المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌[سورة الطلاق (65) : الآيات 4 الى 5] - التحرير والتنوير - جـ ٢٨

[ابن عاشور]

فهرس الكتاب

- ‌58- سُورَةُ الْمُجَادَلَةِ

- ‌أغراض هَذِه السُّورَة

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 2]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 3]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 4]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 8]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 9]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 10]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 11]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 12]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 13]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : الْآيَات 14 إِلَى 15]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 17]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 18]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 19]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : الْآيَات 20 إِلَى 21]

- ‌[سُورَة المجادلة (58) : آيَة 22]

- ‌59- سُورَةُ الْحَشْرِ

- ‌أغراض هَذِه السُّورَة

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 2]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 3]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 4]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 8]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 9]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 10]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 11]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 12]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 13]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 14]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 15]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : الْآيَات 16 إِلَى 17]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 18]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 19]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 20]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 21]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 22]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 23]

- ‌[سُورَة الْحَشْر (59) : آيَة 24]

- ‌60- سُورَةُ الْمُمْتَحِنَةِ

- ‌أغراض هَذِه السُّورَة

- ‌[سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 2]

- ‌[سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 3]

- ‌[سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 4]

- ‌[سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 8]

- ‌[سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 9]

- ‌[سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 10]

- ‌[سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 11]

- ‌[سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 12]

- ‌[سُورَة الممتحنة (60) : آيَة 13]

- ‌61- سُورَةُ الصَّفِّ

- ‌أغراضها

- ‌[سُورَة الصَّفّ (61) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة الصَّفّ (61) : الْآيَات 2 إِلَى 3]

- ‌[سُورَة الصَّفّ (61) : آيَة 4]

- ‌[سُورَة الصَّفّ (61) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة الصَّفّ (61) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة الصَّفّ (61) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة الصَّفّ (61) : آيَة 8]

- ‌[سُورَة الصَّفّ (61) : آيَة 9]

- ‌[سُورَة الصَّفّ (61) : الْآيَات 10 إِلَى 12]

- ‌[سُورَة الصَّفّ (61) : آيَة 13]

- ‌[سُورَة الصَّفّ (61) : آيَة 14]

- ‌62- سُورَةُ الْجُمُعَةِ

- ‌أغراضها

- ‌[سُورَة الْجُمُعَة (62) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة الْجُمُعَة (62) : آيَة 2]

- ‌[سُورَة الْجُمُعَة (62) : آيَة 3]

- ‌[سُورَة الْجُمُعَة (62) : آيَة 4]

- ‌[سُورَة الْجُمُعَة (62) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة الْجُمُعَة (62) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة الْجُمُعَة (62) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة الْجُمُعَة (62) : آيَة 8]

- ‌[سُورَة الْجُمُعَة (62) : الْآيَات 9 إِلَى 10]

- ‌[سُورَة الْجُمُعَة (62) : آيَة 11]

- ‌63- سُورَةُ الْمُنَافِقُونَ

- ‌أغراضها

- ‌[سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 2]

- ‌[سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 3]

- ‌[سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 4]

- ‌[سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 8]

- ‌[سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 9]

- ‌[سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 10]

- ‌[سُورَة المُنَافِقُونَ (63) : آيَة 11]

- ‌64- سُورَةُ التَّغَابُنِ

- ‌أَغْرَاضُهَا

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 2]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 3]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 4]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 8]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 9]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 10]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 11]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 12]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 13]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 14]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 15]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : آيَة 16]

- ‌[سُورَة التغابن (64) : الْآيَات 17 الى 18]

- ‌65- سُورَةُ الطَّلَاقِ

- ‌أغراضها

- ‌[سُورَة الطَّلَاق (65) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة الطَّلَاق (65) : الْآيَات 2 الى 3]

- ‌[سُورَة الطَّلَاق (65) : الْآيَات 4 الى 5]

- ‌[سُورَة الطَّلَاق (65) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة الطَّلَاق (65) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة الطَّلَاق (65) : الْآيَات 8 الى 11]

- ‌[سُورَة الطَّلَاق (65) : آيَة 12]

- ‌66- سُورَةُ التَّحْرِيمِ

- ‌أَغْرَاضُ هَذِهِ السُّورَةِ

- ‌[سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 1]

- ‌[سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 2]

- ‌[سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 3]

- ‌[سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 4]

- ‌[سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 5]

- ‌[سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 6]

- ‌[سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 7]

- ‌[سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 8]

- ‌[سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 9]

- ‌[سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 10]

- ‌[سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 11]

- ‌[سُورَة التَّحْرِيم (66) : آيَة 12]

الفصل: ‌[سورة الطلاق (65) : الآيات 4 الى 5]

مِنْهُ أَنْ يَكُونَ كَذَا أَوْ لَا يَكُونَ، كَذَا إِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْوُجُوبِ وَإِمَّا عَلَى سَبِيلِ الْإِمْكَانِ. وَعَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً. وَالثَّانِي بِإِعْطَاءِ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، وَعَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ [المرسلات:

23] أَوْ يَكُونَ مِنْ قَبِيلِ قَوْلِهِ: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً اه.

وَالْقَدْرُ: مُصْدَرُ قَدَرَهُ الْمُتَعَدِّي إِلَى مَفْعُولٍ- بِتَخْفِيفِ الدَّالِ- الَّذِي مَعْنَاهُ وَضَعَ فِيهِ بِمِقْدَارٍ كِمِّيَّةً ذَاتِيَّةً أَوْ مَعْنَوِيَّةً تُجْعَلُ عَلَى حَسَبِ مَا يَتَحَمَّلُهُ الْمَفْعُولُ. فَقَدْرُ كُلِّ مَفْعُولٍ لِفِعْلٍ قَدْرُ مَا تَتَحَمَّلُهُ طَاقَتُهُ وَاسْتِطَاعَتُهُ مِنْ أَعْمَالٍ، أَوْ تَتَحَمَّلُهُ مِسَاحَتُهُ مِنْ أَشْيَاءَ أَوْ يَتَحَمَّلُهُ وَعْيُهُ لِمَا يَكِدُّ بِهِ ذِهْنُهُ مِنْ مَدَارِكَ وَأَفْهَامٍ. وَمِنْ فُرُوعِ هَذَا الْمَعْنَى مَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [286] . وَقَوْلِهِ هُنَا: لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا مَا آتاها [الطَّلَاق: 7] .

