الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شَاهَدُوهُ مِنْ دَلَائِلِ رِسَالَتِهِ، وَكَمَا أُكِّدَ عِلْمُهُمْ بِ قَدْ أُكِّدَ حُصُولُ الْمَعْلُومِ بِ (أَنَّ) الْمَفْتُوحَةِ، فَحَصَلَ تَأْكِيدَانِ لِلرِّسَالِةِ. وَالْمَعْنَى: فَكَيْفَ لَا يَجْرِي أَمْرُكُمْ عَلَى وَفْقِ هَذَا الْعِلْمِ.
وَالْإِتْيَانُ بَعْدَ قَدْ بِالْمُضَارِعِ هُنَا لِلدِّلَالَةِ عَلَى أَنَّ عِلْمَهُمْ بِذَلِكَ مُجَدَّدٌ بِتَجَدُّدِ الْآيَاتِ وَالْوَحْيِ، وَذَلِكَ أَجْدَى بِدَوَامِ امْتِثَالِهِ لِأَنَّهُ لَوْ جِيءَ بِفِعْلِ الْمُضِيَّ لَمَّا دَلَّ عَلَى أَكْثَرِ مِنْ حُصُولِ ذَلِكَ الْعِلْمِ فِيمَا مَضَى. وَلَعَلَّهُ قَدْ طَرَأَ عَلَيْهِ مَا يُبْطِلُهُ، وَهَذَا كَالْمُضَارِعِ فِي قَوْلِهِ:
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ [18] .
وَالزَّيْغُ: الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ، أَيْ لَمَّا خَالَفُوا مَا أَمَرَهُمْ رَسُولُهُمْ جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغًا، أَيْ تَمَكَّنَ الزَّيْغُ مِنْ نُفُوسِهِمْ فَلَمْ يَنْفَكُّوا عَنِ الضَّلَالِ.
وَجُمْلَةُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ تَذْيِيلٌ، أَيْ وَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ فِي النَّاسِ فَكَانَ قَوْمُ مُوسَى الَّذِينَ آذَوْهُ مِنْ أَهْلِ ذَلِكَ الْعُمُومِ.
وَذُكِرَ وَصْفُ الْفاسِقِينَ جَارِيًا عَلَى لَفْظِ الْقَوْمَ لِلْإِيمَاءِ إِلَى الْفُسُوقِ الَّذِي دَخَلَ فِي مُقَوِّمَاتِ قَوْمِيَّتِهِمْ. كَمَا تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ: لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فِي الْبَقَرَةِ [164] .
فَالْمَعْنَى: الَّذِينَ كَانَ الْفُسُوقُ عَنِ الْحَقِّ سَجِيَّةً لَهُمْ لَا يَلْطُفُ اللَّهُ بِهِمْ وَلَا يَعْتَنِي بِهِمْ عِنَايَةً خَاصَّةً تَسُوقُهُمْ إِلَى الْهُدَى، وَإِنَّمَا هُوَ طَوْعُ الْأَسْبَاب والمناسبات.
[6]
[سُورَة الصَّفّ (61) : آيَة 6]
وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ [الصَّفّ: 5] فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ فِي مَوْقِعِ الَّتِي قَبْلَهَا فَمَوْقِعُ هَذِهِ مُسَاوٍ لَهُ.
وَأَمَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فِي الْآيَةِ السَّابِقَةِ فَإِنَّ هَذِهِ مَسُوقَةٌ مَسَاقَ التَّتْمِيمِ لِقِصَّةِ مُوسَى بِذِكْرِ مِثَالٍ آخَرٍ لِقَوْمٍ حَادُوا عَنْ طَاعَةِ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم إِلَيْهِمْ مِنْ غَيْرِ إِفَادَةِ
تَحْذِيرٍ لِلْمُخَاطَبِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَلِلتَّخَلُّصِ إِلَى ذِكْرِ أَخْبَارِ عِيسَى بِالرَّسُولِ الَّذِي يَجِيءُ بَعْدَهُ.
وَنَادَى عِيسَى قَوْمَهُ بِعُنْوَانِ بَنِي إِسْرائِيلَ دُونَ يَا قَوْمِ [الصَّفّ: 5] لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ
بَعْدَ مُوسَى اشْتُهِرُوا بِعُنْوَانِ «بَنِي إِسْرَائِيلَ» وَلَمْ يُطْلَقْ عَلَيْهِمْ عُنْوَانُ: قَوْمُ مُوسَى، إِلَّا فِي مُدَّةِ حَيَاةِ مُوسَى خَاصَّةً فَإِنَّهُمْ إِنَّمَا صَارُوا أُمَّةً وَقَوْمًا بِسَبَبِهِ وَشَرِيعَتِهِ.
