الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(98) باب رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء والمعراج
306 -
عن الشيباني قال: سألت زر بن حبيش عن قول الله عز وجل {فكان قاب قوسين أو أدنى} [النجم: 9] قال: أخبرني ابن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح.
307 -
عن عبد الله رضي الله عنه قال: {ما كذب الفؤاد ما رأى} [النجم: 11] قال: رأى جبريل عليه السلام له ستمائة جناح.
308 -
عن عبد الله رضي الله عنه قال: {لقد رأى من آيات ربه الكبرى} [النجم: 18] قال: رأى جبريل في صورته له ستمائة جناح.
309 -
عن أبي هريرة رضي الله عنه {ولقد رآه نزلة أخرى} [النجم: 13] قال: رأى جبريل.
310 -
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: رآه بقلبه.
311 -
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: {ما كذب الفؤاد ما رأى} [النجم: 11]{ولقد رآه نزلة أخرى} [النجم: 13] قال: رآه بفؤاده مرتين.
بهذا الإسناد.
312 -
عن مسروق، قال: كنت متكئا عند عائشة. فقالت: يا أبا عائشة، ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية. قلت: ما هن؟ قالت: من زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية. قال وكنت متكئا فجلست. فقلت: يا أم المؤمنين، أنظريني ولا تعجليني. ألم يقل الله عز وجل:{ولقد رآه بالأفق المبين} [التكوير: 23]
{ولقد رآه نزلة أخرى} [النجم: 13] فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال "إنما هو جبريل. لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين. رأيته منهبطا من السماء. سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض" فقالت: أولم تسمع أن الله يقول: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} [الأنعام: 103] أولم تسمع أن الله يقول: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم} [الشورى: 51] قالت: ومن زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئا من كتاب الله فقد أعظم على الله الفرية. والله يقول: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} [المائدة: 67] قالت: ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية. والله يقول: {قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله} [النمل: 65].
313 -
نحو حديث ابن علية. وزاد: قالت: ولو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا مما أنزل عليه لكتم هذه الآية: {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} [الأحزاب: 37].
314 -
عن مسروق، قال: سألت عائشة: هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ فقالت: سبحان الله! لقد قف شعري. لما قلت وساق الحديث بقصته. وحديث داود أتم وأطول.
315 -
عن مسروق، قال قلت لعائشة: فأين قوله: {ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى} [النجم: 8 - 10] قالت: إنما ذاك جبريل صلى الله عليه وسلم. كان يأتيه في صورة الرجال وإنه أتاه في هذه المرة في صورته التي هي صورته فسد أفق السماء.
316 -
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: "نور أنى أراه".
317 -
عن عبد الله بن شقيق. قال قلت لأبي ذر: لو رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لسألته. فقال: عن أي شيء كنت تسأله؟ قال: كنت أسأله هل رأيت ربك؟ قال أبو ذر: قد سألت فقال: "رأيت نورا".
-[المعنى العام]-
شغل موضوع رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء أذهان كثير من الصحابة والتابعين والعلماء والفقهاء والمحدثين فترة طويلة من الزمن، فقد لقي ابن عباس كعبا بعرفة، فقال ابن عباس: إنا بنو هاشم نقول: إن محمدا رأى ربه مرتين، فكبر كعب، ورفع صوته بالتكبير حتى جاوبته الجبال، ثم قال: إن الله قسم رؤيته وكلامه بين موسى ومحمد، فكلم موسى مرتين ورآه محمد مرتين.
وعلمت عائشة بهذا الرأي، وهي تعتقد نقيضه، فأخذت تعلن: من حدث أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الكذب والافتراء.