وَمِنْ جُزْئِيَّاتِ مَعْنَى الْقَدْرِ مَا يُسَمَّى التَّقْدِيرُ: مَصْدَرُ قَدَّرَ الْمُضَاعَفِ إِذَا جَعَلَ شَيْئًا أَوْ

أَشْيَاءَ عَلَى مِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ مُنَاسِبٍ لِمَا جُعِلَ لِأَجْلِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ فِي سُورَةِ سَبَأٍ [11] .

[4، 5]

[سُورَة الطَّلَاق (65) : الْآيَات 4 الى 5]

وَاللَاّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَاّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5)

وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ.

عَطْفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطَّلَاق: 1] فَإِنَّ الْعِدَّةَ هُنَالِكَ أُرِيدَ بِهَا الْأَقْرَاءُ فَأَشْعَرَ ذَلِكَ أَنَّ تِلْكَ الْمُعْتَدَّةَ مِمَّنْ لَهَا أَقْرَاءٌ، فَبَقِيَ بَيَانُ اعْتِدَادِ الْمَرْأَةِ الَّتِي تَجَاوَزَتْ سِنَّ الْمَحِيضِ أَوِ الَّتِي لَمْ تَبْلُغْ سِنَّ مَنْ تَحِيضُ وَهِيَ الصَّغِيرَةُ. وَكِلْتَاهُمَا يَصْدُقُ عَلَيْهَا أَنَّهَا آيِسَةٌ مِنَ الْمَحِيضِ، أَيْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ.

وَالْوُقُفُ عَلَى قَوْلِهِ: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ، أَيْ هُنَّ مَعْطُوفَاتٌ عَلَى الْآيِسِينَ.

وَالْيَأْسُ: عَدَمُ الْأَمَلِ. وَالْمَأْيُوسُ مِنْهُ فِي الْآيَةِ يُعْلَمُ مِنَ السِّيَاقِ مِنْ قَوْلِهِ: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ [الطَّلَاق: 1] ، أَيْ يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ سَوَاءً كَانَ الْيَأْسُ مِنْهُ بَعْدَ تَعَدُّدِهِ أَوْ كَانَ بِعَدَمِ ظُهُورِهِ، أَيْ لَمْ يَكُنِ انْقِطَاعَهُ لِمَرَضٍ أَوْ إِرْضَاعٍ. وَهَذَا السِّنُّ يَخْتَلِفُ تَحْدِيدُهُ بِاخْتِلَافِ الذَّوَاتِ وَالْأَقْطَارِ كَمَا يَخْتَلِفُ سِنُّ ابْتِدَاءِ الْحَيْضِ كَذَلِكَ. وَقَدْ

ص: 315

اخْتُلِفَ فِي تَحْدِيدِ هَذَا السِّنِّ بِعَدَدِ السِّنِينَ فَقِيلَ: سِتُّونَ سَنَةً، وَقِيلَ: خَمْسٌ وَخَمْسُونَ، وَتَرْكُ الضَّبْطِ بِالسِّنِينَ أَوْلَى وَإِنَّمَا هَذَا تَقْرِيبٌ لِإِبَانِ الْيَأْسِ.

وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ بَيِّنٌ وَهِيَ مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ [228] . وَقَدْ نَزَلَتْ سُورَةُ الطَّلَاقِ بَعْدَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

وَقَدْ خُفِيَ مَفَادُ الشَّرْطِ مِنْ قَوْلِهِ: إِنِ ارْتَبْتُمْ وَمَا هُوَ مُتَّصِلٌ بِهِ. وَجُمْهُورُ أَهْلِ التَّفْسِيرِ جَعَلُوا هَذَا الشَّرْطَ مُتَّصِلًا بِالْكَلَامِ الَّذِي وَقَعَ هُوَ فِي أَثْنَائِهِ، وَإِنَّهُ لَيْسَ مُتَّصِلًا بِقَوْلِهِ:

لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ [الطَّلَاق: 1] فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ خِلَافًا لِشُذُوذِ تَأْوِيلٍ بَعِيدٍ وَتَشْتِيتٍ لِشَمْلِ الْكَلَامِ، ثُمَّ خُفِيَ الْمُرَادُ مِنْ هَذَا الشَّرْطِ بِقَوْلِهِ: إِنِ ارْتَبْتُمْ.

وَلِلْعُلَمَاءِ فِيهِ طَرِيقَتَانِ:

الطَّرِيقَةُ الْأُولَى: مَشَى أَصْحَابُهَا إِلَى أَنَّ مَرْجِعَ الْيَأْسِ غَيْرُ مَرْجِعِ الِارْتِيَابِ بِاخْتِلَافِ

الْمُتَعَلِّقِ، فَرَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا بَيَّنَ عِدَّةَ ذَوَاتِ الْقُرُوءِ وَذَوَاتِ الْحَمْلِ، أَيْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَبَقِيَتِ الْيَائِسَةُ وَالَّتِي لَمْ تَحِضِ ارْتَابَ أَصْحَاب مُحَمَّد صلى الله عليه وسلم فِي أَمْرِهِمَا فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَمِثْلُهُ مَرْوِيٌّ عَنْ مُجَاهِدٍ،

وَرَوَى الطَّبَرِيُّ خَبَرًا عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَنِ اعْتِدَادِ هَاتَيْنِ اللَّتَيْنِ لَمْ تُذْكَرَا فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ

. فَجَعَلُوا حَرْفَ إِنِ بِمَعْنَى (إِذْ) وَأَنَّ الِارْتِيَابَ وَقَعَ فِي حُكْمِ الْعِدَّةِ قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، أَيْ إِذِ ارْتَبْتُمْ فِي حُكْمِ ذَلِكَ فَبَيَّنَّاهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ: حَدِيثُ أُبَيٍّ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَأَنَا أَقُولُ: رَوَاهُ الْبَيْهَقِيُّ فِي «سُنَنِهِ» وَالْحَاكِمُ فِي «الْمُسْتَدْرَكِ» وَصَحَّحَهُ. وَالطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدِهِ عَنْ عَمْرِو بْنِ سَالِمٍ أَنَّ أُبَيًّا قَالَ: وَلَيْسَ فِي رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ مَا يَدُلُّ عَلَى إِسْنَادِ الْحَدِيثِ.