فَأَمَّا عِيسَى فَإِنَّمَا كَانَ مُرْسَلًا بِتَأْيِيدِ شَرِيعَةِ مُوسَى، وَالتَّذْكِيرِ بِهَا وَتَغْيِيرِ بَعْضِ أَحْكَامِهَا، وَلِأَنَّ عِيسَى حِينَ خَاطَبَهُمْ لَمْ يَكُونُوا قَدْ اتَّبَعُوهُ وَلَا صَدَّقُوهُ فَلَمْ يَكُونُوا قَوْمًا لَهُ خَالِصِينَ.
وَتَقَدَّمَ الْقَوْلُ فِي مَعْنَى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ فِي أَوَائِلِ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [50] وَفِي أَثْنَاءِ سُورَةِ الْعُقُودِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَنْبِيهِهِمْ عَلَى هَذَا التَّصْدِيقِ حِينَ ابْتَدَأَهُمْ بِالدَّعْوَةِ تَقْرِيبُ إِجَابَتِهِمْ وَاسْتِنْزَالُ طَائِرِهِمْ لِشِدَّةِ تَمَسُّكِهِمْ بِالتَّوْرَاةِ وَاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ أَحْكَامَهَا لَا تَقْبَلُ النَّسْخَ، وَأَنَّهَا دَائِمَةٌ. وَلِذَلِكَ لَمَّا ابْتَدَأَهُمْ بِهَذِهِ الدَّعْوَةِ لَمْ يَزِدْ عَلَيْهَا مَا حَكَى عَنْهُ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ [50] مِنْ قَوْلِهِ: وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ، فَيُحْمَلُ مَا هُنَالِكَ عَلَى أَنَّهُ خِطَابٌ وَاقِعٌ بَعْدَ أَوَّلِ الدَّعْوَةِ فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يُوحِ إِلَيْهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ بِنَسْخِ بَعْضِ أَحْكَامِ التَّوْرَاةِ ثُمَّ أَوْحَاهُ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ. فَحِينَئِذٍ أَخْبَرَهُمْ بِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ شَأْنُ التَّشْرِيعِ أَنْ يُلْقَى إِلَى الْأُمَّةِ تَدْرِيجًا كَمَا
فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» أَنَّهَا قَالَتْ: «إِنَّمَا أُنْزِلَ أَوَّلُ مَا أُنْزِلَ مِنْهُ (أَيِ الْقُرْآنِ) سُورَةٌ مِنَ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ، وَلَوْ أَنْزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ:
لَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ، لَقَالُوا: لَا نَتْرُكُ الْخَمْرَ أَبَدًا، وَلَوْ نَزَلَ: لَا تَزْنُوا: لَقَالُوا: لَا نَدع الزِّنَا أَبَدًا. لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ على مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ [الْقَمَر: 46] ، وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ» اه.
فَمَعْنَى قَوْلِهِ: مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ فِي كِلْتَا الْآيَتَيْنِ هُوَ التَّصْدِيقُ بِمَعْنَى التَّقْرِيرِ وَالْأَعْمَالِ عَلَى وَجْهِ الْجُمْلَةِ، أَيْ أَعْمَالِ مَجْمُوعِهَا وَجَمْهَرَةِ أَحْكَامِهَا وَلَا
يُنَافِي ذَلِكَ أَنَّهُ قَدْ تَغَيَّرَ بَعْضُ أَحْكَامِهَا بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ فِي أَحْوَالٍ قَلِيلَةٍ.
وَالتَّبْشِيرُ: الْإِخْبَارُ بِحَادِثٍ يَسُرُّ، وَأُطْلِقَ هُنَا عَلَى الْإِخْبَارِ بِأَمْرٍ عَظِيمِ النَّفْعِ لَهُمْ لِأَنَّهُ يَلْزَمُهُ السُّرُورُ الْحَقُّ فَإِنَّ مَجِيءَ الرَّسُولِ إِلَى النَّاسِ نِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ.
وَوَجْهُ إِيثَارِ هَذَا اللَّفْظِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا وَقَعَ فِي الْإِنْجِيلِ مِنْ وَصْفِ رِسَالَةِ الرَّسُولِ
الْمَوْعُودِ بِهِ بِأَنَّهَا بِشَارَةُ الْمَلَكُوتِ (1) .