وأصبح الباحثون وراء الحقيقة في حيرة من الأمر، مرة يذهبون إلى ابن مسعود وأخرى إلى أبي ذر، وثالثة إلى ابن عباس، ورابعة إلى عائشة، وهكذا، وممن لجأ إلى عائشة مسروق بن الأجدع المكنى بأبي عائشة التابعي الفقيه الزاهد، وكان قاضيا بالكوفة، لا يأخذ على القضاء رزقا، وكان يحب عائشة حتى اتهم بالتباطؤ عن علي في حروبه، رحل من الكوفة إلى عائشة بالمدينة ليسمع رأيها في الموضوع، فسلم من وراء حجاب، ثم جلس واتكأ، ثم قال: يا أماه. هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه؟ فقالت له: سبحان الله، لقد اقشعر جلدي، واهتز شعري مما قلت، أين أنت من ثلاث، من حدث بهن فقد كذب، من حدث أن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى ربه فقد كذب، لأن الله يقول:{لا تدركه الأبصار} [الأنعام: 103] أي لا يراه ولا يحيط به أحد من خلقه، ويقول:{وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء} [الشورى: 51] أي لا يكلم الله بشرا من خلقه إلا على حالة من هذه الحالات فكيف يراه محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن حدثك أن محمدا صلى الله عليه وسلم كتم شيئا مما أوحي إليه ولم يبلغه للأمة فقد كذب لأن الله يقول: {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته} [المائدة: 67] ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم كاتما شيئا لكتم عتاب الله له في قوله: {وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه} [الأحزاب: 37] ومن حدثك أن محمدا يعلم ما في غد فقد كذب، لأن الله يقول:{وما تدري نفس ماذا تكسب غدا} [لقمان: 34].
سمع مسروق من أم المؤمنين هذه الفتوى- وكان يعلم فتوى ابن عباس في قوله تعالى: {ما كذب الفؤاد ما رأى أفتمارونه على ما يرى ولقد رآه نزلة أخرى} [النجم: 11 - 13] وأنه قال: رآه بفؤاده مرتين، ورواية أبي ذر أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ فقال: "رأيت نورا" وكان متكئا عند عائشة - كعادة العرب المستأنسين لحديث غير العجلين على القيام، فقد جاء من سفر بعيد- ولكن هذه الفتوى المهمة جعلته يعتدل في جلسته ويتوثب - في أدب- لمناقشتها، فقال: يا أم المؤمنين رفقا بي، وصبرا علي، وحلما على جرأتي، أمهليني ولا تعجليني، وأفسحي لي صدرك وإن قف شعرك. ألم يقل الله تعالى:{ثم دنا فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى فأوحى إلى عبده ما أوحى} [النجم: 8 - 10] فقالت: أنا أول من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية، فقال: إنما هو جبريل لم أره على صورته التي خلق عليها إلا هاتين المرتين، ورأيته منهبطا من السماء عظيم الخلقة له ستمائة جناح على رفرف خضر، يسد الأفق بين السماء والأرض.
ورجع مسروق إلى الكوفة ينشر فتوى أم المؤمنين بين أتباعه وتلاميذه فرضي الله عن الصحابة والتابعين، والعلماء العاملين المحققين.
-[المباحث العربية]-
{لقد رأى من آيات ربه الكبرى} اللام في جواب قسم محذوف و"آيات ربه" مفعول "رأى" و"من" زائدة و"الكبرى" صفة لآيات ربه، ويجوز نعت الجماعة بنعت الواحدة كقوله تعالى:{ولي فيها مآرب أخرى} [طه: 18] والتقدير: والله لقد رأى آيات ربه الكبرى، والمراد بها جميع ما رأى صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء، ويصح أن يكون "الكبرى" صفة لموصوف محذوف، والجار والمجرور "من آيات ربه" متعلق بمحذوف حال، مقدم من تأخير، والتقدير: والله لقد رأى الآية مندرجة في آيات ربه وواحدة منها، والمراد بالآية الكبرى جبريل عليه السلام في صورته الحقيقية، وهذا التقدير هو المناسب للرواية التي معنا.
{ولقد رآه نزلة أخرى} أي رأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام في صورته الحقيقية مرة أخرى في السماء عند سدرة المنتهى بعد أن رآه المرة الأولى بنفس هيئته في الأرض، "نزلة" مصدر من نزل، نصبت نصب الظرف الذي هو مرة، لأن الفعلة اسم للمرة من الفعل، فكانت في حكمها، ولم يقل:"مرة" بدل "نزلة" ليفيد أن الرؤية كانت بنزول ودنو كالرؤية الأولى. وقال ابن عباس: رأى ربه سبحانه وتعالى، وعلى هذا معنى "نزلة أخرى" يعود إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت له نزلات وعرجات في تلك الليلة.