وَهُوَ فِي رِوَايَةِ الْبَيْهَقِيِّ بِسَنَدِهِ إِلَى أَبِي عُثْمَانَ عُمَرَ بْنِ سَالِمٍ الْأَنْصَارِيِّ (1) عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ وَهُوَ مُنْقَطِعٌ، لِأَنَّ أَبَا عُثْمَانَ لَمْ يَلْقَ أُبَيَّ بْنَ كَعْبٍ وَأَحْسَبُ أَنَّهُ فِي

(1) هُوَ قَاضِي مرو، وروى عَن الْقَاسِم بن مُحَمَّد.

ص: 316

«مُسْتَدْرَكِ الْحَاكِمِ» كَذَلِكَ لِأَنَّ الْبَيْهَقِيَّ رَوَاهُ عَنِ الْحَاكِمِ فَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ ابْنِ الْعَرَبِيِّ: هُوَ غَيْرُ صَحِيحٍ. فَإِنَّ رِجَالَ سَنَدِهِ ثِقَاتٌ.

وَفِي «أَسْبَابِ النُّزُولِ» لِلْوَاحِدِيِّ عَنْ قَتَادَةَ أَنَّ خَلَّادَ (1) بْنَ النُّعْمَانِ وَأُبَيًّا سَأَلَا رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَنْ ذَلِكَ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ

. وَقِيلَ: إِنَّ السَّائِلَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ سَأَلَ عَنْ عِدَّةِ الْآيِسَةِ.

فَالرِّيبَةُ عَلَى هَذِهِ الطَّرِيقَةِ تَكُونُ مُرَادًا بِهَا مَا حَصَلَ مِنَ التَّرَدُّدِ فِي حُكْمِ هَؤُلَاءِ الْمُطَلَّقَاتِ فَتَكُونُ جُمْلَةُ الشَّرْطِ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَهُوَ الْمَوْصُولُ وَبَيْنَ خَبَرِهِ وَهُوَ جُمْلَةُ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ.

وَالْفَاءُ فِي فَعِدَّتُهُنَّ دَاخِلَةٌ عَلَى جُمْلَةِ الْخَبَرِ لِمَا فِي الْمَوْصُولِ مِنْ مَعْنَى الشَّرْطِ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى: وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما [النِّسَاء: 16] وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْكَلَامِ.

وَالِارْتِيَابُ عَلَى هَذَا قَدْ وَقَعَ فِيمَا مَضَى فَتَكُونُ إِنِ مُسْتَعْمَلَةً فِي مَعْنَى الْيَقِينِ بِلَا نُكْتَةٍ.

وَالطَّرِيقَةُ الثَّانِيَةُ: مَشَى أَصْحَابُهَا إِلَى أَنَّ مَرْجِعَ الْيَأْسِ وَمَرْجِعَ الِارْتِيَابِ وَاحِدٌ، وَهُوَ حَالَةُ الْمُطَلَّقَةِ مِنَ الْمَحِيضِ، وَهُوَ عَنْ عِكْرِمَةَ وَقَتَادَةَ وَابْنِ زَيْدٍ وَبِهِ فَسَّرَ يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ

وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ هَادٍ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ وَنَسَبَهُ ابْنُ لُبَابَةَ مِنَ الْمَالِكِيَّةِ إِلَى دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ.

وَهَذَا التَّفْسِيرُ يَمْحَضُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنَ الِارْتِيَابِ حُصُولَ الرَّيْبِ فِي حَالِ الْمَرْأَةِ.

وَعَلَى هَذَا فَجُمْلَةُ الشَّرْطِ وَجَوَابِهِ خَبَرٌ عَنْ اللَّائِي يَئِسْنَ، أَيْ إِنِ ارْتَبْنَ هُنَّ وَارْتَبْتُمْ أَنْتُمْ لِأَجْلِ ارْتِيَابِهِنَّ، فَيَكُونُ ضَمِيرُ جَمْعِ الذُّكُورِ الْمُخَاطَبِينَ تَغْلِيبًا وَيَبْقَى الشَّرْطُ عَلَى شَرْطِيَّتِهِ. وَالِارْتِيَابُ مُسْتَقْبَلٌ وَالْفَاءُ رَابِطَةٌ لِلْجَوَابِ.

(1) خَلاد بخاء مُعْجمَة فِي أَوله ابْن النُّعْمَان الْأنْصَارِيّ. قَالَ فِي «الْإِصَابَة» : لم يذكر إلّا فِي تَفْسِير مقَاتل.

ص: 317

وَهَذَا التَّفْسِيرُ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الِاعْتِدَادُ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مَشْرُوطًا بِأَنْ تَحْصُلَ الرِّيبَةُ فِي يَأْسِهَا مِنَ الْمَحِيضِ فَاصْطَدَمَ أَصْحَابُهُ بِمَفْهُومِ الشَّرْطِ الَّذِي يَقْتَضِي أَنَّهُ إِنْ لَمْ تَحْصُلِ الرِّيبَةُ فِي يَأْسِهِنَّ أَنَّهُنَّ لَا يَعْتَدِدْنَ بِذَلِكَ أَوْ لَا يَعْتَدِدْنَ أَصْلًا فَنَسَبَ ابْنُ لُبَابَةَ (مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ) إِلَى دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى سُقُوطِ الْعِدَّةِ عَنِ الْمَرْأَةِ الَّتِي يُوقِنُ أَنَّهَا يَائِسَةٌ.