وَإِنَّمَا أَخْبَرَهُمْ بِمَجِيءِ رَسُولٍ مِنْ بَعْدِهِ لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَمْ يَزَالُوا يَنْتَظِرُونَ مَجِيءَ رَسُولٍ مِنَ اللَّهِ يُخَلِّصُهُمْ مِنْ بَرَاثِنِ الْمُتَسَلِّطِينَ عَلَيْهِمْ وَهَذَا الِانْتِظَارُ دَيْدَنُهُمْ، وَهُمْ مَوْعُودُونَ لِهَذَا الْمُخَلِّصِ لَهُمْ عَلَى لِسَانِ أَنْبِيَائِهِمْ بَعْدَ مُوسَى. فَكَانَ وَعْدُ عِيسَى بِهِ كَوَعْدِ مَنْ سَبَقَهُ مِنْ أَنْبِيَائِهِمْ، وَفَاتَحَهُمْ بِهِ فِي أَوَّلِ الدَّعْوَةِ اعْتِنَاءً بِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ.
وَفِي الِابْتِدَاءِ بِهَا تَنْبِيهٌ عَلَى أَنْ لَيْسَ عِيسَى هُوَ الْمُخَلِّصُ الْمُنْتَظَرُ وَأَنَّ الْمُنْتَظَرَ رَسُولٌ يَأْتِي مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم.
وَلِعَظْمِ شَأْنِ هَذَا الرَّسُولِ الْمَوْعُودِ بِهِ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يُقِيمَ لِلْأُمَمِ الَّتِي يَظْهَرُ فِيهَا عَلَامَاتٌ وَدَلَائِلُ لِيَتَبَيَّنُوا بِهَا شَخْصَهُ فَيَكُونُ انْطِبَاقُهَا فَاتِحَةً لِإِقْبَالِهِمْ عَلَى تَلَقِّي دَعْوَتِهِ، وَإِنَّمَا يَعْرِفُهَا حَقَّ مَعْرِفَتِهَا الرَّاسِخُونَ فِي الدِّينِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لِأَنَّهُمُ الَّذِينَ يَرْجِعُ إِلَيْهِمُ الدَّهْمَاءُ مِنْ أَهْلِ مَلَّتِهِمْ قَالَ تَعَالَى: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [الْبَقَرَة: 146] . وَقَالَ: قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ [الرَّعْد: 43] .
وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ بَعْضَ صِفَاتِ هَذَا الرَّسُولِ لِمُوسِى عليه السلام فِي قَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ إِجَابَتِهِ دُعَاءَ مُوسَى وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ إِلَى قَوْلِهِ:
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ [الْأَعْرَاف: 157] .
(1) فِي «الإصحاح الرَّابِع وَالْعِشْرين» من «إنجيل متّى» فقرة 11 ويكرز بِبِشَارَة الملكوت هَذِه فِي كل المسكونة.
فَلَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى إِعْدَادَ الْبَشَرِ لِقُبُولِ رِسَالَةِ هَذَا الرَّسُولِ الْعَظِيمِ الْمَوْعُود بِهِ صلى الله عليه وسلم اسْتَوْدَعَهُمْ أَشْرَاطَهُ وَعَلَامَاتِهِ عَلَى لِسَانِ كُلِّ رَسُولٍ أَرْسَلَهُ إِلَى النَّاسِ. قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ [آل عمرَان: 81، 82] أَيْ أَأَخَذْتُمْ إِصْرِي مِنْ أُمَمِكُمْ عَلَى الْإِيمَانِ بِالرَّسُولِ الَّذِي يَجِيءُ مُصَدِّقًا لِلرُّسِلِ. وَقَوله:
فَاشْهَدُوا [آل عمرَان: 81] ، أَيْ عَلَى أُمَمِكُمْ وَسَيَجِيءُ مِنْ حِكَايَةِ كَلَامِ عِيسَى فِي الْإِنْجِيلِ مَا يَشْرَحُ هَذِهِ الشَّهَادَةَ.
وَقَالَ تَعَالَى فِي خُصُوصِ مَا لَقَّنَهُ إِبْرَاهِيمَ عليه السلام رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [الْبَقَرَة: 129] الْآيَةَ.