(ما كذب الفؤاد ما رأى)"كذب" بتخفيف الذال، و"كذب" بتشديدها بمعنى واحد، وبهما قرئ، "وما" موصولة مفعول "كذب" و"أل" في "الفؤاد" للعهد أو عوض عن المضاف إليه، والتقدير: ما كذب فؤاد محمد صلى الله عليه وسلم ما رآه ببصره من صورة جبريل عليه السلام، أي ما كذب الفؤاد المبصر، أي ما
أنكره، بل عرفه كما عرفه البصر، وقيل: المرئي هو الله سبحانه، رآه صلى الله عليه وسلم بعيني رأسه، وقيل: بقلبه كما سيأتي في فقه الحديث.
(ثلاث من تكلم بواحدة منهن فقد أعظم على الله الفرية)"ثلاث" مبتدأ، سوغ الابتداء به مراعاة الوصف أو الإضافة. أي ثلاث كلمات، والفرية بكسر الفاء الكذب، يقال فرى الشيء يفريه فريا، وافتراه يفتريه افتراء إذا اختلقه، وجمع الفرية فرى، وفي رواية البخاري "أين أنت من ثلاث من حدثكهن فقد كذب"؟ .
(أنظريني) أي أمهليني، واتركي لي فرصة الكلام.
(رأيته منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض) قال النووي: هكذا هو في الأصول "ما بين السماء إلى الأرض" وهو صحيح، وأما "عظم خلقه" فضبط على وجهين، أحدهما بضم العين وإسكان الظاء، والثاني بكسر العين وفتح الظاء، وكلاهما صحيح. اهـ.
(سبحان الله! لقد قف شعري لما قلت)"سبحان الله" مقصودها بذكره التعجب من جهل مثل هذا، وأما قولها "قف شعري" فمعناه قام شعري من الفزع، لسماعي ما لا ينبغي أن يقال. قال النضر بن شميل: القف بفتح القاف وتشديد الفاء كالقشعريرة، وأصله التقبض والاجتماع، لأن الجلد ينقبض عند الفزع والاستهوال، فيقوم الشعر لذلك.
(ثم دنا فتدلى) أي "ثم دنا" جبريل من رسول الله صلى الله عليه وسلم "فتدلى" فزاد في القرب، والتدلي هو النزول بقرب الشيء فالترتيب طبيعي، وقيل: التدلي هو الامتداد إلى جهة السفل، والكلام على التقديم والتأخير، وأصله:{علمه شديد القوى ذو مرة فاستوى وهو بالأفق الأعلى} [النجم: 5 - 7] ثم تدلى فدنا، لأن التدلي سبب الدنو. فالفرق بين الرأيين في معنى التدلي، هل هو القرب بعد العلو فالترتيب طبيعي، أو هو الامتداد إلى جهة السفل، ففي الكلام تقديم من تأخير، وقيل على الرأي الثاني أيضا: ثم دنا جبريل من الأرض بعد استوائه في الأفق الأعلى ونزل إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
(فكان قاب قوسين أو أدنى) القاب في اللغة القدر، وقد جاء التقدير بالقوس والرمح والسوط، والمعنى: فكانت مسافة القرب مقدار قوسين أو أقرب. ولما كان الأصل في معنى "أو" الشك، والله منزه عن الشك عليم بحقائق الأشياء قيل: إن "أو" بمعنى "بل" فهي للإضراب والانتقال. وقيل: إن الشك بالنظر للمخاطبين إذ الله خاطب العباد على لغتهم، ومقدار فهمهم، والمعنى: أدنى من القوسين في تقديركم.
