المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌(15) باب التبشير بالجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله - فتح المنعم شرح صحيح مسلم - جـ ١

[موسى شاهين لاشين]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الطبعة الثانية

- ‌مقدمة الطبعة الأولى

- ‌كتاب الإيمان

- ‌(1) باب الإيمان بالقدر

- ‌(2) باب أمور الإسلام

- ‌(3) باب سؤال ضمام عن أركان الإسلام

- ‌(4) باب ما يقرب من الجنة وما يباعد من النار

- ‌(5) باب إحلال الحلال وتحريم الحرام يدخل الجنة

- ‌(6) باب بيان أركان الإسلام ودعائمه

- ‌(7) باب وفد عبد القيس وأمور الإسلام

- ‌(8) باب بعث معاذ إلى اليمن

- ‌(9) باب قتال أهل الردة ومانعي الزكاة

- ‌(10) باب وفاة أبي طالب، وما نزل بشأنه

- ‌(11) باب من مات على التوحيد دخل الجنة

- ‌(12) باب زيادة فضلة الطعام ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌(13) باب من شهد أن لا إله إلا الله حرم الله عليه النار

- ‌(14) باب حق الله على العباد وحق العباد على الله

- ‌(15) باب التبشير بالجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله

- ‌(16) باب صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في بيت عتبان

- ‌(17) باب طعم الإيمان

- ‌(18) باب الحياء شعبة من الإيمان

- ‌(19) باب الحياء من الإيمان

- ‌(20) باب الحياء خير كله

- ‌(21) باب الخصلة الجامعة لأمور الإسلام

- ‌(22) باب إطعام الطعام وإفشاء السلام

- ‌(23) باب المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده

- ‌(24) باب ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان

- ‌(25) باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان

- ‌(26) باب من الإيمان أن تحب لأخيك ما تحب لنفسك

- ‌(27) باب النهي عن إيذاء الجار

- ‌(28) باب إكرام الجار والضيف وفضيلة حفظ اللسان

- ‌(29) باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الإيمان

- ‌(30) باب ضعف الإيمان بتطاول الأزمان والحاجة إلى الأمر بالمعروف

- ‌(31) باب تفاضل أهل الإيمان

- ‌(32) باب محبة المؤمنين من الإيمان

- ‌(33) باب الدين النصيحة

- ‌(34) باب المبايعة على النصح لكل مسلم

- ‌(35) باب نقصان الإيمان بالمعاصي

- ‌(36) باب خصال المنافق

- ‌(37) باب إيمان من قال للمسلم: يا كافر

- ‌(38) باب إيمان من ادعى لغير أبيه ومن ادعى ما ليس له

- ‌(39) باب إيمان من يسب أخاه ومن يقاتله

- ‌(40) باب الطعن في النسب والنياحة على الميت

- ‌(41) باب إيمان العبد الآبق

- ‌(42) باب إيمان من قال: مطرنا بالنوء

- ‌(43) باب حب الأنصار من الإيمان

- ‌(44) باب حب علي من الإيمان

- ‌(45) باب كفران العشير

- ‌(46) باب سجود ابن آدم يغيظ الشيطان

- ‌(47) باب بين المسلم والكفر ترك الصلاة

- ‌(48) باب أفضل الأعمال: الإيمان - الجهاد - الحج - والعتق مساعدة الصانع والأخرق - الكف عن الشر