وَأَوْصَى بِهِ عِيسَى عليه السلام فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَصِيَّةً جَامِعَةً لِمَا تَقَدَّمَهَا مِنْ وَصَايَا الْأَنْبِيَاءِ وَأَجْمَلَهَا إِجْمَالًا عَلَى طَرِيقِ الرَّمْزِ. وَهُوَ أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ أَهْلِ الْحِكْمَةِ وَالرِّسَالَةِ فِي غَيْرِ بَيَانِ الشَّرِيعَةِ، قَالَ السُّهْرَوَرْدِيُّ: فِي تِلْكَ حِكْمَةُ الْإِشْرَاقِ «وَكَلِمَاتُ الْأَوَّلِينَ مَرْمُوزَةٌ» فَقَالَ قُطْبُ الدِّينِ الشِّيرَازِيِّ فِي «شَرْحِهِ» : «كَانُوا يَرْمُزُونَ فِي كَلَامِهِمْ إِمَّا تَشْحِيذًا لِلْخَاطِرِ بِاسْتِكَدَادِ الْفِكر أَو تشبها بِالْبَارِي تَعَالَى وَأَصْحَابِ النَّوَامِيسِ فِيمَا أَتَوْا بِهِ مِنَ الْكُتُبِ الْمُنَزَّلَةِ الْمَرْمُوزَةِ لِتَكُونَ أَقْرَبَ إِلَى فَهْمِ الْجُمْهُورِ فَيَنْتَفِعَ الْخَوَاصُّ بِبَاطِنِهَا وَالْعَوَامُّ بِظَاهِرِهَا.
اه» ، أَيْ لِيَتَوَسَّمُهَا أَهْلُ الْعِلْمِ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَيَتَحَصَّلَ لَهُمْ مِنْ مَجْمُوعِ تَفْصِيلِهَا شَمَائِلُ الرَّسُولِ الْمَوْعُودِ بِهِ وَلَا يَلْتَبِسَ عَلَيْهِمْ بِغَيْرِهِ مِمَّنْ يَدَّعِي ذَلِكَ كَذِبًا. أَوْ يَدَّعِيهِ لَهُ طَائِفَةٌ مِنَ النَّاسِ كَذِبًا أَوِ اشْتِبَاهًا.
وَلَا يُحْمَلُ قَوْلُهُ: اسْمُهُ أَحْمَدُ عَلَى مَا يَتَبَادَرُ مِنْ لَفْظِ اسْمٍ مِنْ أَنَّهُ الْعَلَمُ الْمَجْهُولُ لِلدِّلَالَةِ عَلَى ذَاتٍ مُعَيَّنَةٍ لِتُمَيِّزَهُ مِنْ بَيْنِ مَنْ لَا يُشَارِكُهَا فِي ذَلِكَ الِاسْمِ لِأَنَّ هَذَا الْحَمْلَ يَمْنَعُ مِنْهُ وَأَنَّهُ لَيْسَ بِمُطَابِقٍ لِلْوَاقِعِ لِأَنَّ الرَّسُولَ الْمَوْعُودَ بِهِ لَمْ يَدْعُهُ النَّاسُ أَحْمَدُ فَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَدْعُو النبيء مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم بِاسْمِ أَحْمَدَ لَا قبل نبوته وَلَا بَعْدَهَا وَلَا يُعْرَفُ ذَلِكَ.
وَأَمَّا مَا وَقَعَ
فِي «الْمُوَطَّأ» و «الصَّحِيحَيْنِ» عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ عَن
النبيء صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: «لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ: أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشَرُ النَّاسُ عَلَى قَدَمِي وَأَنَا الْعَاقِبُ»
(1)
فَتَأْوِيلُهُ أَنَّهُ أَطْلَقَ الْأَسْمَاءَ عَلَى مَا يَشْمَلُ الِاسْمَ الْعَلَمَ وَالصِّفَةَ الْخَاصَّةَ بِهِ عَلَى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ. وَقَدْ رُوِيَتْ لَهُ أَسْمَاءٌ غَيْرُهَا اسْتَقْصَاهَا أَبُو بَكْرٍ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي «الْعَارِضَة» و «القبس» .
فَالَّذِي نُوقِنُ بِهِ أَنَّ مَحْمَلَ قَوْلِهِ: اسْمُهُ أَحْمَدُ يَجْرِي عَلَى جَمِيعِ مَا تَحْمِلُهُ جُزْءَا هَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنَ الْمَعَانِي.
