المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(35) باب نقصان الإيمان بالمعاصي - فتح المنعم شرح صحيح مسلم - جـ ١

[موسى شاهين لاشين]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌كتاب الإيمان

- ‌(1) باب الإيمان بالقدر

- ‌(2) باب أمور الإسلام

- ‌(3) باب سؤال ضمام عن أركان الإسلام

- ‌(4) باب ما يقرب من الجنة وما يباعد من النار

- ‌(5) باب إحلال الحلال وتحريم الحرام يدخل الجنة

- ‌(6) باب بيان أركان الإسلام ودعائمه

- ‌(7) باب وفد عبد القيس وأمور الإسلام

- ‌(8) باب بعث معاذ إلى اليمن

- ‌(9) باب قتال أهل الردة ومانعي الزكاة

- ‌(10) باب وفاة أبي طالب، وما نزل بشأنه

- ‌(11) باب من مات على التوحيد دخل الجنة

- ‌(12) باب زيادة فضلة الطعام ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌(13) باب من شهد أن لا إله إلا الله حرم الله عليه النار

- ‌(14) باب حق الله على العباد وحق العباد على الله

- ‌(15) باب التبشير بالجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله

- ‌(16) باب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عتبان

- ‌(17) باب طعم الإيمان

- ‌(18) باب الحياء شعبة من الإيمان

- ‌(19) باب الحياء من الإيمان

- ‌(20) باب الحياء خير كله

- ‌(21) باب الخصلة الجامعة لأمور الإسلام

- ‌(22) باب إطعام الطعام وإفشاء السلام

- ‌(23) باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده

- ‌(24) باب ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان

- ‌(25) باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان

- ‌(26) باب من الإيمان أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك

- ‌(27) باب النهي عن إيذاء الجار

- ‌(28) باب إكرام الجار والضيف وفضيلة حفظ اللسان

- ‌(29) باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الإيمان

- ‌(30) باب ضعف الإيمان بتطاول الأزمان والحاجة إلى الأمر بالمعروف

- ‌(31) باب تفاضل أهل الإيمان

- ‌(32) باب محبة المؤمنين من الإيمان

- ‌(33) باب الدين النصيحة

- ‌(34) باب المبايعة على النصح لكل مسلم

- ‌(35) باب نقصان الإيمان بالمعاصي

- ‌(36) باب خصال المنافق

- ‌(37) باب إيمان من قال للمسلم: يا كافر

- ‌(38) باب إيمان من ادعى لغير أبيه ومن ادعى ما ليس له

- ‌(39) باب إيمان من يسب أخاه ومن يقاتله

- ‌(40) باب الطعن في النسب والنياحة على الميت

- ‌(41) باب إيمان العبد الآبق

- ‌(42) باب إيمان من قال: مطرنا بالنوء

- ‌(43) باب حب الأنصار من الإيمان

- ‌(44) باب حب علي من الإيمان

- ‌(45) باب كفران العشير

- ‌(46) باب سجود ابن آدم يغيظ الشيطان

- ‌(47) باب بين المسلم والكفر ترك الصلاة

- ‌(48) باب أفضل الأعمال: الإيمان - الجهاد - الحج - والعتق مساعدة الصانع والأخرق - الكف عن الشر