- ‌(49) باب أفضل الأعمال الصلاة لوقتها وبر الوالدين

- ‌(50) باب أعظم الذنوب الشرك بالله -ثم قتل الابن -ثم الزنا بحليلة الجار

- ‌(51) باب أكبر الكبائر الإشراك بالله -وعقوق الوالدين- وشهادة الزور

- ‌(52) باب السبع الموبقات

- ‌(53) باب من الكبائر شتم الرجل والديه

- ‌(54) باب تحريم الكبر

- ‌(55) باب من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار

- ‌(56) باب تحريم قتل الكافر بعد قوله: لا إله إلا الله

- ‌(57) باب قتل أسامة لمن قال: لا إله إلا الله

- ‌(58) باب من حمل علينا السلاح فليس منا

- ‌(59) باب من غشنا فليس منا

- ‌(60) باب ليس منا من ضرب الخدود

- ‌(61) باب تحريم النميمة

- ‌(62) باب تحريم إسبال الإزار، والمن بالعطية وترويج السلعة بالحلف

- ‌(63) باب الشيخ الزاني، والملك الكذاب ومانع فضل الماء، والمبايع لدنيا

- ‌(64) باب تحريم قتل الإنسان نفسه

- ‌(65) باب من حلف بملة غير الإسلام

- ‌(66) باب لا يدخل الجنة إلا نفس مسلمة وإن الله يؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر

- ‌(67) باب تحريم الجنة على قاتل نفسه

- ‌(68) باب تحريم الغلول

- ‌(69) باب قاتل النفس لا يكفر

- ‌(70) باب الريح التي تكون قرب القيامة

- ‌(71) باب الحث على المبادرة بالأعمال

- ‌(72) باب خوف المؤمن أن يحبط عمله

- ‌(73) باب هل يؤاخذ بما عمل في الجاهلية

- ‌(74) باب الإسلام يهدم ما قبله، وكذا الحج والعمرة (وفاة عمرو بن العاص)

- ‌(75) باب حكم العمل الصالح قبل الإسلام

- ‌(76) باب صدق الإيمان وإخلاصه

- ‌(77) باب تجاوز الله عن حديث النفس

- ‌(78) باب حكم الهم بالحسنة والهم بالسيئة

- ‌(79) باب الوسوسة في الإيمان

- ‌(80) باب من اقتطع حق مسلم بيمين فاجرة

- ‌(81) باب من قتل دون ماله فهو شهيد

- ‌(82) باب الوالي الغاش لرعيته

- ‌(83) باب رفع الأمانة

- ‌(84) باب الفتن التي تموج موج البحر

- ‌(85) باب بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا

- ‌(86) باب ذهاب الإيمان آخر الزمان

- ‌(87) باب الاستسرار بالإيمان للخائف

- ‌(88) باب تأليف ضعيف الإيمان

- ‌(89) باب زيادة طمأنينة القلب بتظاهر الأدلة

- ‌(90) باب القرآن المعجزة الكبرى والرسول صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تابعا

- ‌(91) عموم رسالته صلى الله عليه وسلم

- ‌(92) باب أجر الكتابي إذا أسلم: ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين

- ‌(93) باب نزول عيسى ابن مريم حاكما

- ‌(94) باب الزمن الذي لا يقبل فيه الإيمان

- ‌(95) باب بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(96) باب فترة الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

- ‌(97) باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم ومعراجه

- ‌(98) باب رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه ليلة الإسراء والمعراج

- ‌(99) باب رؤية الله تعالى في الدنيا

- ‌(100) باب رؤية المؤمنين لربهم في الجنة

الفصل: ‌(15) باب التبشير بالجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله

(15) باب التبشير بالجنة لمن شهد أن لا إله إلا الله

53 -

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال كنا قعودا حول رسول الله صلى الله عليه وسلم. معنا أبو بكر وعمر، في نفر. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرنا. فأبطأ علينا. وخشينا أن يقتطع دوننا. وفزعنا فقمنا. فكنت أول من فزع. فخرجت أبتغي رسول الله صلى الله عليه وسلم. حتى أتيت حائطا للأنصار لبني النجار. فدرت به هل أجد له بابا. فلم أجد. فإذا ربيع يدخل في جوف حائط من بئر خارجة (والربيع الجدول) فاحتفزت كما يحتفز الثعلب. فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال "أبو هريرة" قلت: نعم. يا رسول الله. قال "ما شأنك؟ " قلت: كنت بين أظهرنا. فقمت فأبطأت علينا. فخشينا أن تقتطع دوننا. ففزعنا. فكنت أول من فزع. فأتيت هذا الحائط.