فَأَمَّا لَفْظُ «اسْمٍ» فَأَشْهَرُ اسْتِعْمَالِهِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ ثَلَاثَةُ اسْتِعْمَالَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْمُسَمَّى. قَالَ أَبُو عُبَيْدَة: الِاسْم هُوَ المسمّى. وَنَسَبَ ثَعْلَبٌ إِلَى سِيبَوَيْهِ أَنَّ الِاسْمَ غَيْرُ الْمُسَمَّى (أَيْ إِذَا أُطْلِقَ لَفْظُ اسْمٍ فِي الْكَلَامِ فَالْمَعْنَى بِهِ مُسَمَّى ذَلِكَ الِاسْمِ) لَكِنْ جَزَمَ ابْنُ السَّيِّدِ الْبَطَلْيَوْسِيُّ فِي كِتَابِهِ الَّذِي جَعَلَهُ فِي مَعَانِيَ الِاسْمِ هَلْ هُوَ عَيْنُ الْمُسَمَّى، أَنَّهُ وَقَعَ فِي بَعْضِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِ سِيبَوَيْهِ أَنَّ الِاسْمَ هُوَ الْمُسَمَّى، وَوَقَعَ فِي بَعْضِهَا أَنَّهُ غَيْرُ الْمُسَمَّى، فَحَمَلَهُ ابْنُ السَّيِّدِ الْبَطَلْيَوْسِيُّ عَلَى أَنَّهُمَا إِطْلَاقَانِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِاخْتِلَافٍ فِي كَلَامِ سِيبَوَيْهِ، وَتَوَقَّفَ أَبُو الْعَبَّاسِ ثَعْلَبٌ فِي ذَلِكَ فَقَالَ: لَيْسَ لِي فِيهِ قَوْلٌ.
وَلِمَا فِي هَذَا الِاسْتِعْمَالِ مِنْ الِاحْتِمَالِ بَطُلَ الِاسْتِدْلَالُ بِهِ.
الِاسْتِعْمَالُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الِاسْمُ بِمَعْنَى شُهْرَةٍ فِي الْخَيْرِ وَأَنْشَدَ ثَعْلَبٌ:
لِأَعْظَمِهَا قَدْرًا وَأَكْرَمِهَا أَبًا
…
وَأَحْسَنِهَا وَجْهًا وَأَعْلَنِهَا سُمَى
سَمًى لُغَةٌ فِي اسْمٍ.
الِاسْتِعْمَالُ الثَّالِثُ: أَنْ يُطْلَقَ عَلَى لَفْظِ جُعِلَ دَالًّا عَلَى ذَاتٍ لِتُمَيَّزَ مِنْ كَثِيرٍ مِنْ أَمْثَالِهَا، وَهَذَا هُوَ الْعَلَمُ.
وَنَحْنُ نَجْرِي عَلَى أَصْلِنَا فِي حَمْلِ أَلْفَاظِ الْقُرْآنِ عَلَى جَمِيعِ الْمَعَانِي الَّتِي يَسْمَحُ بِهَا
(1) وَقع هَذَا الحَدِيث مُرْسلا فِي أَكثر الرِّوَايَات عَن مَالك وَوَقع فِي رِوَايَة معن بن عِيسَى، وَأبي مُصعب الزُّهْرِيّ، وَعبد الله بن نَافِع عَن مَالك أنّ مُحَمَّد بن جُبَير رَوَاهُ عَن أَبِيه فَهُوَ مُسْند.
الِاسْتِعْمَالُ الْفَصِيحُ كَمَا فِي الْمُقَدِّمَةِ التَّاسِعَةِ مِنْ مُقَدِّمَاتِ هَذَا التَّفْسِيرِ، فَنَحْمِلُ الِاسْمَ فِي قَوْلِهِ: اسْمُهُ أَحْمَدُ على مَا يَجْمَعُ بَيْنَ هَذِهِ الِاسْتِعْمَالَاتِ الثَّلَاثَةِ، أَيْ مُسَمَّاهُ أَحْمَدُ، وَذِكْرُهُ أَحْمَدَ، وَعَلَمُهُ أَحْمَدُ، وَلْنَحْمِلْ لَفْظَ أَحْمَدَ عَلَى مَا لَا يَأْبَاهُ وَاحِدٌ مِنَ اسْتِعْمَالَاتِ اسْمِ الثَّلَاثَةِ إِذَا قُرِنَ بِهِ وَهُوَ أَنَّ أَحْمَدَ اسْمُ تَفْضِيلٍ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَسْلُوبَ الْمُفَاضَلَةِ مَعْنِيًّا بِهِ الْقُوَّةُ فِيمَ هُوَ مُشْتَقٌّ مِنْهُ، أَيِ الْحَمْدِ وَهُوَ الثَّنَاءُ، فَيَكُونُ أَحْمَدُ هُنَا مُسْتَعْمَلًا فِي قُوَّةِ مَفْعُولِيَّةِ الْحَمْدِ، أَيْ حَمْدِ النَّاسِ إِيَّاهُ، وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِمْ. «الْعُودُ أَحْمَدُ» ، أَيْ مَحْمُودٌ كَثِيرًا.