(فأوحى إلى عبده ما أوحى) المراد من العبد محمد صلى الله عليه وسلم وقيل: جبريل، وفي تقدير المعنى آراء للمفسرين، أشهرها وأكثرها: فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى، وقيل: فأوحى الله تعالى إلى عبده محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى، وقيل: فأوحى الله إلى عبده جبريل ما أوحى، فبلغ جبريل محمدا ما أوحي إليه. وكل هذه الأقوال صالحة على أن الذي دنا فتدلى جبريل، أما على قول من يرى أنه رب العزة فلا يناسبه إلا القول الثاني.
وفي إبهام الموحى به تفخيم وتهويل، قيل: أوحي إليه أن الجنة محرمة على الأنبياء حتى تدخلها، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك.
(نور أنى أراه)"نور" بالرفع خبر مبتدأ محذوف، أي الذي رأيته نور، و"أنى" بالنون المشددة المفتوحة بمعنى كيف، استفهام إنكاري بمعنى النفي، أو تعجبي، والمعنى: حجابه النور فكيف أراه؟ أي النور منعني من الرؤية، كما جرت العادة بإغشاء الأنوار الأبصار ومنعها من إدراك الشيء الذي حالت بين الرائي وبينه.
قال المازري: وروي "نوراني" بضم النون وفتح الراء ممدودة وكسر النون وتشديد الياء، أي هو نوراني قال القاضي عياض: هذه الرواية لم تقع لنا، ولا رأيتها في شيء من الأصول.
(قد سألت فقال) الرواية هكذا "سألت" بحذف المفعول، والتقدير: قد سألته.
-[فقه الحديث]-
اختلف العلماء سلفهم وخلفهم في رؤية نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء والمعراج على مذاهب أربعة:
الأول: إنكارها إنكارا مطلقا.
الثاني: إثباتها بعيني الرأس.
الثالث: إثباتها بالفؤاد.
الرابع: التوقف.
يتزعم الرأي الأول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ويتابعها أبو هريرة وابن مسعود في المشهور عنه، وأبو ذر في رواية، وهو رأي جماعة من المحدثين والمتكلمين.
وعائشة في حديثنا تؤكد إنكارها بأساليب مختلفة، وبعبارات بالغة، فهي تتعجب من جهل مثبت الرؤية بقولها في الرواية الخامسة "سبحان الله" ثم تستبشع هذا القول، تهلع له وتفزع وتقول "لقد قف شعري لما قلت" ثم تصف المتحدث بالرؤية بأنه قد أعظم على الله الفرية، ثم تجعله في درجة المتحدث بأن محمدا كتم بعض ما أوحي إليه، أو أنه يعلم الغيب.
ثم تستدل على هذا الإنكار بقوله تعالى: {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير} [الأنعام: 103] وبقوله: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم} [الشورى: 51].
ثم ردت دليل المثبتين وفسرت آيات سورة النجم بأن المرئي فيها جبريل عليه السلام، وأيدها بعضهم بما رواه مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا".
ويتزعم القول بإثبات الرؤية ابن عباس وكعب والحسن، وبه قال سائر أصحاب ابن عباس، وجزم به الزهري وصاحبه معمر وآخرون، وهو قول الأشعري وغالب أتباعه، نعم ذهب بعض هؤلاء إلى الرأي الثالث وهو أن الرؤيا كانت بالفؤاد لا بالعين، وقد أخرج النسائي بإسناد صحيح عن ابن عباس قال: "أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم والكلام لموسى، والرؤية لمحمد صلى الله عليه وسلم؟ .
وأخرج ابن إسحاق أن ابن عمر أرسل إلى ابن عباس: هل محمد رأى ربه؟ فأرسل إليه أن نعم. وروايتنا الثالثة يقول فيها ابن عباس "رأى ربه بفؤاده مرتين".
وأخرج الترمذي عن عكرمة عن ابن عباس قال: رأى محمد ربه. قلت: أليس الله يقول: {لا تدركه الأبصار} قال: ويحك. ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره، وقد رأى ربه مرتين".