فاحتفزت كما يحتفز الثعلب. وهؤلاء الناس ورائي. فقال "يا أبا هريرة! "(وأعطاني نعليه) قال "اذهب بنعلي هاتين. فمن لقيت من وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله. مستيقنا بها قلبه. فبشره بالجنة" فكان أول من لقيت عمر. فقال: ما هاتان النعلان يا أبا هريرة؟ فقلت: هاتان نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم. بعثني بهما. من لقيت يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه، بشرته بالجنة. فضرب عمر بيده بين ثديي. فخررت لاستي. فقال: ارجع يا أبا هريرة. فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجهشت بكاء. وركبني عمر. فإذا هو على أثري. فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم "ما لك يا أبا هريرة؟ " قلت: لقيت عمر فأخبرته بالذي بعثتني به. فضرب بين ثديي ضربة. خررت لاستي. قال ارجع. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "يا عمر! ما حملك على ما فعلت؟ " قال: يا رسول الله! بأبي أنت وأمي. أبعثت أبا هريرة بنعليك، من لقي يشهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه، بشره بالجنة؟ قال "نعم" قال: فلا تفعل. فإني أخشى أن يتكل الناس عليها. فخلهم يعملون. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "فخلهم".

-[المعنى العام]-

مثل رائع من أمثلة حب الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحرصهم عليه، ومثل أكثر روعة من أمثلة وفاء النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه، ومكافأته لهم على حسن صنيعهم.

ذلك ما يحدثنا به أبو هريرة الصحابي الجليل [الذي لازم رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر أوقاته منذ أسلم رضي الله عنه حتى انتقل صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى] يقول:

ص: 115

كنا قعودا في مجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنا جمعا كثيرا من الصحابة على رأسنا أبو بكر وعمر، وكنا نحيط برسول الله صلى الله عليه وسلم حبا فيه وحرصا على ما ينطق به من تعاليم الإسلام وآدابه- إحاطة الهالة بالقمر، فقام صلى الله عليه وسلم من بيننا، وبقينا على وضعنا في انتظاره، ظانين أنه خرج لقضاء حاجة سريعة وسيعود، فقد كان شأنه صلى الله عليه وسلم إذا قام منصرفا أشعرنا بانصرافه فيصحبه بعضنا إلى حيث يريد - إن أذن - وينصرف البعض الآخر إلى عمله.

وقوى هذا الظن أنه صلى الله عليه وسلم لم يتجه إلى البيوت، ولكن نحو البساتين القريبة من مجلسنا.

وطال انتظارنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأصبح الزمن يمضي بطيئا ثقيلا، ونظر بعضنا إلى بعض نظرات القلق والاضطراب لتأخره صلى الله عليه وسلم على غير عادته، وساورتنا الهواجس والأوهام، اليهود بالمدينة وحولها يتربصون به صلى الله عليه وسلم، والمنافقون يحقدون عليه ويدبرون له المكايد، والكفار يمكرون به ليقتلوه، وقد خرج صلى الله عليه وسلم وحده، وإلى مكان موحش، فماذا نحن فاعلون؟ واستبد بنا الخوف عليه صلى الله عليه وسلم، ونفد منا الصبر واستولى علينا الفزع، يقول أبو هريرة: وكنت أكثرهم فزعا وأولهم تحركا، وهب الجميع للبحث عنه صلى الله عليه وسلم بين المزارع والحدائق التي اتجه نحوها، وكان يقام على كل منها حائط مرتفع لا يسهل ارتقاؤه، ليمنع السائبة من الفساد في الحرث.

ودار أبو هريرة حول بستان لبني النجار، غلب على ظنه أنه الذي اتجه إليه صلى الله عليه وسلم، لكنه لعجلته واضطرابه لم يعثر على بابه، أو لم يعثر على باب مفتوح ورأى ثقبا في أسفل الحائط تخترقه قناة تنقل الماء إلى البستان من بئر خارجه.