فَالْوَصْفُ بِ أَحْمَدُ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَعْنَى الْأَوَّلِ فِي اسْمٍ أَنَّ مُسَمَّى هَذَا الرَّسُولَ وَنَفْسُهُ مَوْصُوفَةٌ بِأَقْوَى مَا يَحْمَدُ عَلَيْهِ مَحْمُودٌ فَيَشْمَلُ ذَلِكَ جَمِيعَ صِفَاتِ الْكَمَالِ النَّفْسَانِيَّةِ وَالْخُلُقِيَّةِ وَالْخِلْقِيَّةِ وَالنَّسَبِيَّةِ وَالْقَوْمِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْدُودٌ مِنَ الكمالات الذاتية والعرضية.
وَيَصِحُّ اعْتِبَارُ أَحْمَدُ تَفْضِيلًا حَقِيقِيًّا فِي كَلَامِ عِيسَى عليه السلام، أَيْ مُسَمَّاهُ أَحْمَدُ مِنِّي، أَيْ أَفْضَلُ، أَيْ فِي رِسَالَتِهِ وَشَرِيعَتِهِ. وَعِبَارَاتُ الْإِنْجِيلِ تُشْعِرُ بِهَذَا التَّفْضِيلِ، فَفِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعَ عَشَرَ «وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الْأَبِ (أَيْ مِنْ رَبِّنَا) فَيُعْطِيَكُمْ
(فَارْقَلِيطَ) آخَرَ لِيَثْبُتَ مَعَكُمْ إِلَى الْأَبَدِ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْعَالِمُ أَنْ يَقْبَلَهُ لِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ وَلَا يَعْرِفُهُ. ثُمَّ قَالَ: وَأَمَّا الْفَارْقَلِيطُ الرُّوحُ الْقُدُسُ الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الْأَب (الله) باسمي فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ» ، أَيْ فِي جُمْلَةِ مَا يُعَلِّمُكُمْ أَنْ يُذَكِّرَكُمْ بِكُلِّ مَا قُلْتُهُ لَكُمْ. وَهَذَا يُفِيدُ تَفْضِيلُهُ عَلَى عِيسَى بفضيلة دوَام شَرِيعَة الْمُعَبَّرِ عَنْهَا بِقَوْلِ الْإِنْجِيلِ «لِيَثْبُتَ مَعَكُمْ إِلَى الْأَبَدِ» وَبِفَضِيلَةِ عُمُومِ شَرْعِهِ لِلْأَحْكَامِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِقَوْلِهِ:«يُعَلِّمَكُمْ كُلَّ شَيْءٍ» .
وَالْوَصْفُ بِ أَحْمَدُ عَلَى الْمَعْنَى الثَّانِي فِي الِاسْمِ. أَنَّ سُمْعَتَهُ وَذِكْرَهُ فِي جِيلِهِ وَالْأَجْيَالِ بَعْدَهُ مَوْصُوفٌ بِأَنَّهُ أَشَدُّ ذِكْرٍ مَحْمُودٍ وَسُمْعَةٍ مَحْمُودَةٍ.
وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ
فِي الْحَدِيثِ «أَنَا حَامِلُ لِوَاءِ الْحَمْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُهُ مَقَامًا مَحْمُودًا.
وَوَصْفُ أَحْمَدُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمَعْنَى الثَّالِثِ فِي الِاسْمِ رَمْزٌ إِلَى أَنَّهُ اسْمُهُ الْعَلَمُ يَكُونُ بِمَعْنَى: أَحْمَدَ، فَإِنَّ لَفْظَ مُحَمَّدٍ اسْمٌ مَفْعُولٍ مِنْ حَمَّدَ الْمُضَاعَفِ الدَّالِ عَلَى
كَثْرَةِ حَمْدِ الْحَامِدِينَ إِيَّاهُ كَمَا قَالُوا: فُلَانٌ مُمَدَّحٌ، إِذَا تَكَرَّرَ مَدْحُهُ مِنْ مَادِحِينَ كَثِيرِينَ.
فَاسْمُ «مُحَمَّدٍ» يُفِيدُ مَعْنَى: الْمَحْمُودِ حَمْدًا كَثِيرًا وَرُمِزَ إِلَيْهِ بِأَحْمَدَ.