قُلْتُ وَلَا تُعْرَفُ نِسْبَةُ هَذَا إِلَى دَاوُدَ. فَإِنَّ ابْنَ حَزْمٍ لَمْ يَحْكِهِ عَنْهُ وَلَا حَكَاهُ أَحَدٌ مِمَّنْ تَعَرَّضُوا لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ، قَالَ ابْنُ لُبَابَةَ: وَهُوَ شُذُوذٌ، وَقَالَ ابْنُ لُبَابَةَ: وَأَمَّا ابْنُ بُكَيْرٍ وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ حَمَّادٍ، أَيْ مِنْ فُقَهَاءِ الْمَالِكِيَّةِ فَجَعَلَا الْمَرْأَةَ الْمُتَيَقَّنَ يَأْسُهَا مُلْحَقَةً بِالْمُرْتَابَةِ فِي الْعِدَّةِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ يُرِيدُ أَنَّ الْعِدَّةَ لَهَا حِكْمَتَانِ بَرَاءَةُ الرَّحِمِ، وَانْتِظَارُ الْمُرَاجَعَةِ، وَأَمَّا الَّذِينَ لَا يَعْتَبِرُونَ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ فَهُمْ فِي سِعَةٍ مِمَّا لَزِمَ الَّذِينَ يَعْتَبِرُونَهُ.

وَأَصْحَابُ هَذَا الطَّرِيقِ مُخْتَلِفُونَ فِي الْوِجْهَةِ وَفِي مَحْمِلِ الْآيَةِ بِحَسَبِهَا: فَقَالَ عِكْرِمَةُ وَابْنُ زَيْدٍ وَقَتَادَةُ: لَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ الْمُرْتَابِ فِي مُعَاوَدَةِ الْحَيْضِ إِلَيْهَا عِدَّةٌ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ تعلقا بِظَاهِر الْآيَة (وَلَعَلَّ عِلَّةَ ذَلِكَ عِنْدَهُمْ أَنَّ ثَلَاثَةَ الْأَشْهُرِ يَتَبَيَّنُ فِيهَا أَمْرُ الْحَمْلِ فَإِنَّ لَمْ يَظْهَرْ حَمْلٌ بَعْدَ انْقِضَائِهَا تَمَّتْ عِدَّةُ الْمَرْأَةِ) ، لِأَنَّ الْحَمْلَ بَعْدَ سِنِّ الْيَأْسِ نَادِرٌ فَإِذَا اعْتَرَتْهَا رِيبَةُ الْحَمْلِ انْتَقَلَ النَّظَرُ إِلَى حُكْمِ الشَّكِّ فِي الْحَمْلِ وَتِلْكَ مَسْأَلَةٌ غَيْرُ الَّتِي نَزَلَتْ فِي شَأْنِهَا الْآيَةُ.

وَقَالَ الْأَكْثَرُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْمُرْتَابَ فِي يَأْسِهَا تَمْكُثُ تِسْعَةَ أَشْهُرٍ (أَيْ أَمَدَ الْحَمْلِ الْمُعْتَادِ) فَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ بِهَا حَمْلٌ ابْتَدَأَتِ الِاعْتِدَادَ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ فَتَكْمُلُ لَهَا سَنَةٌ كَامِلَةٌ.

وَأَصِلُ ذَلِكَ مَا رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ مِنْ قَضَاءِ عُمَرَ بْنِ الْخطاب وَلم يُخَالِفهُ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَخَذَ بِهِ مَالِكٌ. وَعَنْ مَالِكٍ فِي «الْمُدَوَّنَةِ» : تِسْعَةُ أَشْهُرٍ لِلرِّيبَةِ وَالثَّلَاثَةُ الْأَشْهُرِ هِيَ الْعِدَّةُ. وَلَعَلَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ الْعِدَّةَ بَعْدَ مُضِيِّ التِّسْعَةِ الْأَشْهُرِ تَعَبُّدٌ لِأَنَّ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي فِي الْقُرْآنِ وَأَمَّا التِّسْعَةُ الْأَشْهُرِ فَأَوْجَبَهَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ لَعَلَّهُ بِالِاجْتِهَادِ، وَهُوَ تَقْيِيدٌ لِلْإِطْلَاقِ

الَّذِي فِي الْآيَةِ.

وَقَالَ النَّخَعِيُّ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالشَّافِعِيُّ: تَعْتَدُّ الْمُرْتَابُ فِي يَأْسِهَا بِالْأَقْرَاءِ (أَيْ تَنْتَظِرُ الدَّمَ إِلَى أَنْ تَبْلُغَ سِنَّ مَنْ لَا يُشْبِهُ أَنْ تَحِيضَ وَلَوْ زَادَتْ مُدَّةُ

ص: 318

انْتِظَارِهَا عَلَى تِسْعَةِ أَشْهُرٍ) . فَإِذَا بَلَغَتْ سِنَّ الْيَأْسِ دُونَ رِيبَةٍ اعْتَدَّتْ بِثَلَاثَةِ أَشْهُرٍ مِنْ يَوْمِئِذٍ. وَنَحْنُ نَتَأَوَّلُ لَهُ بِأَنَّ تَقْدِيرَ الْكَلَامِ: فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ، أَيْ بَعْدَ زَوَالِ الِارْتِيَابِ كَمَا سَنَذْكُرُهُ، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ الْأَشْهُرِ بَعْدَ مُضِيِّ تِسْعَةِ أَشْهُرٍ أَوْ بَعْدَ مُضِيِّ مُدَّةٍ تَبْلُغُ بِهَا سِنَّ مَنْ لَا يُشْبِهُ أَنْ تَحِيضَ تَعَبُّدٌ، لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْحَمْلِ قَدِ اتَّضَحَ وَانْتِظَارَ الْمُرَاجَعَةِ قَدِ امْتَدَّ. إِلَّا أَنْ نَعْتَذِرَ لَهُمْ بِأَنَّ مُدَّةَ الِانْتِظَارِ لَا يَتَحَفَّزُ فِي خِلَالِهَا الْمُطَلِّقُ لِلرَّأْيِ فِي أَمْرِ الْمُرَاجَعَةِ لِأَنَّهُ فِي سِعَةِ الِانْتِظَارِ فَيُزَادُ فِي الْمُدَّةِ لِأَجْلِ ذَلِكَ، وَفِي «تَفْسِيرِ الْقُرْطُبِيِّ» :«قَالَ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ: مِنَ الرِّيبَةِ الْمَرْأَةُ الْمُسْتَحَاضَةُ الَّتِي لَا يَسْتَقِيمُ لَهَا الْحيض تحيض فِي أَوَّلِ الشَّهْرِ مِرَارًا، وَفِي الْأَشْهُرِ مَرَّةً (أَيْ بِدُونَ انْضِبَاطٍ) » اه. وَنَقْلَ الطَّبَرِيُّ مِثْلَ هَذَا الْكَلَامِ عَنِ الزُّهْرِيِّ وَابْنِ زَيْدٍ، فَيَجِبُ أَنْ يُصَارَ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَالْمَرْأَةُ إِذَا قَارَبَتْ وَقْتَ الْيَأْسِ لَا يَنْقَطِع عَنْهَا الْمَحِيض دُفْعَةً وَاحِدَةً بَلْ تَبْقَى عِدَّةَ أَشْهُرٍ يَنْتَابُهَا الْحَيْضُ غِبًّا بِدُونِ انْتِظَامٍ ثُمَّ يَنْقَطِعُ تَمَامًا.

وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ عَطْفٌ عَلَى وَاللَّائِي يَئِسْنَ وَالتَّقْدِيرُ: عِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ. وَيَحْسُنُ الْوُقُفُ عَلَى قَوْلِهِ: فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ.

وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ.

مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ فَهِيَ إِتْمَامٌ لِأَحْوَالِ الْعِدَّةِ الْمُجْمَلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ [الطَّلَاق: 1] وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ: وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ مِنْهُنَّ، أَيْ مِنَ الْمُطَلَّقَاتِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ.

فَحَصَلَ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَعَ الَّتِي قَبْلَهَا تَفْصِيلٌ لِأَحْوَالِ الْمُطَلَّقَاتِ وَحَصَلَ أَيْضًا مِنْهَا بَيَانٌ لِإِجْمَالِ الْآيَةِ الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ.

وَأُولاتُ اسْمُ جَمْعٍ لِذَاتٍ بِمَعْنَى: صَاحِبَةٍ. وَذَاتُ: مُؤَنَّثُ ذُو، بِمَعْنَى:

صَاحِبٍ. وَلَا مُفْرَدَ لِ أُولاتُ مِنْ لَفْظِهِ كَمَا لَا مُفْرَدَ لِلَفْظِ (أولو) وأُولاتُ مِثْلُ ذَوَاتٍ كَمَا أَنَّ أُولُو مِثْلُ ذَوُو. وَيُكْتَبُ أُولاتُ بِوَاوٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ فِي الرَّسْمِ تَبَعًا لِكِتَابَةِ لَفْظِ (أُولُو) بِوَاوٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ لِقَصْدِ التَّفْرِقَةِ فِي الرَّسْمِ بَيْنَ أُولِي فِي حَالَةِ

ص: 319

النَّصْبِ وَالْجَرِّ وَبَيْنَ حَرْفِ (إِلَى) . وَلَيْتَهُمْ قَصَرُوا كِتَابَتَهُ بِوَاوٍ بَعْدَ الْهَمْزَةِ عَلَى لَفْظِ أُولِي الْمُذَكَّرِ الْمَنْصُوبِ أَوِ

الْمَجْرُورِ وَتَرَكُوا التَّكَلُّفَ فِي غَيْرِهِمَا.

وَجُعِلَتْ عِدَّةُ الْمُطَلَّقَةِ الْحَامِلِ مَنْهَاةً بِوَضْعِ الْحَمْلِ لِأَنَّهُ لَا أَدَلَّ عَلَى بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْهُ، إِذِ الْغَرَضُ الْأَوَّلُ مِنَ الْعِدَّةِ تَحَقُّقُ بَرَاءَةِ الرَّحِمِ مِنْ وَلَدٍ لِلْمُطَلَّقِ أَوْ ظُهُورِ اشْتِغَالِ الرَّحِمِ بِجَنَيْنٍ لَهُ. وَضُمَّ إِلَى ذَلِكَ غَرَضٌ آخَرُ هُوَ تَرَقُّبُ نَدَمِ الْمُطَلِّقِ وَتَمْكِينُهُ مِنْ تَدَارُكِ أَمْرِهِ بِالْمُرَاجَعَةِ، فَلَمَّا حَصَلَ الْأَهَمُّ أُلْغِيَ مَا عَدَاهُ رَعْيًا لِحَقِّ الْمَرْأَةِ فِي الِانْطِلَاقِ مِنْ حَرَجِ الِانْتِظَارِ، على أَن وضع الْحَمْلَ قَدْ يَحْصُلُ بِالْقُرْبِ مِنَ الطَّلَاقِ فَأُلْغِيَ قَصْدُ الِانْتِظَارِ تَعْلِيلًا بِالْغَالِبِ دُونَ النَّادِرِ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا: عَلَيْهَا أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالب وَابْن عَبَّاس.

وَبِهَذَا التَّفْسِيرِ لَا تَتَعَارَضُ هَذِهِ الْآيَةُ مَعَ آيَةِ عِدَّةِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الَّتِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [234] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً لِأَنَّ تِلْكَ فِي وَادٍ وَهَذِهِ فِي وَادٍ، تِلْكَ فِي شَأْنُ الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ وَهَذِهِ فِي شَأْنِ الْمُطَلَّقَاتِ.

وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ أَجَلُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ لِلْمُتَوَفَّى عَنْهَا مُنْحَصِرَةً حِكْمَتُهُ فِي تَحَقُّقِ بَرَاءَةِ رَحِمِ امْرَأَةِ الْمُتَوَفَّى مِنْ وَلَدٍ لَهُ إِذْ لَهُ فَائِدَةَ فِيهِ غَيْرَ ذَلِكَ (وَلَا يُتَوَهَّمُ أَنَّ الشَّرِيعَةَ جَعَلَتْ ذَلِكَ لِغَرَضِ الْحُزْنِ عَلَى الزَّوْجِ الْمُتَوَفَّى لِلْقَطْعِ بِأَنَّ هَذَا مَقْصِدٌ جَاهِلِيٌّ)، وَقَدْ دَلَّتِ الشَّرِيعَةُ فِي مَوَاضِعَ عَلَى إِبْطَالِهِ وَالنَّهْيِ عَنْهُ فِي تَصَارِيفَ كَثِيرَةٍ كَمَا بَيَّنَاهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ إِلَخْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [234] .