فانكمش أبو هريرة، وضم أعضاءه، كما ينكمش وينضم الثعلب عند ولوجه جحرا ضيقا، ودخل البستان من ثقب الحائط، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم داخله، فلما أحس به صلى الله عليه وسلم قال: من؟ أبو هريرة؟ فقال: نعم أنا أبو هريرة يا رسول الله. قال له: ما شأنك؟ وما الذي جاء بك من هذه الجهة وبهذه الحالة؟ قال: كنت بيننا يا رسول الله فقمت فجأة، فانتظرناك، فأبطأت علينا، فخشينا عليك من أعداء الإسلام، ففزع الجميع، وكنت أول من فزع، فأتيت هذا البستان، فلم أعثر على بابه، فتحايلت على الدخول من ثقب الجدول الضيق كما يتحايل الثعلب، والناس ورائي حول هذا البستان يبحثون عنك.

وأحس صلى الله عليه وسلم أن الإيمان قد ملأ قلوب هذه الجماعة من أصحابه، وأنه صلى الله عليه وسلم قد أصبح أحب إليهم من أنفسهم التي بين جنوبهم، وليس لمثل هؤلاء جزاء إلا الجنة. ومكافأتهم العاجلة على هذا الصنيع الحميد أن يبشروا بها، لتطمئن قلوبهم التي فزعت على رسول الله صلى الله عليه وسلم {جزاء وفاقا} [النبأ: 26].

فقال: يا أبا هريرة اذهب إلى القوم فهدئ من روعهم، وأعد الطمأنينة إلى نفوسهم، وخذ نعلي

ص: 116

هاتين علامة على لقياك لي، وبشر كل من لقيته وراء هذا الحائط يبحث عني، وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله شهادة خالصة نابعة من تمكن الإيمان في قلبه. بشره أنه من أهل الجنة.

وخرج أبو هريرة -فرحا مسرورا- ليؤدي الرسالة، فكان أول رجل يلقاه عمر بن الخطاب، وأبو هريرة يتهيبه، كما يتهيبه كثير من الصحابة لشدته، فلم يشأ أن يلقي إليه الخبر إلقاء، بل رغب في أن يكون مفتتح الكلام عمر، فأبرز نعلي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال عمر: ما هاتان النعلان يا أبا هريرة؟ فقال: لقد لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا البستان وهاتان نعلاه، وهو على خير ما نحب له، بعثني بهما لأبشر بالجنة كل من لقيت وراء هذا البستان ممن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، شهادة خالصة نابعة من صميم قلبه.

وخاف عمر من عاقبة هذه البشرى على صالح صفوة المسلمين، ومنزلتهم عند الله، وأراد أن يمنع أبا هريرة من التبشير حتى يراجع بشأنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأراد أن يشتد في المنع خشية أن يستهتر أبو هريرة بطلبه أمام أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدفعه في صدره وهو يقول له: لا تفعل يا أبا هريرة، وارجع أمامي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولم يتحمل أبو هريرة دفعة عمر الشديدة - بدون قصد- فسقط على الأرض، ووقع على عجزه، ثم قام تخنقه العبرات، وسار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمر يمشي من ورائه.

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما لك يا أبا هريرة؟ فشكا له ما لقي من عمر.

فنظر صلى الله عليه وسلم إلى عمر، وقال له: ما حملك على ما فعلت يا عمر؟

قال: يا رسول الله. أفديك بأبي وأمي. هل بعثت أبا هريرة بنعليك يبشر بالجنة من لقي وراء هذا الحائط يشهد أن لا إله إلا الله مطمئنا بها قلبه؟ قال: نعم، قال عمر: لا تفعل هذا يا رسول الله، فإني أخشى أن يتكل الناس على هذه البشرى فلا يتسابقون إلى الخيرات، خلهم يعملون يا رسول الله.

وأمام وجهة نظر عمر، وخشيته من التقاعس عن عمل الخير، وعن التنافس في الطاعات رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم تأجيل هذه البشرى فقال: فخلهم يعملون، صلى الله عليه وسلم ورضي عن عمر وأبي هريرة وعن الصحابة أجمعين.

-[المباحث العربية]-

(كنا قعودا) خبر "كان" مصدر مؤول بمشتق، أي قاعدين.

(حول النبي صلى الله عليه وسلم قال أهل اللغة: يقال قعدنا حوله وحوليه، وحواليه، وحواله، بفتح الحاء واللام في جميعها، أي على جوانبه.