وَهَذِهِ الْكَلِمَةُ الْجَامِعَةُ الَّتِي أَوْحَى اللَّهُ بِهَا إِلَى عِيسَى عليه السلام أَرَادَ اللَّهُ بِهَا أَنْ تَكُونَ شِعَارًا لِجِمَاعِ صِفَاتِ الرَّسُولِ الْمَوْعُود بِهِ صلى الله عليه وسلم، صِيغَتْ بِأَقْصَى صِيغَةٍ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ إِجْمَالًا بِحَسَبِ مَا تَسْمَحُ اللُّغَةُ بِجَمْعِهِ مِنْ مَعَانِيَ. وَوُكِلَ تَفْصِيلُهَا إِلَى مَا يَظْهَرُ مِنْ شَمَائِلِهِ قَبْلَ بِعْثَتِهِ وَبَعْدِهَا لِيَتَوَسَّمَهَا الْمُتَوَسِّمُونَ وَيَتَدَبَّرَ مَطَاوِيهَا الرَّاسِخُونَ عِنْدَ الْمُشَاهَدَةِ وَالتَّجْرِبَةِ.
جَاءَ فِي إِنْجِيلِ مَتَّى فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ قَوْلُ عِيسَى «وَيَقُومِ أَنْبِيَاءُ كَذَبَةٌ كَثِيرُونَ وَيُضِلُّونَ كَثِيرًا وَلَكِنَّ الَّذِي يَصْبِرُ إِلَى الْمُنْتَهَى فَهَذَا يُخَلَّصُ وَيَكْرِزُ (1) بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ هَذِهِ فِي كُلِّ الْمَسْكُونَةِ شَهَادَةً لِجَمِيعِ الْأُمَمِ ثُمَّ يَكُونُ الْمُنْتَهَى» ، وَمَعْنَى يكرز يَدْعُو وينبىء،
وَمَعْنَى يَصِيرُ إِلَى الْمُنْتَهَى يَتَأَخَّرُ إِلَى قُرْبِ السَّاعَةِ.
وَفِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا فِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعِ عَشَرَ «إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَنِي فَاحْفَظُوا وَصَايَايَ وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الْأَبِ فيعطيكم فارقليط آخَرَ يَثْبُتُ مَعَكُمْ إِلَى الْأَبَدِ» . وَ (فَارْقَلِيطُ) كَلِمَةٌ رُومِيَّةٌ، أَيْ بُوَانِيَّةٌ تُطْلَقُ بِمَعْنَى الْمُدَافِعِ أَوِ الْمُسَلِّي، أَيِ الَّذِي يَأْتِي بِمَا يَدْفَعُ الْأَحْزَانَ وَالْمَصَائِبَ، أَيْ يَأْتِي رَحْمَةً، أَيْ رَسُولٌ مُبَشِّرٌ، وَكَلِمَةُ آخَرَ صَرِيحَةٌ فِي أَنَّهُ رَسُولٌ مِثْلُ عِيسَى.
وَفِي الْإِصْحَاحِ الرَّابِعَ عَشَرَ «وَالْكَلَامُ الَّذِي تَسْمَعُونَهُ لَيْسَ لِي بَلِ الَّذِي أَرْسَلَنِي. وَبِهَذَا كَلَّمْتُكُمْ وَأَنَا عِنْدُكُمْ (أَيْ مُدَّةَ وُجُودِي بَيْنَكُمْ) ، وَأَمَّا (الْفَارْقَلِيطُ) الرُّوحُ الْقُدْسِيُّ الَّذِي سَيُرْسِلُهُ الْأَبُ بِاسْمِي فَهُوَ يُعَلِّمُكُمْ كُلَّ شَيْءٍ وَيُذَكِّرُكُمْ بِكُلِّ مَا
(1) كَذَا وَقعت كلمة يكرز فِي تَرْجَمَة الْإِنْجِيل وَلم أتحقق مَأْخَذ المترجم لهاته الْكَلِمَة. ولعلها مَأْخُوذَة من اسْم الكرّاز (بتَشْديد الرَّاء) اسْم الْكَبْش الَّذِي يضع عَلَيْهِ الرَّاعِي كرزه فيحمله، أَو من الكرز بِضَم الْكَاف وَسُكُون الرَّاء ضرب من الجوالق كَبِير يحمل فِيهِ الرَّاعِي زَاده ومتاعه. وَمن الْمَعْلُوم تَشْبِيه الرُّسُل برعاة الْغنم. وَمن كَلَام عِيسَى عليه السلام:«إِنَّمَا بعثت لخرفان بني إِسْرَائِيل» وَأما فعل كرز فَلَعَلَّهُ من بَاب قعد.
قُلْتُهُ» (وَمَعْنَى «بِاسْمِي» أَيْ بِصِفَةِ الرِّسَالَةِ) لَا أَتَكَلَّمُ مَعَكُمْ كَثِيرًا لِأَنَّ رَئِيسَ هَذَا الْعَالِمِ يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٍ وَلَكِنْ لِيَفْهَمَ الْعَالِمُ أَنِّي أُحِبُّ الْأَبَ وَكَمَا أَوْصَانِي الْأَبُ أَفْعَلُ» .