- ‌(49) باب أفضل الأعمال الصلاة لوقتها وبر الوالدين

- ‌(50) باب أعظم الذنوب الشرك بالله -ثم قتل الابن -ثم الزنا بحليلة الجار

- ‌(51) باب أكبر الكبائر الإشراك بالله -وعقوق الوالدين- وشهادة الزور

- ‌(52) باب السبع الموبقات

- ‌(53) باب من الكبائر شتم الرجل والديه

- ‌(54) باب تحريم الكبر

- ‌(55) باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار

- ‌(56) باب تحريم قتل الكافر بعد قوله: لا إله إلا الله

- ‌(57) باب قتل أسامة لمن قال: لا إله إلا الله

- ‌(58) باب من حمل علينا السلاح فليس منا

- ‌(59) باب من غشنا فليس منا

- ‌(60) باب ليس منا من ضرب الخدود

- ‌(61) باب تحريم النميمة

- ‌(62) باب تحريم إسبال الإزار، والمن بالعطية وترويج السلعة بالحلف

- ‌(63) باب الشيخ الزاني، والملك الكذاب ومانع فضل الماء، والمبايع لدنيا

- ‌(64) باب تحريم قتل الإنسان نفسه

- ‌(65) باب من حلف بملة غير الإسلام

- ‌(66) باب لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر

- ‌(67) باب تحريم الجنة على قاتل نفسه

- ‌(68) باب تحريم الغلول

- ‌(69) باب قاتل النفس لا يكفر

- ‌(70) باب الريح التي تكون قرب القيامة

- ‌(71) باب الحث على المبادرة بالأعمال

- ‌(72) باب خوف المؤمن أن يحبط عمله

- ‌(73) باب هل يؤاخذ بما عمل في الجاهلية

- ‌(74) باب الإسلام يهدم ما قبله، وكذا الحج والعمرة (وفاة عمرو بن العاص)

- ‌(75) باب حكم العمل الصالح قبل الإسلام

- ‌(76) باب صدق الإيمان وإخلاصه

- ‌(77) باب تجاوز الله عن حديث النفس

- ‌(78) باب حكم الهم بالحسنة والهم بالسيئة

- ‌(79) باب الوسوسة في الإيمان

- ‌(80) باب من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة

- ‌(81) باب من قتل دون ماله فهو شهيد

- ‌(82) باب الوالي الغاش لرعيته

- ‌(83) باب رفع الأمانة

- ‌(84) باب الفتن التي تموج موج البحر

- ‌(85) باب بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا

- ‌(86) باب ذهاب الإيمان آخر الزمان

- ‌(87) باب الاستسرار بالإيمان للخائف

- ‌(88) باب تأليف ضعيف الإيمان

- ‌(89) باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة

- ‌(90) باب القرآن المعجزة الكبرى والرسول صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعا

- ‌(91) عموم رسالته صلى الله عليه وسلم

- ‌(92) باب أجر الكتابي إذا أسلم: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين

- ‌(93) باب نزول عيسى ابن مريم حاكما

- ‌(94) باب الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان

- ‌(95) باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(96) باب فترة الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(97) باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم ومعراجه

- ‌(98) باب رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء والمعراج

- ‌(99) باب رؤية الله تعالى في الدنيا

- ‌(100) باب رؤية المؤمنين لربهم في الجنة

الفصل: ‌(35) باب نقصان الإيمان بالمعاصي

(35) باب نقصان الإيمان بالمعاصي

103 -

عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وسعيد بن المسيب قالا: قال أبو هريرة رضي الله عنه إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن. ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن. ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن". قال ابن شهاب: فأخبرني عبد الملك بن أبي بكر بن عبد الرحمن، أن أبا بكر كان يحدثهم هؤلاء عن أبي هريرة. ثم يقول: وكان أبو هريرة يلحق معهن "ولا ينتهب نهبة ذات شرف، يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها، وهو مؤمن".

104 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزني الزاني" واقتص الحديث بمثله. يذكر مع ذكر "النهبة". ولم يذكر "ذات شرف". قال ابن شهاب: حدثني سعيد بن المسيب بمثل حديث أبي بكر هذا "إلا النهبة".

105 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه بمثله وذكر النهبة ولم يقل: ذات شرف.

106 -

وبمثله عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم كل هؤلاء بمثل حديث الزهري غير أن العلاء وصفوان بن سليم ليس في حديثهما "يرفع الناس إليه فيها أبصارهم" وفي حديث همام "يرفع إليه المؤمنون أعينهم فيها وهو حين ينتهبها مؤمن" وزاد "ولا يغل أحدكم حين يغل وهو مؤمن فإياكم إياكم".

ص: 211

107 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن والتوبة معروضة بعد".

108 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه قال "لا يزني الزاني" ثم ذكر بمثل حديث شعبة.

-[المعنى العام]-

تعرضت أحاديث كثيرة لجانب الرجاء في الله، حتى كاد يطمع في دخول الجنة من لا عمل له، فروي "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة" و"من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله حرم الله عليه النار" و"حق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئا" و"من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنى وإن سرق".