(ومعنا أبو بكر وعمر)"معنا" بفتح العين على اللغة المشهورة، ويجوز تسكينها في لغة، وهي للمصاحبة، قال صاحب المحكم "مع" اسم معناه الصحبة مفتوحة العين أو ساكنتها غير أن

ص: 117

المفتوحة تكون اسما وحرفا، والساكنة لا تكون إلا حرفا، والجملة هنا مكونة من خبر مقدم ومبتدأ مؤخر في محل النصب على الحال.

(في نفر) متعلق بمحذوف حال، والنفر في الأصل القوم ينفرون معك إذا حزبك أمر ثم أطلق على كل جماعة دون العشرة من الرجال وجمعه أنفار.

(من بين أظهرنا) وقال أبو هريرة بعد ذلك "كنت بين أظهرنا" فكلمة "أظهرنا" هكذا في الموضعين.

وقال القاضي عياض: وقع الثاني في بعض الأصول "ظهرينا" وكلاهما صحيح، فأهل اللغة يقولون: نحن بين أظهركم بالجمع، وبين ظهريكم وظهرانيكم بفتح النون على التثنية، ومعناه أن ظهرا منهم قدامه، وظهرا وراءه، فهو مكنوف من جانبيه، وهو مكنوف من جوانبه في حالة جمع "أظهرنا" ثم كثر حتى استعمل في الإقامة بين القوم مطلقا.

(وخشينا أن يقتطع دوننا)"يقتطع" بالبناء للمجهول، أي يختطف أو يصاب بمكروه من أعداء الإسلام.

(وفزعنا) الفزع يكون بمعنى الروع، وبمعنى الهبوب للشيء والاهتمام به، وبمعنى الإغاثة، وهذه المعاني كلها تصح هنا، لكن قول أبي هريرة:"وقمنا فكنت أول من فزع" يرشح المعنيين الأخيرين، لترتيب أولية فزعه على القيام بالفاء.

(أبتغي) أي أبحث عنه صلى الله عليه وسلم، والجملة حال.

(حتى أتيت حائطا) أي بستانا، وسمي بذلك لأنه كان يحاط غالبا بحائط لا سقف له.

(فإذا ربيع) بفتح الراء وكسر الباء وهو قناة ماء، وفسره بعد بالجدول، قال النووي: وهو النهر الصغير.

(من بئر خارجة) قال بعضهم: روي على ثلاثة أوجه:

أحدها: بالتنوين في "بئر" وفي "خارجة" على أن "خارجة" صفة لبئر.

الثاني: من بئر خارجه، بتنوين بئر، وبهاء في آخر "خارجه" وهي ضمير الحائط، أي البئر في موضع خارج عن الحائط، و"خارج" منصوب على الظرفية متعلق بمحذوف صفة لبئر.

الثالث: "من بئر خارجة" بإضافة "بئر" إلى "خارجة" وهو اسم رجل، والوجه الأول هو المشهور الظاهر.

و"البئر" مؤنثة مهموزة، ويجوز تخفيف همزتها، وجمع القلة أبؤر وأبآر. بهمزة بعد الباء فيهما، ومن العرب من يقلب الهمزة في "أبآر" وينقل فيقول آبار، وجمع الكثرة "بئار".

ص: 118

(فاحتفزت) اختار صاحب التحرير أنها بالراء، والصحيح بالزاي، ومعناه تضاممت ليسعني المدخل.

(فقال: أبو هريرة؟ ) خبر مبتدأ محذوف تقديره: أأنت أبو هريرة؟ والاستفهام للتقرير أو للتعجب، لاستغرابه من أين دخل مع سد الأبواب.

(وهؤلاء الناس) يعني النفر الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم وقاموا في طلبه.

(مستيقنا بها قلبه) ذكر القلب هنا للتأكيد، ونفي توهم المجاز، وإلا فالاستيقان لا يكون إلا بالقلب.

(فقلت: هاتين نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا هو في جميع الأصول "فقلت هاتين نعلا" بنصب هاتين ورفع "نعلا" وتوجيهه أن "هاتين" منصوب بفعل محذوف و"نعلا" خبر مبتدأ محذوف والتقدير: تعني هاتين؟ - هما نعلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا التوجيه مع ما فيه من التكلف أولى من تخطئة الرواية.