وَفِي الْإِصْحَاحِ الْخَامِسَ عَشَرَ مِنْهُ «وَمَتَى جَاءَ الْفَارْقَلِيطُ (1) الَّذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الْأَبِ رُوحُ الْحَقِّ الَّذِي مِنْ عِنْدِ الْأَبِ يَنْبَثِقُ فَهُوَ يَشْهَدُ لِي» .
وَفِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ إِثْبَاتٌ أَنَّ هَذَا الرَّسُولَ الْمُبَشَّرَ بِهِ تَعُمُّ رِسَالَتُهُ جَمِيعَ الْأُمَمِ فِي جَمِيعِ الْأَرْضِ، وَأَنَّهُ الْخَاتَمُ، وَأَنَّ لِشَرِيعَتِهِ مُلْكًا لِقَوْلِ إِنْجِيلِ مَتَّى «هُوَ يَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ» وَالْمَلَكُوتُ هُوَ الْمَلِكُ، وَأَنَّ تَعَالِيمَهُ تَتَعَلَّقُ بِجَمِيعِ الْأَشْيَاءِ الْعَارِضَةِ لِلنَّاسِ، أَيْ شَرِيعَتُهُ تَتَعَلَّقُ أَحْكَامُهَا بِجَمِيعِ الْأَحْوَالِ الْبَشَرِيَّةِ، وَجَمِيعُهَا مِمَّا تَشْمَلُهُ الْكَلِمَةُ الَّتِي جَاءَتْ عَلَى لِسَانِ عِيسَى عليه السلام وَهِيَ كَلِمَةُ اسْمُهُ أَحْمَدُ فَكَانَتْ مِنَ الرُّمُوزِ الْإِلَهِيَّةِ وَلِكَوْنِهَا مُرَادَةً لِذَلِكَ ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي الْقُرْآنِ تَذْكِيرًا وَإِعْلَانًا.
وَذِكْرُ الْقُرْآنِ تَبْشِيرَ عِيسَى بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِمَا الصَّلَاة والسّلام إدماج فِي خِلَالِ الْمَقْصُودِ
الَّذِي هُوَ تَنْظِيرُ مَا أُوذِيَ بِهِ مُوسَى مِنْ قَوْمِهِ وَمَا أُوذِيَ بِهِ عِيسَى مِنْ قَوْمِهِ إِدْمَاجًا يُؤَيِّدُ بِهِ النبيء صلى الله عليه وسلم وَيُثَبِّتُ فُؤَادَهُ وَيَزِيدُهُ تَسْلِيَةً. وَفِيهَا تَخَلُّصٌ إِلَى أَنَّ مَا لَقِيَهُ مِنْ قَوْمِهِ نَظِيرُ مَا لَقِيَهُ عِيسَى مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
وَقَوْلُهُ: فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ هُوَ مَنَاطُ الْأَذَى.
فَإِنَّ الْمُتَبَادِرَ أَنْ يَعُودَ ضَمِيرُ الرَّفْعِ فِي قَوْلِهِ: جاءَهُمْ إِلَى عِيسَى، وَأَنْ يَعُودَ
(1) لفظ (فارقليط) وَقع فِي تراجم الأناجيل، وخاصة إنجيل يوحنا كَمَا فِي طبعة الْكتاب المقدّس بعناية (واطس) فِي لندن سنة 1848. وَكَذَلِكَ أثبتها مرَارًا البقاعي فِي «نظم الدُّرَر» وَغَيره. وَهُوَ لفظ يوناني أَصله (باركليتوس) أَوله بَاء فارسية مخرجها بَين الْبَاء وَالْفَاء. وتاؤه الْمُثَنَّاة مفخمة وَلذَلِك قَالُوا هِيَ روحية. وَوَقع فِي «شرح الشِّيرَازِيّ» على «حِكْمَة الْإِشْرَاق» للسهروردي أَنَّهَا عبرية. وهم وهم. وَمَعْنَاهَا المدافع وَكَذَلِكَ المسلّي والمعزّي، أَي من الرُّسُل. وَبِهَذَا الْأَخير ترجمت فِي طبعة الرهبان الأمريكان فِي بيروت سنة 1896 طبعة ثامنة. وَقد قيل إِن كلمة (فارقليط) تطلق على جِبْرِيل وَلَعَلَّ هَذَا من تأويلات النَّصَارَى للتفصّي عَن مَجِيء رَسُول بعد عِيسَى.