كادت هذه الأحاديث تبعث الطمأنينة في نفوس العصاة، لولا أن قابلتها أحاديث الخوف التي تكاد تيئس مرتكب الكبيرة من دخول الجنة. من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب أي يغتصب "نهبة" وأموالا "ذات شرف" وذات قيمة "يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها" مشدوهين من تصرفه، عاجزين عن دفعه "وهو مؤمن ولا يغل" أي يسرق "أحدكم حين يغل" ويسرق وهو مؤمن فإياكم "وهذه الكبائر" وإياكم "وتعريض الإيمان للضعف والانهيار".

فهذا الحديث يحذر مرتكب الكبيرة، ويخوفه من عاقبة فعله، يهدده بسحب الإيمان عنه حالة ارتكاب المنكر، فيضعف إيمانه، ولا يزال الإيمان يضعف ويتناقص بالمعاصي حتى يخشى على صاحبه من الكفر والعياذ بالله، فإن الاستهانة بارتكاب المعصية تؤدي إلى الاستهانة بالآمر الناهي، ولا تزال المعصية تترك نكتة سوداء في قلب صاحبها حتى يطبع الله عليه، ويختم على صدره، فيكون من أهل النار.

وهكذا نجد أن الشرع الحكيم بنصوصه يضع المؤمن بين الرجاء والخوف، لئلا يقنط من رحمة الله، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. ولئلا يغتر فيهمل شعب الإيمان وأموره، فما أكثر الوعيد، وما أكثر النذر والتهديد {ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين} [النساء: 14] نجد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يضع المؤمن في الإطار الذي وضعه فيه القرآن

ص: 212

بقوله: {يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب} [الزمر: 9].

-[المباحث العربية]-

(لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) الجملة خبرية، تنفي إيمان الزاني حين زناه، إذ النفي داخل على مقيد بقيد (زنا الزاني حالة إيمانه) ولا جائز أن يتوجه النفي إلى المقيد، لأنه حاصل واقع، والواقع لا ينفى، فكان لزاما أن يتوجه إلى القيد محط الفائدة، كقوله تعالى:{وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين} [الأنبياء: 16] فالمنفي اللعب، لا خلق السموات والأرض وما بينهما فيكون حاصل المعنى: بل خلقناهما وما بينهما جادين لحكمة.

والمنفي في الحديث إيمان الزاني، فيكون حاصل المعنى، لا يكون الزاني مؤمنا حين يزني.

والظرف "حين يزني" متعلق بـ "مؤمن" وفي ذلك يقول الحافظ ابن حجر: قيد نفي الإيمان بحالة ارتكابه للزنى.

وقيل: إن الجملة خبر بمعنى النهي، والمعنى: لا يزنين مؤمن، ولا يسرقن مؤمن أي لا ينبغي له أن يفعل ذلك.

(ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن) لم يذكر الفاعل هنا كما ذكر في الزنا والسرقة، قال ابن مالك: فيه جواز حذف الفاعل لدلالة الكلام عليه، والتقدير: ولا يشرب الشارب الخمر. إلخ، ولا يرجع الضمير إلى الزاني، لئلا يختص به، بل هو عام في حق كل من شرب.

(وكان أبو هريرة يلحق معهن) أي مع الثلاث المذكورات: الزنا والسرقة والشرب، وكان حقه أن يقول: يلحق بهن، فمع بمعنى الباء، وحروف الجر يتناوب بعضها بعضا، أو ضمن "يلحق" معنى "يذكر" فعدى بـ "مع" و"يلحق" بضم الياء من "ألحق" الرباعي، يستعمل لازما ومتعديا وهنا متعد، والجملة بعده مقصود لفظها في محل المفعول به.

(ولا ينتهب نهبة) الفاعل محذوف أيضا، والتقدير: ولا ينتهب الناهب نهبة وفي القاموس: نهب النهب، كجعل وسمع وكتب، أخذه كانتهبه، والاسم النهبة بضم النون، وهو المال المنهوب، والمراد به المأخوذ جهرا وقهرا.

(ذات شرف)"ذات" بمعنى صاحبة، صفة "نهبة" ومعنى "ذات شرف" أي ذات قدر، حيث يشرف الناس لها ناظرين إليها، وفي رواية:"ذات سرف" بالسين المهملة، أي ذات إسراف ومجاوزة الحد.