(فضرب بيده بين ثديي) مفعول "ضرب" محذوف، و"بين" ظرف مكان، أو الباء زائدة، و"يده" مفعول، أي دفع عمر يده بين ثديي و"ثديي" تثنية "ثدي" لفظ مذكر، وقد يؤنث في لغة قليلة، وقد اختلفوا في اختصاصه بالمرأة، فقيل: يكون للرجل والمرأة، وقيل: هو للمرأة خاصة وعلى القول الأخير يكون إطلاقه على الرجل في هذا الحديث وفي أحاديث أخرى من قبيل المجاز.

(فخررت لاستي)"است" بألف وصل، وهو اسم من أسماء الدبر، وقد يطلق على العجز كما يطلق على حلقة الدبر، ومقصوده أنه سقط على الأرض جالسا على إليته وعجيزته.

(فأجهشت بكاء) وفي رواية "فجهشت" يقال: جهش جهشا، وأجهش إجهاشا، وهو أن يفزع الإنسان إلى غيره، وهو متغير الوجه متهيئ للبكاء ولما يبك بعد، ولفظ "بكاء" مفعول لأجله، وفي رواية "للبكاء" وهو بهمزة المد، وقد يقصر.

(وركبني عمر) أي تبعني ومشى خلفي.

(فإذا هو على أثري) فيه لغتان فصيحتان مشهورتان: كسر الهمزة وسكون الثاء، وفتح الهمزة والثاء، أي تبع خطواتي وآثار مشيي دون فاصل بيننا أو تراخ.

(بأبي أنت وأمي) خبر مقدم ومبتدأ مؤخر، والتقدير أنت مفدى بأبي وأمي، وليست العبارة على حقيقتها، فإنها تقال ممن مات أبوه وأمه، وإنما المقصود منها المبالغة في الحنان والبر الذي يفوق ما بين الولد وأبويه، حتى كأنه يضحي بهما من أجله.

(أبعثت أبا هريرة؟ ) الاستفهام حقيقي، للتأكد من كلام أبي هريرة وليبني على الجواب ما يريد.

ص: 119

(فلا تفعل) الفاء فصيحة في جواب شرط مقدر، أي إذا كان قد حصل هذا القول فلا تتبعه بالفعل.

(فخلهم يعملون) جملة "يعملون" في محل النصب على الحال.

-[فقه الحديث]-

قال بعض الفضلاء: إن خشية الصحابة على الرسول صلى الله عليه وسلم لا تتفق مع قوله تعالى: {والله يعصمك من الناس} [المائدة: 67] وأجاب باحتمال أن الخشية والفزع كانا قبل نزول الآية، وعلى فرض أنهما كانا بعد نزولها فذلك لفرط كلفهم به، كما يقال: المحب مولع بسوء الظن.

والمحقق في هذه المسألة يرى أن عصمة الله لرسوله صلى الله عليه وسلم من الناس لا تتنافى مع الحيطة والمحافظة عليه وحمايته المنبعثة عن الخشية والفزع، فالعاقبة المعلومة لا تمنع من الأخذ بالأسباب، بل قد تكون النتيجة متوقفة على المقدمات حسب العادة، والظاهر الذي أمرنا بالعمل به، وعلى هذا كان الفهم الصحيح للشريعة الإسلامية، فالعشرة المبشرون بالجنة لم يتوقفوا عن الأخذ بأسباب دخولها، بل بالغوا في المحافظة عليها وتحصيلها.

على أن المفسرين ذهبوا إلى أن المقصود بالعصمة من الناس الوعد بحمايته صلى الله عليه وسلم من القتل، وهذا لا يمنع من لحوق إيذاء الناس له صلى الله عليه وسلم، فما أصابه صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد، وما أصابه صلى الله عليه وسلم من الشاة المسمومة هو إيذاء من الناس لا يدخل في العصمة الموعود بها.