وَقَدْ عَلِمْنَا أَنَّ وَضْعَ الْحَمْلِ غَايَةٌ لِحُصُولِ هَذَا الْمَقْصِدِ نَجَمَ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الْحَامِلَ إِذَا وَضَعَتْ حَمْلَهَا تَخْرُجُ مِنْ عِدَّةِ وَفَاةِ زَوْجِهَا وَلَا تُقَضِّي أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا كَمَا أَنَّهَا لَوْ كَانَ أَمَدُ حَمْلِهَا أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَعَشْرٍ لَا تَقْتَصِرُ عَلَى الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَعَشْرٍ إِذْ لَا حِكْمَةَ فِي ذَلِكَ.

مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى أَنَّ عِدَّةَ الْحَامِلِ وَضْعُ حَمْلِهَا سَوَاءً كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ أَمْ كَانَتْ مُعْتَدَّة من وَفَاةٍ.

ص: 320

وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ قَالَ جُمْهُورُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ: إِنَّ عِدَّةَ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا كَعِدَّتِهَا مِنَ الطَّلَاقِ وَضْعُ حَمْلِهَا غَيْرَ أَنَّ أَقْوَالَهُمْ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَيْنَهُمْ مَنْ كَانُوا يَرَوْنَ فِي تَعَارُضِ الْعُمُومَيْنِ أَنَّ الْعَامَّ الْمُتَأَخِّرَ مِنْهُمَا يَنْسَخُ الْعَامَّ الْآخَرَ وَهِيَ طَرِيقَةُ الْمُتَقَدِّمِينَ.

رَوَى أَهْلُ الصَّحِيحِ «أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ لَمَّا بَلَغَهُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ فِي عِدَّةِ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا: إِنَّ عَلَيْهَا أَقْصَى الْأَجَلَيْنِ- أَيْ أَجَلِ وَضْعِ الْحَمْلِ وَأَجَلِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ- قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: لَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى- أَيْ سُورَةُ الطَّلَاقِ- بَعْدَ الطُّولَى- أَيْ بَعْدَ طُولَى السُّوَرِ وَهِيَ الْبَقَرَةُ-، أَيْ لَيْسَتْ آيَةُ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِنَاسِخَةٍ لِمَا فِي آيَةِ سُورَةِ الطَّلَاقِ

. وَيُعَضِّدُهُمْ

خَبَرُ سُبَيْعَةَ بَنْتِ الْحَارِثِ الْأَسْلَمِيَّةِ تُوُفِّيَ زَوْجُهَا سَعْدُ بْنُ خَوْلَةَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ بِمَكَّةَ وَتَرَكَهَا حَامِلًا فَوَضَعَتْ بَعْدَ وَفَاتِهِ بِخَمْسَ عَشْرَةَ لَيْلَةً وَقِيلَ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً.

فَاسْتَأْذَنَتْ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي التَّزَوُّجِ فَقَالَ لَهَا: «قَدْ حَلَلْتِ فَانْكِحِي إِنْ شِئْتِ» . رَوَتْهُ أُمُّ سَلَمَةَ أُمُّ الْمُؤْمِنِينَ

وَقَبِلَهُ مُعْظَمُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ بَلَغَهُمْ. وَتَلَقَّاهُ الْفُقَهَاءُ بَعْدَهُمْ بِالْقَبُولِ وَيُشْهَدُ لَهُ بِالْمَعْنَى وَالْحِكْمَةِ كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا.

وَاخْتَلَفَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ فِي وَجْهِ الْعَمَلِ فِي تَعَارُضِ عُمُومَيْنِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَامٌّ مِنْ وَجْهٍ مِثْلَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فَالْجُمْهُورُ دَرَجُوا عَلَى تَرْجِيحِ أَحَدِهِمَا بِمُرَجِّحٍ وَالْحَنَفِيَّةُ جَعَلُوا الْمُتَأَخر من العمومين نَاسِخًا لِلْمُتُقَدِّمِ. فَقَوْلُهُ: وَأُولاتُ الْأَحْمالِ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ فَيَعُمُّ كُلَّ حَامِلٍ مُعْتَدَّةٍ سَوَاءً كَانَتْ فِي عدَّة طَلَاق أَوْ فِي عِدَّةِ وَفَاةٍ، وَقَوْلُهُ: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [الْبَقَرَة: 234] تَعُمُّ كُلَّ امْرَأَةٍ تَرَكَهَا الْمَيِّتُ سَوَاءً كَانَتْ حَامِلًا أَوْ غَيْرَ حَامِلٍ، لِأَنَّ أَزْواجاً نَكِرَةٌ وَقَعَتْ مَفْعُولَ الصِّلَةِ وَهِيَ يَذَرُونَ الْمُشْتَمِلَةُ عَلَى ضَمِيرِ الْمَوْصُولِ الَّذِي هُوَ عَامٌّ فَمَفْعُولُهُ تَبَعٌ لَهُ فِي عُمُومِهِ فَيَشْمَلُ الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ الْحَوَامِلَ وَهُنَّ مِمَّنْ شَمَلَهُنَّ عُمُومُ أُولاتُ الْأَحْمالِ فَتَعَارُضُ الْعُمُومَانِ كُلٌّ مِنْ وَجْهٍ، فَآيَةُ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ اقْتَضَتْ أَنَّ الْحَوَامِلَ كُلَّهُنَّ تَنْتَهِي عِدَّتُهُنَّ بِالْوَضْعِ وَقَدْ يَكُونُ الْوَضْعُ قَبْلَ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ، وَآيَةُ الْبَقَرَةِ يَقْتَضِي عُمُومُهَا أَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ يَتَرَبَّصْنَ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا. وَقَدْ يَتَأَخَّرُ هَذَا الْأَجَلُ عَنْ وَضْعِ الْحَمْلِ.

ص: 321

فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى تَرْجِيحِ عُمُومِ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ عَلَى عُمُومِ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً [الْبَقَرَة: 234] مِنْ وُجُوهٍ.