(يرفع الناس إليه فيها أبصارهم) هذه إشارة إلى حالة المنهوبين، فإنهم ينظرون إلى من

ص: 213

ينهبهم، ولا يقدرون على دفعه، ويحتمل أن يكون كناية عن عدم التستر بذلك، فيكون صفة لازمة للنهب، بخلاف السرقة والاختلاس، فإنه يكون في خفية، والانتهاب أشد لما فيه من مزيد الجراءة وعدم المبالاة.

(ولا يغل أحدكم) بفتح الياء وضم الغين وتشديد اللام المرفوعة، وهو من الغلول وهو الخيانة، وقيل: هو خاص بالخيانة من الغنيمة.

(فإياكم إياكم) الفاء فصيحة في جواب شرط مقدر، أي إذا كان الإيمان ينتفى بارتكاب هذه القبائح فإياكم، أي فاحذروها.

وأصل "إياكم" احذروا تلاقي أنفسكم والقبائح، ثم حذف الفعل وفاعله، ثم المضاف الأول "تلاقي" ثم المضاف الثاني، وأقيم المضاف إليه مقامه فانفصل الضمير، وانتصب بعامل محذوف وجوبا لكثرة الاستعمال "وإياكم" الثانية تكرير للتأكيد، والمحذر منه محذوف للعلم به من الكلام السابق.

-[فقه الحديث]-

قبل الكلام عن فقه الحديث نورد مذاهب المتكلمين باختصار في الإيمان مع ارتكاب الكبيرة، حتى يتجلى موقف كل فريق من هذا الحديث.

1 -

فالخوارج: يقولون إن الإيمان اعتقاد وقول وعمل، فمرتكب الكبيرة كافر مخلد في النار. 2 - والمعتزلة: يقولون كالخوارج بأن العمل من الإيمان، فمرتكب الكبيرة ليس بمؤمن وليس بكافر لكنه مخلد في النار.

3 -

والمرجئة: يقولون: هو اعتقاد ونطق فقط فيتحقق الإيمان بهما، ولا تتأثر حقيقته بارتكاب الكبائر.

4 -

والكرامية: يقولون: هو نطق فقط فيتحقق الإيمان به، ولا تتأثر حقيقته بارتكاب الكبائر.

5 -

وأهل السنة: يقولون: الإيمان بالنظر لما عندنا يحصل بالإقرار، فمن أقر أجريت عليه الأحكام الدنيوية، ولم يحكم عليه بالكفر، إلا إن اقترن به فعل يدل على كفره كالسجود للصنم.

وبالنظر لما عند الله هو الاعتقاد بالقلب والنطق باللسان والعمل بالأركان على أن العمل شرط في كماله، فمرتكب الكبيرة [غير الشرك] مؤمن غير كامل الإيمان - أو مؤمن فاسق.

وظاهر الحديث الذي معنا يؤيد الخوارج والمعتزلة، وبه استدلوا على مذهبهم، فهو ينفي الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر والمنتهب، وحيث انتفى الإيمان ثبت الكفر [عند الخوارج]، لأنه لا واسطة عندهم بين الإيمان والكفر. أما المعتزلة فينفون عنه الإيمان بالحديث، وينفون عنه الكفر، لأنه

ص: 214

يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، ويثبتون له منزلة بين المنزلتين، ويحكمون عليه بالخلود في النار لآيات الخلود الواردة في القاتل والعاصي.

والحديث واضح في الرد على المرجئة والكرامية، وربما انتفعوا ببعض توجيهات أهل السنة الآتية:

ولما كان أهل السنة لا ينفون الإيمان عن مرتكب الكبيرة احتاجوا إلى تأويل هذا الحديث.

فقال النووي: إنما تأولنا هذا الحديث لحديث أبي ذر وغيره "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة، وإن زنى وإن سرق"، وحديث عبادة بن الصامت الصحيح المشهور أنهم بايعوه صلى الله عليه وسلم على "أن لا يسرقوا ولا يزنوا ولا يعصوا

" إلى آخره، ثم قال صلى الله عليه وسلم: "فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن فعل شيئا من ذلك فعوقب في الدنيا فهو كفارة له، ومن فعل ولم يعاقب فهو إلى الله تعالى إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه".