وعليه فإيمان الصحابة بعصمته صلى الله عليه وسلم من القتل لا يتنافى مع خوفهم عليه وفزعهم من أن يناله أذى أو مكروه.

أما سبب انصرافه صلى الله عليه وسلم من بين أظهر الصحابة إلى هذا البستان فلم أر نصا فيه، ولعله كان لتبليغ الجن وقراءته عليهم بعض ما نزل فقد تعدد اجتماعه بهم صلى الله عليه وسلم. أما دخول أبي هريرة بستان الأنصار بهذه الطريقة، فقد أثار بحثا فقهيا، وهو: هل يجوز دخول ملك الغير بدون إذنه؟ .

فقال بعضهم: نعم يجوز دخول الإنسان ملك غيره بغير إذنه إذا علم أنه يرضى ذلك فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أقر أبا هريرة على ذلك ولم ينقل أنه أنكر عليه، بل زاد أصحاب هذا الرأي فقالوا: وإن ذلك لا يختص بدخول الأرض، بل يجوز له الانتفاع بأدواته، وأكل طعامه والحمل من طعامه إلى بيته: وركوب دابته، ونحو ذلك من التصرف الذي يعلم أنه لا يشق على صاحبه.

قال النووي: هذا هو المذهب الصحيح الذي عليه جماهير السلف والخلف من العلماء.

ثم قال: واتفقوا على أنه إذا تشكك لا يجوز التصرف مطلقا فيما تشكك في رضاه به.

ص: 120

وذهب البعض إلى أنه لا يصح الاعتماد على الرضا، لأن الرضا أمر قلبي، وقد يظهر المالك الرضا بسيف الحياء، وفي نفسه حرج وضيق خصوصا في هذه الأيام التي غلب فيها شح النفس، واشتد فيها الحرص والأثرة.

وعلى هذا الرأي يمكن الاعتذار عن أبي هريرة بأنه دخل في حالة دهشة بدافع ديني كبير، وهذه ضرورة، والضرورات تبيح المحظورات.

وهذا الاعتذار يمكن اعتماده في دخول أبي هريرة على رسول الله صلى الله عليه وسلم بدون إذنه وقد جعل الإذن من أجل البصر. حتى لو قيل: إنه لم يكن يعلم وجوده داخله، فإنه كان من الممكن أن ينادي: يا أهل البستان ويا من بداخله، أتأذن لي بالدخول فأدخل؟

ولعل في قول الرسول صلى الله عليه وسلم بدهشة واستغراب عندما رآه: أبو هريرة؟ .. ما شأنك؟ وفي اعتذار أبي هريرة بالفزع. لعل في ذلك إشارة من الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أنه ما كان ينبغي هذا الفعل واعتذارا من أبي هريرة عنه بالفزع.

أما إعطاؤه النعلين فلتكون علامة ظاهرة معلومة عندهم، يعرفون بها أنه لقي النبي صلى الله عليه وسلم ويكون أوقع في نفوسهم، وآكد لهذه البشرى المستبعدة في اعتقادهم، وليس في هذا طعن في قبول خبر أبي هريرة بدون هذه العلامة، فإنه عدل وثقة مقبول الخبر.

ولما كان التبشير بالجنة خاصا بمن شهد أن لا إله إلا الله مستيقنا بها قلبه.

ولما كان أبو هريرة لا يعلم استيقان القلوب، كان المقصود من تبشيره من لقي إخباره أن من كانت هذه صفته فهو من أهل الجنة.

وأما دفع عمر لأبي هريرة رضي الله عنهما -فإنه لم يقصد به سقوطه أو إيذاءه بل قصد رده عما هو عليه، وضرب بيده في صدره ليكون أبلغ في زجره، وليس فعل عمر ومراجعته النبي صلى الله عليه وسلم اعتراضا عليه، أو ردا لأمره، وإنما رأى المصلحة في عدم التبشير خوف الاتكال فتكثر أجورهم، ولذا صوبه النبي صلى الله عليه وسلم.

على أن الصادر من النبي صلى الله عليه وسلم ليس أمرا حقيقة، بل كان تطييبا لنفوس الصحابة.