وقد مال النووي إلى هذا الجانب فنقل عن صاحب التحرير قوله: إن عائشة لم تخبر أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: لم أر ربي، وإنما ذكرت ما ذكرت متأولة بقول الله تعالى:{وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم} ولقول الله تعالى: {لا تدركه الأبصار} والصحابي إذا قال قولا وخالفه غيره منهم لم يكن قوله حجة، وإذا صحت الروايات عن ابن عباس في إثبات الرؤية وجب المصير إلى إثباتها، فإنها ليست مما يدرك بالعقل ويؤخذ بالظن وإنما يتلقى بالسماع. ولا يستجيز أحد أن يظن بابن عباس أنه تكلم في هذه المسألة بالظن والاجتهاد، وقد قال معمر بن راشد حين ذكر اختلاف عائشة وابن عباس: ما عائشة عندنا بأعلم من ابن عباس، ثم إن ابن عباس أثبت شيئا نفاه غيره، والمثبت مقدم على النافي. هذا كلام صاحب التحرير. ثم النووي. فالحاصل أن الراجح عند أكثر العلماء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعيني رأسه ليلة الإسراء. لحديث ابن عباس وغيره مما تقدم. وإثبات مثل هذا مما لا يأخذونه إلا بالسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا مما لا ينبغي أن يتشكك فيه، ثم إن عائشة رضي الله عنها لم تنف الرؤية بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان معها فيه حديث لذكرته، وإنما اعتمدت الاستنباط من الآيات، وسنوضح الجواب عنها. فأما احتجاج عائشة بقول الله تعالى:{لا تدركه الأبصار} فجوابه ظاهر، فإن الإدراك هو الإحاطة، والله تعالى لا يحاط به، وإذا ورد النص بنفي الإحاطة لا يلزم منه نفي الرؤية بغير إحاطة، وأما احتجاجها رضي الله عنها بقول الله تعالى:{وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب .. } الآية فالجواب عنه من أوجه:
أحدها: أنه لا يلزم من الرؤية وجود الكلام حال الرؤية، فيجوز وجود الرؤية من غير كلام.
الثاني: أنه عام مخصوص بما تقدم من الأدلة.
الثالث: ما قاله بعض العلماء: إن المراد بالوحي الكلام من غير واسطة. اهـ.
وقد حمل الحافظ ابن حجر على الإمام النووي لجزمه بأن عائشة لم تنف الرؤية بحديث مرفوع فقال: إن هذا عجيب، فقد ثبت ذلك عنها في صحيح مسلم الذي شرحه الشيخ، فعنده عن مسروق قال: وكنت متكئا فجلست، فقلت: ألم يقل الله: {ولقد رآه نزلة أخرى} فقالت: أنا أول هذه الأمة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، فقال: إنما هو جبريل. اهـ.
وعندي أن هذا التحامل من الحافظ ابن حجر هو العجيب، ذلك أن الحديث الذي ساقه، والذي شرحه الإمام النووي لا ينفي رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه، وإنما ينفي أن يكون الله هو المرئي المقصود من هذه الآية، ولا يمنع أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد رأى ربه بدليل آخر، فعائشة لم تنف الرؤية بحديث مرفوع قطعا، كما يقول الإمام النووي.
وقد رد القرطبي استدلال عائشة بقوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} برد آخر، فقال: الأبصار في الآية جمع محلى بأل، فيقبل التخصيص، وقد ثبت دليل ذلك سمعا من قوله تعالى:{كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} [المطففين: 15] فيكون المراد الكفار، بدليل قوله تعالى:{وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة} [القيامة: 22 - 23] قال: وإذا جازت الرؤية في الآخرة جازت في الدنيا، لتساوي الوقتين بالنسبة إلى المرئي. اهـ.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: "واعلموا أنكم لن تروا ربكم حتى تموتوا" فإنه لا يمنع أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم: قد رأى ربه في الدنيا باعتبار أن المتكلم لا يدخل في عموم كلامه.
هذا وقد قلنا: إن بعض المثبتين للرؤية ذهب إلى أنها كانت بالفؤاد، والمراد من رؤية الفؤاد رؤية القلب، لا بمعنى مجرد حصول العلم، لأنه صلى الله عليه وسلم كان عالما بالله على الدوام، ولكن بمعنى أن الرؤية التي حصلت له خلقت في قلبه كما تخلق الرؤية بالعين لغيره، والرؤية لا يشترط لها شيء مخصوص عقلا ولو جرت العادة بخلقها في العين.