فهذان الحديثان مع نظائرهما في الصحيح، مع قول الله عز وجل {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} [النساء: 48] مع إجماع أهل الحق على أن الزاني والسارق والقاتل وغيرهم من أصحاب الكبائر غير الشرك لا يكفرون بذلك، بل هم مؤمنون ناقصو الإيمان، إن تابوا سقطت عقوبتهم، وإن ماتوا مصرين على الكبائر كانوا في المشيئة، فإن شاء الله تعالى عفا عنهم وأدخلهم الجنة أولا، وإن شاء عذبهم، ثم أدخلهم الجنة.

وكل هذه الأدلة تضطرنا إلى تأويل هذا الحديث وشبهه، اهـ.

وقال الحافظ ابن حجر: ومن أقوى ما يحمل على صرف هذا الحديث عن ظاهره إيجاب الحد في الزنا على أنحاء مختلفة في حق المحصن الحر، والحر البكر، وفي حق العبد، فلو كان المراد بنفي الإيمان ثبوت الكفر لاستووا في العقوبة، لأن المكلفين فيما يتعلق بالإيمان والكفر سواء، فلما كان الواجب فيه من العقوبة مختلفا دل على أن مرتكب ذلك ليس بكافر حقيقة. اهـ.

ولا وجه لمن رد الحديث وأنكر صدوره عن النبي صلى الله عليه وسلم لمعارضته النصوص الصحيحة. لا وجه له لأن الحديث ثابت في الصحيحين متفق على صحته، والظاهر المخالف قابل للتأويل، تأويلات سائغة حسنة كثيرة منها:

1 -

ما روي عن ابن عباس من أن المراد بنفي الإيمان عن الزاني أن الله ينزع منه نور الإيمان، وقريب منه قول المهلب: تنزع منه بصيرته في طاعة الله.

2 -

وقال الحسن البصري وابن جرير الطبري: ما معناه ينزع منه اسم المدح الذي سمي به أولياءه فلا يقال في حقه مؤمن، وإنما يستحق اسم الذم، فيقال: سارق وزان وفاجر وفاسق.

وصوب هذا الرأي ابن بطال، ثم قال: ولا خلاف أنه يسمى بذلك ما لم تظهر منه التوبة، فالزائل عنه حينئذ اسم الإيمان بالإطلاق، والثابت له اسم الإيمان بالتقييد، فيقال: هو مصدق بالله ورسوله لفظا واعتقادا لا عملا. اهـ.

ص: 215

3 -

وقال الزهري: إنه من المشكل الذي نؤمن به، ونمر كلما جاء، ولا نتعرض لتأويله.

4 -

وقيل: إنه خبر بمعنى النهي، والمعنى: لا يزنين مؤمن، ولا يسرقن مؤمن، وليس فيه نفي الإيمان.

5 -

وقيل: إن معنى نفي كونه مؤمنا أنه شابه الكافر في عمله، وموقع التشبيه أنه مثله في جواز قتاله في تلك الحالة، ليكف عن المعصية، ولو أدى إلى قتله فانتفت فائدة الإيمان في حقه بالنسبة إلى زوال عصمته في تلك الحالة.

6 -

وقيل معنى قوله: "ليس بمؤمن" أي ليس بمستحضر في حال تلبسه بالكبيرة جلال من آمن، فهو كناية عن الغفلة التي جلبتها له غلبة الشهوة، وعبر عن هذا ابن الجوزي بقوله: فإن المعصية تذهله عن مراعاة الإيمان، وهو تصديق القلب، فكأنه نسي ما صدق به.

7 -

وقيل: إن المراد من نفي الإيمان نفي الأمان من عذاب الله، لأن الإيمان مشتق من الأمن.

8 -

وقال الطيبي: المراد من نفي الإيمان نفي الحياء، وقد مضى أن الحياء من الإيمان، فيكون التقدير: لا يزني الزاني حين يزني وهو يستحي من الله، لأنه لو استحيا منه - وهو يعرف أنه مشاهد حاله - لم يرتكب ذلك، ويعضده حديث "من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما وعى والبطن وما حوى".