وكأن الرسول صلى الله عليه وسلم منع معاذا (في الحديث السابق) من التبشير العام، وأذن لأبي هريرة بالتبشير لأفراد يأمن عليهم الاتكال، فلما خاف عمر من عدم انحصار الموضوع، وانتشار خطره وافقه الرسول صلى الله عليه وسلم على وجهة نظره، ومنع التبشير الخاص كذلك.

ومع أن منع التبشير ليس صريحا هنا فقد جعله العلماء من قبيل تغير الاجتهاد، قال النووي: وقد كان الاجتهاد جائزا له، وواقعا منه صلى الله عليه وسلم عند المحققين وله مزية على سائر المجتهدين بأنه لا يقر على الخطأ في اجتهاده.

قال: ومن نفى ذلك، وقال لا يجوز له القول في الأمور الدينية إلا عن وحي. فليس يمتنع أن يكون قد نزل عليه صلى الله عليه وسلم وحي ناسخ للوحي السابق.

ص: 121

والقول بجواز الاجتهاد له صلى الله عليه وسلم في أحكام الدين قول أكثر العلماء مستندين إلى أنه إذا جاز الاجتهاد لغيره فله صلى الله عليه وسلم أولى.

وقال جماعة: لا يجوز لأنه قادر على اليقين، وقال بعضهم: كان يجوز في الحروب دون غيرها، وتوقف آخرون في كل ذلك.

-[ويؤخذ من الحديث فوق ما تقدم.]-

1 -

جلوس العالم لأصحابه يعلمهم ويفيدهم.

2 -

حسن الإخبار إذا أريد الإخبار عن جماعة كثيرة يصعب ذكرهم بأسمائهم، فإنه يذكر أشرافهم أو بعض أشرافهم على أنهم بعض الجماعة.

3 -

ما كانت عليه الصحابة رضي الله عنهم من القيام بحقوق رسول الله صلى الله عليه وسلم وإكرامه والشفقة عليه، والانزعاج البالغ لغيبته المجهولة.

4 -

اهتمام الأتباع بحقوق متبوعهم والاعتناء بتحصيل مصالحه ودفع المفاسد عنه.

5 -

إرسال الإمام والمتبوع إلى أتباعه بعلامة يعرفونها ليزدادوا بها طمأنينة.

6 -

فيه دلالة لأهل الحق في أنه لا ينفع اعتقاد التوحيد دون النطق ولا النطق دون الاعتقاد، وأن الإيمان المنجي من الخلود في النار لا بد فيه من الجمع بين الاعتقاد والنطق.

7 -

جواز التعبير بالألفاظ المستهجنة كلفظ "الاست" والأحسن فيما يقبح سماعه استعمال الكناية عنه أو المجاز، إلا أن يكون في التصريح مصلحة راجحة، وبالكناية والأدب الرفيع جاء القرآن كقوله تعالى:{فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله} [البقرة: 222].

8 -

جواز قول الرجل للآخر: بأبي أنت وأمي، وقد كرهه بعض السلف، وقال: لا يفدى بمسلم، لكن الأحاديث الصحيحة، تدل على جوازه، وخصوصا أن الافتداء غير مقصود حقيقة، وإنما المقصود التعبير عن الحب والبر والحنان.

9 -

إشارة أهل الفضل والوزراء على الإمام وإن لم يستشرهم، فإن الإمام أو الكبير إذا رأى شيئا، ورأى بعض أتباعه خلافه، فإنه ينبغي للتابع أن يعرضه على المتبوع لينظر فيه.

10 -

وقف بعض الأتباع أمر المتبوع مؤقتا حتى يعرضوا عليه ما رأوا.

11 -

رجوع الإمام عما رآه إذا ظهرت المصلحة في غيره.

12 -

إمساك بعض العلوم التي لا حاجة إليها للمصلحة أو خوف المفسدة.

13 -

استدل به بعضهم على وقوع النسخ قبل الفعل، ورد بأن الأمر هنا قد بلغ ولو لواحد.

14 -

فيه منقبة ظاهرة لعمر بن الخطاب، وفضيلة لأبي هريرة رضي الله عنهما.

والله أعلم

ص: 122