وقد اختلفت الروايات عن ابن عباس، فروايتنا الثالثة تصرح بأن الرؤية كانت بالفؤاد مرتين، بل أخرج ابن مردويه من طريق عطاء عن الخلال عن ابن عباس قال: لم يره رسول الله صلى الله عليه وسلم بعينيه إنما رآه بقلبه.
كما اختلفت الروايات عن أحمد، فقد روى الخلال في كتاب السنة عن المروزي: قلت لأحمد: إنهم يقولون: إن عائشة قالت: من زعم أن محمدا رأى ربه فقد أعظم على الله الفرية فبأي شيء يدفع قولها؟ قال: يقول النبي صلى الله عليه وسلم "رأيت ربي" وقول النبي صلى الله عليه وسلم أكبر من قولها.
وحكى عنه بعض المتأخرين قوله: رآه بعيني رأسه. ونفى صاحب الهدى إسناد هذا القول إلى أحمد، وقال: إن نصوص أحمد موجودة وليس فيها إلا أنه قال مرة: رأى محمد ربه ومرة: رأى محمد ربه بفؤاده.
أما رواية أبي ذر (السابعة والثامنة) وفيها أنه صلى الله عليه وسلم رأى نورا، فقد قيل: أن مراده أن النور حال بين رؤيته له ببصره، وليس مراده أن هذا النور هو الله، وأنه رآه ببصره، فقد جاء عن أبي ذر نفسه عند ابن خزيمة قال: رآه بقلبه، ولم يره بعينه.
وأمام هذا الاختلاف في الروايات قال الحافظ ابن حجر: يمكن الجمع بين إثبات ابن عباس ونفي عائشة: بأن يحمل نفيها على رؤية البصر، وإثباته على رؤية القلب. اهـ.
وأمام هذا التعارض في الأقوال رجح القرطبي في المفهم القول بالوقف في هذه المسألة، وعزاه
لجماعة من المحققين، وقواه بأنه ليس في الباب دليل قاطع، وغاية ما استدل به للطائفتين ظواهر متعارضة قابلة للتأويل.
قال: وليست المسألة من العمليات فيكتفى فيها بالأدلة الظنية، وإنما هي من المعتقدات فلا يكتفى فيها إلا بالدليل القطعي، والله أعلم.
-[ويؤخذ من الحديث]-
1 -
عظم خلق جبريل عليه السلام.
2 -
وأن الرسول صلى الله عليه وسلم رآه في صورته التي خلقه الله عليها.
3 -
جواز قول المستدل بآية من القرآن: إن الله عز وجل يقول. وقد كره ذلك مطرق بن عبد الله التابعي المشهور، فروى ابن أبي داود بإسناده عنه أنه قال: لا تقولوا: إن الله يقول، ولكن قولوا. إن الله قال.
قال النووي: وهذا الذي أنكره مطرق رحمه الله خلاف ما فعلته الصحابة والتابعون ومن بعدهم من أئمة المسلمين. فالصحيح المختار جواز الأمرين، ومما يدل على جوازه من النصوص قوله تعالى:{والله يقول الحق وهو يهدي السبيل} [الأحزاب: 4].
4 -
ويؤخذ من قول عائشة: أولم تسمع أن الله يقول: {ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا} مع أن التلاوة {وما كان} بإثبات الواو أن مثل هذا لا يضر في الرواية والاستدلال، لأن المستدل ليس مقصوده التلاوة على وجهها، وإنما مقصوده بيان موضع الدلالة ولا يؤثر حذف الواو في ذلك، وقد جاء لهذا نظائر كثيرة في الحديث، منها قوله: فأنزل الله تعالى: {أقم الصلاة طرفي النهار} [هود: 114] وقوله: {أقم الصلاة لذكري} [طه: 14] هكذا هو في روايات الحديثين في الصحيحين، والتلاوة بالواو فيهما. ذكره النووي والله أعلم.
هذا ولشرح الحديث صلة وثيقة بموضوع رؤية الله بصفة عامة في الأحاديث الآتية إن شاء الله تعالى.