أَحَدُهَا: أَنَّ عُمُومَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ حَاصِلٌ بِذَاتِ اللَّفْظِ لِأَنَّ الْمَوْصُولَ مَعَ صِلَتِهِ مِنْ صِيَغِ الْعُمُومِ، وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَيَذَرُونَ أَزْواجاً فَإِنَّ أَزْواجاً نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ الْإِثْبَاتِ فَلَا عُمُومَ لَهَا فِي لَفْظِهَا وَإِنَّمَا عَرَضَ لَهَا الْعُمُومُ تَبَعًا لِعُمُومِ الْمَوْصُولِ الْعَامِلِ فِيهَا وَمَا كَانَ عُمُومُهُ بِالذَّاتِ أَرْجَحَ مِمَّا كَانَ عُمُومُهُ بِالْعَرْضِ.

وَثَانِيهَا: أَنَّ الْحُكْمَ فِي عُمُومِ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ عُلِّقَ بِمَدْلُولِ صِلَةِ الْمَوْصُولِ وَهِيَ مُشْتَقٌّ، وَتَعْلِيقُ الْحُكْمِ بِالْمُشْتَقِّ يُؤْذِنُ بِتَعْلِيلِ مَا اشْتُقَّ مِنْهُ بِخِلَافِ الْعُمُومِ الَّذِي فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ، فَمَا كَانَ عُمُومُهُ مُعَلَّلًا بِالْوَصْفِ أَرْجَحُ فِي الْعَمَلِ مِمَّا عُمُومُهُ غَيْرُ مُعَلَّلٍ.

وَثَالِثُهَا: قَضَاءُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم فِي عِدَّةِ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ.

وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّ عُمُومَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ نَاسِخٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ: وَيَذَرُونَ أَزْواجاً [الْبَقَرَة: 234] فِي مِقْدَارِ مَا تَعَارَضَا فِيهِ.

وَمَآلُ الرَّأْيَيْنِ وَاحِدٌ هُوَ أَنَّ عِدَّةَ الْحَامِلِ وَضْعُ حَمْلِهَا سَوَاءً كَانَتْ مُعْتَدَّةً مِنْ طَلَاقٍ أَمْ مِنْ وَفَاةِ زَوْجِهَا.

وَالصَّحِيحُ أَنَّ آيَةَ الْبَقَرَةِ لَمْ يَرْتَفِعْ حُكْمُهَا وَشَذَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا إِنَّ لَمْ تَكُنْ حَامِلًا وَوَضَعَتْ حَمْلَهَا يَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةَ أَرْبَعَة أشهر وَعشر.

وَقَالَ قَلِيلٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْآيَتَيْنِ بِمَا يُحَقِّقُ الْعَمَلَ بِهِمَا مَعًا فَأَوْجَبُوا عَلَى الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا الِاعْتِدَادَ بِالْأَقْصَى مِنَ الْأَجَلَيْنِ أَجَلِ الْأَرْبَعَةِ الْأَشْهُرِ وَالْعَشْرِ.

وَأَجَلِ وَضْعِ الْحَمْلِ، وَهُوَ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ. وَقَصْدُهُمْ مِنْ ذَلِكَ الِاحْتِيَاطُ لِأَنَّهُ قَدْ تَأَتَّى لَهُمْ هُنَا إِذْ كَانَ التَّعَارُضُ فِي مِقْدَارِ زَمَنَيْنِ فَأُمْكِنَ الْعَمَلُ بِأَوْسَعِهِمَا الَّذِي يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْآخَرُ وَزِيَادَةٌ فَيَصِيرُ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ مَا لَمْ تَكُنْ عِدَّةِ وَفَاةٍ وَيَكُونُ مَعْنَى آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَأَزْوَاجُ الْمُتَوَفَّيْنَ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا مَا لَمْ تَكُنَّ حَوَامِلَ فَيَزِدْنَ تَرَبُّصًا إِلَى وَضْعِ الْحَمْلِ. وَلَا يَجُوزُ تَخْصِيصُ عُمُومِ

ص: 322

وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً [الْبَقَرَة: 234] بِمَا فِي آيَةِ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ مِنْ خُصُوصٍ بِالنَّظَرِ إِلَى الْحَوَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهُنَّ، إِذْ لَا يَجُوزُ أَنْ تَنْتَهِيَ عِدَّةُ الْحَامِلِ الْمُتَوَفَّى عَنْهَا الَّتِي مَضَتْ عَلَيْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ وَعَشْرٌ قَبْلَ وَضْعِ حَمْلِهَا مِنْ عِدَّةِ زَوْجِهَا، وَهِيَ فِي حَالَةِ حَمْلٍ لِأَنَّ ذَلِكَ مُقَرَّرٌ بُطْلَانُهُ مِنْ عِدَّةِ أَدِلَّةٍ فِي الشَّرِيعَةِ لَا خِلَافَ فِيهَا وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى.

وَفِي «صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ» «عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ قَالَ: كُنْتُ فِي حَلْقَةٍ فِيهَا عُظْمٌ مِنَ الْأَنْصَارِ (أَيْ بِالْكُوفَةِ) وَفِيهِمْ عبد الرحمان بْنُ أَبِي لَيْلَى وَكَانَ أَصْحَابه يعظمونه فَذَكَرَ آخِرَ الْأَجَلَيْنِ، فَحَدَّثَتُ حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُتْبَةَ فِي شَأْنِ سُبَيْعَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ فَقَالَ عبد الرحمان.

لَكِنَّ عَمَّهُ (أَيْ عَمَّ عُتْبَةَ وَهُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ) كَانَ لَا يَقُولُ ذَلِكَ (أَيْ لَمْ يُحَدِّثْنَا بِهِ) فَقُلْتُ: إِنِّي إِذَنْ لَجَرِيءٌ إِنْ كَذَبْتُ عَلَى رَجُلٍ فِي جَانِبِ الْكُوفَةِ (وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُتْبَةَ سَاكِنًا بِظَاهِرِ الْكُوفَةِ) فَخَرَجْتُ فَلَقِيتُ عَامِرًا أَوْ مَالِكَ بْنَ عَوْفٍ فَقُلْتُ: كَيْفَ كَانَ قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ فِي الْمُتَوَفَّى عَنْهَا زَوْجُهَا وَهِيَ حَامِلٌ، فَقَالَ: قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: أَتَجْعَلُونَ عَلَيْهَا التَّغْلِيظَ وَلَا تَجْعَلُونَ لَهَا الرُّخْصَةَ لَنَزَلَتْ سُورَةُ النِّسَاءِ الْقُصْرَى بَعْدَ الطُّولَى (أَيِ الْبَقَرَةِ) .