9 -

وتأوله بعضهم على من فعل ذلك مستحلا، ولا خلاف في أن من استحل محرما علم تحريمه بالضرورة فهو كافر منفي عنه الإيمان على الحقيقة.

10 -

وقيل: إن المراد بالحديث الزجر والتنفير، وليس المراد ظاهره، وهو رأي الطيبي إذ قال: ويجوز أن يكون من باب التغليظ والتهديد، كقوله تعالى:{ومن كفر فإن الله غني عن العالمين} [آل عمران: 97].

11 -

وقيل: إن نفي الإيمان محمول على الإنذار بزواله ممن اعتاد ذلك، لأنه خشي عليه أن يفضي به إلى الكفر، فمن حام حول الحمى يوشك أن يواقعه، وهذا أحد التأويلات في قوله صلى الله عليه وسلم "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده، ويسرق الحبل فتقطع يده" أي يسرق غير النصاب، فيعتاد فيسرق النصاب، فتقطع يده.

12 -

وقيل معناه: أنه يسلب منه الإيمان حال تلبسه بالكبيرة، فإذا فارقها عاد إليه، ويقوي هذا الرأي تقييد نفي الإيمان في الحديث بحالة ارتكابه لها "حين يزني""حين يسرق""حين يشربها""حين ينتهبها".

كما يقويه ما أخرجه الحاكم بسند صحيح عن أبي هريرة، رفعه "إذا زنى الرجل خرج منه الإيمان، فكان عليه كالظلة، فإذا أقلع رجع إليه الإيمان".

13 -

قال الإمام النووي: القول الصحيح، والذي قاله المحققون: أن معناه: لا يفعل هذه المعاصي وهو كامل الإيمان، وهذا من الألفاظ التي تطلق على نفي الشيء، ويراد نفي

ص: 216

كماله، كما يقال: لا علم إلا ما نفع، ولا مال إلا الإبل، ولا عيش إلا عيش الآخرة، ثم قال: إن هذا التأويل ظاهر سائغ في اللغة، مستعمل فيها كثيرا. اهـ.

والحق أن الذي ذهب إليه النووي أقوى التأويلات، وأحراها بالقبول. والله أعلم.

هذا. وقد أثارت عبارة الراوي، وكان أبو هريرة يلحق معهن "ولا ينتهب نهبة

" إلخ أثارت شكا في أن هذه العبارة موقوفة على أبي هريرة، أو مرفوعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن روايات الحديث في أماكن أخرى ترفع هذا الشك، وتصل النهبة بالحديث نسقا من غير فصل بقوله: "وكان أبو هريرة يلحق معهن". ففي البخاري: في الحدود "

ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن، ولا ينتهب نهبة يرفع الناس إليه فيها أبصارهم وهو مؤمن".

وقد رواه أبو نعيم في مستخرجه على مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "والذي نفس محمد بيده لا ينتهب أحدكم نهبة" الحديث فصرح برفعه.

وبهذا لا يتطرق إلى هذه الفقرة احتمال الإدراج أو أنها موقوفة، ويصبح معنى العبارة: وكان أبو هريرة يلحق معهن رواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا ينتهب نهبة" إلخ.

-[ويؤخذ من الحديث]-

1 -

أن من زنى دخل في هذا الوعيد، سواء كان بكرا أو محصنا، وسواء كان المزني بها أجنبية أو محرما، ولا شك أن الزنا بالمحرم أفحش ومن المتزوج أعظم.

وذكر بعض العلماء أن المقصود بالزنا التنبيه به على جميع الشهوات، قاله القاضي عياض.

2 -

وأن من سرق قليلا أو كثيرا يدخل في هذا الوعيد أيضا، قال الحافظ ابن حجر: وفيه نظر، فقد شرط بعض العلماء في كون السرقة كبيرة أن يكون المسروق نصابا، وإن كانت سرقة ما دون النصاب حراما.

3 -

وأن من شرب الخمر دخل في هذا الوعيد، سواء كان المشروب قليلا أم كثيرا لأن شرب القليل من الخمر معدود من الكبائر، وإن كان شرب الكثير الذي يخل العقل يترتب عليه من المحذور ما هو أفحش من شرب القليل.

قال ابن بطال: هذا أشد ما ورد في شرب الخمر.

والله أعلم.

ص: 217