيْفَ يُرِيدُ وَهَلْ يَرْضَى الشَّيْطَانُ إِلَّا بِأَشَدِّ الْفَسَادِ وَالْغِوَايَةِ.
وَالِاسْتِحْوَاذُ: الِاسْتِيلَاءُ وَالْغَلَبُ، وَهُوَ اسْتِفْعَالٌ مِنْ حَاذَ حَوْذًا، إِذَا حَاطَ شَيْئًا وَصَرَّفَهُ كَيْفَ يُرِيدُ. يُقَالُ: حَاذَ الْعِيرَ إِذَا جَمَعَهَا وَسَاقَهَا غَالِبًا لَهَا. فَاشْتَقُّوا مِنْهُ اسْتَفْعَلَ لَلَّذِي يَسْتَوْلِي بِتَدْبِيرٍ وَمُعَالَجَةٍ، وَلِذَلِكَ لَا يُقَال: استحوذ إِلَّا فِي اسْتِيلَاءِ الْعَاقِلِ لِأَنَّهُ يَتَطَلَّبُ وَسَائِلَ اسْتِيلَاءٍ. وَمِثْلُهُ اسْتَوْلَى. وَالسِّينُ وَالتَّاءُ لِلْمُبَالَغَةِ فِي الْغَلَبِ مِثْلُهَا فِي: اسْتَجَابَ.
وَالْأَحْوَذِيُّ: الْقَاهِرُ لِلْأُمُورِ الصَّعْبَةِ. وَقَالَتْ عَائِشَةُ: «كَانَ عُمَرُ أَحْوَذِيًّا نَسِيجَ وَحْدِهِ» .
وَكَانَ حَقُّ اسْتَحْوَذَ أَنْ يُقْلَبَ عَيْنُهُ أَلِفًا لِأَنَّ أَصْلَهَا وَاوٌ مُتَحَرِّكَةٌ إِثْرَ سَاكِنٍ صَحِيحٍ وَهُوَ غَيْرُ اسْمِ تَعَجُّبٍ وَلَا مُضَاعَفِ اللَّامِ وَلَا مُعْتَلِّ اللَّامِ فَحَقُّهَا أَنْ تُنْقَلَ حَرَكَتُهَا إِلَى السَّاكِنِ الصَّحِيحِ قَبْلَهَا فِرَارًا مِنْ ثِقَلِ الْحَرَكَةِ عَلَى حَرْفِ الْعِلَّةِ مَعَ إِمْكَانِ الِاحْتِفَاظِ بِتِلْكَ الْحَرَكَةِ بِنَقْلِهَا إِلَى الْحَرْفِ قَبْلَهَا الْخَالِي مِنَ الْحَرَكَةِ فَيَبْقَى حَرْفُ الْعِلَّةِ سَاكِنًا سُكُونًا مَيِّتًا إِثْرَ حَرَكَةٍ فَيُقْلَبُ مَدَّةً مُجَانِسَةً لِلْحَرَكَةِ الَّتِي قَبْلَهَا مِثْلُ يَقُومُ وَيَبِينُ وَأَقَامَ، فَحَقُّ اسْتَحْوَذَ أَنْ يُقَالَ فِيهِ: اسْتَحَاذَ وَلَكِنَّ الْفَصِيحَ فِيهِ تَصْحِيحُهُ عَلَى خِلَافِ غَالِبِ بَابِهِ وَهُوَ تَصْحِيحٌ سَمَاعِيٌّ، وَلَهُ نَظَائِرُ قَلِيلَةٌ مِنْهَا: اسْتَنْوَقَ الْجمل، وأعول، إِذْ رَفَعَ صَوْتَهُ. وَأَغْيَمَتِ السَّمَاءُ وَاسْتَغْيَلَ الصَّبِيُّ، إِذَا شَرِبَ الْغَيْلَ وَهُوَ لَبَنُ الْحَامِلِ. وَقَالَ أَبُو زَيْدٍ: التَّصْحِيحُ هُوَ لُغَةٌ لِبَعْضِ الْعَرَبِ مُطَّرِدَةٌ فِي هَذَا الْبَابِ كُلِّهِ. وَحَكَى الْمُفَسِّرُونَ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَرَأَ اسْتَحَاذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: تَصْحِيحُ هَذَا الْبَابِ كُلُّهُ مُطَّرِدٌ. وَقَالَ فِي «التَّسْهِيلِ» : يَطَّرِدُ تَصْحِيحُ هَذَا الْبَابِ فِي كُلِّ فِعْلٍ أُهْمِلَ ثُلَاثِيُّهُ مِثْلِ: اسْتَنْوَقَ الْجَمَلُ وَاسْتَتْيَسَتِ الشَّاةُ إِذَا صَارَتْ كَالتَّيْسِ.
وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الِاسْتِحْوَاذِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ [141] ، فَضُمَّ هَذَا إِلَى ذَاكَ.
وَالنِّسْيَانُ مُرَادٌ مِنْهُ لَازِمُهُ وَهُوَ الْإِضَاعَةُ وَتَرْكُ الْمَنْسِيِّ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى [طه: 126] .
وَالذِّكْرُ يُطْلَقُ عَلَى نُطْقِ اللِّسَانِ بِاسْمٍ أَوْ كَلَامٍ وَيُطْلَقُ عَلَى التَّذَكُّرِ بِالْعَقْلِ. وَقَدْ يُخَصُّ هَذَا الثَّانِي بِضَمِّ الذَّالِ وَهُوَ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي صَرِيحِهِ وَكِنَايَتِهِ، أَيْ مُسْتَعْمَلٌ فِي لَازِمِهِ وَهُوَ الْعِبَادَةُ وَالطَّاعَةُ لِأَنَّ الْمَعْنَى أَنَّهُ أَنْسَاهُمْ تَوْحِيدَ اللَّهِ بِكَلِمَةِ الشَّهَادَةِ وَالتَّوَجُّهِ إِلَيْهِ بِالْعِبَادَةِ.
وَالَّذِي لَا يَتَذَكَّرُ شَيْئًا لَا يَتَوَجَّهُ إِلَى وَاجِبَاتِهِ.
وَجُمْلَةُ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ نَتِيجَةٌ وَفَذْلَكَةٌ لِقَوْلِ: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ.
فَإِنَّ الِاسْتِحْوَاذَ يَقْتَضِي أَنَّهُ صَيَّرَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِهِ.
وَاسْمُ الْإِشَارَةِ لِزِيَادَةِ تَمْيِيزِهِمْ لِئَلَا يَتَرَدَّدَ فِي أَنَّهُمْ حِزْبُ الشَّيْطَانِ.
وَجُمْلَةُ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ وَاقِعَةٌ مَوْقِعَ التَّفَرُّعِ وَالتَّسَبُّبِ عَلَى جُمْلَةِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ، فَكَانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يُقَالَ: فَإِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هم الخاسرون، وَلذَلِك عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إِلَى حَرْفِ الِاسْتِفْتَاحِ تَنْبِيهًا عَلَى أَهَمِّيَّةِ مَضْمُونِهَا وَأَنَّهُ
مِمَّا يَحِقُّ الْعِنَايَةُ بِاسْتِحْضَارِهِ فِي الْأَذْهَانِ مُبَالَغَةً فِي التَّحْذِيرِ مِنَ الِانْدِمَاجِ فِيهِمْ، وَالتَّلَبُّسِ بِمِثْلِ أَحْوَالِهِمُ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا. وَزِيدَ هَذَا التَّحْذِيرُ اهْتِمَامًا بِتَأْكِيدِ الْخَبَرِ بِحَرْفِ إِنَّ وَبِصِيغَةِ الْقَصْرِ، إِذْ لَا يَتَرَدَّدُ أَحَدٌ فِي أَنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ خَاسِرُونَ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ الْقَضَايَا الْمُسَلَّمَةِ بَيْنَ الْبَشَرِ، فَلِذَلِكَ لَمْ تَكُنْ هَذِهِ الْمُؤَكِّدَاتُ لِرَدِّ الْإِنْكَارِ لِتَحْذِيرِ الْمُسْلِمِينَ أَنْ تَغُرَّهُمْ حَبَائِلُ الشَّيْطَانِ وَتَرُوقَ فِي أَنْظَارِهِمْ بَزَّةُ الْمُنَافِقِينَ وَتَخْدَعَهُمْ أَيْمَانُهُمُ الْكَاذِبَةُ.
وَإِظْهَارُ كَلِمَةِ حِزْبُ الشَّيْطانِ دون ضمير هم لِزِيَادَةِ التَّصْرِيحِ وَلِتَكُونَ الْجُمْلَةُ صَالِحَة للتمثل بِهِ مُسْتَقِلَّةً بِدِلَالَتِهَا.
وَضَمِيرُ الْفَصْلِ أَفَادَ الْقَصْرَ، وَهُوَ قَصْرٌ ادِّعَائِيٌّ لَلْمُبَالَغَةِ فِي مِقْدَار خسرانهم وَأَنه لَا خُسْرَانَ أَشَدُّ مِنْهُ فَكَأَنَّ كُلَّ خُسْرَانٍ غَيْرِهِ عَدَمٌ فَيُدَّعَى أَنَّ وَصْفَ الْخَاسِرِ مَقْصُورٌ عَلَيْهِمْ.
وَحِزْبُ الْمَرْءِ: أَنْصَارُهُ وَجُنْدُهُ وَمن يواليه.