وَفِي «الْبُخَارِيِّ» عَنْ أَبِي سَلَمَةَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَبُو هُرَيْرَةَ جَالَسٌ عِنْدَهُ فَقَالَ: أَفْتِنِي فِي امْرَأَةٍ وَلَدَتْ بَعْدَ زَوْجِهَا بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: آخِرُ الْأَجَلَيْنِ: فَقُلْتُ أَنَا وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ. قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: أَنَا مَعَ ابْنِ أَخِي (أَيْ مَعَ أَبِي سَلَمَةَ) فَأَرْسَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ كُرَيْبًا إِلَى أُمِّ سَلَمَةَ يَسْأَلُهَا فَقَالَتْ: قُتِلَ (كَذَا وَالتَّحْقِيقُ أَنَّهُ مَاتَ فِي حِجَّةِ الْوَدَاعِ) زَوْجُ سُبَيْعَةَ الْأَسْلَمِيَّةِ وَهِيَ حُبْلَى فَوَضَعَتْ بَعْدَ مَوْتِهِ بِأَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَخُطِبَتْ فَأَنْكَحَهَا رَسُولُ اللَّهِ

. وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ رَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ. وَلَمْ يُذْكَرْ رُجُوعُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي سَلَمَةَ.

وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً

ص: 323

تَكْرِيرٌ لِلْمَوْعِظَةِ وَهُوَ اعْتِرَاضٌ. وَالْقَوْلُ فِيهِ كَالْقَوْلِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ [الطَّلَاق: 2، 3] . وَالْمَقْصُودُ مَوْعِظَةُ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ عَلَى الْأَخْذِ بِمَا فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ مِمَّا عَسَى أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَشَقَّةٌ عَلَى أَحَدٍ بِأَنَّ عَلَى كُلٍّ أَنْ يَصْبِرَ لِذَلِكَ امْتِثَالًا لِأَمْرِ اللَّهِ فَإِنَّ الْمُمْتَثِلَ وَهُوَ مُسَمًّى الْمُتَّقِيَ يَجْعَلُ اللَّهُ لَهُ يُسْرًا فِيمَا لَحِقَهُ مِنْ عُسْرٍ.

وَالْأَمْرُ: الشَّأْنُ وَالْحَالُ. وَالْمَقْصُودُ: يَجْعَلُ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ الْعَسِيرِ فِي نَظَرِهِ يُسْرًا بِقَرِينَةِ جَعْلِ الْيُسْرَ لِأَمْرِهِ.

ومِنْ لِلِابْتِدَاءِ الْمَجَازِيِّ الْمُرَادُ بِهِ الْمُقَارَنَةُ وَالْمُلَابَسَةُ.

وَالْيُسْرُ: انْتِفَاءُ الصُّعُوبَةِ، أَيِ انْتِفَاءُ الْمَشَاقِّ وَالْمَكْرُوهَاتِ.

وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا تَحْقِيقُ الْوَعْدِ بِالْيُسْرِ فِيمَا شَأْنُهُ الْعُسْرُ لِحَثِّ الْأَزْوَاجِ عَلَى امْتِثَالِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ الزَّوْجَ مِنَ الْإِنْفَاقِ فِي مُدَّةِ الْعِدَّةِ وَمِنَ الْمُرَاجَعَةِ وَتَرْكِ مَنْزِلِهِ لِأَجْلِ سُكْنَاهَا إِذَا كَانَ لَا يَسَعُهُمَا وَمَا أَمَرَ بِهِ الْمَرْأَةَ مِنْ تَرَبُّصِ أَمَدِ الْعِدَّةِ وَعَدَمِ الْخُرُوجِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.

وَالْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ: ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ إِلَى الْأَحْكَامِ الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ أَوَّلِ السُّورَةِ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَتَيْنِ.

وَالْأَمْرُ فِي قَوْلِهِ: أَمْرُ اللَّهِ: حُكْمُهُ وَمَا شَرَعَهُ لَكُمْ كَمَا قَالَ: وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا [الشورى: 52] .

وَإِنْزَالُهُ: إِبْلَاغُهُ إِلَى النَّاسِ بِوَاسِطَة الرَّسُول صلى الله عليه وسلم أَطْلَقَ عَلَيْهِ الْإِنْزَالَ تَشْبِيهًا لِشَرَفِ مَعَانِيهِ وَأَلْفَاظِهِ بِالشَّيْءِ الرَّفِيعِ لِأَنَّ الشَّرِيفَ يُتَخَيَّلُ رَفِيعًا. وَهُوَ اسْتِعَارَةٌ كَثِيرَةٌ فِي الْقُرْآنِ.

فَفِي قَوْلِهِ: أَنْزَلَهُ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ.

وَالْكَلَامُ كِنَايَةٌ عَنِ الْحَثِّ عَلَى التَّهَمُّمِ بِرِعَايَتِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ وَبَعْثِ النَّاسِ عَلَى التَّنَافُسِ فِي الْعِلْمِ بِهِ إِذْ قَدِ اعْتَنَى اللَّهُ بِالنَّاسِ حَيْثُ أَنْزَلَ إِلَيْهِمْ مَا فِيهِ صَلَاحُهُمْ.

وَأُعِيدَ التَّحْرِيضُ عَلَى الْعَمَلِ بِمَا أَمَرَ اللَّهُ بِالْوَعَدِ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنَ الْأَرْزَاقِ وتفريج الكرب وتيسير الصُّعُوبَاتِ فِي الدُّنْيَا. وَذَلِكَ هُوَ تَكْفِيرٌ للسيئات وتوفير للأجور.

ص: 324